مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/حضارة العرب في الأندلس
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الثانية
من المرية إلى قرطبة
(تابع)
وبعد أن أقمنا في الورية ثلاثة أيام بلياليها تحمنا منها في ركب فخم نبيل موف على الغاية، في الأبهة والروعة والجلال، قاصدين إلى قرطبة حضرة هذه البلاد، وكان في طليعة الركب أمير البحر عبد الحمن بن رماحس، إذ أمره الحكم بن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده كما أسلفنا أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين ويجيء معنا إلى قرطبة مبالغة من الأمير حفظه الله في الاحتفاء بنا وبأبي علي القالي البغدادي وبأبي عبد الله الصقلي الفيلسوف الذي وصل إلى المرية قبل انفصالنا عنها، وكان في المركب من الأندلسيين الرمادي الشاعر وأبو بكر بن القوطبة وأبو بكر الزبيدي وكثير من أدباء الأندلس وأعيانها.
وقد بهرنا وسحر أعيننا وملك علينا ألبابنا ما رأيناه في طريقنا من استبحار العمران في هذا القطر الأندلسي، فقد كنا نمر في اليوم الواحد بثلاث مدن وأربع، وفي حيثما سرنا نرى الحوانيت - في الأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة. وكنا نتعثر تعثراً بالجداول والأنهار، تحفها البساتين وصنوف الزرع والنجوم والأشجار، حتى لظننا أنه ليس في هذه البلاد صحراء مقفرة أو أرض غامرة.
يا أهل أندلس لله دركم ... ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنة الخالد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذا كنت أختار
أما القرى والمعاقل والحصون فإنها لا تحصى كثرة، وقراها جميلة لتأنق أهلها في أوضاعها وتبييضها لئلا تنبو العين عنها.
لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدربين زبرجد مكنون بي عبد اأبي عبد الله أ
وأكثر مدنها مسور من أجل الاستعداد للعدو، وفي مدنها لذلك ما يبقى في محاربة العدو ما يربى على عشرين سنة، لامتناع معاقلها ودربة أهلها على الحرب.
وكنا في طريقنا نتذاكر الأدب ونتناشد الأشعار ونخوض في ضروب من الحديث لا علينا إذا نحن أوردنا شيئاً منها في هذه الرسالة، فمن ذلك أن أبا علي قال من كلمة له (لما مررت بالقيروان - وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد كأن منازلهم من العلم محاصة ومقايسة فقلت أن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان في هذه الأوطان، ولكن لما جئت إلى هنا قضيت عجباً من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم) ومن ثم كنا نراه يتغطى عن الأندلسيين عند المباحثة والمناظرة ويقول لهم (إن علمي علم رواية وليس علم دراية فخذوا عني ما نقلت فلم آل لكم إن صححت) ثم فرط منه قول ذهب فيه إلى تفضيل شعراء المشرق على شعراء المغرب فانتدب له أحد الأدباء ممن كانوا في هذا الركب وقال إن أهل الأندلس أشعر الناس فيما كنزه الله تعالى في بلادهم وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكؤوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن - أما إذا هب نسيم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير وصفق للماء خرير، أورقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاع ثغر نهر، أو ترقرق بطل جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح وبات مع من يهواه كالماء والروح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون. الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصر ينفي الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، واطلعت شبه النجوم أسنة وأجرت شبه الشفق دماء، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة، فقال أبو علي: (نعم وفي الحق ما تقول بيد أن شعراء المشرق فضلاً أن شعرهم أصفى ديباجة، وأكثر ماء وطلاوة، وأسد مسلكاً وأوضح منهجاً، وأشكل في مبناه بالشعر القديم حتى لا يكاد يشذ عنه قيد شعرة، وفضلاً أنه في الأعم الأغلب رصين متماسك جزل قوي غير مهلهل النسج، تراهم مع ذلك ذهبوا به كل مذهب من القول، وافتنوا في مناحيه أيما افتتان، وغاصوا على المعاني غوصاً حتى بلغوا في ذلك المبالغ، ووصلوا إلى الغاية التي لا وراءها، وإني لا أظن أن لعلي بن العباس الرومي أو بشار بن برد أو أبي نواس أشباهاً ونظائر في هذه البلاد، على أني مع ذلك لست أنكر على الأندلسيين ذكاءهم وتوقدهم وأنهم - كما رأيت وكما وصفوا إلى - (عرب في العزة والأنفة وعلو الهمة وفصاحة اللسان وإباء الضيم والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع والاستخذاء - هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم ورغبتهم فيها وضبطهم لها - بغداديون في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم وذكائهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم ونفوذ خواطرهم - يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر - صينيون في إتقان الصنائع العملية وأحكام المهن الصورية - تركيون في معاناة الحروب والحذق بالفروسية والبصر بالطعن والضرب)
كبرت حول دياركم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها ... وقالوا بأني في الثناء مقصر
وهنا انبعث أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وقال ما تلخيصه، الذي أراه أن شعراء كل قطر من الأقطار أو جيل من الأجيال لابد من أن يتأثروا بالمحيط الذي يحيط بهم، وأن يصطبغ شعرهم بصبغة ما يرون ويحسون من حولهم، فالشاعر الجاهلي أو المبتدي في الجاهلية والإسلام الذي لا تقع عينه إلا على صحراء مقفرة، أو سماء ماطرة، أو وحش كاسر أو غزال نافر، لم ير ريفاً، ولم تغذه رقة الحضر، ولم يشبع من طعام، قد خالط الغيلان، وأنس بالجان، وأوى القفر واليرابيع والظباء، فإنه حري أن لا يقول إلا في جنس ما هو بسبيله من وصف البيد والمها والظبي والظليم والناقة والجمل وما إلى ذلك، في قول مؤنق مشرق واضح الطريقة لا تعمل فيه ولا كلفة، يوائم أمزجتهم وطبائعهم، ويلائم المحيط الذي فيه عاشوا والجو الذي فيه درجوا والفطرة الأولى التي فطروا عليها، والسذاجة التي هي من خاص صفاتهم، وقد يكون لهم مع ذلك الحكمة البارعة والكلمة الرائعة والمثل السائر والموعظة الحسنة، مما يبهر أعرق المتحضرين ويصيب منهم أقصى غايات الإعجاب والإكبار، ولكنه الوحي والإلهام الذي تلهمه الفطرة القوية النقية البريئة، ويؤتى الطبيعة الكريمة ما يؤتى سهوا رهوا، وليس هو بنتاج العقل المسموع ولا بثمار الملكات المكتسبة.
