انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 62/التربية العقلية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 62/التربية العقلية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1921



ملخصة من مبحث ضاف

للكاتب الشهير أرنولد بنت

إذا صح أن للإعلانات أي نفع في الأمة الأمريكية بالغة شأوا بعيدا من القوة البدنية لا نظن العالم قد شهده منذ عهد الإسبارطيين. فإنك لا تفتح صحيفة أو مجلة أمريكية إلا وجدت فيها عددا لا يحصى من الإعلانات المصورة عن (أخصائيين للتربية البدنية) مستعدين أن يجعلوا جميع أعضاء الجسم تشتغل بالدقة التي تشتغل بها سيارة قوتها عشرون حصانا ولا يصيبها ضرر أو عطل! وقد رأيت كتابا لأحد هؤلاء الأخصائيين يشرح فيه كيف للإنسان أن يتمتع بصحة وافية إذا اختص نفسه بربع ساعة في كل يوم يقضيها في لعب تمرينات معينة. والإعلانات التي أشرنا إليها تزيد كل يوم عددا وحجما وتكلف مالا وفيرا ولا ريب إذن في أن أصحابها يجنون منها ربحا وعملا. ولا ريب أيضاً أن عددا كبيرا من الناس يقلقه ما يراه في جسمه من ضعف ويوشك أن يأخذ في أسباب تقويته وتربيته.

وهذه الظاهرة عينها موجودة عندنا نحن الإنجليز ولكن بشكل أبسط. وهي في كل يوم تتقدم وتتقدم معها عضلاتنا. فإنك لا تفاجأ إنجليزيا في غرفة نومه صباحا إلا وجدته مستلقيا على ظهره أو واقفا على رأسه ولاعبا (بالكلبز) كل ذلك في سبيل تمرين عضلاته وتقوية جسمه.

وبعد أليس غريبا أنه لم يدر في خلدي قط أن أخصص ربع ساعة في كل يوم لتمرين القوى العقلية وتقويتها؟

إن العقل العادي أحسن استعداد للتربية من الجسم العادي فما بالنا نأخذ في تمرين عضلاتنا وتقوية أذرعتنا ونتباهى بها. وما خطر لنا قط أن للعقل أيضاً عضلاته وأجهزته الكثيرة وأن هذه الأعضاء الذهنية أقل كفاءة مما يجب أن تكون فبعضها ضعيف هزيل وبعضها بحاجة إلى التغذية وبعضها غير منتظم الشكل الخ. . .

إن رجلا من ذوي الأعمال المريحة إذا قضى يوم عطلة في مشي طويل رجع إلى بيته منهوك القوى غير قادر أن يتناول طعاما، ويصحو في اليوم التالي وهو يعزم عزما خالصا أنه لن يهمل رياضة جسمه إلى مثل هذا الحد ثم يأخذ في احد التمرينات الرياضية. ولكن اطلي من مثل هذا الرجل بعد أن ينهك نفسه في مطالعة الصحف والمجلات والروايات أن يمرن عقله في تسلق موضوع علمي أو فلسفي أو فني. . إنه سينبذ هذا العمل بعد قليل ولا يهتم بأن يشكو بأن عقله ليس في حالة مرضية وأنه يلزمه أن يعنى بتقويته وتمرينه، بل إنه سوف يرضى بالحالة التي هو فيها دون أن يشعر بشيء من الخجل أو الحزن المحض!.

أقول (الحزن المحض) لأن الحقيقة أن الإنسان يشعر بشيء من السف على رؤيته قواه العقلية على غير ما يحب من النشاط والعلم. وكثيرون يأسفون على جهلهم النظريات المهمة. . والسنون تمر. . وهم لا يشتغلون كل أربعة وعشرون ساعة سوى ست أو سبع ساعات. . ولا يحتاجون إلى أكثر من دافع أو مجهود أو نظام لينقذوا الذهن من خموده وركوده وينتفعوا بتمرين عضلاته ويزودوه بمفاخر المعرفة التي تزدهيه. إننا نقضي أيامنا لا نعمل عملا ولا نفكر تفكيرا ولا عذر لدينا من ضيق وقت أو قلة اختبار.

