انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/الصورة المشؤومة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/الصورة المشؤومة

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1920



للروائي الروسي الأشهر نيقولايف جوجول

(الفصل الأول)

ما ازدحم المتفرجون قط على شيء ازدحامهم أمام دكان الصور الصغير بشارع (تشو كينيو دفور) بمدينة (بتروغراد) إذ الواقع أن هذه الدكانة الصغيرة كانت تتضمن أعجب خليط منوع من نوادر الصور المختلفة، وكان معظم هذه الصور من الرسومات الزيتية مطلية بصقال قاتم تحفها إطارات ملوثة قذرة عتيقة وكان من بينها المناظر الشتوية بأشجارها المثلجة البيضاء، والأصائل الذهبية والمغارب الشفقية القرمزية كأنها الحرائق المشتعلة. وصورة تاجر هولندي نفاج منتفخ هو أشبه بالديك الرومي منه بالآدمي. وعدة من صور الضباط والجنرالات يعرفون بسيماهم وأنوفهم المقوسة وقلانسهم المثلثة.

قليل جداً من يتقدم لاشتراء هذه الصور ولكن ما أكثر النظارة والمتفرجين. فمن خادم بطيء متلبد يتثاءب أمام تلك الصور وقد بردت في يده صحون الطعام قد جاء بها من المطبخ يحملها إلى مكتب سيده الذي قضى الله أن لا يأكلها إلا مثلجة. ومن بين المتفرجين أيضاً الجندي الملتف في عباءته وبائع الأمتعة القديمة يعرض للمبيع مديتين ودلالة تحمل عيبة أنسجة، وكان كل يظهر سروره بتلك الصور وإعجابه حسب أسلوبه الخاص، فالجندي يلمسها بيده وبائع القديم يتأملها بجد واهتمام والغلمان الخدام وصبيان المصانع يتضاحكون ويتعابثون وكبار الخدام يجعلونها ملهاة ومضيعة لأوقاتهم بالتثاؤب أمامها. والدلالات يقفن حيالها بالغريزة ليلتقطن ما يدور بين الجماعة من الأحاديث ويتسقطن الأخبار والأسرار - وتلك غريزة فطرية.

في فاتحة عهد قصتنا هذه كان الفتى المصور شاركتوف قد وقف بدافع نفساني قهري أمام تلك الدكانة أثناء مروره. وكانت عباءته القديمة وثيابه البسيطة الحقيرة تدل على شدة عكوفه على الفن وانهماكه فيه وتفانيه في إتقانه وصرفه البتة عن التفكير في شأن نفسه والعناية بأمرها من ملبس ومطعم ومنعم. وقف هذا الشاب المصور هنيهة أمام الدكانة الصغيرة وأمتع نفسه بضحكة خفية على تلك الفظائع المتنكرة في هيئة صور.

أطرق الفتى ملياً يفكر في تلك الصور ويسائل نفسه من عسى يشتري أمثال هذه الحث والنفاية. إن أرباب هذه القاذورات لم يبلغوا درجة غلام قد أخذ بشدو من الفن وألم بطرف من الصناعة. ما هذه والله إلا مظاهر جهل وضعف وغباوة تغتصب لنفسها في متاحف الفن ومعارض الصناعة مكاناً مدلساً مكذوباً وأحق بها وأولى أن تدرج في جملة مصنوعات الورش وحاصلات الآلات والمكينات.

وكذلك لبث واقفاً حيال الصور الرديئة برهة تحولت أفكاره أثناءها إلى أمور أخرى.

وفي خلال ذلك كان صاحب الدكان قائماً إلى جانبه يستحثه بكل أساليب الإغراء على اشتراء صورة، يذكر له الأسعار دون أن يكون قد عرف ما أعجب الفتى وما لم يعجبه. وكان الرجل أشيب ضاوياً ضئيل الجرم، فمما قال للفتى (ها يا سيدي إني أقنع بعشرة دراهم في هؤلاء الفلاحين وهذا المنظر القروي الجميل، لله هذا الرسم ما أبدع وما أروع! انظر إلى بهجته وبهائه. وإلى بريقه ولألأته. ورونقه ومائه. إنه ليثير الإعجاب ويفتن الألباب.

يستطير الألباب كالقبس المش ... عل لا تستقر فيه العيون

لقد جاءنا الساعة من الورشة ولا يزال طلاؤه رطباً ولما يجف دهانه. وهاك منظراً شتوياً بديعاً - فلا يفتك هذا المنظر البديع ولا تحرم طريف محاسنه. هذا بخمسة عشر درهماً. وهذه قليلة وأبيك في الإطار وحده! ما أبدع هذا المنظر الشتوي!) وهنا أمسك التاجر الصورة وهزها هزة كأنما يحاول أن يجلو ما ضمنته من طرائف وعجائب. وفضائل ومناقب. (تفضل يا سيدي بإصدار أمرك في حزم هذه الصور وإرسالها إلى دارك. أين تسكن يا سيدي. يا غلام هات لفافة من الخيط.)