(وبعد) فأما المولدون وهم الذين تصح المفاضلة بينهم وبين شعراء المفرب لأنهم جميعاً تحضروا وعاشوا في رونق النعيم واعتركوا بالدنيا واعتركت بهم فالرأي عندي أن يقال إن الشعر لفظ ومعنى وأما اللفظ فإن شعراء المشرق لأن أكثرهم جاروا الأعراب وأهل البادية ولقنوا اللغة منهم والتصقوا بهم ونشؤوا في أحضانهم وغذوا بلبانهم ترى لهم الألفاظ المتخيرة، والديباجة الكريمة والطبع المتمكن والسبك الجيد وكل كلام له ماء ورونق، وترى شعرهم رصيناً متسقاً على استواء واحد لا يتدافع من جهاته ولا يتعارض من جوانبه ولا يجمع ولا يشتط ولا يأتيه الضعف والهلهلة والاسترخاء من أية ناحية من نواحيه. وأما المعنى فإن فحولة وشعراء المشرق الذين افتنوا في المعاني فتناناً وغاصوا عليها وأمعنوا حتى ظفروا بكل معنى عجيب يعمر الصدر ويزكي الروح ويشع في دنى العقل فتنجاب له ظلمته وتنير نواحيه وتنفتح مغالقه مثل بشار بن برد وأبى نواس وابن الرومي وهذه الطبقة فهم إنما بلغوا هذه الدرجة لأنهم من الموالي أبناء تلك الأمم الحمراء الذين امترسوا بالحضارة قبل العرب امتراساً وعالجوها وعالجتهم وداوروا صنوفها من الصناعات والعلوم وما إليها وصرفوا فيها أعنة الفكر وافتدحوا لها زناد الرأي وهلم حتى أن ذلك على كر الغداة ومر العشي عقولهم، وشحذ أذهانهم وأذكى أرواحهم وأكسبهم ملكات عبقرية عجيبة، فورث ذلك منهم أبناءهم وانحدر مع دمائهم وكان منهم هذا النبوغ الذي نرى آثاره في الإسلام.
وما كاد أبو عبد الله يتم قولته تلك حتى صاح أبو بكر بن القوطية وقال أشيخنا شعوبى؟ فقال أبو عبد الله إني وإن كنت لا أرى لعربي فضلاً على عجمي إلا بالتقوى وإن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم، فمن كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها، ومن ثم يقول الله جل شأنه إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ويقول رسول الله في خطبة الوداع، أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى - فإني مع هذا أقول ما قاله ابن المقفع - وقد سأل جماعة من أشراف العرب - أي الأمم أعقل فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا لعله أراد أصله من فارس فقالوا فارس، فقال ليسوا بذلك، إنهم ملكوا كثيراً من الأرض ووجدوا عظيماً من الملك وغلبوا على كثير من الخلق ولبث فيهم عقد الأمر فما استنبطوا شيئاً بعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم، قالوا فالروم. قال: أصحاب صنعة. قالوا فالصين. قال: أصحاب طرفة. قالوا الهند. قال: أصحاب فلسفة. قالوا السودان. قال: شر خلق الله. قالوا الخزر. قال: بقر سائمة. قالوا فقل. قال العرب. فضحكوا - قال أما إني ما أردت موافقتكم ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلن يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثلها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وادم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم نفوسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم. حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم فقال إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم حسر، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.
