انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 10/سلمى وقريتها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 10/سلمى وقريتها

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 06 - 1933



للسيدة (آمي خير)

بقلم الأستاذ الكبير م. ع.

هذه قصة لبنانية بأشخاصها وأماكنها ووقائعها، فرنسية بلغتها، وقد كتبت في مصر، وطبعت في باريس.

واسم المؤلفة مركب من لفظين: ثانيهما عربي، وأولهما أعجمي بهمزة مفتوحة بعدها مدة فميم مكسورة فياء ساكنة.

كنت في مجلس بعض الأدباء، فجرى حديث هذه القصة فيما تناوله السمر، قال قائل منهم:

- من تكون مدام آمي خير؟

- إن كنت لا تعرفها فقد فاتك نصف عمرك.

- أواه، كم فاتني عمر كله، وكم فاتني نصف عمر!

- آمي خير سيدة تحدرت أرومتها من منابت الأرز في لبنان إلى أمومة لا تعرف الأرز ولا لبنانه، ونبتت في أحضان البحر الصغير في مدينة المنصورة، وربيت تربية فرنسية خالصة في هذه المدينة المصرية الخالصة.

هنا أخذ كل واحد من الجماعة يدلي برأيه غير منتظر تمام الحديث، فمن قائل: أن مؤلفة (سلمى وقريتها) لا يمكن ان تعتبر الا فرنسية، لأن صبغة الثقافة الفرنسية قوية جداً تصهر النفوس وتحيلها فرنسية مهما كان أصلها، الثقافة الفرنسية وريثة الثقافة اليونانية التي وجهت الفكر البشري توجيهاً يونانياً ودمغت بطابعها العلم والحكمة والدين.

أنظر إلى الكونتس (دي نواي) التي رزئ بها الشعر منذ قريب، لقد ماتت فرنسية، وعدت فرنسا مصابها مصاباً قومياً. والثقافة هي التي جعلتها فرنسية، لا الدم الذي كان يجري في عروقها. ومن قائل: ان الثقافة الفرنسية مهما قوى سلطانها فهي لا تستطيع أن تصنع شيئاً في الدم السكسوني وأن كان لقاحاً، ذلك الدم النزاع بجوهره إلى غير منازع الفرنسيين.

كان في المجلس شاب لبناني فأخذته حماسة الشباب وصاح: ودم لبنان؟ أليس للدم اللبناني حساب؟ إنا لنهفو إلى بعض الثقافات ونقلد بعض الامم، لكنا على ذلك ذوو عرق في الشرق عريق. .

وقال فتى من أهل الدقهلية:

- ما دامت السيدة قد نبتت بين البحرين فهي منصورية لحماً ودماً، والمنصورية مدينة لها من التاريخ ذكريات داوية من عهد ابن لقمان وداره، إلى عهد أبي سحلي وآثاره.

ثم عاد صاحب الحديث الأول يتمه: إن في السيدة (آمي خير) جمال المرأة الذكية، وفيها ذكاء المرأة الجميلة.

قال بعضهم: يا رفاقي على دين الدكتور (فريد الرفاعي) أفمن كانت بهذه المثابة تعنى نفسها بصنعة الكتابة؟

فانبرى للجواب صاحب الحديث:

- إن للسيدة (آمي خير) مشاركة جيدة في الفن والأدب، ولها ذوق من ألطف الأذواق، وهي على اتصال دائم بالمميزين من أهل الثقافات الغربية وإخوانهم من أهل الثقافات الشرقية، وتحاول أن تصل بين الثقافتين اللتين تحبهما على سواء.

تعطف على الفنانين والأدباء عطفا يسمو على اعتبارات الأجناس والأوطان والأديان لأنهم يؤدون رسالة الجمال في هذا العالم.

وكأنما تستصفي صواحبها تخيرا من ذوات الحسن البارع لأنها ترى المرأة الجميلة أيضا تؤدي رسالة جمال في هذا العالم المحتاج إلى جمال.

