مجلة الرسالة/العدد 100/الخرافة
مجلة الرسالة/العدد 100/الخرافة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
الخرافة حليفة الجهل، وأليفة الأوهام، عنوان ناقصي الثقافة، ورمز ذوي العقول الضعيفة؛ كالحشرات الدنيئة، لا يحلو لها العيش إلا في الأماكن المظلمة، أو كالحشائش الضارة، لا يعظم نموها إلا في التربة الفاسدة؛ تقف في طريق الحق، وتقاوم كل تفكير. وكأنها ذات قوة سحرية تغشى الأبصار، وتصم الآذان، وتقضي على كل ما في المرء من عقل وروية؛ أو كأنها مظهر لوحي خفي يستولي على النفوس والأفئدة. وكيف لا والسحر خرافة لبست ثوب الفن؟ والخرافات في أغلبها اكتست بكساء الدين، لذلك لبى نداءها معتنقوها، ونزل عن إرادتها من آمن بها، ولو أدى ذلك إلى ارتكاب جرائم شنيعة، وإزهاق أرواح بريئة، وتبديد ثروات طائلة. وكم باعدت الخرافة بين الصديق وصديقه، والمرء وزوجه، والأخ وأخيه، والابن وأبيه. وقد لا يقف عدوانها عند الأحياء، بل يتعداهم إلى الأموات، فخرجت من جرائها قبور، وانتهكت حرمات. وبذا كانت من أشد أخطار الإنسانية وأكبر أعداء الحضارة والمدنية. وما أصدق مونتيسكيه حين يقول: (أعد نفسي أسعد الأحياء إذا استطعت أن أبرئ الناس من خرافاتهم).
بيد أن الخرافة ليست شرا كلها؛ ففي حجرها درج العلم، وتحت كنفها نما كثير من النظم الاجتماعية. فالعلوم في نشأتها كانت سلسلة خرافات متصلة، وطائفة غير ملتئمة من الظنون والأوهام؛ وما الكيمياء الحقيقية إلا وليدة الكيمياء الصناعية وما الفلك في قواعده وأصوله إلا ربيب العرافة والتنجيم، وما الطب إلا نتيجة وصفات بلدية هذبت، وتجارب عادية سلك بها سبيل البحث والتمحيص؛ وما طبيعة اليوم المملوءة بالأصول والقوانين إلا الثمرة الناضجة للآراء الخاطئة المشحونة بالأوهام والخزعبلات، والتي أدلى بها فلاسفة الإغريق الأول أمثال طاليس وأنكسمندر. والحكومة في سلطانها، والأسرة في نظامها، والملكية في احترامها مدينة للخرافة إلى حد كبير: فالملك مسموع الكلمة مطاع الأمر، لأن الخرافة شاءت قديما أن تضعه في صف الآلهة والأرباب؛ والزواج محترم لأن الزنا والفسوق ما كانت لتغضب الله والناس فقط، بل وربما استتبعت هلاك الحرث والنسل وخراب القرى والأمصار؛ والملكية مقدسة لأن الاعتداء عليها كان يثير غضب المرد والشياطين والقوى الخفية المتصرفة في هذا العالم؛ وإذا بحثنا عن منشأ كثير من عاداتنا الاجتماعية وجدناها ترجع إلى أصل خرافي: فتفضيل اليد اليمنى على اليد اليسرى يفسر في غالب الظن مبدأ من مبادئ السحر والشعوذة؛ والعطلة الأسبوعية التي ننعم بها الآن لم تكن إلا لأن الإنسان اعتقد أن هناك أوقات نحس وأوقات سعادة وفوق هذا وذاك فالخرافة تغذي ناحية نفسية لا يصح تجاهلها، ذلك لأن الإنسان لا يلبي داعية العقل والمنطق فقط، بل هو خاضع لخياله وعواطفه. وللخيالة ميادين تسبح فيها، وعالم يتفق مع ميولها وأهوائها؛ وما الخرافة إلا مظهر من مظاهر هذا العالم وأثر من آثار هذا الصنع، وحياة لا تعتمد إلا على الأسس الطبيعية والبراهين العقلية - كما ينادي بها أصحاب الرواق - جافة قطعا ولا وجود لها إلا في أدمغة زينون وكريزيب.