بيد أن العرب لم يكن لهم بادئ ذي بدء دراية بالحرف والصناعات وبالعلوم وتعلمها الذي هو في عداد الصناعات وذلك لمكانهم من البداوة ورسوخ أقدامهم فيها ومن ثم كانت الشريعة الإسلامية - إذ كان القوم أكثرهم أميين - تتناقل في صدورهم - وجرى الأمر على ذلك أزمان الصحابة والتابعين - فلما بعد النقل من دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الإسلامية ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع، وهو معلوم أن الصنائع من منتحل الحضر والعرب أبعد الناس عنها والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي فكان صاحب صناعة النحو سيباويه ثم الفارسي من بعده ثم الزجاج وكلهم عجم في أنسابهم وكذا حملة الحديث وعلماء أصول الفقه وعلماء الكلام والمفسرون وأكثر فقهاء الأمصار مثل الحسن بن أبي الحسن ومحمد من سيرين فقيهي البصرة وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار فقهاء مكة وزيد بن أسلم ومحمد ابن المنكدر ونافع بن أبي نجيح فقهاء المدينة وربيعة الرأي وابن أبي الزناد فقهاء قباء وطاوس وابن منبه فقيهي اليمن وعطاء بن عبد الله فقيه خراسان ومكحول فقيه الشام والحكم ابن عتيبة وعمار بن أبي سليمان فقيهي الكوفة وهلم، وبالجملة لم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم وظهر بذلك مصداق قوله ﷺ: لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس، وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فقد شغلتهم الرئاسة في الدولة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه فإنهم أهل الدولة وحاميتها وأولو سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع، والرؤساء أبداً يستنكفون من الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين - فكان امتراس العجم من القديم القديم في الحضارة وما تستتبعه من العلوم والصنائع سبباً في كيسهم وفطنتهم ونماء عقولهم ورجحان أحلامهم وميران ملكاتهم على الاستنباط والتخريج والتماس الحيل وتوليد المعاني ومن ثم كان شعر الموالي منمازاً عن شعر العرب الأقحاح باستفتاح إغلاق المعاني الدقيقة العبقريات والافتتان فيها وتلوينها بكل لون، وهاك شعر بشار وأبي نواس ومروان بن أبي حفصة وابن الرومي ومن إليهم من الشعراء الموالي، ترى الشاهد الصدق لما أقول، وعرب الأندلس منذ فتحهم هذه البلاد إلى وقتنا هذا لا تزل نزعتهم عربية في كل شيء حتى في شعرهم إلا ما أكسبتهم إياه طبيعة بلادهم وخصوبتها فمن ثم كان فرق ما بين شعرهم وشعر المشارقة في الجملة. .
وبعد أن أتم أبو عبد الله كلامه أفضى بنا الحديث إلى ذكر الغزال الشاعر الأندلسي الظريف - وملحه ونوادره، وهذا الغزال كما أخبرنا ابن القوطية، هو يحيى بن حكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله وقد كان في الثالثة من بني بكر بن وائل وكان حكيماً شاعراً عرافاً وكان آية في الظرف وخفة الروح، وجهه الأمير عبد الله ابن الحكم المرواني إلى ملك الروم فأعجبه حديثه وخف على قلبه وطلب منه أن ينادمه فتأبى ذلك واعتذر عنه بتحريم الخمر، وكان يوماً جالساً معه وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسناً فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها وجعل الملك يحدثه وهو لاه عن حديثه، فأنكر ذلك عليه وأمر الترجمان بسؤاله، فقال له عرفه أني قد بهرني من حسن الملكة ما قطعني عن حديثه فإني لم أر قط مثلها وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها وأنها شوقته إلى الحور العين فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده وسرت الملكة بقوله، وأمر الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشم المكروه فيه مع خلوه من الفائدة فقال للترجمان عرفها أن فيه أكبر فائدة وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ وما دام لا يفعل به ذلك فإنه يبقى رقيقاً ضعيفاً فضحكت واستظرفته، ومن نوادره أنه أرسل مرة سفيراً إلى بلاد المجوس (أسوج ونروج) وقد قارب الخمسين وقد وخطه الشيب ولكنه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يوماً عن سنه فقال مداعباً لها، عشرون، فقالت وما هذا الشيب، فقال وما تنكرين من هذا ألم تري قط مهراً ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله فقال في ذلك - واسم الملكة تود -
كلفت يا قلبي هوى متعباً ... غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسية ... تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا ... يلفى إليه ذاهب مذهبا
يا تود ورد الشباب الذي ... تطلع من أزرارها الكوكبا
يا بأبي الشخص الذي لا أرى ... أحلى على قلبي ولا أعذبا
إن قلت يوماًص إن عيني رأت ... مشبهه لم أعد أن أكذبا
قلت أرى فوديه قد نورا ... دعابة توجب أن أدعبا
قلت له ماباله أنه ... قد ينتج المهر كذا أشهبا
فاستضحكت عجاباً ولي لها ... وإنما قلت لكي تعجبا
ولما فهمها الترجمان شعر الغزال ضحكت وأمرته بالخضاب فغدا عليها وقد اختضب وقال:
بكرت تحسن لي سواد خضابي ... فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف ... إلا كشمس جالت بضبابي
تخفى قليلاً ثم يقشعها الصبا ... وطلاوة الأخلاق والآداب