فقال الفتى المصور - وقد ثاب إلى نفسه بعد شرود عقله وعزوب ذهنه (على رسلك يا هذا على رسلك) لقد أبصر صاحب الدكان قد هم فعلاً أن يحزم بعض الصور فرأى أن يرده عن قصده. على أنه كان يخامره شيء من الخجل لعدم اشترائه شيئاً ما من الرجل بعد طول وقوفه على دكانته. فالتفت إلى الشيخ وقال له: (انظر ههنا. سأبحث في هذه الصور المبعثرة لعلي أجد بينها شيئاً) ثم انحنى فوق كومة مكدسة من الصور على أديم الأرض وقد علاها الغبار ونال منها البلى، وكان من بينها طائفة من صور أشخاص من ذوي البيوتات العتيقة ربما تكون ذرياتهم قد فنيت من الدنيا وبادت وكانت تلك الصور بحالة سيئة من القدم والبلى والرثاثة فكانت من سقط المتاع ونفاية السلع. ولكن الشاب المصور مضى في بحثه قائلاً في نفسه لعلي عاثر على شيء من النفائس المهملة والطرائف المنبوذة، وكان قد سمع حكايات جمة عن أناس أصابوا أنفس بدائع الفن وأثمن تحف الصناعة بين الحثالات والنفايات الملقاة بزوايا الإهمال في أمثال تلك الحوانيت العتيقة.

فلما رأى صاحب الحانوت منه ذلك تركه في بحثه وعاود موقفه بباب الدكان ينادي المارة بأمثال قوله (هلم إلي أيها الأخوان فهنا أحس الصور. تعالوا أيها الإخوان ادخلوا. هذه صور جديدة قد وردت الساعة من أربابها.) بهذا الكلام وأمثاله جعل الرجل يصيح بملء فيه وبلا أدنى فائدة أو ثمرة وبعد أن كل من الصياح ومل أقبل على جار له أمامه دلال فأخذ يحادثه طويلاً. ثم تذكر أخيراً ذلك الفتى الذي قد تركه داخل حانوته يبحث ويفتش فانتقل إليه وأقبل عليه فقال (أي صاحبي، هل وقع اختيارك على شيء؟) ولكنه وجد الفتى المصور واقفاً لا حراك به أمام صورة في إطار كبير فاخر لكنه قديم بال قد أكل عليه الدهر وشرب.

هذه الصورة كانت تمثل شيخاً هرماً نحيف الوجه أسمر اللون بارز الوجنتين والظاهر أن الصورة كانت قد أخذت في لحظة اضطراب تشنجي وكان هذا الشخص يلبس ثوباً شرقياً فضفاضاً. وبالرغم من قذارة الصورة انطماس بعض أجزائها أدرك الفتى شارتكوف في ثناياها وتضاعيفها شواهد من براعة رسام قدير ومصور صناع لما تمكن من تنظيفها وتنقية الوجه من الأقذار والأفذاء. وكانت الصورة غير تامة ولكن براعة الفن فيها كانت رائعة مدهشة وأدهش ما في الصورة العينان، إذ كان يخيل إلى الناظر كأن جميع ما ضمنته ريشة المصور من قوة وإبداع قد سلط على العينين لا غير. فكانتا تطلان من الصورة ذاهبتين بالتوازن الفني فيها لفرط حياتهما وتوقدهما. ولما ذهب بالصورة إلى باب الدكان حيث الضوء أشد وأوفر ازداد إشراق العينين حدة وثقوباً فأثرتا في جمهور المتفرجين الساذج البسيط شبه تأثيرهما بالشاب المصور الفني العليم بأسرار الصناعة فصاحت امرأة كانت واقفة وراءه (إنه ليحملق. إنه ليحملق) وأجفلت نافرة فأحس شارتكوف إحساساً أليماً لم يفهم له معنى ولا علة ووضع الصورة على الأرض.

قال التاجر (أتريد الصورة؟) فأجاب المصور (كم ثمنها؟)

قال التاجر (علام التساوم والتقاول في شيء زهيد تافه كهذا. أعطني سبعين قرشاً.)

قال المصور (كلا)

قال التاجر (إذاً فكم تدفع؟)

قال المصور وقد هم بالانصراف (عشرين قرشاً)

قال التاجر (ما أبخس هذا الثمن. إن الإطار وحده ليساوي أكثر من ذلك. شاور عقلك وجئني غداً. تمهل يا سيدي. ارجع. التفت إلي. زدني عشرة قروش. بل خذها! هات العشرين قرشاً. الواقع أنك أول زبون اليوم، وهذا والله استفتاحي. ولولا ذلك لما طلبت نفساً عنها بهذا الثمن البخس)

على هذه الصورة الفجائية غير المنتظرة أصبح شارتكوف رب تلك الصورة العتيقة فقال في نفسه (فيما اشترائي هذه الصورة وأي خير لي فيها. ولكن لات حين مناص ولابد من الرضوخ للقدر.) ثم أخرج من جيبه قطعة ذات عشرين فأعطاها التاجر وتأبط الصورة ومضى بها إلى بيته. وفي أثناء مسيره تذكر أن قطعة النقود التي أسلمها إلى التاجر كانت آخر ما يملك فأطرق حزيناً واجماً. وكان ضوء الغروب الأرجواني لا يزال يتريث في الأفق ويتلوم. والمنازل المتجهة شطر المغرب ما برحت تتألق ذراها بنضار الشفق الأحمر يتوهج على شرفاتها ويتموج. وكان ضوء القمر الأزرق الرطيب يزداد أثناء ذلك لمعة وبريقاً وكان يتساقط على الأرض إذ ذاك طوائف وأفواج من ظلال رقيقة نصف شفافة وبدأ المصور ينظر إلى السماء المتوهجة بنور شفاف وقال (لله ما ألطف وما أشف وما أرق وما أدق (يريد منظر السماء) وما أعظم هذه البلية (يريد الصورة التي اشتراها)). ثم ثبت الصورة تحت إبطه وكانت لا تزال تزل عن موضعها وتفلت، وأسرع إلى داره.