ليس هناك شك في أن الإنسان مستعد بطبعه لقبول الخرافة؛ فهو ميال دائما لأن يعرف أكثر مما يرشده إليه بصره وعقله، ولأن يخلق بجانب الحقائق الحسية والفكرية صورا أخرى تحقق رغبة من رغباته، أو تسد ناحية من نواحي نقصه. هذا إلى أنه في ضعفه يحاول أن يعتز بقوى خفية - وإن تكن خيالية - في التغلب على مشاق الحياة. ومن هنا كان التعلق بالخرافات عالميا، وكان قدر منها مشتركا لدى عامة الشعوب. فالسحر والتنجيم والشعوذة من خرافات الإنسانية بأسرها، قام عليها معظم تقاليد الأمم المتوحشة، وتشبث بها الناس بعد أن خطوا خطوات فسيحة في سبيل العلم والمدنية، ولا يزالون خاضعين لشيء من سلطانها إلى اليوم. وحديث القصور الزبرجدية والآرائك المسجدية التي بناها المردة والشياطين في أرض نائية وجزر منقطعة، بهر الإنسان الهمجي وشغل عقول بعض أبناء القرن العشرين. والتفاؤل والتشاؤم والطيرة كانت من خرافات الإغريق والرومان والعرب، وحتى الساعة يقول عاميتنا: (خذوا فألكم من قبالكم)، وإذا سمعوا نعيق غراب رددوا الجملة المشهورة: (اللهم اجعله خيرا). وبديهي إن انتشار الخرافة يختلف من بلد لآخر تبعا لدرجة الثقافة، ونمو التربية الدينية، وطرق الحكم السياسية من ديمقراطية واستبدادية، ولظروف اجتماعية أخرى متعددة. ويحاول بعض الباحثين أن يعقد موازنات بين الأمم في هذا المضمار، فيزعم مثلا أن المشاهد السينمائية في إنجلترا وفرنسا تؤذن بأن الشعب الإنجليزي إلى الغريب أميل، وفي الخرافة أرغب. وهذه الموازنات وإن تكن مثار شك كبير، ربما وصلت إلى نتائج شيقة إن عني بضبطها وصحتها. وإذا كنا نتحدث عن الأفراد والشعوب واستعدادهم لقبول الخرافة، فيجدر بنا أن نشير إلى ملاحظة هامة، وهي أنه لا يوجد شخص يسلم بالخرافة التي يعتنقها في حين أنه متيقظ دائما إلى خرافات الآخرين. وقد يصل بنا الأمر إلى أن نقيس الشيء الواحد بمقياسين مختلفين، وننظر إليه بمنظارين متباينين، فإن كان مما عرفناه وألفناه أضحى دينا وعقيدة؛ وإن اتصل بتقاليد غريبة عنا استنكرناه وتبينا ما فيه من تضليل وتخريف: وكأن ما هو دين في رأيك خرافة في رأي غيرك وبالعكس: وعل ذلك راجع إلى أن الخرافة تسلب معتنقها قوة النقد والحكم الصحيح؛ هذا إلى أنها نسبية وصعبة التحديد: فما كان عقيدة بالأمس أصبح خرافة اليوم؛ وما هو صواب شرق جبال البرانس يعد خطأ غربها؛ ومقياس الخرافة - كمقياس الحق والباطل - يتغير بتغير الظروف والأزمنة.
