مجلة الرسالة/العدد 1000/(الرسالة) مؤمل الرأي الحر
مجلة الرسالة/العدد 1000/(الرسالة) مؤمل الرأي الحر
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان
أعتقد أن أهم ما تهدف إليه رسالة الصحافة في الوجود إنارة الرأي العام وتبصرة ببواطن الأمور وخفاياها، ولن تتمكن من تأدية هذه المهمة إلا إذا احتضنت الرأي الحر، وصارت مؤملا له. والصحافة التي لا تحتضن الرأي الحر ولا تصير مؤملا له - لا تعتبر صحافة في ميزان الحق ولو بلغت الذروة والقمة من الذيوع. . والصحف في مصر كثيرة لا حصر لها، ولكنها مع تباين مشاربها، وتنوع اتجاهها، وتعدد ألوانها، لا تظفر بواحدة منها تقسيم للرأي الحر وزنا، وتحسب له ولو ذروة من الحساب، فهي إما حزبية يهمها تأييد سياسة حزبها والتنديد بسياسة غيره، وإما مستقلة يهمها أن تظل على الحياد - مؤثرة نشر الموضوعات التي لا تحتمل الجدل، ولا تجر إلى المناقشة. وهي إما طائفية تعني بالدعاية لمذهبها، وسلق مخالفيه بألسنة حداد. وهناك لون رابع تافه تفاهة تجعله لا يشعر بوجوده ولا يكترث لظهوره.
والذي لا ريب فيه أن هذا التقسيم لا يشمل مجلتنا (الرسالة) إذ أن مشربا خاصا يميزها على غيرها، واتجاهها فريدا يجعلها في معزل عن سواها - أما مشربها فهو الأدب المصفى. تحمل إلى العروبة رسالته - وتتزعم وحدها جبهته، وتذود عن كرامته، وتنقيه من شوائب الدخن، وتحميه من بوادر الوهن. وأما اتجاهها فهو إلى تشييد حصن حصين للرأي الحر. وإقامة مسرح أمين للبحوث الجريئة، وبهاتين الخاصتين استطاعت الرسالة أن تشق طريقها في الحياة مرفوعة مكرمة. واصبح لها مكانتها المرموقة في مصر والشام والعراق والمغرب، وفي كل بلد ينطق بالضاد ويعتز بالعربية، وأصبحت موضوع ثقة الطبقة المثقفة، ومحل تقدير عشاق الأدب.
وحين نقول: - إن مشرب الرسالة هو الأدب المصفى. فإنما نقصد الأدب الخالص المعتمد الذي يتناوله الأديب وهو أكثر ما يكون اطمئنانا. ويتلقاه المتتلمذ إليها وهو أوفر ما يكون شوقا إليه وائتناسا به. وليس معنى قولنا: إن مشرب الرسالة الأدب أنها معنية بمادة الأدب وحدها، وإنما معناه أن الأسلوب في شتى موضوعاتها من الأدب الممتاز. حتى لتجد أن الألفاظ كلها منتقاة، وان العبارات جميعها مصفاة، وان صفحات الرسالة قد حرم عليه الركة في الاسلوب، والتعقيد في الألفاظ، والتكلف في العبارات، وأحل لها المرونة المتقنة، والعذوبة الممتعة. وليس من البالغة في شيء إذا قلنا: إن موضوعات الرسالة سواء أكانت في الأدب أم في التاريخ أم في الدين أم في السياسة أم في الفن أم في غير هذه، هي من الموضوعات القيمة المقدرة لأن لها مستوى يجب أن يظل عاليا لا يرقى إليه ولا يعلى فوقه. ولذلك فهي لا تتسع إلا للموضوعات الحية القوية في أسلوبها، وفي مادتها، وفي أدلتها وبراهينها.
وحين نقول: أن للرسالة اتجاها خاصا هو تشييد حصن حصين للرأي الحر، فإنا نعتبرها الوحيدة في الصحف والمجلات المميزة بهذا الاتجاه الخطير الدقيق. تفتح مهمته آمنا من جمود المتزمتين، وسفه المتنطعين، وثرثرة الفارغين، وجعجعة المتخلفين، وصلف المكابرين. فالرسالة لا تجد غضاضة في أن ينقد على صفحاتها أبرز كتابها، ولو كان صاحبها، وأن يناقش أكبر الناس، ولو كان ممن بلغوا أسمى مكانة في العلم والأدب، لأن الجميع في ميدانها سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، ورئيسهم ومرؤسهم، إلا بقدر ما يصيب كل منهم من التوفيق والسداد، وبقدر ما يقدم كل منهم من قوى الحجة وساطع البرهان.
أول عهدي بالرسالة كتلميذ لها كان منذ أن عرفت الطريق إلى الصحف، فاتخذتها كمرجع ملم له قدره منزلته. أنهل من معينه كلما شئت، وأتناول منه غذاء فكريا كلما أحتجت، ويحتل من نفسي المكانة الأولى معتزا به اعتزازي بأغلى كنز في عالم الأدب. وأول عهدي بالرسالة ككاتب متواضع من كتابها كان منذ أعوام قلائل، يوم أن كتبت لها منتقدا رأيا في التفسير للإمام محمد عبده، وأنا واثق من أن الإقدام على نقد أمثال الإمام محمد عبده ليس بالشيء الهين اليسير، ولكن ثقتي بالرسالة واعتزازها بالرأي الحر شجعني على الإقدام من غير توان أو تباطؤ، ولم يكد يمضي أسبوع واحد حتى نشرت كلمتي ونشر رد بعدها الأستاذ جليل، وبذلك ازددت إيمانا بأن الأدب والعلم بخير في مصر والشرق، ما دامت الرسالة باقية تتلألأ طلعتها ويشرق نورها.
إن ثمة خاصة من خصائص الرسالة اختصت بها وحدها فهي المجلة الوحيدة التي تعبأ بالموضوعات، وبذلك أدت خدمة جليلة للأدب والعلم حيث قدمت إليهما أعلاما مبرزين ظلوا مجاهيل خلف الصفوف، وضحايا للأثرة والأنانية حتى أخذت الرسالة بأيديهم، وقدمت إليهم دراسات حية كانت متوارية بين أضابير الإهمال والنسيان، وكادت تختنق بين ضوضاء السفاسف والتوافه في شتى الموضوعات. حتى أدركتها الرسالة وأنقذتها وأعادت إليها الحياة من جديد.
وبعد فإن الرسالة اليوم لجديرة بأن تكون أكبر مدرسة لطلاب العلم وعشاق الأدب في الشرق، وميدانا حرا لأبرز الكتاب، وأقيم البحوث، ومنبتا خصبا للرأي الحر، والنقد الجريء، وعنوانا للمثل العليا في دنيا الأدب والعلم والفضل.
محمد عبد الله السمان