دخل غرفته ومنها إلى متحفه ومصنعه (أي محل تصويره وصوره) وكانت ملأى بآثار الفن وأدواته ومواده ومصنوعاته فنضا عنه عباءته ووضع الصورة بين لوحتين صغيرتين وألقى بنفسه على مقعد ضيق، وبعد أن مد رجليه وتمطى نادى خادمه أن يأتيه بالنور.

فدخل غلام صغير في رداء أزرق اسمه نيكيتا وكان يؤدي عنده وظيفة خادم ومحضر ألوان (يطحن الألوان ليصيرها مسحوقة) ونموذجاً (أي يجلس أمام سيده المصور ليأخذ عنه صور شتى طبقاً لمختلف الأوضاع والهيئات والأشكال التي يتخذها لهذا الغرض) - هذا الصبي كان يقضي كل أوقاته في الشوارع أثناء غياب سيده.

قال نيكيتا لسيده (ليس عندنا شمع)

قال المصور (عجباً عجباً! لا شمع مطلقاً؟)

قال (ولا كان عندنا ليلة أمس ولا أول من أمس)

فتذكر الرسام حقيقة ذلك وأطرق واجماً.

قال نيكيتا (لقد جاء هنا رجل)

قال المصور (نعم لقد جاء يطلب ديناً)

قال نيكيتا (لم يكن وحده)

قال المصور (من كان يصحبه؟)

قال الخادم (أحسبه أحد ضباط البوليس أو نحو ذلك)

قال المصور (ولكن لماذا ضابط بوليس؟)

قال الغلام (لا أدري ماذا ولكنه يقول أنك لم تدفع أجرة المنزل)

قال المصور (وماذا يتوقع من ذلك؟)

قال الصبي (لا أدري ماذا يحدث بعد هذا ولكن الرجل قال إذا كان لن يدفع الأجرة فليبرح الدار. وقد قالا أنهما عائدان غداً)

قال شارتكوف من غير اكتراث (إذاً فليجيئوا) ثم نكس هامته واستولى عليه الهم والكآبة).

كان الفتى شارتكوف مصوراً مطبوعاً قد وهبه الله سر العبقرية وكانت مصنوعاته تدل على أنه سيكون له شأن عظيم في عالم التصوير وأن ريشته ستجود يوماً ما بالعجائب والغرائب إذ كان في مصنوعاته شواهد على دقة الملاحظة والتفكير والميل الشديد إلى زيادة الاقتراب من الطبيعة في كل ما يصنع وكان في الغالب إذا تناول الريشة نسي الدنيا بما فيها حتى نفسه، وأكب على عمله من الصباح إلى المساء إذ ينتزع نفسه منها بكرهه وبرغمه كأنما ينتزعها من حلم لذيذ وكان كثيراً ما يسؤه ويؤلمه أن يرى أدعياء الفن من الجهلة الضعاف يفلحون في غش الجمهور وخديعته فيروجون من بضاعتهم كاسداً ومن عملهم زوراً مزيفاً وينالون الشهرة والمجد وتامتا بلا أدنى فضل وميزة ولا قدرة. على ـن مثل هذه الخواطر لم تكن لتعرض له أثناء اشتغاله بعمله إذ يكون في غيبوبة عن العالم بأسره حتى يذهل عن طعامه وشرابه ولكن إذا كربه العسر وبرج به البؤس فاعوزه من الدريهمات حتى ما يشتري الصبغ والأوان وألح عليه صاحب البيت يطالبه بالأجرة عشرين مرة في اليوم - حينئذ كانت ذكرى محظوظي الرسامين تعاود قلبه الملوع المكلوم. وتنتاب خياله المجوع المنهوم وحينئذ كانت تعرض له عوارض اليأس وتخطر على باله خواطر النكوص والنكول فيحدث نفسه بالقعود عب اقتحام ذلك المسلك الوعر المؤدي إلى أوج العلاء الفني وذروة الكمال الصناعي ثم بالإسفاف والتسفل إلى مداق المسالك ومخابث الطرئق مجاراة للفريق الأعظم من مزاولي مهنة التصوير - أولئك الأدعياء الأغبياء الذين لا هم لهم إلا كسب المال بتبضيع الفن إلى الصناعة. في تلك اللحظة كان الفتى شارتكوف في مثل هذه الحالة النفسانية المخيفة.

