مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/طرف فلسفية
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/طرف فلسفية
للفاضل عبد الرحمن شكري
أحلام اليقظة
(وهي أحلام خيالية فلسفية يشوبها شيء من المزح)
1
أسافل النفس وأعاليها
ذهبت مرة في المساء إلى شاطئ البحر لأروح عن نفسي من الهم الذي يعتور المرء من التفكير في أساليب الحياة وما يأتيه الناس من شر ثم اضطجعت على الأرض وجعلت أردد لحظي بين السماء والأرض فصغرت لدي حياة الناس من عظم ما بين السماء والبحر وبينما اسخر ضلة من طبيعة الإنسان وما تغري الناس به من غدر ولؤم ودناءة وكذب وقتل وخيانة وقع بصري على ملك من النور كله جمال في يده مرآة ثم رأيته قد اقترب مني ووضع المرآة أمامي ثم قال انظر في هذه المرآة فنظرت فرأيت جنياً ملأ ما بين السماء والأرض له رجلان مثل رجلي حيوان مفترس لهما كساء من الشعر وباق ملك كريم فنظرت إلى قدميه فرأيت أظفاراً مثل أنياب الفيلة ورأيت الدود والبق والعقارب فوق قدميه فأغمضت عيني من قبح ذلك المنظر ثم سمعت صوت الملك صاحب المرآة يقول أرفع بصرك وانظر إلى وجه هذا الجني فرفعت بصري ونظرت في وجهه فرأيت وجهاً ينبعث منه النور مله حنان ورفق وعينين لحظاتهما كلها ذكاء وجبيناً لو صور الحق لكان جبين هذا الجني جبينه ورأساً مكللاً بالأزهار ونظرت إلى صدره فرأيته نبيلاً جليلاً فخفق قلبي طرباً بجمال هذا المنظر وجلاله ثم نظرت إلى يديه فرأيتهما مثل يدي القرد فعجبت كيف يقرن ذلك الجمال الجم بذلك القبح الجم فقال الملك صاحب المرآة أن صورة هذا الجني تمثل النفس الإنسانية فإن هذا الجني رأسه في السماء ورجله في الأرض وكذلك النفس فإذا نظرت إلى النفس رأيت أعاليها كلها جلال وجمال وأسافلها مثل بئر كله حشرات وهذا الجني له يدان مثل يدي الحيوان وإنما هذا مثل العمل فإن الغريزة تحث المرء إلى العمل من خير وشر لأن العمل مقياس الحياة وميزان البقاء فإذا أردت أن تعيش عليل النفس سقيم الأمل ضئيل الهمة فانظر في أسافل هذا الجني وردد لحظاتك في الدود والبق والعقارب التي فوق قدميه فإن هذه أسافل النفس ويكون مثلك مثل من يريد أن يستحم فيرى غديراً صافياً طاهر الماء فيعدل عنه إلى الماء الآجن في المستنقع الموبى لم لا ترفع بصرك إلى أعالي النفس من لحظ كله ذكاء وجبين كله جلال ووجه كله ضياء فلما قال الملك قولته هذه رفعت بصري إليه فرأيته قد خفي عني فرجعت إلى بيتي وفككت عني حبائل اليأس وقلت خاب من نظر في أسافل النفس ورجع بصره خاسئاً عن أعاليها.
