مجلة البيان للبرقوقي/العدد 6/باب العلم
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 6/باب العلم
العلم الاجتماعي
1
الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة
للنقادة الاجتماعي الأشهر ماكس نوردو
لخصها الفاضل عباس محمود العقاد
من أبناء جيلنا الأحياء عالم فيلسوف ألماني أصاب شهرة في الخافقين قل من يوفق لمثلها في أيام حياته، ذلك هو ماكس سيمون نوردو، ابن عالم إسرائيلي، ولد في مدينة بودابست من مدن النمسة في التاسع والعشرين من شهر يوليو لعام 1849. وأتم دروسه الطبية في عام 1872، ثم قضى بضع سنين في التطواف والتنقل من إقليم إلى إقليم كانت هي خميرة معارفه عن العالم الأوربي، إلى أن استقر بمدينة بست سنة 1878. وهناك افتتح له مستوصفاً طبياً، ثم غادر المدينة إلى باريس في سنة 1880، وبقي ثمت يدرس مذهب لمبروزو العلامة الإيطالي المبرز في علم العقل، فاقتنع به وتشبع بآرائه، وأخذ يطبق مقرراته على الفنون والآداب، ناهجاً في ذلك منهج التمحيص العلمي المستمد من قضايا علمي السيكولوجي أي علم النفس والفزيولوجي أي علم وظائف الأعضاء، فالعالم عند نوردو حيوان عظيم الفرد خلية منه فهو يفحص علله وأدواءَه ولا يلقي مشرطه من يده، وقد توخى في جميع مصنفاته الحقائق المرئية والوقائع المجردة، مع إعمال الروية وإدامة النظر، فجاءت آراؤه محكمة سديدة، وسلم في أكثرها من التعسف أو الضعف، والأول خطأ المغالين في الوقوف عند المحسوسات، والثاني خطأ الهائمين في أجواز الخيالات، وهو عاتي الفكر، صارم القلم، حديد النظر، لا يصلب في محكه رأي قديم أو سنة مرعية أو اصطلاح متواضع عليه، يميل في آرائه إلى الاشتراكية وقلب نظامات الحكم الحاضرة، ملكية كانت أو إمبراطورية أو جمهورية، لأنها تأخذ من الفرد أكثر مما تعطيه، ولأنه يراها كلها صوراً شتى لنظام واحد، يستقل فيها بالحكم بضعة رجال من الأقوياء فيصرفون الأمور كما يحلو لهم، ويوافق منافساتهم الحزبية، وعنده أنه ليس على ظهر الأرض حكومة تمثل فيها إرادة الأمة، وكل ما في الأمر أن فئة من أصحاب النفوذ الأدبي أو المالي يسوقون الناس إلى انتخابهم لا بكفاءتهم وأخلاقهم وسعة مداركهم. فإن هذه قد لا تغني في مخاطبة الشعب واجتذابه، بل بوسائل التأثير والمشوقات التي ليست من الصدق في شيءٍ، ثم يجتمع هؤلاء فيقال أنهم نواب الأمة يبرمون وينقضون باسمها، ويفكرون وينطقون كما يلائم مرافقها. كأنما تسلّبوا عن أنفسهم أو فنوا في كيان الأمة، والحقيقة أنهم يسيرونها كما كان يسيرها نبلاء القرون الوسطى، وإنما هو اسم مبتكر لهيئة قديمة أو كما يقول خمر جديدة في دنان عتيقة.
