انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 62/حضارة العرب في الأندلس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 62/حضارة العرب في الأندلس

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1921


الرسالة الثالثة

مقامي في قرطبة

عظمة الإسلام

ملوك العالم تزدلف إلى الناصر - وفود ملوك الروم إلى قرطبة

بلغ ملك أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر لعهدنا هذا ما لا يبلغه ملك مليك في الأرض، من اتساع الرقعة ومنعة الجانب واستبحار العمران وتعدد الجند وضخامة الأساطير وتكاثر الذخيرة والسلاح وانبثاق نور العلم والعرفان في بلاده وما إلى ذلك مما طال به ملوك الأرض واستبد دونهم بالمجد والسؤدد وحدا سائر الدول على أن تملقه وتهاديه وتزدلف إليه وتتوسل بالهدايا والتحف وعظم الذخائر والطرف، وتفد غليه بنفسها تارة وتوفد إليه رسلها طورا، تخطب مودته، وتسترفد رضاه ومحبته. وأول وتد وفد بعد وصولنا إلى قرطبة بأيام قلائل رسل قسطنطين بن ليون ملك الروم ثم رسل الألمان والصقالبة والإفرنج وصاحب روما والكثير غيرهم ت وقد كان يوم وفود هؤلاء الرسل والاحتفاء بهم يوما مشهودا يجمل بنا أن نؤتي لك على وصفه:

لما جاء الخبر بقرب قدوم هؤلاء الرسل أمر أمير المؤمنين بأن يتلقوا أعظم تلقي وأفخمه، وأحسن قبول وأكرمه، وأخرج إلى لقائهم ببجاية يحيى بن محمد بن ليث وغيره لخدمة أسباب الطريق، فلما صاروا بأقرب المحلات من قرطبة خرج إلى لقائهم القواد في العدد والعدة والتعبية فتلقوهم قائدا بعد قائد، وكمل اختصاصهم بعد ذلك بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتماما إبلاغا في الاحتفال بهم فلقياهم بعد القواد فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وأكرمه لأن الفتيان من عظماء الدولة لأنهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه، وبيدهم القصر السلطاني. وأنزلوا بمنية ولي العهد الحكم المنسوبة إلى نصير بعدوة قرطبة في الربض، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة جملة ومن ملابسة الناس طرة ورتب لحجابتهم رجال تخيروا من الموالي ووجه الحشم فصيروا على باب القصر هذه المنية ستة عشر رجلا لأربع دول لكل دولة أربعة نهم ورحل الناصر لدين الله من صر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه فقعد لهم في بهو المجلس الزاهر قعودا حسنا نبيلا وقعد عن يمينه ولي العهد من بنيه الحكم ثم عبد الله ثم عبد العزيز ثم الأصبغ ثم مروان وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبار ثم سليمان وتخلف عبد الملك لأنه كان عليلا لم يطق الحضور وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ووقف الحجاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهمن وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدارنك وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملوك الروم حائرين مما رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ودفعوا كتاب ملكهم صاحب قسطنطينية العظمة قسطنطين بن ليون وهو في رق مصبوغ لونا سماويا مكتوبا بالذهب بالخط الإغريقي وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضاً مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضاً فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل على الوجه الواحد منه صورة المسيح صلوات الله عليه وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده وكان الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطسن الملك معمولة من الزجاج الملون البديع وكان الدرج داخل جعبة ملبسة بالديباج. وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه (قسطنطين ورمانيين المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم) وفي سطر آخر (العظيم الاستحقاق الفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس أطال الله بقاؤه) ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه وتصف ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ويقدمه أمام نشيد الشعراء فأمر الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البر الكسيباني بالتأهب لذلك وإعداد خطة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة وكان يدعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره وحضر المجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظة بل غشي عليه وسقط على الأرض فقيل لأبي علي البغدادي قم فارقع هذا الوهي فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه ثم انقطع القول بالقالي فوقف ساكتا مفكرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه.