وتنقّل الحوار إلى (سلمى وقريتها) فمضى قائل يقول: موضوع القصة لا طرافة فيه، فان فتاة من بنات الفلاحين صبا إليها فتى من أبناء الأعيان ففتنت به، وكان بينهما كل ما يكون في كل حب من: عناق وقبل، وفرقت الأقدار بينهما وتزوجت (سلمى) شاباً من أهل قريتها كان يسر في قلبه حبها منذ زمان. لكن عقابيل الغرام الأول لم تزل تعاود سلمى حتى مرضت بالسل ووافاها حمامها.

ومن عجب إن المحبين في أقاصيصنا والمحبات يموتون بالسل دائما كأن جراثيم ذلك الداء لا تنتعش الا في صدور العاشقين!

قال آخر: يكون في كثير من الأحايين موضوع القصة بسيطا مطروقا لكن الكاتب يحسن تناوله فيبرزه في إطار من المعاني الشريفة والصور، ويسمو به إلى أفق الإبداع.

كان في حاشية المجلس رجل لم يشترك في شيء من الحديث وان أصغى إلى كل الحديث، فلما سكت القائلون تصدى للكلام:

- يشعر القارئ لكتاب (سلمى وقريتها) بأن مؤلفته أرادت أن تصور لبنان تصويرا شاملا. فهي ترسم الجبال شامخات عاربات يلمع الثلج فوق هاماتها. وتنحدر الوديان من حولها وهادا سحيقة. ومروجا خضراء، وتتناثر القرى في سفوحها وفي أحضانها وربما تسامت إلى ذؤاباتها، والينابيع تتدفق عن يمين وشمال بالعذب النمير والكروم والأشجار تجتمع جنات الفافا، وتفترق ألواناً وأصنافاً.

وتصف السيدة حياة القوم حين يجمعهم الشتاء أسارى، وحين يطلقهم الصيف احرارا، وتذكر أمرهم في بيوتهم، وحالهم في مزارعهم، وشأنهم في مجامعهم، وتنعت ما يأكلون وما يشربون وما يقولون وما يفعلون، وتمثل أفراحهم وأحزانهم، وجدهم ولعبهم، ورقصهم وغنائهم، وعشقهم وغزلهم، ولا تهمل شعائر الدين فيهم كل ذلك في أسلوب بسيط إن خلا من زينة الصنعة فهو لا يخلو من جمال السهولة والوضوح.

وفي الكتاب لمحات بسيكولوجية، وقصة سلمى نفسها مملوءة من هذه اللمحات التي تكشف عن معان نفسانية.

فإيثار سلمى لجميل فارس بالعشق ملحوظ فيه انه وريث وجاهة وغنى، وقد حسبته انصرف عنها بعد أن تلهى بمغازلتها، فثارت في نفسها للكرامة حمية بددها الغرام بابن السادة الأغنياء. وأبو سلمى عرف أن ابنته العذراء قد فتنها جميل، وتهامس أهل القرية بما بينهما فلم تخرجه الغيرة عن حدود الرزانة والحلم وزوج سلمى حين سمع حليلته تهتف في سكرات الموت باسم عشيقها، صدمه ذلك ففار فورة ثم انطفأ وعاد يريق دمعه عند أقدام سلمى.

أما أم سلمى فقد جعلتها مدام خير مثال الزوجة البرة الصالحة والأم الحكيمة الرحيمة.

ويوشك أن يكون أروع ما في (لبنان مدام خير) بعد منابع المياه ومزة العرقي هي أم سلمى.

وكان ذلك نهاية السمر بين القوم فتفرقوا مجمعين على أن (آمي خير) قد وصفت لبنان وأهل لبنان في كتاب (سلمى وقريتها) وصفا فيه روعة الدقة ولطف الملاحظة وحسن البيان.

م. ع