قال في نفسه (يقولون صبراً صبراً. ما أسهل هذه الكلمة على لسان قائلها! ولكن أليس للصبر نهاية. ماذا يفعل البائس المسكين إذا عيل صبره ووهي جلده. صبراً صبراً سامحهم الله، أينبلني الصبر مهما طال اجرة الدار وثمن اللحم والخضار ودين الزيات والعطار. ثم لا أرى حولي من يهبني أو يقرضني، وإذا حاولت ان ابيع هذه الصور نتيجة كدي وثمرة قريحتي فمن ذا الذي يحفل بها أو يفهم أسرارها وهي منافية لذوق الجيل السقيم السخيف وما أراني أعطي في جميعها أكثر من عشرين قرشاً على أني ما أحسب ان في القوم من يفكر قط في اشترائها ومن ذا الذي يشتري مصنوعات شخص خامل الذكر مغمور مجهول ومن ذا الذي يحفل بالقطع المدرسية العتيقة والرسوم الأثرية والموضوعات الفنية الجافة غير المألوفة. من ذا الذي يهمه أن يشتري صورة تمثل غرفتي القذرة الحقيرة البائسة أو صورة خادمي الملعون نيكيتا أو صورة (امرأة عارية) وإن كانت في الحقيقة أجود صنعاً من كل ما يخرجه أدعياء الصناعة الغشاشون من ذوي الشهرة والفعة في هذا العصر الكاذب الجاهل، لماذا أسوم نفسي كل هذا الكد والنصب وأجشمها المصاعب والمشاق احتفاظاً بقواعد الفن وتأييداً لأركانه فأذوق في سبيل ذلك الجوع والعطش وأعاني البلاء والكرب على حين يمكنني أن أنال المال والصيط والرغد والرفاهية من أرقب طريق وبأيسر مجهود كسائر أرباب الحرفة من ذوي التساهل والاستخفاف) ما كاد الفتى يصل إلى هذه النقطة من نجواه حتى أحس رعدة فجائية أرعشت أوصاله فانتقع لونه وسبب ذلك أنه أبصر أمامه وجهاً مشنجاً ملتوياً يحدق إليه بعينين مخيفتين، وكما أنما قد كتب على الشفتين أمر تهديدي ينذر الناظرين بالصمت والسكوت فانذعر الفتى وهم أن يصيح بغلامه نيكيتا استغاثة به. ولكنه ما لبث أن هدأ روعه وضحك حينما تبين أن هذا الشبح المخوف لم يكن إلا تلك الصورة التي اشتراها اليوم وقد نسي ما كان من أمرها. لقد سقط عليها ضياء القمر المستفيض في الغرفة فأعارها شبه حياة وروح غريبة.

هنا قام الفتى إلى الصورة فشرع يبحثها بحثاً دقيقاً فتناول إسفنجة فبلها ثم أمرها فوق الصورة مراراً عدة حتى أزال عنها جميع ما كان قد تراكم فوقها من طبقات الغبار والقذى ثم علقها على الحائط أمامه واخذ إعجابه يزداد من دقة الصناعة وإتقانها. وكان الوجه قد استفاض بفضل المسح والتنظيف حياة جديدة وبرقت له العينان حتى أرعدت فرائسه وأحفزت أحشائه فارتد نافراً وصاح (إنها والله لتنظر إلي بعينين آدميتين) وهنا تذكر بغتة حكاية كان قد سمعها قديماً من أستاذه عن صورة مشهورة من ريشة المصور الأعظم (ليوناردو دافنشي) بذل فيها ذلك العبقري الأجل جهده ونفث عليها آيات سحرية أعواماً عدة وراى بعد كل ذلك أنها لم تكمل وإن جعل أساتذة الفن من بعده يعدونها أكبر ثمرات إبداعه. وأكمل ما في تلك الصورة عيناها اللتان راعتا وأدهشتا جميع معاصريه وخلفهم. وذلك أن أدق وأخفى العروق فيهما استطاع العبقري العظيم أن يبرزه على اللوحة.

بيد أن الصورة التي اشتراها شارتكوف كان شأنها أعجب من صورة ذلك العبقري وأغرب. وذلك أن الأمر لم يكن مسألة صناعة أو فن بل لقد فات حدود الفن وخرج من دائرة الصناعة بما أفسد نظام الفن في الصورة. لقد كان يخيل إلى كل من رآها أن تينك العينين قد قصتا بمقص من وجه إنسان حي ثم دستا في الصورة. فالناظر إليهما لا يجد تلك اللذة العظيمة التي تستحوذ على المشاعر لدى رؤية ملحة فنية مهما بلغ من هول موضوعها ورعبه ومن عظم مخافته وروعته - بل كان الألم المحض هو ما يعتري الناظر إلى هاتين العينين إذ كان إنما ينظر إلى حقيقة لا خيال وإلى الحياة المؤلمة الرهيبة لا إلى توليدة من تواليد الوهم والصناعة. والحياة في ذاتها (في مشاهدها الرهيبة كمثل هاتين العينين) لا تؤثر إلا إرعاباً وإزعاجاً. ولكن تمثيلها بوسائل الفنون المختلفة - كالشعر والتصوير والموسيقى والتشخيص المرسحي - هو الذي يولد من الألم لذة ومن الرعب إمتاعاً.