قال ماكولى عن فولتير أنه قوض مئات من المبادئ ولم يؤسس مبدأً واحداً وقد يسوغ لنا أن نقول مثل ذلك عن ماكس نوردو فأنه من أولئك الباحثين الذين ذهبوا في إصلاح البشر مذهب القائلين بتلافي النقص واستدراك الخطأ، وعندي أن الهادمين من الفلاسفة أقرب إلى الصواب من البناة منهم، فإنه يسهل علينا الإلمام بما كان ولا يسهل التكهن بما سوف يكون. ولا محل للخطأ إلا قليلاً في الاهتداء إلى فساد نظام سبق تطبيقه وبين الزمن نفعه وضرره على أنه لا سبيل إلى التحرز من الخطأ في وضع سنة لا يمكن أن يستجمع واضعها في ذهنه كل ما قد يتأتى عند تطبيقها من اختلاف أحوال الزمن وتجدد طوارئه، ويتعذر عليه أن يحيط بكل ما يلزم الناس فيودعه سنته، والخطل قريب من أصحاب المبادئ لأنهم لا يملكون أنفسهم أن لا يتشيعوا إلى مبادئهم، فيقلل ذلك من تسامحهم في قبول الحقائق والآراء التي لا تتفق مع آرائهم.
وكتاب الأكاذيب المقررة من أهم كتب الرجل بل لعله أهمها. وقد نقل إلى أكثر لغات أوروبة فأثار حوله ضجة في كل لغة نقل إليها وطبع مراراً في أكثرها. نحي فيه منحى غريباً في نقد مساوئ الاجتماع وكشف طلاء غشه. وقد فضح بهارج المدنية الغريبة فأبان كيف أنها قائمة على غير أساس وكيف تختلف ظواهرها عن بواطنها وتناقض دعاويها وحقائقها. وقد صادرت الكتاب حكومة النمسة، وفي بلادها كان مسقط رأس الفيلسوف، زاعمة أنه يجرئ الناس على احتقار شخص الإمبراطور ويصدهم عن إحياء شعائرهم الدينية، وهو المزعم الذي طالما لجأت إليه الحكومات كلما خشيت على سلطتها من كتاب أو فكر جديد، وهي لا تخشى عليها من الباطل لأنها قائمة عليه وإنما تخشى من الحق ونوره الذي ينبه إليها عسس العقول ويغري بها بصر العدل، وهب نوردو كتب كتابه ليزين للناس السجود أما الإمبراطور، ونسيان ذواتهم في ذاته، والتجرد عن حقوقهم لأجله، أفكانت ترى فيه حكومة النمسة أو سواها الأكل خير وبركة؟؟ وهل تراها واجدة فيه ما وجدته الآن من الخطر على النظام والضرر بالأمة؟؟
ولم يأبه نوردو بهذه المصادر بل قابل قرار الحكومة النمسوية بكلمات وجيزة كتبها مقدمة للطبعة السادسة، قال فيها أنه لا يتعرض لشخص هذا الإمبراطور أو ذاك وإنما يتكلم عن الإمبراطور حيث كانت وفي أي شخص تمثلت، وعجب من أن كتاباً يصد الناس عن إحياء شعائر الكنيسة وأنه لعجيب حقاً أن لا تفرق حكومة بين سلطان الدليل على العقول وسلطان القوة الغاشمة على الأبدان.
واحسب أن هذا الكتاب سيكون للملأ الأوربي ما كأنه عقد روسو للأمة الفرنسية. فما هو إلا أن تتداوله الأيدي وقد تداولته، وتتفهمه العقول وهي جانحة بطبيعة روح العصر إلى تفهمه، وتشربه النفوس وهو واضح البيان صحيح البرهان. فهنالك تهب الطامة التي ليست الثورة الفرنسية إلى جانبها إلا مناوشة صغيرة بين الطلائع. ويثب من وراء كل حرف في كلماته مارد جبار كأنما هي حروف الطلاسم والأرصاد التي نقرأ عنها في كتب القدماء، فتقوض دعائم هذا الهيكل المتداعي وتدك جدرانه المتصدعة، فتقوم إذ ذاك المدينة التي يحلم بها نوردو، مدينة الحق والحب والإيثار والرضى. وقد لا يكون ذلك اليوم بعيداً جداً فإن الناس لا يطيقون البقاء طويلاً على هذه الحال التي ما أظن العالم نزل إلى أردأ منها في عصر من العصور ونحن مخلصون منه هنا أهم فصوله بالنسبة إلينا وهو فصل الزواج.