يعز علينا حقيقة أن نعرف الخرافة تعريفا شاملا، وأن نضع لها حدا ثابتا. فلا يمكننا أن نقول إنها كل ما خالف العلم الصحيح، فإن هذا العلم نفسه لما يحدد تماما؛ على أنه قد يقصد أمورا يصعب علينا أن نخرج بها عن دائرة الخرافة. فكثير من المثقفين يؤمن اليوم بتحضير الأرواح، ويجتهد في أن يفسره تفسيرا علميا. ولا نستطيع أن نقول إن الخرافة كل ما ناقض الدين، فإن هناك أشياء اكتست بكساء ديني كامل في حين أنها خرافة صريحة. وفي شيء من التقريب يمكن القول بأن الخرافة كل فكرة أو عقيدة فردية أو جمعية تفسر ظواهر العالم على نحو لا يلتئم مع العقل ولا مع درجتنا العلمية الحاضرة. وعلى في سرد بعض الأمثلة ما يعيننا على تفهم الخرافة في حقيقتها ومدلولها. من ذلك أن بعض الأوربيين يرى أن كب الملح نذير سوء. وأن اجتماع ثلاثة عشر شخصا على مائدة واحدة مؤذن بأن واحدا منهم سيموت في العام نفسه، وأن تقديم السكين يقطع المودة، وأن وضع المكنسة في الماء مجلبة المطر. وخرافاتنا المصرية التي هي ميدان فسيح للدراسة غير متناهية العدد؛ ومن أشهرها حديث (الشمامة) ورعراع أيوب وأكل البصل أيام شم النسيم، وصناعة التبخير أو (الزار) والرقى والتعاويذ. وعبثا نحاول إن شئنا أن نأتي هنا على مختلف الخرافات العالمية أو المصرية. وفي مقدورنا أن نلاحظ بوجه عام أن الخرافات تكاد تتمركز حول نقطتين هامتين: المعتقدات والعبادات الدينية؛ وهذا ما سماه الألمان
لقد شغل الباحثون بالخرافة منذ زمن بعيد؛ فبينوا مضارها السياسية والدينية والاجتماعية، وعملوا على إحصاء الخرافات المتعددة وإثباتها في قواميس خاصة (نذكر من بينها: وتقسيمها إلى فصول وأنواع مختلفة. ومن أقدم من كتب في هذا الباب؛ لكريس + 51 - وفلوطرخس + 125 والأخير بوجه خاص هو أول باحث درس الخرافة في شيء من التوسعة ونقدها نقدا مرا؛ وربما كان متأثرا في ذلك بما ساد عصره من خرافات لا حصر لها إلا أن الفضل في دراسة الخرافة دراسة علمية منظمة يرجع إلى علماء الاجتماع المحدثين الذين تولوها بالشرح والتحليل. فبحثوا عن أصلها، وسبيل انتشارها، وأثرها في المجتمع، وطريق علاجها. وكان لهم في ذلك مؤلفات قيمة جذابة نخص بالذكر منها كتاب فريزر الذي سنعرض له بالتفصيل في فرصة مقبلة إن شاء الله.
إذا تصفحنا التاريخ وجدنا الإنسانية نشأت حاملة معها خرافاتها. فالأمم المتوحشة الأولى خضعت للخرافة خضوعها لدين ثابت وأصل مقرر؛ ولا زلنا نرى أثر هذا الخضوع لدى القبائل الهمجية المعاصرة. وإذا جاوزنا هذه الأمم إلى الشعوب التي أخذت من الحضارة بنصيب، لاحظنا أنها تعلقت بقسط وافر من الأوهام والخزعبلات. وخرافات قدماء المصريين أعرف من أن ينوه عنها. والإغريق الذين بهروا العالم بعلمهم وثقافتهم لم يكونوا أقل اعتناقا للخرافة من غيرهم، وتاريخهم الديني مجموعة خرافات سخر منها فلاسفتهم غير مرة. وربما كان اللاأدريون من أول من رفع الصوت جهرة في وجه الخرافة والانقياد الأعمى، ودعا إلى تحرير الفكر الإنساني. كذلك حاربت الديانات السماوية بعض الخرافات وقضت عليها. غير أن رجال القرون الوسطى عادوا - تحت تأثير الجهل وعاطفة دينية عمياء - فارتطموا في بؤرة الخرافة، وتفننوا فيها أيما تفنن. ثم جاء عصر النهضة والإصلاح الديني فسلكا بالعقل الإنساني مسلكا جديدا وآثارا على الخرافة حربا شعواء. ولا تزال العلوم الحديثة تنكل بها يوما بعد يوم، وتطاردها في كل مكان.