لذلك نقول أن الألم المحض والذعر البحت كان إحساس الفتى شارتكوف تلك الصورة العجيبة. ودنا ثانياً من الصورة ليتأمل تينك العينين المدهشتين فرأى مع الفزع الشديد أنهما تحلقان إليه. ما هذا والله رسم رسام ولا تصوير عن الطبيعة ولا تقليد للحياة بل الحياة بعينها - الحياة العجيبة التي قد تشرق في وجه ميت نشر من لحده. فأحس الفتى بنوع من الرعب أعجزه عن الجلوس وحده في الغرفة. فتحول عن الصورة وانتبذ ناحية منها وجعل يروض نفسه على عدم النظر إليها ولكن عينه استمرت من تلقاء ذاتها وعلى الرغم منه تنظر من طرف خفي إلى الصورة. وأخيراً ألصقه الرعب بموضعه وقيده عن السير في أنحاء الغرفة. وأحس كأن شخصاً ما سيطلع عليه من ورائه فجعل يتلفت حواليه وخلفه فزعاً مذعوراً. لم يكن شارتكوف جباناً ولا رعديداً ولكنه كان حساس الأعصاب والمخيلة ولم يستطع في تلك الليلة أن يفسر لنفسه ما اعتراه من الرعب والفزع ولا أن يتبين علته ومصدرها ثم إنه ذهب إلى ركن من الغرفة فجلس فيه ولكن خيل إليه بعد ذلك أن شخصاً ما كان يطل عليه من فوق كتفه وينظر في وجهه وكان نيكيتا خادمه نائماً في الغرفة المجاورة يغط في نومه، فلم يكن في تشخيره العالي ما يطرد مخاوف سيده أو يطمئن قلبه. وأخيراً نهض الفتى من مجلسه فسار منكس الرأس مغضي الطرف نحو سريره فدخل الكلة واستلقى على الفراش وأبصر من فروج الكلة فضاء الغرفة مستنيراً بضياء القمر والصورة معلقة على الحائط. فرأى العينين لا تزالان مصوبتين نحوه بنظرة أجد وأمضى وأرعب وكأنهما قد أصرتا على إدامة النظر نحوه وأبتا أن ترنوا إلا إليه. فلما كربه ذلك وغصه وضيق خناقه قام من فراشه وتناول ملاءة ثم تقدم إلى الصورة فغطاها من رأسها إلى قدمها.

ولما فعل هذا عاد إلى سريره فاستلقى على الفراش وقد سرى عنه نوعاً ما ونفس من كربه فأخذ يفكر في عيشة أهل الفن والصناعة البائسة المنكودة وفيما يقاسون من العوز والفاقة وفي منهج حياتهم الوعر الصخري الشائك المملوء بالآفات والمكاره وإنه لفي ذلك إذ حانت منه التفاتة من خلال الستارة نحو الصورة فرأى ضوء القمر قد ضاعف بياض الملاءة الملقاة عليها. وخيل إليه أن العينين المخيفتين تتوقدان وقد شفت عنهما الملاءة فثبت نظره في تلك البقعة فزعاً مذعوراً كأنما يحاول أن يقنع نفسه أن هذا وهم كذب ولكنه ما لبث أن رأى الملاءة قد زالت والصورة قد سفرت وأنها تحدق إليه تحديقاً كما لو كانت تريد أن تنفذ ألحاظها إلى صميم قلبه. عند ذلك مشى قلبه في صدره وارتعدت فرائصه وأخذ يتأمل هذا المنظر قلقاً جزوعاً. وإذ الشيخ الهرم قد تحرك ثم اعتمد بذراعيه على قائمتي الإطار (إطار الصورة) فأنهض نفسه بيدي ومد قدميه ووثب من الصورة وترك الإطار خالياً فارغاً. وسمع الفتى وقع قدمين في الغرفة وصدى خطوات تدنو منه وتقترب فاشتد خفقان قلبه وجعل يتوقع من لحظة إلى أخرى - وقد انقطعت من الرعب أنفاسه - أن الشيخ الهرم سيطل عليه بعينيه الشنعاوين من خلف ستارة فراشه. ويا للبلاء - لقد حدث ذلك فعلاً وأطل عليه الشيخ الهرم من خلف الستارة بعينيه الشنعاوين.

فحاول شارتكوف أن يصرخ ولكن خانته حنجرته ولم يجد صوته. ثم حاول أن يتحرك فأبت ذلك مفاصله. فلبث فاغراً فاه مبهورة أنفاسه ينظر إلى الشيخ الطويل المزمل في ثوب شرقي سابغ فضفاض ينتظر ما عسى أن يكون منه بعد ذلك. فقعد الرجل على أرض الغرفة وأخرج شيئاً من طيات ثوبه الفضفاض - فإذا هو كيس - وشرع الشيخ الهرم يحله ثم أمسكه من طرفه ورجه فتساقطت منه أكداس مكدسة من النقود دوى لها صلصل على أرض الغرفة وكان كل كدس منها ملفوفاً في قرطاس أزرق مكتوباً عليه 1000 ليرة ثم إن الشيخ المسن أخرج يده المعروقة الصفراء من كمه الواسع وشرع يفض القراطيس الملفوفة وهنالك أشرق الذهب الإبريز وتلألأ. وبالرغم من شدة ما كان يعرو الفتى المصور من الرعب والفزع توجه بكل قلبه إلى ذلك المنظر الفتان وحصر جميع مشاعره ومداركه في منظر الذهب الوهاج منحدراً من تلك الأصابع المهزولة رناناً على بلاط الغرفة مردوداً بأنامل الشيخ إلى قراطيسه. وأبصر الفتى أحد هذه القراطيس الملفوفة قد تدحرجت حتى وقف عند قائمة سريره بقرب وسادته. فانقض عليها كالعقاب فأنشب فيها مخالبه وأخذ ينظر خائفاً حذراً نحو الشيخ الهرم لينظر هل فطن إليه.

ولكن الشيخ كان عن ذلك مشغولاً. فجعل يجمع قراطيسه فيعيدها إلى كيسه ثم خرج من الكلة دون أن ينظر إلى الفتى فوثب قلب المصور طرباً لما سمع وقع خطوات الشيخ متراجعاً في الغرفة فشد قبضته على قرطاس الذهب وأوصاله ترتعد ارتعاداً ثم سمع خطوات الشيخ تدنو منه ثانياً. فقال في نفسه لعله قد فطن إلى القرطاس المفقود. ويا للبلاء لقد أطل الشيخ برأسه ثانياً من وراء الستارة على الفتى فشد يده على قرطاس الذهب بكل ما فيه من قوة مستيئساً مستميتاً ثم حاول أن ينهض من مضجعه ثم صرخ صرخة شديدة - واستيقظ.

لقد ألفى جسده يتفضج عرقاً وقلبه يضرب ضرباناً وصدره مكتظاً وأنفاسه مبهورة وكأنه يعاني سكرة الموت (أكان ذلك حلماً؟) كذا ساءل نفسه وأمسك رأسه بيديه ثم بدا له أن حقيقة ذلك الشيخ الفظيعة لم تك من قبيل الأحلام والرؤى. وفي أثناء استيقاظه أبصر الشيخ يخطو داخل الإطار (إطار الصورة) وأبصر كذلك ذيل ثوبه الشرقي يخفق ويرفرف وأحس أن يده (يد نفسه) كانت تقبض آنفاً على شيء ثقيل. ثم أدرك فجأة أنه ليس راقداً في فراشه بل واقفاً أمام الصورة فحار في ذلك وجعل يسائل نفسه كيف انتقل من فراشه وماذا أوقفه أمام الصورة فلم يدر البتة كيف كان ذلك وأعجب من ذلك أنه وجد الصورة مكشوفة قد زال عنها غطاؤها. فوقف مبهوتاً مسلوب الحركة ينظر إليها وإذا العينان الحيتان الآدميتان تحدقان إليه لا تتحولان عنه البتة، فتفضج جبينه عراقاً بارداً وهم أن يتحرك ولكنه أحس قدميه قد ساختا في الأرض فرسختا. وقام بذهنه أن ذلك ليس بحلم. ثم أبصر وجه الشيخ يتحرك وأنه يمط شفتيه نحوه كأنه يهم أن يلتهمه. فارتد إلى الوراء مجفلاً وصاح صيحة منكرة - واستيقظ.

أكان ذلك حلماً! لقد جعل الفتى يعبث بيده ويتلمس، وقلبه من شدة الخفقان يكاد يثب من بين أضلاعه. الحقيقة أنه كان راقداً في الفراش بنفس الموضع الذي أغفت فيه عينيه. وكانت الستارة مسدلة أمامه ونور القمر مستفيضاً في الغرفة. وكانت الصورة بادية من فروج الستارة مغطاة بالملاءة على نحو ما كان غطاها. وهكذا اتضح له أن هذا كان حلماً أيضاً. غير أنه بالرغو من ذلك ما زالت يده المقبوضة تحس كأنها كانت تنطوي على شيء. وكان خفقان قلبه شديداً عنيفاً. بل مرعباً مخيفاً. وكان على أحشائه عبئاً فادحاً لا يطاق. فصوب بصره نحو الفرجة التي في الستارة وأخذ يحدق في الملاءة الملقاة فوق الصورة. ويا الله! ويا للعجب! ماذا يبصر أنه ليبصر الملاءة ترتفع وتنحسر كأن يدين ترفعانها من ورائها تحاولان طرحها فصاح مذعوراً (يا الله! ما هذا!) وصلب فوق صدره - ثم استيقظ.

فهل كان ذلك أيضاً حلماً؟ هنا وثب الفتى من فراشه وقد كاد يجن جنونه ولبث حائراً لا يدري ما أصابه، أوطأة كابوس أم نوبة حمى أو طيف من الجن حقيقة؟ وهنا حاول الفتى أن يسكن جهد الطاقة ثائرة ذهنه ويكفكف بعض الشيء تدفع الدم المنهمر في عروقه الضارب بأقصى شدة في كل نابضة من جوارحه. فعمد إلى النافذة ففتحها فهبت عليه نسمات السحر البليلة فأبردت عظامه وأطفأت ضرامه وأنعشته ورفهت عنه. وكان ضوء القمر منبثاً على سطوح المنازل وجدرانها بالرغم مما كان يتطارد في ساحة السماء من قطع الغمام. وكان السكون سائداً. ومن آن لآن كان يقرع المسامع صرير عجلة سائرة. فأطل الفتى من النافذة ملياً. وكانت تباشير الصباح قد أخذت تبدو على الأفق وأخيراً هومت رأسه للنعاس فأغلق النافذة وعاد إلى سريره فتهالك على الفراش نضواً طليحاً وما لبث أن غط في نومه غطيطاً. .

استيقظ متأخراً وهو يشعر بأليم ما يحسه وقد أوشك أن يختنق بغاز الاستصباح وكان في رأسه دوار شديد.

كانت الغرفة قليلة الضياء وقد فشت في الهواء رطوبة خبيثة نفذت من فروج النوافذ فأحس الفتى بكآبة انقباش وجلس على مقعده الرث الممزق لا يدري ماذا يصنع. وأخيراً تذكر كل ما تراءى له في الحلم. ولما أخذ يتذكر ذلك تمثل الحلم لعين خياله وبدا في صورة الحقيقة المؤكدة حتى بدأ يشك في كونه حلماً وجعل يسائل نفسه لا يحتمل أن يكون الذي رآه هو طائف جن لا ريب في صحته ولا مراء. وهنا قام إلى الصورة فأماط عنها الغطاء وتأمل الصورة الشنعاء في ضوء النهار. لقد وجد العينين في غاية الروعة والاندهاش لفرط توقدهما الخارق للعادة ولكنه لم يجد فيهما شيئاً مزعجاً مرعباً بوجه خاص وإن كان لم يبرح بذهنه أثر إحساس أليم مما قاساه بالأمس. وكان بعد ذلك كله لا يستطيع إقناع نفسه أنه كان حلماً محضاً. بل جعل يشعر في أعماق ضميره أن هذه الرؤية كانت تنطوي على شعبة هائلة من الحقيقة وكأنما كان يلمح في لحظ الشيخ وفي مخايل وجهه آية ناطقة بأنه قد طرقه وصحبه ليلة الأمس. كما أن يده لا تزال تشعر بذلك الثقل الذي حوته كما لو أن شخصاً ما قد انتزعه من قبضتها منذ لحظة وخيل إليه أنه لو كان ضاعف قبضته على قرطاس الذهب لما أفلت من يده ولبقي بها حتى بعد انتباهه من هجعته.

قال في نفسه وهو يزفر زفرة المجهود (لا حول ولا قوة إلا بالله، أما لو كان لي بعض هذا المال!)

وهنا تمثلت القراطيس لعين خياله منقوشاً عليها تلك الجملة الخلابة (1000 ليرة) تنصب من كيسه الضخم الممتلئ. ثم انفتحت القراطيس وبرق الذهب ثم احتجب عن عين خياله ثانياً ولبث جامد الحركة ملجم الفم شاخص البصر يحدق في الفراغ كأنما قد عجز عن انتزاع نفسه من ذلك الحجر الساحر - مثله في ذلك كمثل الطفل الجالس أمام طبق من الحلوى يرنو إليه صب القلب سائل اللعاب وسواه يلتهمه مفزعاً.

وأخيراً دق الباب فثاب الفتى إلى رشده ثم دخل رب الدار بصحبة ضابط البوليس.

صاح رب الدار للضابط يخاطبه (انظر يا سيدي بنفسك. هذا الرجل لا يدفع أجرة مسكنه. لا يدفع الأجرة)

قال شارتكوف: (كيف أدفعها ولا مال عندي؟ أمهلني رويداً أوفك حقك. . .)

قال رب البيت حنقاً مغضباً وهز سلسلة مفاتيحه بشدة (لقد عيل صبري. لا أستطيع بعد ذلك صبراً، اسمع يا فتى، هذا ليس بملجأ ولا بمستشفى. ادفع أجرتك وإلا فارحل)

قال ضابط البوليس (أجل. ما دمت قد استأجرت هذا المكان فلابد لك من دفع أجرته) وصحب هذا القول بهز رأسه وإمرار يده على أزرار بذلته الرسمية)

قال الفتى (من أين أدفع. وأي شيء عندي أدفع. هذا هو المشكل. إني لا أملك الساعة درهماً واحداً)

قال الضابط (ادفع من ثمرة أعمالك. دع المسيو إيفان إيفانوفيتش يقبض حقه صوراً من صنع يدك - هذا إن قبل)

قال صاحب المنزل: (أنا لا أقبل ذلك يا سيدي - كلا لا أقبض صوراً. وأي صور هذه. لقد كان يصح أن آخذ صوراً لو كان لها قيمة. ولكن هذه حثالات لا قيمة لها. انظر هناك تجد صورة القرد الخبيث - خادمه نيكيتا. هل خطر قط ببال إنسان أن مصوراً يبلغ من حماقته وجنونه أن يصور مثل هذا العفريت بثيابه الممزقة ووجه الملوث، لهفي على هراوة أهوي بها على أم رأسه فأفلق دماغه. تباً لهذا الصبي، لقد خلع أبواب البيت وحطم زجاجه) في خلال ذلك كان الفتى المصور يصغي إلى هذه الشتائم على مضض. وكان الضابط يتأمل الصور المعلقة على الجدران فضرب يده على إحداها - صورة امرأة عارية - هذا حسن! ولكن ما هذا الشواد الكثيف تحت الأنف؟ هل كانت السيدة تتنشق؟)

قال شارتكوف بغلظة وجفاء (ليس هذا نشوقاً ولكنه ظل من ضروريات الفن)

قال الضابط (كان الأولى أن تضعه في موضع آخر غير هذا. إنه ليس بجميل تحت الأنف) ثم إنه التفت إلى صورة الشيخ الهرم فقال (صورة من هذه؟ إنها والله لمزعجة. أحقاً كان هذا الإنسان فظيعاً إلى هذا الحد؟ عجباً له! إنه لينظر إلى فعلاً، ما هذه البلية؟ عمن أخذت هذه الصورة)

أجاب الفتى (هذه الصورة ـ) ولكنه لم يكمل الجملة، ذلك أنه سمع انصداع والظاهر أن الضابط كان قد ضغط بيديه الثقيلتين على إطار الصورة ضغطاً شديداً فتصدع فانفلق من جانبه وسقط منه لوح صغير وهوى معه إلى الأرض قرطاس أزرق كان لوقعه صليل على أرض الغرفة ولمح شارتكوف على القرطاس هذه الجملة مكتوبة (1000 ليرة) فانقض كمن أصابته جنة على القرطاس فاختطفه وشد عليه قبضته شدة الغرق على عود من الخشب ورسبت يده لثقل ما حملت.

سمع الضابط صليل نقود ولكنه لم ير شيئاً لفرط سرعة شارتكوف إلى التقاطها فقال (أولم أسمع صوت نقود ههنا؟)

فأجاب شارتكوف (مالك وللأصوات التي تسمع في غرفتي، أي شيء لك في ذلك؟)

قال الضابط (هذا من شأني لأني أريد أن تدفع لهذا الرجل أجرة داره. هذا من شأني لأني أراك ذا مال ثم تأبى أن تؤدي إلى الرجل حقه)

قال شارتكوف (سأؤديه إليه اليوم)

قال الضابط (ولم لم تدفع ما عليك من قبل فتريح صاحب الملك والحكومة؟)

قال الفتى (لأني لم أك أود أن ألمس هذا المبلغ، سأوفيه حقة هذا المساء ثم أترك الدار غداً. فما كان لمثلي أن يعامل مثل هذا الإنسان)

قال الضابط متلفتاً إلى صاحب الملك (اسمع يا مسيو إيفان إيفانوفيتش، سيدفع لك الأجرة، فإذا لم تبلغ رضاك من كل وجهة فالجأ إلي - ثم اعذرني بعد ذلك يا حضرة المصور عن كل ما أصنعه معك.)

قال هذا وتناول قبعته فلبسها وخرج إلى الردهة يتبعه صاحب الدار مطرقاً يتفكر.

ولما تأكد شارتكوف أنهما قد برحا المنزل سري عنه وتنفس مستريحاً ولقد قال في نفسه (الحمد لله لقد ذهبا، لا أراني الله وجهيهما!) ثم نادى نيكيتا فأرسله في حاجة إقصاء له عن الدار ليخلو له الجو في تلك الساعة. وأغلق الباب وراءه وعاد إلى غرفته فتناول القرطاس الملفوف بكف راجفة وإجشاء واجفة وعقل شارد ولب عازب وبدأ ينشر مطويه.

ولما فتحه ألفى به مقداراً عظيماً من قطع ذهبية براقة وهاجة تتألق كأنها ألاهيب نيران مؤججة وهنا طار عقلة وضاع رشده من فرط الحبور والجذل وجلس إلى الكثيب الذهبي وساءل نفسه أليس هذا أيضاً حلماً.

لقد كان في القرطاس ألف ليرة ذهباً وهاجاً مثلما شاهد في الرؤيا، وجعل يقلبها في يديه وينظر إليها ملياً. وهنا ثار من أعماق مخيلته كل ما كان قد سمعه من حكايات الكنوز المدفونة والخزانات ذات الأدراج السرية التي كان يتركها الآباء المتبصرون إلى أحفادهم المبذرين لاعتقادهم ما سوف يكون من إسرافهم وتضييعهم. فجعل يناجي نفسه بمثل هذه الأقوال (ما أظن لا أن أحد الأجداد قد ادخر هبة لبعض أحفاده في إطار إحدى الصور العائلية) وكذلك ازدحم في ذهنه أعجب التصورات وأغرب التخيلات فخطر في باله أن هذه الصورة المدهشة يحتمل أن يكون لها علاقة سرية بحظه ومصيره. وأن وجودها مرتبط بوجوده وأن عثوره عليها وإحرازه إياها يحتمل أن يكون مما جرت به الأقدار وسجل في لوح الفضاء.

وهنا تناول الإطار ليمتحنه دهشاً متعجباً. فألفى في أحد جانبيه تجويفة قد أخفيت عن الإبصار أدق إخفاء وألطفه بواسطة لوح صغير، فلو لم يتصدع هذا اللوح من ضغط تلك اليد الثقيلة - يد الضابط السابق الذكر - لجاز أن تبقى النقود الذهبية مخبوءة بذلك المكمن الخفي آخر الأبد، ثم امتحن الصورة أيضاً فعاوده العجب والدهشة من إتقانها ومن دقة صنع العينين. وكان قد زال عنهما - بعد حادثة القرطاس - ما كان لهما من موقع الرهبة والرعب في قلبه. ولكنه مع ذلك كلما نظر إليهما أحس في نفسه شيئاً من الضيق والغم.

ثم قال في نفسه يخاطب الصورة (سواء أكنت جدي أم جد سواي لأصوننك بأنفس الزجاج ولأحوطنك بأغلى إطار ذهبي) ثم وضع يده على الصرة الذهبية وكاد قلبه يطير خفقاناً من شدة الفرح.

ثم قال وهو ينظر إلى المال (ماذا أصنع بهذا؟ هذا المال يهبني الغنى ويضمن لي الاستقلال مدة عشرين سنة على الأقل. الآن يمكنني أن أحبس نفسي في غرفتي فأستمر في عملي. فعندي ما أشتري به الألوان والأدوات والطعام واللباس والمسكن فأكون في مأمن من شر كل مزعج ومكدر ومنغص. فإذا سلكت هذه الطريقة، طريقة الانقطاع إلى الفن لبلوغ أقصى ما أستطيع من البراعة والنبوغ فيه منكباً عن سبيل الإتجار به والارتزاق منه وما في ذلك من دواعي الاستخفاف بأصوله وقواعده مما لا يؤدي إلا إلى الجهل بأسراره والتخلف فيه عن النابغين النابهين والإسفاف إلى مساقط الأغبياء الضعفاء - إذا سلكت طريقة الجد والاجتهاد والإجادة والإتقان والإخلاص والتفاني والتضحية فلن يمضي علي خمسة أعوام حتى أبلغ في الصناعة مكاناً محموداً ومقاماً محسوداً.