أكاذيب الزواج
قال في دلالة الزواج على حياة النوع أو الأمة:
أقوى غرائز الإنسان التي تسيطر على حياته وتحرك كل عواطفه وأعماله اثنتان، هما غريزة حفظ الذات وغريزة حفظ النوع وأبسط مظاهر الأولى السغب كما أن أبسط مظاهر الثانية الحب ونحن لا نعلم سر القوى الغذائية أو التناسلية. على أن جهلنا إياها لا يمنعنا أن نراقب فعلها جلياً، فنحن لا ندري كيف أن فرداً من الأفراد يكمل دورة نمائه في سنين معدودة بخلاف فرد آخر، ولا نعلم مثلاً كيف أن الحصان وهو الحيوان القوي الكبير ينمو ليبلغ خمساً وثلاثين سنة ثم لا يتخطاها، وأن الإنسان وهو حيوان أضعف منه جسداً وأصغر حجماً يبقى إلى السبعين وما فوقها، أو كيف أن الغراب يعمر مائتي عام بينما لا تعيش الإوزة إلا عشرين منها.
ولكن الذي نعلمه علم اليقين أن لكل كائن أجلاً يقضيه في الحياة، يبدأ من ساعة ولادته، فكأن الساعة تملأ تروسها لتدور إلى عدد معروف من الساعات. وقد ينقص هذا الوقت لطارئ يطرأ على ذلك الكائن. ولكنه لا يزيد بحال من الأحوال.
وللنوع كما للفرد أجل مقدور، فهو مثله ينشأ في وقت من الأوقات فيولد ثم ينمو ثم ينضج ثم يموت بعد ذلك. إلا أنه لا سبيل إلى وضع عدد السنين التي يقضيها كل نوع في حياته كما هو شأن أعمار الأفراد، ولكننا نعلم عن طريق علم الأحافير البالنتولوجي قواعد نستنتج منها أن صحة بنية النوع مرتبطة بنواميس مطابقة للنواميس التي تجري عليها صحة بنية الفرد، فما دام الفرد لم يبدد ما ركب فيه من القوى الحيوية فإنه يناضل بكل ما فيه من قدرة ليحمى نفسه ويرد عنها أذى أضداد بقائه، فإذا اضمحلت تلك القوى أو ضمرت وهت عزيمته في الاحتفاظ بنفسه وفتر شوقه إلى مقومات وجوده فيفنى، وعلى هذا النمط تظهر قوى النوع الحيوية في ميله إلى الاحتفاظ بنفسه أو معناه ميل أفراده إلى التناسل وتكثر عددهم، فما دامت هذه القوى مصونة حية رأيت كل فرد من النوع مسوقاً بغريزته في سن الفتوة إلى التماس زوج له، فإذا اعتراها الضعف والانحلال بدأ ذلك يظهر في قلة اكتراث أفراده لأمر التناسل حتى ينتهي أمرهم إلى أن يروا فيه ذلك الواجب الضروري الذي لا غنى عنه. ولدينا وسيلة لا تخيب في قياس القوى الحيوية في النوع أو الجنس أو الأمة فإن ذلك يكون على نسبة انتشار الأثرة الأنانية بين الأفراد التي يتألف منها ذلك المجموع، فكلما كثر عدد الفريق الذي لا يعني إلا بمصالحه الشخصية، يضعها فوق كل واجب من واجبات المجموع ويفضل التمسك بها على التمسك بالآداب والشعائر التي من شأنها تكاثر النوع وبقاؤه، كان ذلك عرضاً يشير إلى قرب الموت والفناء والأمر على عكس ذلك في البيئات التي يحس أفرادها بغرائز تدفعهم من تلقاء أنفسهم إلى خلال الشهامة والمفادة بالنفس ونسيان الذات، فإن هذا ينبئ بأن روح النوع قوية في أجزائه.
