انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/نابليون في منفاه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/نابليون في منفاه

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1919



كلمة للشاعر الكبير اللورد بيرون عن نابليون في منفاه مذيلة بنبذة فلسفية في مطامع الملوك والغزاة والفاتحين وأصحاب الثورات الفكرية والانقلابات الدينية - وخواطر في موضوع الوجدانات والعواطف - وهذه الكلمة مختارة من قصة دون جوان.

لقد هوى أعظم الناس - ولا أكذب إن قلت - وأصغرهم - ذلك الذي جمع الضدين، وضم النقيضين، فبينا يحاول من الأمور أجلها، إذا هو يزاول أضألها وأقلها غلو في جميع شأنه وإغراق! ولو توسطت أيها الجبار لبقي لك سلطانك أو لعلك لم تكن لتناله البتة ولا كنت ارتقيت إلى عرش ولبقيت إلى عرش ولبقيت كأصلك في غمار الناس مغموراً. وفي زوايا الخمول والغموض مستوراً. فإن غلوك في الجرأة وتطرفك في الطموح هو الذي سما بك ورفعك. وهو أيضاً الذي هوى بك وخفضك.

ومن عجب أنك لا تزال حتى الساعة تحاول استرداد سلطانك فتتبوأ أريكة العالم ثم تزلزل أركانه وتزعزع بنيانه وتصفق فوقه بأجنحتك الهائلة المخوفة وتصم آذانه بزماجرك العاتية العنيفة كأنك في سمائه المكفهرة إله البرق والرعد.

مالك الأرض أنت وأسيرها. وفاتح الدنيا وسجينها، واراها لا تزال ترتعد وتنتفض لمجرد ذكرك. وإن اسمك المخوف قد أصبح الآن أبشع ما كان إذا أصبحت لا شيء - اللهم إلا سخرة الصيت الشائع، وهزأة الذكر الذائع. وأضحوكة الحظ الذي سجد لك حيناً طوع إشارة بنانك، عبد دولة سلطانك. حتى عددت نفسك إلهاً مرهوباً ورباً مخشياً مهيباً. وكذلك عدك العالم ورأتك دول الأرض المبهوتة الحيرى المقهورة الحسرى.

أيها الرجل الذي فوق الإنسان أو دونه - آنا تعفر خدود القياصرة بين قدميك، وترغم مغاطس الأكاسرة تحت نعليك. وتجعل جباه الجبابرة مداساً. غطرسة وبأساً. وآونة تروح كأصغر جنودك. وأحقر عبيدك. مقهوراً حسيراً مغلوباً أسيراً. ليبت شعري وأنت اللاعب بالدول والممالك. العابث بالعروش والأرائك تهدم الدول ثم تبنيها، وتنشر الممالك وتطويها كيف أعياك أن تقمع أضعف شهواتك، وتقدع أدنى رغباتك ونزعاتك. ليت شعري وأنت النافذ النظرات الثاقب اللمحات المستجلي غوامض السرائر المستشف كوامن الضمائر المحدث بما في القلوب. المستطلع ما وراء الغيوب، كيف حيل بينك وبين النظر في أعماق صدرك واكتناه حقيقة أمرك وقدرك. كيف غاب عنك أن الأقدار مهما سعدت فإنها الخائنة الغادرة. والأقضية مهما أسعفت فهي الخاترة الخافرة. وأن الحظ وإن نهض أحياناً فلا تؤمن عثرته. والجد يتلألأ أزماناً ثم تأفل نجمته.