لماذا لا يتقدم إلينا أخصائي لتقوية العقل ويشرح لنا كيف ننتفع بعقولنا في الأعمال المهيأة لها! إذا كان هناك نظام لتربية الجسم فإن هناك نظاما يمكن استنباطه لتربية العقل. وبذلك نحقق بعض مطامعنا في الانتفاع في أوقات الفراغ بتلك الآلة العظيمة التي نتركها تصدا في رؤوسنا إننا لا تعوزنا الرغبة لنيل المعرفة وتقوية الذهن ولكن تنقصنا أولا قوة الإرادة - ولا اقصد قوة الإرادة للبدء في العمل ولكن للاستمرار فيه - وثانيا ينقصنا علاج الحالة السيئة التي صارت إليها أجهزة العقل بسبب إهمالنا. وعلى ذلك يكون العلاج منقسما إلى قسمين: تنمية قوة الإرادة وإصلاح حالة الجهاز العقلي. ويجب أن يسير هذان العلاجان جنبا إلى جنب.

العلاج

إن من السهل أن يعزم الإنسان أمرا في ساعة من ساعات حماسته واهتياجه ولكن تنجيز ما اعتزم صباحا إثر صباح ويوما بعد يوم وطول الشهور والأعوام هو العقبة الكؤود. ولا أظن احد من قارئي يخالفني في هذا. وكثير من الناس يتجاهلون هذه الحقيقة ويتساءلون: ماذا نعمل؟ وبما نشتغل؟ ويظنون أنهم قد أصابوا حل المشكلة إذا هم انحازوا إلى جانب طريقة من طرق تقوية الذاكرة أو تربية الذهن. وفاتهم أن الطريق ليست مهمة وإنما الطريقة الحسنة تتوقف على قوة العزم.

ولنضرب لذلك مثلا سهلا بسيطا بامرأة، أو رجل في الثلاثين من عمره يعيش عيشة مرضية ويشتغل شغلا مناسبا، كم من مرة قد جال في خاطره أن عقله يعوزه شيء من النشاط والعلم فوثب عن كرسيه قائلا في نفسه أن سيعنى اليوم بتمرين عقله تفضل بالرجوع ثانية إلى كرسيك! طالما مرت بك أوقات كهذه اعتزمت فيها أعمالا مجيدة ثم فشلت! فأي المعدات اتخذت لتأمن الفشل هذه المرة؟ لا أظن إرادتك اليوم أقوى منها قديما فاعلم أنه لا جرح ألم لعزم النفس من الرجوع بالفشل وقد تحسب أن هذا الجرح قد اندمل والتئم ولكنه سوف يثور عليك في اللحظة الحرجة وينزف نزيفاً مميتاً.

ليس لي شرف معرفتك ولكني أعرفك لأني أعرف نفسي. لقد كان فشلك القديم راجعا إلى أحد أسباب ثلاثة.

أولها أنك كلفت نفسك عملا كثيرا من بدء الأمر ورسمت برنامجا رائعا! ولكنك لم تتبع ما تتبعه في الرياضية البدنية من الاستعدادات الأولية فلا تتخذ في هذه المرة برنامجا ويكفيك أن تسير خببا، قل لنفسك مثلا (سوف أقرأ كتاب التربية لسبنسر في مدة شهر وسوف أكتب على غلافه الملاحظات المهمة) قد تقول إن هذا عمل سهل بسيط. حسنا اعمله. . فإذا أتممته فإنك على أية حال سترضى على نفسك إذ تراك اعتزمت أمرا وحققته ولا بأس بعد ذلك أن تضع لنفسك نظاما آخر تتبعه ثلاثة أشهر وبذلك تكون قد وفقت إلى عمل برنامج وإن كان أفضل من هذا كله اجتنابك ذلك الجرح الخطر وهو الفشل.

أما السبب الثاني لفشلك القديم فهو تلك الابتسامة الساخرة التي يلقاك بها أصدقاؤك إذ تخبرهم بما تعمله. فأوصيك ألا تذيع في كل مكان أنباء انتصاراتك فإذا كسبت معركة أو اثنتين فلوح بعلمك وسوف ترى أن هذه الابتسامة المشفقة الساخرة تموت قبل أنت تولد.