إن انحلال الأمة كانحلال العائلة تلوح علائمه في تأصل الشره والأنانية من الأفراد، ورعاية المرء مصلحته البحتة دون نظر إلى ما يكون من أثرها في المجموع علامة صادقة في الدلالة على أن روح التماسك قد ضعفت في الأفراد وأن النوع قد فقد قواه الحيوية التي تنهض بأفراده إلى كل ما يؤيده وينميه، ويتبع ذلك ضعف القوى الحيوية في الفرد إلا إذا اعتصم ببعض الذرائع الاستثنائية، ومتى شط النوع إلى مثل ذلك من الأثرة أضاع أبناؤه الاستعداد للحب الطبيعي المشروع، وماتت في نفوسهم عاطفة الألفة العائلية فلا يرغب الرجل في الزواج لأنه لا يطيق العناية بشأن غيره أو إلقاء تبعة أشخاص سواه على عاتقه، وتتحاشى المرأة آلام الأمومة ومتاعبها، وإذ اتصلت إلى رجل بآصرة الزواج لم تحجم عن تعقيم نفسها. ثم ترى غريزة التناسل ماتت في بعض الأفراد بعد أن يكون قد بطلت فطرتها التي تقصد بها إلى تجديد النوع، واتخذت في غيرهم وضعاً من أنكر الأوضاع فإذا بأسمى قوي الجسم التي لا تتم في إنسان إلا بعد أن يتم نضوجه. وأعني بها حاسة النسل التي قرنتها الطبيعة بأقوى ما يمكن أن يتأثر به الجهاز العصبي من الانفعال قد تسلفت إلى نوع من اللعب الشهواني لم يبق فيه موضع للنظر في استدامة النوع أو المبالاة يغير إرضاء الحواس والشهوات.
وإذا اتفق فانعقد قران بعد حب ولو جريا على ناموس الرجعة في الوراثة، فلا يكون معنى ذلك التئام شطري فردين ناقصين في شكل من الفردية أرقى وأكمل، أو انتقالاً من حياة انفراد عقيمة إلى حياة زوجية مثمرة تمتد بتناسل ذريتها إلى أبعد ما قدر لها من الخلود في المستقبل، ولا يكون معناه ذلك الشوق اللاشعوري إلى طرح الأنانية حباً في الإيثار أو الغيرية أو إفراغ معين الحياة الفردية الراكد في مجرى الحياة لنوعية المتفجر المطرد، كلا! وإنما هو نزوة غريبة لا تبين حتى لنفسها، فقد تكون نوعاً من الضلال الحسي والانفعال العصبي نشأ من خليط مما قرأه المرء أو سمع به مضافاً إلى أهواء عاطفة منهوكة معتلة، وقد تكون هوساً محضاً مثاره نزعات النفس ووزغات الهوى.
ثم انتقل من ذلك إلى تطبيق هذه القضايا والآراء على حال أوروبة في هذا العصر فخلص إلى أنها لا بد صائرة إلى عاقبة من أوخم العواقب، إذا أطرد سيرها في هذا المسلك لأنها تدابر سنن الطبيعة، وبين كيف أن الإنسان قد انساق على غير علم منه إلى معرفة الواجب عليه في تخليد النوع، مستشهداً على ذلك بغلبة نوادر الحب ووقائعه في آداب الأمم جمعاء، واهتمام الجماهير منذ القدم بإشهار حفلات الزواج وإعلانها للملأ.
قال وأن أكاذيب المدنية قد مسخت طبيعة الزواج، فليس الزواج في العصر الحاضر إلا اتفاقاً بين فردين على تبادل المنفعة لا يختلف في كنهه عن اتفاق تاجرين على المعاوضة في متجر بينهما، فلا يُتحرى فيه فائدة الأجيال المقبلة بل كل ما يراعى فيه فائدة الشخصين المتعاقدين، وأنه يغلّب الأنانية على الغيرية بدلاً من أن يغلب هذه على تلك، فليس معناه أن يعيش كل من الزوجين لأجل الآخر في هذه الصلة الجديدة، بل معناه أن يتمتع كل فرد منهما بما لم يكن يتمتع به لو بقي على حدته.