2
الخير والشر
ذهبت مرة إلى مدينة من مدن القدماء لم يبق منها إلا أطلال ونؤى وأحجار فجعلت أنظر إلى تلك الأطلال كأني أنظر إلى قبور السنين الخوالي وغربت الشمس ثم رأيت النجوم في السماء كأنها أطلال الفردوس فرأيت في السماء أطلالاً وفي الأرض أطلالاً وقد خيل لي أن هذه الأرض قبر والناس أموات والسماء سقف ذلك القبر والنجوم أزهار وضعت عليه كما توضع الأزهار فوق القبور فاستلقيت على الأرض وجعلت أنظر إلى النجوم نظرة هوجاء ثم رأيت في السماء جنيين جنياً تتطاير من عينيه النار وجنياً ينبعث من عينيه النور الأول له أذنان مثل أذني الحمار والثاني له أذنان مثل أذني الإنسان ووضع أحدهما أصبعاً تحتي ووضع الآخر أصبعاً فوقي ورفعاني بين أصبعيهما حتى وضعاني على فلك من الأفلاك ورأيت الأرض مثل كرة القدم في الحجم ثم قال الجني الذي ينبعث من عينيه النور وأشار إلى صاحبه هذا إبليس لا يغرنك منه أن أذنيه مثل أذني الحمار فإنه على ذلك كثير الدهاء كثير الذكاء ولكن لو لم يكن بينه وبين الحمار شبه ما فضل الشر على الخير فضحك إبليس وقال لا تضع الوقت في المزاح ثم التفت إلي وأشار إلى صاحبه وقال هذا صاحب الخير وأنا صاحب الشر وهذه الكرة التي أخرجناك منها هي كرة نلعب بها فأما غلبني وأما غلبته عليها قلت ومن الحكم بينكما قال الله يحكم بيننا ثم جعلا يلعبان بالكرة الأرضية هذا يضربها برجله من ناحية وذاك يضربها من ناحية أخرى ثم نظرت إلى صاحب الخير فرأيته يكبر في حجم جسمه ورأيت صاحب الشر يصغر فسألت صاحب الخير في ذلك فقال أنا دائماً أكبر لأنه لا نهاية للخير وإبليس يصغر دائماً ولكنه لا يفنى أبداً لأنه أن لا نهاية للشر فإنه كلما فنى منه شيء ظهر شيء جديد ثم نظرت حولي فرأيت أطلالاً ونؤياً ورأيت أني مستاق على الأرض فقلت لنفسي أكبر ظني أني كنت أحلم.
3
عظم الوجود
رأيت في الحلم أني كنت نائماً على الأرض في بستان أنيق وجعلت أنظر إلى السماء والظلام حولي فرأيت عينين كبيرتين تطلان من السماء كل واحدة منهما في حجم القمر ولكنهما كانتا مثل أعين الناس في الشكل ورأيت النار تنقدح فيهما كأن في كل عين منهما جحيماً ثم رأيت يداً كبيرة مدت من السماء إلى الأرض ورفعتني حتى صارت الأرض في عيني مثل النملة وصارت الشمس مثل التفاحة الصغيرة والكواكب حولها كالنمل فتملكني الرعب حتى صرت من شدة الرعب لا أحس به ثم نظرت إلى ما فوقي فرأيت كواكب وشموساً كالكواكب والشمس التي يراها الناس رأيت كل هذا وأنا في يد ذلك الجني ثم رأيت عينيه في سمائي والنار تتطاير منهما فصحت من أنت أيها المخلوق العظيم فضحك ضحكاً كاد يصم أذني ضحكاً صوته مثل صوت تصادم الكواكب وتكسر الأفلاك ثم قال أنا روح الأبد أتحسب أيها المخلوق الحقير أن هذا الوجود إنما خلق لأجلك أتقيس قدرة الله بما أودع فيك من المقدرة أنظر أيها المغرور ثم رفع صوته وأمر الأفلاك من نجوم وشموس أن تتصادم فتصادمت وتكسرت ثم غابت أشلاؤها في الفضاء قلت هل فني الوجود فضحك ضحكاً عالياً ثم قال أنظر أيها المغرور ثم رفع يده فرفعني في يده فرأيت أفلاكاً غير الأفلاك التي رأيتها قبل ثم أمرها أن تتصدع فتصادمت وتصدعت وغابت أشلاؤها في الفضاء ثم رفع يده فرفعني في يده فرأيت أفلاكاً غير الأفلاك التي رأيتها قبل وهكذا يأمر الأفلاك فتتصدع ثم يريني غيرها حتى كدت أموت من جلالة ذلك وهوله ثم رفع صوته وقال أني ليعجبني غرور الإنسان فإن الغرور نتيجة من نتائج الطموح والطموح دليل على الحياة وآلة من آلات النبوغ يا ابن آدم أنت جزء حقير من الوجود فكيف يفهم الجزء الحقير الشيء الكامل. إن ضمائر الأفراد ثقوب يطلون منها على الله ويناجونه بها ولكن مثلهم في تلك المناجاة مثل جماعة من العمي لمس أحدهم خرطوم الفيل فقال الفيل مثل الثعبان ثم لمس أحدهم ذيله فقال الفيل مثل الحبل الطويل ولمس أحدهم رجله فقال الفيل مثل الدعامة المستديرة والناس لا يرون الله إلا كما ترى النور من ثقب صغير فكل عقيدة من عقائد الناس مكملة لأختها ثم قال اذهب إلى مكانك من الأرض ولا تنس عظم الوجود فإن إحساسك بعظمه فريضة عليك.