فلما رأى ذلك منذر بن سعيد - وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء - قام من ذاته بدرجة من مرقاته فوصل افتتاح أبي علي لأ ول خطبته بكلام عجيب، ونادى من الإحسان في ذلك المقام كل مجيب، يسحه سحا كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدة وبدا من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي فقال أما بعد حمد الله والثناء عليه والتعداد لآلائه والشكر لنعمائه والصلاة والسلام على محمد صفيه وخاتم أنبياءه فإن لكل حادثة مقام ولكل مقام مقال وليس بعد الحق إلا الظلال وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم فاصغوا إلى معشر الملأ بأسماعكم وألقنوا أعني بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت وإن الجليل تعالى في سماءه وتقدس بصفاته وأسماءه أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء وأن يذكر قومه بأيام الله جل وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله أسوة حسنة وإني أذكركم بأيام الله عندكم وتلا فيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمنت سربكم ورفعت قوتكم بعد أن كنتم قليلا فكثركم ومستضعفين فقواكم ومستذلين فنصركم ولاه الله رعايتكم وأسند إليه إمامتكم أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق وأحاطت بكم شعل النفاق حتى صرتم في مثل حدقة البعير من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخا وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء، أنشدكم بالله مع معاشر الملأ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها والسبل مخوفة فأمنها والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها ألم تكن البلاد خرابا فعمرها وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها. فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته وتلا فيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بأمامته حتى أذهب الله عنكم غيضكم وشفى صدوركم وصرتم يدا على عدوكم بعد أن كان بأسكم بينكم فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكن ذلك إلى القواد والأجناد حتى باشره بالقوة والمهجة والأولاد واعتزل النسوان وهجر الأوطان ورفض الدعة وهي محبوبة وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة بطوية صحيحة وعزيمة صريحة وبصيرة ثابتة نافذة ثاقبة وريح هابة غالبة ونصرة من الله واقعة واجبة وسلطان قاهر وجد ظاهر وسيف منصور تحت عدل مشهور متحملا للنصب مستقلا لما ناه في جانب الله من التعب حتى لانت الأحوال بعد شدتها وانكسرت شوكة الفتنة عند حدتها ولم يبق لها غارب إلا جبه ولا نجع لأهلها قرن إلا جده وأصبحتم بنعمة الله إخوانا وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا حتى تواترت لديكم الفتوحات وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات وصارت وفود الروم وافدة عليه ووعليكم وآمال الأقصين والأدنيين مستخدمة إليه وإليكم يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولن يخلف الله وعده ولهذا الأمر ما بعده وتلك أسباب ظاهرة بادية تدل على أمور باطنة خافية دليلها قائم وجفنها غير نائم وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم الآية وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب ولكل نبأ مستقر ولكل أجل كتاب فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه واسألوه المزيد من نعمائه فقد أصبحتم بعد خلافة أمير المؤمنين أيده الله بالعصمة والسداد والهمة والهمه خالص التوفيق إلى سبيل الرشاد أحسن الناس حالا وأنعمهم بالا وأعزهم قرارا وأمنعهم دارا وأكثفهم جمعا وأجملهم صنعا لا تهاجون ولا تذادون وأنتم بحمد الله على أعداكم ظاهرون فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم فإن من نزع يدا من الطاعة وسعى في تفريق الجماعة ومرق من الدين فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها حظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء وأن بقوام الطاعة تقام الحدود وتوفى العهود وبها وصلت الأرحام ووضحت الأحكام وبها سد الله الخلل وأمن السبل ووطأ الأكناف ورفع الاختلاف وبها طاب لكم القرار واطمأنت بكم الدار.

فاعتصموا بما أمركم الله الاعتصام به فإنه تبارك وتعالى يقول أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم الآية وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصنوف الملحدين الساعين في شق عصاكم وتفريق ملاكم الآخذين في مخاذلة دينكم وهتك حريمكم وتوهين دعوة نبيكم صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله رب العالمين مستغفرا لله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين. .

فبهت الروم وغلي على قلوبهم وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقام المنذر وثبات جنانه وكان الناصر أشدهم تعجبا منه وأقبل على ابنه الحكم ولم يكن يثبت معرفته فسأله عنه قال له هو منذر بن سعيد البلوطي فقال والله لقد أحسن ما شاء فلئن كان حبر خطبته هذه وأعدها مخافة أن يدور ما دار فيتلافى الوهي فإنه لبديع من قدرته واحتياطه ولئن كان أتى بها على البديهة بوقته فإنه لا عجب وأغرب ولئن لأخرني الله بعد لأرفع من ذكره فضع يدك يا حكم عليه واستخلصه وذكرني بشأنه فما للصنيعة مذهب عنه ثم ولاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع بالزهراء ثم ولاه بعد ذلك قضاء الجماعة بقرطبة واقره على الصلاة بالزهراء.