ولكن يروعني منك ثباتك في اللأواء ورسوخ طودك تحت الزعازع الهوجاء مظهر أقصى حكمة الفيلسوف وما تعلمت فلسفة في مدارس، ولا تلقنت مذاهبها عن عامل في فنه نبراس. وساء نعدها منك حكمة أو قسوة أو جموداً أو ركوداً أو عزة وكبرياء فإنها والله لخلة روعاء فيها كيد الحسود، رغم أنف المبغض اللدود وهي أشد على الأعداء من حصد الجماجم، وأمض للأعداء من حز الغلاصم. لله أنت ومواكب الأعداء محتشدة تنظر إلى هزيمتك وتريد أن تشمت بك وتسخر من تضاؤلك وخشوعك فإذا بك قد كذبت ظنونها وأقذيت عيونها بنظراتك القوية الطامحة المنبعثة عن عيني أجدل أو عقاب يرامق عين الشمس فيبهرها حدة وثقوباً وأذبت شحمة أكبادها باستهانتك بالخطب الجسيم واستهزائك بالكرب العظيم.

أيها الرجل الجليل! لقد رأيتك في بلواك أعظم منك في نعماك. ولكن سكينة المنفى وهدوء العزلة هو جحيم الرجل المتوقد الذهن القلق الجنان، إلا أن في النفس لجمرة تتألق، وعاصفة تثور وتياراً يتدفق، تأبى أن تنحبس بين جدران وعائها الضيق، ولكنها تطمح إلى ما وراء الحد اللائق، ودون غاية الملائم الموافق، فمتى اشتعلت هذه النار ففار بركانها، واندلع لسانها، وطمح دفاعها وطار شعاعها أصبحت ولا وقود لها إلا المخاطرات المهيبة، والمجازفات الرهيبة، ففي هذه تستطير وتمرح وتبتهج وتفرح ثم لا يجيئها الملل والضجر إلا من ناحية الراحة وطريق السكينة إن هي إلا حمى في صميم الفؤاد شؤم على حاملها وعلى كل من صحبه وتبعه.

هذه الحمى هي الأصل في ظهور مجانين العظمة والبطولة الذين تركوا الأمم والشعوب مجنونة بتأثير عدواهم! أولئك هم الغزاة والملوك وأرباب الملل والنحل والمذاهب والسفسطائيون والشعراء والساسة وكل من إليهم من أولي النفوس الثوارة والقلوب الجياشة، من اتخذوا العالم لعبة وأضحوكة، وأضحوا هم أنفسهم ضحكة العالم ولعبته، وخدعوا النوع البشري وسخروا منه وكانوا أثناء ذلك مخدوعيه وسخرته، يحسدهم الناس وهم بالراحة أولى! أي لذعات ولفحات تحز وتأكل في قلوبهم، أما وربك لو فتح لك قلب من هذه القلوب فأبصرت ما به لألفيته مدرسة تعلم من شهد قاعاتها الحزينة كراهة الزعامة والسلطان، وتلهم من قرأ صحائفها السوء إبغاض التاج والصولجان.

أولئك المجانين العظماء - أنفاسهم القلاقل والاضطرابات وحياتهم زوبعة هوجاء على ظهرها يركبون فيعصفون حيناً في ميادين العالم ثم يهبطون فيسكنون ولكن جرثومة القلق والطماح والشرود والجماح لا تزال بعد كامنة في صميم أفئدتهم تلدغ وتلسع كحمة العقرب وناب الفعوان فإذا رأيتهم في دار عزلتهم رأيت الليوث الضراغم في أقفاص الحديد حيرى مولهة تارة تجول من القلق وتصول. ومن فرط التبرم تهمهم وتدمدم وتغمغم. وتارة تخشع فتستكين. وتطرق إطراقة الحزين، دأبها ذلك حتى تموت كالسيف الحسام ينبذ في زوايا الإهمال فيصدأ ويتآكل ويذوب ويضمحل

كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله

من ارتقى إلى قمة الجبل وجد أعلى ذرا ملتفعة بالسحاب. ملتفة في الثلج والضباب، ومن ساد الناس وأخضعهم كان جديراً أن يجد نفسه مبغضاً مكروهاً. فهو وإن أشرقت فوق رأسه شمس المجد والفخار. وانفسحت تحت قدميه الأرضون والبحار يظل في وحدة ووحشة لا يحيط به إلا صخور الثلج وجلامد الجليد ولا يحيي أذنيه سوى دوي العواصف وضجيج الرعود القواصف، حيث تصدم رأسه العاري هوج الأعاصير وتلطم وجهه الحاسر نفحات الزمهرير. وهذا كل جزائه على بلوغه القمة العلياء.

أيها المرددون ذكر الغرام والود، والمجد والسؤدد، خبروني عن معاني هذه السماء؟ هل هي بروق كاذبة ما إن تزال حولنا تومض وتخطف تلمح فوق رؤوسنا وقلما تهبط علينا فتقف. يا رحمتا لنا بني الإنسان نرفع أبصارنا إلى هذه البوارق الخلب ونحن بالتراب لاصقون، وإلى أديم الأرض مغلولون، فتتلألأ لأعيننا المبهورة أنوارها العديدة الألوان والأشكال، وتدهش ألبابنا الحائرة أشبحها الجمة الإبهام والأشكال. ثم تضمحل بغتة فتزول وتتركنا لا نعرف ما نقول.

لو علم الناس حقائق الأمور لبكوا على إني إلى الضحك من هذه الحياة أميل. . ولا حرج علي ولا جناح. إني لأضحك من كل ما في الوجود لأني أعلم أن الوجود بحذافيره ورمته ما هو إلا شبح وخيال.

إنهم ليتهمونني: أنا ناظم هذه الأبيات - بأني أميل إلى إنقاص الفضيلة الإنسانية، والاستهزاء بالمقدرة البشرية. . يا لله! هل قلت في ذلك أكثر مما قاله دانتي وديوجانس وسليمان وسيرفانتس وسويفت وما كيافيللي وروشفوكول وفينيلون. ولوثر وأفلاطون وتليتسون ووسلي وروسو. الذين أدركوت أن هذه الحياة لا تساوي فتيلاً ولا قطميراً. فما ذنبي أو ذنب هؤلاء الفلاسفة إذا كانت الدنيا بهذا الحد من الخسة والدناءة! لقد قال سقراط إنما أقصى علمنا أن نعلم أنا لانعلم ولن نستطيع أن نعلم أدنى شيء من هذا الوجود. فيا لها من منزلة رفيعة في العلم تسوي بين الحمار وبين أنبغ حكماء الحاضر. والمستقبل والغابر. وكذلك زعم نيوتون (مضرب الأمثال في العلم والذكاء) إذ قال - بالرغم من عجيب مستكشفاه ونادر مبتدعاته - إني لا أرى نفسي إلا كطفل يلتقط الصدف والمحار على ساحل البحر العظيم - الحقيقة.

وقد قال الأنبياء ومشايخ الأديان في قديم الزمان إن (الحياة كلها غرور) وكذلك قال أحدث الوعاظ وصدقت أقوالهم أفعالهم بما أظهروا من احتقار الدنيا وترك شهواتها وهجران لذاتها. وكذلك كل العقلاء والمفكرين يعلمون ذلك أو سيعلمونه. أفبعد ما اعترف بفناء الوجود ولا شيئية الحياة طوائف الأنبياء والقديسين والحكماء والقسيسين والشعراء والمنطقيين حجم أنا عن القول بغرور الحياة خشية المعارضين النقاد؟.

أيها الناس يا زمرة الكلاب - إني لأعطيكم من المدح فوق ما تستحقون إذ سويتكم بالكلاب لأنها خير منكم وأكرم - سواء عليّ أتقرأون أم لا تقرأون ما أقدم لكم من وصف حقيقتكم وبيان ماهيتكم وسرد مساويكم وعد مخازيكم. وكما أنه لا يضير السحاب نبح الكلاب فسيصب عليكم عارضي الهتان دوافقه وينزل فوق رؤوسكم صواعقه مهما علا صياحكم وكما أن الأقمار لا تحفل بعواء الذئاب فكذلك ملائكة شعري ستشرق في سمائها بالرغم من عوائكم: فاملأوا الدنيا صراخاً فإنكم لن تمنعوا ملائكة القريض أن تضيء سبلكم المظلمة. وترصع بسبائك لجينها جوانب حياتكم المعتمة.