والسبب الثالث هو أنك لم تنظم أوقاتك تنظيما جديدا. يجب أن تخصص جزءا من يومك لهذا العمل الجديد، لكن لا تنقص ساعات نومك أو تحشر أوقات عملك هذا بين وقتين ضيقين، كلا، أعط نفسك الوقت الكافي. وإذا نويت أن تفكر أو تقرأ نصف ساعة كل يوم فاجعلها في حساب وقتك ساعة، وليس هذا الاحتياط بكثير على المبتدئ. ألا يمكنك أن تقتطع من أوقات رياضتك ولهوك هذا الزمن القصير؟.

لقد صعقت أخيراً برؤيتي في أحد الضواحي انتشار الألعاب الرياضية والتمرينات البدنية واهتمام الناس بتقوية عضلاتهم وأجسامهم فقلت في نفسيأيها العقل المسكين المتهافت؟ إن لألعاب الكرة والتجذيف في القوارب والجولف والتنس فصولا مخصوصة وأنت محروم من مثلها.

والآن وقد شرحنا الكيفية التي بها يبدأ الإنسان تمرين قواه العقلية والأسباب التي دعت إلى فشله قديما فإننا ننتقل إلى التمرينات التي يصح أن يأخذ في القيام بها. إن كثيرين يستخفون بالاشتراك في جمعية لتقوية الذاكرة لماذا لا يفعلون ذلك هزوا رؤوسهم وقالوا إن الذاكرة ليست كل شيء! كذلك يتردد كثيرون في حفظ شيء بظهر الغيب والحقيقة أن حفظ النثر أو النظم غيبا لمن أفضل التمرينات العقلية. إن معالجة الذهن ستة أشهر باستظهار عشرين سطرا كل أسبوع لينفي ركوده. وإن أهم ميزة للاستظهار هي القدرة على توجيه الذهن. ولا شك في أن القدرة على توجيه الذهن إلى العمل الذي تشتغل فيه هو أعظم مقدمات تربية النفس. وهناك تمرين عقلي آخر وهو أن تطالع صحيفة من أي كتاب ثم تأخذ في كتابة ما تذكره منها بكلمات من عندك أو بكلمات المؤلف نفسها. إن أمثال هذه التمرينات التي لا تشغلك أكثر من ربع ساعة في كل يوم لتأتي بالنتائج الباهرة.

وعلى ذكر هذا ننتقل إلى ذلك التمرين العقلي العظيم وهو الكتابة. ولا يهمني بلاغة ما تكتب ما دمت تدأب على تركيب الجمل. إن هناك أربعين طريقة لتكتب كتابات خصوصية. فإنك تستطيع أن تتخذ لك مذكرات يومية أو إن شئت عملا أسهل فاتخذ لك دفترا بمثابة جريدة تدون فيه الحوادث المهمة. أو اكتب ملاحظاتك في الكتب التي تقرؤها الخ. . .

ويأتي عقب الكتابة التفكير (وقد يبدو هذا الترتيب غريبا ولكني أصر عليه). إن تربية الذهن وتقويته تكتسبان بتمرينه الدائم على التأمل وإنعام الروية وبعبارة أخرى توجيهه عشر دقائق مثلا في كل يوم إلى التفكير في موضوع من الموضوعات العالية التي يستطيعها. نعم سيفشل الإنسان عدة مرات ولكن لا يجب أن يكترث بذل بل يثابر ويواظب في الطريق التي هو فيها.

وقد طلب مني كثير من القراء أن أعين لهم الكتب التي يقرؤونها: فكأنهم يطلبون مني أن أعين لكل واحد منهم ما يوافق مزاجه ويلائم روحه! ولكني لم أكتب مقالي هذا لأعين الطريق التي تؤدي إلى التربية العقلية ولكني كتبتها لأبين كيفية السير في تلك الطريق. وعساك أن تقول بأني أشغل نفسي بالبحث عن أحسن الطرق للمشي ولكني أرفض أن أعين الجهة التي تذهب إليها. وهذا حق. فإني لا أستطيع أن أعرف الجهة التي يريد غيري الذهاب إليها: ط. ر