ثم آنس في هذا الموضع اعتراضاً قد توسوس به نفس القارئ، فقد يقول قائل: مالنا نندد بالمدنية وهذه سنة الزواج من قديم الأزمان، فإن رجل القبيلة كان ربما اختطف أول سبية تعرض له، فيحتملها إلى خصّة لتكون هناك زوجه وأم بنيه، فأين الحب الذي أفسدته المدنية، وأين الصدق الذي موهته أكاذيبها؟؟
قال: ولكن الحال في المدنية تختلف عما هي في البداوة، ففي دور الفطرة كل الرجال متشابهون كما أن كل النساء متشابهات، فالمسألة مسألة ميل جنس إلى جنس، والزواج بينهم إنما هو علاقة أي رجل من جنس الرجال بأية امرأة من جنس النساء، وإذا ظهر تفوق أحد أفراد الجنس على سائره فهنالك تسمع عن العشق القاتل والعراك العنيف. والأمر غير ذلك في أدوار المدنية حيث يعم التفاوت وتكثر الفوارق في الصفات والأقدار، فلا مناص هنا من الانتقاء الذي رائده الانتخاب الجنسي أو الحب بمعناه الصحيح، فإنه لا بد بين هذه الطبائع المتفاوتة من انجذاب طبيعتين متفقتين تتمازجان ببعضهما امتزاجاً كيميا وليس اختلاطاً ظاهرياً فقط، والزواج إنما هو مزج كيمي كما قال جوث، يفقد فيه كل من المتمازجين خصائصه الأولية، وأنه كما يمتزج الأوكسجين بالبوتاسيوم، وكما لا يمتزج النيتروجين بالبلاتينوم، كذلك ترى الرجل يصبو إلى تلك المرأة دون سواها، وترى المرأة تتعشق هذا الرجل وترد كل من عداه.
ثم استطرد إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، فقال أنها لا تكون إلا واحدة من اثنتين: فأما علاقة حب متبادل غايتها النسل، أو علاقة لا يكون النسل غايتها الأولى ولا غرض منها إلا إرضاء المطامع، والأولى هي العلاقة المشروعة المرضية، أما الثانية فأنها علاقة الدعارة والفجور كيفما كانت صيغتها وإلا فأي فرق بين رجل تنفق عليه صاحبته وبين رجل يخطب المرأة لمالها أو لينال وظيفة بجاه أبيها؟؟ وأي فرق بين البغي التي تعرض نفسها على رجل لا تعرفه لتبتزه شيئاً من ماله وبين العروس التي تزف نفسها إلى رجل لا تحبه ولكنها ترجو أن يرفعها إلى منزلته ويحليها بفاخر الثياب ونفيس الجواهر؟؟
ثم ما هي نتيجة مثل هذا الزواج؟ أب اختير لا لفضله وأخلاقه، وأم اختيرت لا لصفاتها وآدابها؟؟ أب لا هم له إلا غشيان الملاعب والنوادي ومعاقرة الخمور ومطالعة أوراق الميسر، وأم لا شاغل لها إلا التردد على المراقص وتتبع الأزياء والإيقاع بأترابها والزراية بهن؟ وأي شيء يتربص بنسل هذين الزوجين غير الانحطاط الفطري يلحقه انحطاط التربية والأخلاق؟ نعم إن الغنى والمنصب قد يدركان بهذا الزواج ولكن أصحاب الغنى والمنصب يخسرون أنفسهم وذريتهم به، فتنتقم الطبيعة لمدابرة سننها ونواميسها، ومن يستقص دخائل البيوت الكبيرة والعائلات العريقة التي لا يكثر هذا الزواج في طبقة من الطبقات كثرته بينها، علم أن أكبر أسباب انحلالها وسقوطها راجع إلى هذه العلة.
وبعد أن التمس للفقراء بعض العذر لخروج الأمر عن اختيارهم، قال أن زواجهم ليس أقرب إلى سنن الطبيعة من زواج غيرهم من الطبقات، فليس الرجل والمرأة في طبقة الفقراء زوجاً وزوجة اجتمعا بجاذب من الانتخاب الجنسي، وإنما هو رجل يريد خادمة وامرأة تريد عائلاً.
قال: وقد يتم على هذه الصورة قران قوم فطرتهم مستقيمة، وعاطفة الحب فيهم خالصة سليمة، أما لنقص عندهم في الفهم، أو لوجوم منهم عن اقتحام معركة التنازع على البقاء بين جمهور غلبت عليه الأثرة والأنانية، فلا يزال هؤلاء الأزواج في برم وضجر، وربما التقى أحدهم بمن يحرك فيه عاطفة الحب، فينفسخ عقد القران شرعاً أو فعلاً.
ثم انتهى من هذا القول إلى هذه النتيجة وعلى هذا ففي كل عشرة عقود تسجل في أوربة تسعة قائمة على أبعد الصلات عن الصدق والإخلاص فيفضي بها الأمر إلى أضر النتائج بمستقبل النوع، ويجد أصحابها أنفسهم عاجلاً أو آجلاً في موقف تتنازعه واجبات الزوجية وحكم الحب القاسر، فإما اضطروا إلى سلوك مالا يليق إلا بالسوقة والسفلة. أو قادهم إلى الهلاك والضياع، وكذلك يكون الزواج بمثابة انتحار للنوع بدلاً من أن يؤدي إلى تجديد قواه وحفظ فتوته.
ثم أقبل يعلل هذه المعائب، فأسند معظمها إلى نقص في النظام الاقتصادي الحاضر وطريقة الحكم، فإن الحكومات قد وجهت كل عنايتها إلى الأفراد وصرفت أنظارها عن المجموع فأباحت لكل فرد التصرف كما يحب ما دام لا يضر بفرد آخر معين، ولا يعنيها بعد ذلك أعاد عمله بالنفع على المجموع أم بالضرر، فانطلق الأفراد يستكثرون من النقود ويجمعون الأموال وفشا الجشع فأصبح الناس يقدرون الرجل بقدر دراهمه، وتعلقت القلوب بالدراهم والدينار، ومن كان يتوخى سبيلهما في أعماله وآماله فعلام يحيد عن طريقهما عند الزواج؟؟ ألعله حبا في الإنسانية؟؟ وما هذه الإنسانية؟؟ وماذا استفاد منها!! أتراها تشبعه إذا جاع؟؟ أم تفتح له أبواب العمل إذا سدت في وجهه!! أم لعلها تطعم أطفاله إذا نادوه يطلبون القوت!! وإذا وافاه أجله، أتراها تتكفل بمؤونة أرامله وأيتامه؟؟ كلا. وإذا كان لا شيء من ذلك يكون، فعلام يفرط في آماله من أجلها ويتألم بسببها!
قال وأنه كلما اشتدت الأثرة اشتد النزاع على الحياة وصعب على المرء تحمل أعباء سواه، وكلما تتابع الفشل في أحوال الزواج صد الناس عنه وآثروا العزوبة عليه، وكل ذلك كما تقدم من المحللات التي تنبئ باضمحلال قوي النوع الحيوي.
ويتلو هذه المقالة القسم الثالث من الفصل وهو يبحث بحثاً دقيقاً وافياً عن الطلاق وطبيعة العشق الجنسي، وهل يجوز أو لا يجوز تقرير استمرار الزوجية مدى الحياة اعتماداً عليه. عباس محمود العقاد
(البيان) سينشر هذا القسم الثالث في العدد التاسع وكذلك أفيد مباحث هذا الكتاب