مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/محمد رسول الله
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/محمد رسول الله
رأي شاعر من أكبر شعراء الفرنجة
العظيم أعرف الناس بالعظيم. والعظمة متقابلة في العالم متفاهمة. وإن عدا بعضها على بعض. أو مشى بالكراهية عظيم إلى عظيم. أو حقدت عظمة على أخت لها. وقد أدرك كثيرون من أبطال كتاب الفرنجة وفريق من عظمائهم وساداتهم. حق سيد المرسلين - محمد بن عبد الله - من العظمة وجلاله من النبوة. ومكانه من هداة الإنسانية فوثبوا إلى الدنيا بكتب جميلة عنه. وحشدوات الثناء بالخير عليه. ولم يتركوا قطعة من حياته. أو حادثاً من أحداث تاريخه إلا أخذوها بالشرح والتحليل. فانتصفوا له من أولئك الذين عميت بصائرهم فما رأوا جلاله. وأغلقت قلوبهم باكنة فما فقهوا عظمة ولا قدراً. وحسبك ما كان من الفيلسوف توماس كارليل في كتاب الأبطال فقد جاء بالعجب العجاب. وحشد للنبي الثناء المستطاب. وانطلق يفيض بتلك الشاعرية الكارلايلية الثرة الجياشة. ويتبسط في الإنصاف. ويذود عن النبي تهم الجهلاء. ويرفع محمداً ﷺ إلى منزلته من سادة الكون.
وقد كنا لا نعلم أن وراء كارليل، في ناحية أخرى بعيدة شاعراً آخر. كان أبدع من كارلايل هذا وأورع. وهو شاعر ملأ شعره الأسماع ومصور للقلوب والعواطف صناع. ألا وهو الشاعر لامارتين سيد شعراء الفرنسيس وأكبر روائييهم وساستهم وكان النجم المتألق في دولة الشعر والكوكب المزهر في دولة ذلك العصر. فقد قرأنا له في الأيام الأخيرة تاريخاً وضعه عن عظماء الشرق. وافتتحه بسيد المرسلين فمضى فيه على خير ما يمضي المؤرخ العدل والحكم المنصف. وأنت تعلم أن الشاعر قطعة صغيرة من النبي. وأنه نصير من أنصاره. ومزمار من مزاميره ونغمة من نغمه. والشاعر يناجي القلوب والنبي يمس بنبوته ورسالته الأفئدة. على القلوب الإنسانية يجتمع الشاعر والنبي، وأنا النبي فيسكن ناحية منها فلا يخرج منها إلا مع الأنفاس الأخيرة ومحتضر الموت. والشاعر قد ينزل منزلاً أنيقاً من القلوب. ثم لا يني يخرج منها ليحل بعده شاعر أبلغ منه قصيداً، وأحلى منه شعراً وقريضاً. فلا تعجب أن ترى لامارتين قلباً من أكبر قلوب الدنيا. فتجلى عن عظمة ملأت آثارها الأرض. وذاعت في كل ركن من الحياة.
ونحن ننقل القطعة الأخيرة من الكتاب. وهي جماع القول وفصل الخطاب: قال الشاعر لا مارتين:
أترون محمداً كان أخا خداع وتدليس، وصاحب باطل ومين، كلا بعد ما وعينا تاريخه، ودرسنا حياته. فإن الخداع والتدليس والباطل والمين كل أولئك من نفاق العقيدة. وليس للنفاق قوة العقيدة. كما أن ليس للكذب قوة الصدق والحق. وإذا كانت قوة الصعود والمرمى في عالم الطبيعة والحركات الآلية هي المقياس الصحيح لقوة المصدر الذي تنفذ منه الرمية، ويظهر في الأفق من القذيفة. فإن العمل والفعل الذي يحدثه المحدث في علم التاريخ، وسجل الخلود. وكتاب الإنسانية هو المقياس الصحيح لمقدار الوحي. وقوة القلب والوجدان والفكرة السامية العالية التي تنفذ إلى مكان بعيد. وتبقى زمناً طويلاً. وتمشي في الحياة أبداً رخياً. وهي ولا ريب فكرة قوية صدرت من جنان قوي ولكي تكون تلك الفكرة قوية ينبغي أن يكون ظاهرها وباطنها الإخلاص وعلمها الأكبر الحق والصدق. وتروح معقولة يقبلها اللب. ويعتمدها الذهن. ولا ريب أن ذلك ينطبق على محمد ورسالته والوحي الذي تنزل عليه فإن حياته وقوة تأمله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته، وجاهلية شعبه، وخزعبلات قبيله، وشهامته وجرأته وبأسه في لقاء التعذيب الذي لقيه من عبدة الأوثان. وثباته وبقاءه خمسة عشر عاماً يدعو دعوته وسط أعدائه وبهرة خصومه في قلب مكة وندواتها ومجامع أهلها. وتقبله سخرية الساخرين. وهزؤه بهزؤ الهازئين وحميته في نشر رسالته وثباته وتوفره عليها، وحروبه التي كان صفه فيها أقل نفيراً من عدوه وأصغر عدداً، ووثوقه بالنجاح، وإيمانه بالظفر وإعلاء كلمته، واطمئنانه ورباطة جأشه في الهزائم، وأناته وصبره حتى يحرز النصر، وطماعيته وتطلعه إلى إعلاء الكلمة، وتأسيس العقيدة، لا فتح الدول، وإنشاء الإمبراطورية، وإقامة القيصرية، ونجواه التي لم تنقطع مع الله، وموته وقبض الله إياه إلى جواره، ونجاح دينه بعد موته كل أولئك أدلة على أنه لم يكن يضمر خداعاً أو يعيش على باطل ومين، بل كان وراءها عقيدة صادقة، ويقين مضيء في قلبه، وهذا اليقين الذي ملأ روحه هو الذي وهبه القوة على أن يرد إلى الحياة فكرة عظيمة وحجة قائمة، ومبدأ مزدوجاً، وهو وحدانية الله وتجرد ذاته عن المادة، الأولى تدل عمن هو الله. والثانية تنفي ما ألصق الوثنيون به، والأولى حطمت آلهة كاذبة، ونكست معبودات كاذبة، والأخرى فتحت طريقاً جديداً إلى الفكر، ومهدت سبيلاً طريفة للنظر.
وأما الفيلسوف والخطيب والرسول والمشرع والقائد ومسعر الحرب وفاتح أقطار الفكر، وراد الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المعقولة المتفقة مع الذهن واللب، ومؤسس دين لا وثنية فيه ولا صور ولا رقيات، ومنشئ عشرين دولة في الأرض، وفاتح دولة واحدة في السماء، من ناحية الروح والفؤاد - فذلكم هو محمد. . .! فأي رجل لعمركم قيس بجميع هذه المقاييس التي وضعت لوزن العظمة الإنسانية كان أعظم منه، وأي إنسان صعد هذه المراقي كلها فكان عظيماً في جميعها، غير هذا الرجل.
تلك حسنة من حسنات الشاعر الفرنسي لامارتين، ولعلها ترجح بجميع أشعاره ودواوينه.