والآن يحق لنا أن نتساءل هل الخرافة في سبيل الانقراض؟ وهل تأمل الإنسانية أن تتخلص منها بتاتا؟ ليس بيسير أن نجيب إجابة شافية على السؤال الأول، فإن الإحصاءات في هذا الميدان ناقصة وغير دقيقة؛ والخرافة، وقد تمكنت من نفوسنا وأضحت جزءا من عاداتنا وتقاليدنا، صعبة التمييز وكثيرا ما بدت بمظهر الشيء المعقول والمسلم به. ولكن مما لاشك فيه أن الفكر الإنساني تبرأ من خرافات كثيرة كان يرزح تحت نيرها آباؤنا الأقدمون. وكلما بسط العلم نفوذه بدد غياهب هذه الترهات والأباطيل، فهو من الخرافة كالنور من الظلمة بكشف دخيلها وبين ما اشتعلت عليه من خطر وأضرار. ومع هذا يخيل إلينا أنه لن يتمكن من انتزاع جرثومتها والقضاء عليها تماما، وستبقى الخرافة ما بقى الإنسان لتسد حاجة من حاجاته النفسية والاجتماعية.
وها هي ذي خرافة تفنى لتحل محلها خرافة أخرى، فلئن بادت الخرافات الوحشية لقد أعقبها خرافات حضرية. على أنه ليس ثمت ضير - على ما يظهر - في أن تتعلق أمة من الأمم بقدر محدود من الخرافات، فإن فشت الخرافة وسدت طريق التفكير والحكم الصحيح فهنا الداء القاتل والخطر المحدق.
وكأني بهذه الحال تنطبق تماما على ما يعانيه بلدنا اليوم. فنحن فريسة للخرافة في طعامنا وشرابنا، في ملبسنا ومسكننا، في حركاتنا وسكناتنا، في مختلف عاداتنا وتقاليدنا، بل وفي آرائنا ومعتقداتنا، وكثيرا ما وقفت الخرافة عقبة كأداء في طريق تقدمنا العقلي والجسمي، والخلقي والاجتماعي. وفي رأينا أن خرافاتنا المتفشية ترجع إلى أسباب كثيرة أهمها:
(1) طريقة الوعظ والإرشاد والتربية الدينية الفاسدة، (2) حياة القهر والاستبداد، (3) الفقر، (4) والجهل. لقد سلكت طائفة من وعاظنا مسلكاً خاطئاً للغاية، وأرسلت لنفسها العنان - طمعا في الترغيب أو الترهيب - في سرد خرافات يأباها العقل والدين، وخاصة ما اتصل منها بالحشر والنشر واليوم الآخر وعمدتها في ذلك مجموعة ضارة من كتب القصص والتفسير المملوءة بالإسرائيليات والآثار الضعيفة أو المكذوبة. وكأن علم هؤلاء الوعاظ خرافة كله، أو كأنهم يحيون على حساب الخرافة فهم يثبتون دعائهما ويبالغون في نشرها. وليست حياة القهر والاستبداد بأقل آثراً في نشر الخرافة من هذا الوعظ الفاسد، فالمغلوب على أمره يبحث عن قوى خفية يزعم أنها تعينه على التخلص مما هو فيه. كذلك تمني الخرافة الفقراء بأحلام ذهبية وآمال خلابة، وتسبغ عليهم من الخيال ما عجزت الحقيقة عن الوفاء به. ويحرم الجهل أخيرا عامة الناس من أن يفتحوا أعينهم للضياء، وقلوبهم للرجاء، لذلك كانت الخرافة والجهل نوعين متلازمين، وأخوين لا ينفصلان، وقديماً قالوا: الخرافة عمياء تخشى ما تحب، وتحب ما تخشى. وإذا كنا قد شخصنا الداء فلنعالج أسبابه الدفينة وعوامله الخفية وحذار أن نحارب الخرافة وجها لوجه ونقتصر على تسفيه أحلام معتنقيها، فإنه قد يكون أيسر أن نصرف الملحد عن إلحاده من أن نحول المخرف عن خرافته.
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة.