انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 52/البلشفية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 52/البلشفية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1920



حقيقتها ومبادئها ونظاماتها

(بقلم الكاتب الإنجليزي المنصف. و. ن. جود)

ترجمة العالم الكاتب الأستاذ محمود طاهر

ظهرت البلشفية في روسيا في أواخر الحرب الأوروبية الكبرى. وقام زعماؤها ينشرون مبادئهم ويبثون تعاليمهم بين مواطنيهم الذين ما برحوا يرزحون تحت نير حكم الفرد حتى تدهوروا إلى أوهد هوات الخمول وأسحق أغوار الاضمحلال، فهب الشعب الروسي من سباته العميق وقام ينشد حريته المسلوبة ويطلب حظه من الحياة الحقة. فنشأ من جراء ذلك تلكم الثورة الهائلة التي أدهشت العالم وأفزعته، وحدت ببعض السوء على أن يقرفوها يكل تهمة نكراء ويلبسوها بالأوهام والأباطيل. ولكن سدى ذهبت جميع مجهوداتهم إذ رأينا البلشفية تنمو وتذيع وتنتشر، والناس شعوباً وجماعات يلوذون بأكنافها أفواجاً حتى اضطرت الدول العظمى لأن تعترف بعجزها عن مناوأتها وترى ضرورة التفاهم معها والاتفاق وإياها، كما قام الكثيرون من فطاحل السياسة ورجالات الاجتماع، ممن روسيا في السنوات الأخيرة - ينتصرون للبلشفية ويؤدون إلى العالم أمرها زاروا أداء تنزه عن الغرض والهوى.

وسننشر تباعاً سلسلة المقالات التي نشرتها جريدة المنشتر جارديان لمراسا الخاص و. ت. جود عن كل ما يتعلق بالبلشفية مبتدئين بما جاء تحت العنوان الآتي:

أساس التربية الحديثة

لما كنت قد قضيت أغلب حياتي في التعليم وأعماله على اختلاف أنواعها عنيت بالطبع عناية خاصة بأن أقف على نظامات الحكومة الروسية الحاضرة إزاء التعليم. إن روسيا كتلة من الأمية وقسطها من الجهالة أو فر من قسط أية بقعة أخرى من بقاع أوروبا. ولكن بقاء كيان الحكومات ورسوخ أقدامها يتوقف على طريقة علاج هذه المسألة. وإنا نعلم أن أهمية التعليم قد قدرت حق قدرها في الثورة الفرنسية الكبرى، لذا كنت أتوق إلى معرفة مقدار إدراك قادة تلكم الثورة الأخيرة لهذه النقطة التي تعد نتيجتها من الأهمية والخطورة بمكان عظيم. فانتهزت اقرب الفرص لمقابلة لونا كارسكي مدير لجنة التعليم كما أنى تحادثت غير مرة مع مساعدة الأستاذ بوكروفسكي ذلكم المؤرخ الكبير فعلمت علم اليقين أن البلشفيك على بينة تامة من جسامة مسألة التعليم الروسي وضرورتها لدعوتهم وأنظمتهم وحياتهم وعلمت أنهم طرحوها على بساط واسع من البحث والفحص بكيفية تدعو إلى الدهشة والاستغراب. وضالتهم في ذلك هي أن يمحو الجهالة من عقول الفلاحين، وأن ينشروا المدارس في جميع القرى والأرياف، وأن يعدوا الفصول ويضعوا البرامج الخاصة للتعليم الصناعي والفنى الترفيه حال العمال، وأن يؤسسوا جامعة أهلية تقوم بما تقصر عنه تلك المعاهد المتقدمة من تهذيب الفنون الجميلة كالتمثيل والغناء والتصوير. وجملة القول أنك إن رأيت النهضة قائمة في روسيا الآن فثم تياراً هائلاً من الرغبات يدفع القوم إلى إصلاح التعليم من وجوهه جمعاء، وأن هذه الحركة المباركة لو تعهدوها باعتناء وحنكة لأخرجت جني يانعاً طيباً لروسيا بل وللعالم قاطبة. ولقد ينال منك العجب إذا أنت علمت أن الفكرة السائدة هنالك أن جهل وطني واحد وهو خطر على الأمة، وأن من

أول واجبات الحكومة أن تساعده حتى تزول جهالته.

ولقد كنت عام 1911 في موسكو أزور المدارس وأنتقد حال التعليم، فرأيت جماعة من المصلحين نشطوا لترفيه حال تلاميذ مدارس القرى بإمدادهم بكتب المطالعة القيمة السهلة المأخذ الأكيدة الفائدة. ومساعدتهم على تعليم الحساب والرياضة، كل ذلك على نفقة الجماعة لا يكلف الحكومة فتيلاً، غير أنهم ما عتموا أن اضطهدوا وصودرت تآليفهم وأصبحوا عرضة لكل مهانة واحتقار وهدفاً لجميع أنواع التشهير والقذف سراً وعلانية. ثم هبت فئة أخرى تريد إنشاء ناد ودار كتب يأتي إليهما معلموا مدارس القرى في أيام العطلة وأوقات الفراغ لتبادل الآراء وتصفح الأسفار واكتساب المعلومات ولكنها كانت في كفاح ونضال مع الحكومة التي لم تأل جهداً في عرقلتها. ولكن ما هي إلا الفترة بين سنة 1911 و 1919 حتى جاءت البلشفية تحمل كل خير وفخار.

سخاء الحكومة

تبرع الناس بالأموال عن طيبة خاطر فجمعوا في مدى ستة أشهر مبالغ باهظة ومقادير جساماً. وأول خطوة عملية كانت في سبيل تعميم التعليم في القرى وكان الرائد فيها الفكر الناضج والرأي السديد. حتى ولقد مهدوا السبل ليشركوا الزراع أنفسهم في هذه الحركة العلمية كي لا يفوتهم نصيبهم فيها لهذا أصبحت المدارس (مدارس صناعية) تعلم فيها القراءة والكتابة والحساب ثم يدرب طلابها على كل ما يحتاج إليه معيشة القرى من الصنائع كالتجارة والحدادة والزراعة وأعداد الكتان والصوف والغزل والنسيج وما إلى ذلك.

والمدارس الصناعية الحديثة تضيف إلى ذلك تعليم الفلاحة وزارعة الحدائق ومن هنا يمكنك أن تتصور مقدار حب الأهالي ومقدار إقبالهم على هذه المدارس التي تعود بهذا النفع العميم. وحسبنا دليلاً على ذلك مئات المدارس من هذا النمط التي أنشأها المزارعون أنفسهم في المدة الأخيرة. ويكفينا برهاناً على ضمان استمرارها في سبيل التقدم والنجاح تلك الهمة العالية التي يبذلونها في موسكو لتدريب معلمين أكفاء لهذه المدارس الصناعية.

ففي ميدان (اكاتير نسكي) يوجد بناء عظيم تحيط به حديقة شاسعة واسعة تبلغ مساحتها أفدنة عديدة - كان قبلاً مدرسة داخلية لبنات الأغنياء وعليه القوم. أما الآن فهو يجمع بين جدرانه 300 مدرس انتخبهم السوفيت من جميع أنحاء روسيا وأركانها وهو يعيشون في تلكم الدار إذ بها العد الكافي من غرف النوم وقاعات التدريس وورش الصناعة كما أن بها مثل ذلك لعدد كبير من صغار التلاميذ ذكوراً وإناثاُ يستخدمون لتدريب المدرسين وتمرينهم. أما إدارة هذا المعهد العظيم ففي يدي اثنين - امرأة ورجل - لهما كفاءة عظمى في التدريس، ومهارة فائقة في حسن الإدارة وحظ وافر من جميل الخلق وهمة لا تحد في إنجاز الأعمال وهناك تعطى النظريات أولاً ثم تطبق عملياً في (الورش).

التعليم العملي

فكانت نتيجة ذلك أن دبت في القوم روح سارة كادت أن تؤدى بنفسي إلا الحسد. وأنت يمكنك أن تعرف قيمة هذا المعهد وأهميته حينما تعلم أن كل من تخرج منه يرسل إلى بلدته لينشر فيها ما اكتسبه من علوم وصنائع. أما التلاميذ الصغار فإن سوادهم الأعظم من أبناء العمال وكلهم في أحسن صحة، وخير حال، وأقوم خلق، وإن مداركهم لتنمو بسرعة حتى إن منهم من يظهر ذكاء نادراً وحذقاً فوق المنتظر. وبهذه الطريقة الناجعة تسني لهم أن يربوا ملكات نشئتهم ومواهبهم الطبيعية ويستخدمونها في صالح روسيا ولولا ذلك لظلت خافية مختبئة إلى أن تذوي وتموت دون أن يستفاد منها شيء.

أما عمال المدن والمصانع الكبرى فقد أعدت لهم الفصول ووضعت لهم البرامج لتعليم العلوم الصناعية والفنون المختلفة. ولما كانت الحاجة شديدة جداً إلى أمثال هؤلاء العمال قامت الحكومة فاتخذت لهم مدارس من الدور الكبيرة وردهات المطاعم ولا أندية.

والعناية موجهة أيضاً إلى فني الموسيقى والتمثيل ولقد صادف المسرح من الشباب ميلاً عظيماً حتى أن عدد الملتحقين به في موسكو وبتروغراد أصبح هائلاً لدرجة مدهشة.

وسن ابتداء العمل هي السادسة عشر، وإذ ذاك يكون العمل ست ساعات فقد بينا تقضى الساعتان الباقيتان من اليوم في الدرس والتعليم وذلك لمدة عامين ويؤمل فيما بعد أن ترفع سن ابتداء العمل إلى الثامنة عشر. أما في هذه الأيام فنظراً لحاجة الأمة وافتقارها الشديد إلى الأيدي العاملة صرح أن يكون سن العمل من الرابعة. على شريطة أن يشتغل ذلك العامل الصغير أربع ساعات فقط ثم يقضي الأربعة الأخريات في قاعة الدرس. وإني لأرى في هذا النظام النية الخالصة لخير النشء الروسي والاحتفاظ به أن يناله أقل ضير.

وبينا كنت حاضراً مؤتمراً عقده المدرسون ليقرروا رأيهم إزاء مسألة التجنيد إذ أتى لينين - وكنت رأيته في ذلك الوقت للمرة الأولى - لا يخفره حرس ولا اتباع وأنشأ يتكلم نحو ساعة من الزمن عن واجبات كل روسي وأن كل امرئ يلزمه أن يعمل بمفرده على خدمة البلاد وإعلاء شأنها. وإن حضور لينين هذا المجتمع لهو دليل على مقدار اهتمام القوم بأمر التعليم.

المسارح والفنون الجميلة

أما المسارح فقد أصبحت حقاً عاماً للشعب. وألفت لجان من رجال الدين يساعدها أخريات من سوفيت موسكو ولمراقبتها والاهتمام بأمرها ما عدا مرقصهم الشهير ودار التمثيل في موسكو فقد تركا وشأنهما ولم يغيروا فيهما شيئاً عن ذي قبل. فهناك تمثل الروايات الدوام والفودفيل والأوبرا وتقام المراقص وكل شيء. . . . ولكن الجمهور المشاهد قد تغير!. . فالقوم اليوم يذهبون إلى التمثيل حباً لا كعادة قومية كما كانت الحال قبلاً.

وفي كثير من الليالي يكون للعمال الفرصة الأولى والتفضيل الكلي في توزيع البطاقات (التذاكر) وذلك مع مراعاة حالتهم الاقتصادية. وتوفير أسباب الراحة والسرور لهم. . ويحي سوفيت موسكو حفلات سمر نسائية يحفظون أجورها جداً ليكون المشاهدون أكثر ما يمكن.

ومما يدعو إلى الدهشة والاستغراب والإعجاب معاً أنهم يبذلون مجهوداً عظيماً في إنشاء سبع دور للتمثيل في الحدائق وفي بعض الأماكن الأخرى حيث تمثل في أيام الآحاد روايات خاصة يحضرها الأطفال فقد وذلك بلا مقابل. ولقد ذهبت إلى إحدى هذه الدور في حديقة الحيوانات وهنالك رأيت أحوال ألف طفل لا يتجاوزون الرابعة عشر وكلهم يتبعون باهتمام زائد تمثيل رواية اسمها عشة العم تم ثم إني تجولت فيما بينهم لأتبينهم وأرى حالهم فإذا بهم - والحق يقال - يضارعون أترابهم ونظائرهم في لندن.

  • * *

ولتعلم أن روسيا غنية جداً من ناحية التحف وكنوز الفنون. ولقد كان قلبي منقبضاً حزيناً وراسي مفعماً بأخبار الممالك الغربية ومفترياتها عن البلشفيك وكنت موجساً خيفة مما عسى أن يكون قد حل بهذه النفائس. ولكن عيني كذبت تلك الأقاويل وأرجعت لي طمأنينتي. فإن كنوز الاسكندر ومحتويات المتاحف الآخر، ما زالت محفوظة مصونة معتنى بأمرها. وقد أرسلت جميعها على موسكو لتكون في مكان مكين وحرز حريز، ولقد كانوا يودون أن ينشؤوا لها متحفاً في موسكو ولكنهم عدلوا عن ذلك لأن النفائس حق من حقوق بتروغراد وليس من العدل والذوق أن يسلبوا مدينة حقها، ولذا كانت مصونة حتى ترد إلى صاحبتها في الحين المناسب.

أما معرض صور تيرتيا كوفسكي في موسكو، فهو اليوم أغنى منه في أي وقت آخر، ولقد زرته فأليفته غاصاً بالمتفرجين - وأغلبهم من الجنود - ووجدت جماعة المرشدين يقومون بوظائفهم بمهارة فائقة، ولطف ليس وراءه زيادة لمستزيد، ولقد جمعت أنفس الصور ومجموعاتها من بيوت الأفراد كما أنه قد أعد متحف خاص لأعمال الزخرفة والبناء والأثاث، والكل معنى به عناية عظمى ومصرح للجميع بالتفرج عليه.

وإني هنا أعترف بأن مبادئ البلشفيك ونظاماتهم أبعد ما يكون عن فكرة أماتة الفنون والقضاء عليها بل إنها ستكون سبباً في إنمائها وتهذيبها وإعلاء شأنها. وحسبي ما قاله لونا كارسكي وهو يتكلم عن المسارح والفنون الجميلة حيث قال لي: إن لدينا مواد صالحة لن ندعها تذوي وتموت ونحن سكوت راضون.