مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/شيخ المتشائمين
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/شيخ المتشائمين
آرثر شوبنهور
أو الحياة شقاء
كثير من قراء البيان قد سمعوا بالفيلسوف الألماني الأشهر آرثر شوبنهور المولود سنة 1718 والمتوفى سنة 1860 وهو شيخ الفلاسفة المتشائمين الذي قد برموا بالحياة وبرمت بهم ولم يروا سبيلاً إلى الخلاص من بلاياها إلا الزهد فيها والرغبة عن ملاذها، وتعاليمه تشبه شيئاً كثيراً من الشبه تعاليم متصوفة المسلمين وتعاليم بوذا وبرهمة، ويشبه من فلاسفة العرب حكيم المعرة أبا العلاء - ومحور فلسفة شوبنهور هذه هو أن الكون وما يحتويه (أعني المادة والزمان والمكان) ما هو إلا خيال لا وجود له إلا في الذهن ولكن له أصلاً وجرثومة هي ما يسميها الفيلسوف (كانت) الألماني العظيم - سلف شوبنهور وأستاذه - الشيء في ذاته ويقول أننا لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف حقيقتها وكنهها ويرمز لها بحرف س على نحو ما يفعل الرياضيون في الرمز للكميات المجهولة، وشوبنهور يزعم أن جرثومة الكون المذكورة التي حار في كنهها كانت حتى رمز لها بحرف س وما هي إلا الإرادة التي نشعر بها في أعماق كياننا ونحس أنها هي القوة الدافعة فينا التي تدفعنا إلى الحركة تارة عن طريق الذهن أي طريق التعقل والتفكير وتارة من تلقاء نفسها كما يشاهد في حركات الجسم غير الاختيارية، وأهمها وظائف الأجهزة الحيوية، وهكذا نرى أن زبدة فلسفته هي أن الدنيا إرادة - أما حقيقتها وكنهها فمجهول، وأما ظاهرها الذي تتجلى فيها وتتراءى فهو ذلك الكون المشتمل على الزمان والمكان والمادة والجماد والنبات والحيوان والإنسان ولكن هذا الكون هو ظاهرة فقط لتلك الجرثومة، والأصل أي الإرادة هو خيال ليس إلا لا وجود له إلا في الذهن، فالحياة في نظر شوبنهور ليست إلا حلماً ولكنه حلم أليم مزعج. وذلك لأنه لما كانت الحياة إرادة فهي إذن رغبة وحاجة، والحاجة كما لا يخفى لا تزال تتطلب الإسكات والإشباع ومعنى هذا هو الحرمان والتلهف وهذان مشفوعان أبداً بالألم. فهو يستدل بهذا على أن معاناة الألم والكمد هو الغرض الذي ترمي إليه الحياة والغاية التي إليها تقصد. قال: إذ لو لم تكن ومكابدة الأسى هو ما ترمي إليه الحياة لكانت الحياة بلا غرض ولا مقصد. إذ من السخف والحماقة أن نعد ذلك المقدار الهائل من الهمو والأحزان الذي يملأ الحياة وينشأ من حاجاتها وضرورياتها منفصلاً عن الحياة ذاتها وأنه لا يرمي إلى غرض مقصود وأنه نتيجة الصدف ليس إلا.
ولست أعرف أكذوبة هي أسخف مما تؤيده تلك المذاهب الفلسفية القائلة بأن الشر سلبي في ماهيته وكنهه والخير إيجابي. والحقيقة هي العكس فإن الشر هو الإيجابي الذي يقع في الشعور فيجعل نفسه محسوساً ملموساً. والخير هو السلبي. أو بعبارة أخرى أن السعادة والرضا والراحة ما هي إلا سد الحاجة وزوال الألم. وهذا هو السر في أننا إذا أصبنا اللذة وجدناها دون ما كان ينتظر وإذا أصبنا الألم وجدناه فوق ما كان يتوقع.
يزعم الزاعمون أن اللذة في الدنيا ترجح بالألم أو على الأقل تعادله. فإذا أراد القارئ دليلاً قاطعاً على بطلان هذا الرأي فليتصور حيوانين أحدهما يفترس الآخر، وليتوهم لذة الأكل وعذاب المأكول وليوازن بين مقداري هذين الشعورين المتناقضين. هل يجد أدنى نسبة بين مقدار اللذة ومقدار الألم؟
ونحن نرى أن أحسن عزاء في المصيبة هو تدبر المصاب مصائب من هم أسوأ منه حالاً. ولكن أي دليل في مثل هذا العزاء على شقاء العالم وبؤس الحياة.
ومن المصائب التي لا يستهان بها شدة ضغط الوقت علينا ومطاردته إيانا وسوقه لنا سوقاً عنيفاً لا يدعنا نتنفس كأنه السجان يدفعنا إلى العمل بالسياط فإذا ما خفت عنا وطأته هنيهة فإنما يفعل ذلك ليسلمنا إلى الضجر والسآمة.
ولكن المصيبة لا تخلو من النفع والفائدة فكما أنه لولا ضغط الهواء الجوي على جسد الإنسان لانصدع ذلك الجسد وتمزق فكذلك لو رفعت عن الناس كافة الاحتياجات والمشاق والشدائد فأصبحوا الناجحين الفائزين الموفقين في كل ما عالجوا وتعاطوا لانتفخوا خيلاء وغلواء فأصبحوا - وإن لم يتصدعوا ويتمزقوا - غاية في الخرق والسفه والحماقة، ولا يبعد أن ينالهم الخبل والجنون فلا غرو إن كان كل امرئ في حجة إلى قدر محدود من الهم أو العناء أو الألم في جميع أوقاته. فالسفينة بلا صابورة (ثقل من حجارة أو حديد يجعل في قعر المركب لتخفيف فعل العواصف) تكون مزعزعة هوجاء طائشة.
ولا مراء في أن الكد والنصب والعناء هي نصيب السواد العظم من الخليقة مدى أعمارهم ولكن هب أن الأوطار والمآرب نيلت بمجرد حصولها في النفس فكيف يقضي الناس أيامهم وبماذا يسدون فراغ أوقاتهم؟ هب الحياة كانت جنة نعيم وفردوس لذة وأنهارً من لبن وعسل مصفى وخمرة لذة للشاربين حيث كل (كثير) يفوز بعزته وكل جميل يظفر ببثينته بلا تعب ولا مشقة إذن لمات الناس مللاً وسآمة أو لشنقوا أنفسهم ضيقاً وضجراً أو لشبت الحروب والمجازر حتى ترى الناس يلحقون بأنفسهم من البلاء أضعاف ما تنالهم به الطبيعة الآن.
الناس في حداثة السن وريعان الصبا كغلمان بدار تمثيل ينتظرون رفع الستار تراهم فرحين متهللين يتلهفون على ابتداء الرواية فمن نعمة القدر علينا جهلنا بما يسدل عليه الستار وما هو مخبوء وراء المسرح. فنحن إذ ذاك كالمساجين الأبرياء المحكوم عليهم لا بالموت لكن بالحياة غير أنا لا نزال نجهل معنى ذلك الحكم. وكلنا مع ذلك يشتهي امتداد الأجل وبلوغ أرذل العمر - يشتهي بلوغ الحالة التي يقول فيها المرء (اليوم شر وغداً شر من اليوم وهكذا حتى يجيء من الأيام شرها وأسوأها).
وأنت لو حاولت توهم كل ما تشرق عليه الشمس في مسيرها من كدر وغم وعناء وبؤس وعذاب على اختلاف ضروبها وأصنافها لتمنيت لو أن الشمس لم تقدح شرارة الحياة من هذه الكرة الأرضية ولم تستل ظاهرة الحياة من جوفها وأن ظهر الأرض لم يزل كسطح القمر في حالة تبلور.
وأنك لو تأملت الحياة لوجدتها شيئاً عديم النفع والجدوى وحادثاً مكدراً لصفاء سكينة العدم. وهب أنك ظفرت من الوجود بعيشة محتملة لا باس بها مرضية بالنسبة لغيرها لكنت الجدير بعد هذا كله أن تعد حياتك على الإجمال خيبة وفشلاً بل خدعة وغروراً.
لو أن رجلين مما كانوا أصدقاء في حداثة السن تقابلا في الشيخوخة بعد افتراقهما طول العمر لكان أوى ما يخامر نفسيهما من الشعور ذ ذاك هو الإحساس بخيبة الحياة على الإجمال. وذلك لأن خواطرهما تكر راجعة في هذه اللحظة إلى زمن الشبيبة وعصر الصبا إذ غرة السعد ضاحكة متبلجة، وجذوة الأمل ذاكية متأججة.
وماء الندي عذب اللصاب مرقرق ... وعود المنى وحف النبات رطيب
وإذ ساحة العيش منفسحة لأعينهما تتألق في سنا فجرها الأرجواني وتختال في برد نورها القاني فيا طيب ما وعدت وما عللت. ويا خبث ما أعطت وما نولت.
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل وهذا الشعور بخيبة الحياة الذي يعتري الرجلين عند اللقاء يتسلط على نفسيهما ويتغلب على كل شعور آخر حتى أنه لعظمه وشدته يأبى أن يبرز في صورة التعبير ويأنف أن يفيض على عذبة اللسان. ولكنه يبقى حاضراً في الوجدان وصبح أساساً يبنى عليه كل ما يدور بني الرجلين من القول.
من امتد به الأجل حتى أدرك جيلين من الناس أو ثلاثة كان كمن جلس مدة في خيمة (الحاوي) فشاهد ألاعيبه دفعتين أو ثلاثاً متواليات. فغرابة هذه الألاعيب ودهشتها هي في مشاهدتها مرة واحدة حتى إذا ما فنيت جدتها وانكشفت خدعتها زالت الغرابة عنها والروعة.
ومع أنك لا تجد في طول الأرض وعرضها من هو خليق أن يحسد على حظه وقسمته فإنك لتجد الملايين الذين لا يستوجبون منك غير الرثاء والرحمة.
إنما الحياة تكاليف فرض علينا أداؤها. وحمل قدر لنا أن نسير به في غاية، وإن ساعة الفراغ من هذا العمل الشاق وطرح هذا الثقل الفادح - أعني ساعة الخلاص والراحة المنشودة المشتهاة، إنما هي ساعة الموت.
أرأيت لو أن خروج الجنين إلى هذا العالم كان بمحض إرادته واختياره أكان يجرأ على الخروج إليه مخلوق. أم كنت تجد على ظهرها إنساناً؟ ولو كان واضع النطفة يضعها عن ترو وتدبر وحساب للعواقب - لا عن غريزة عمياء - أكنت تجد في الناس من تبلغ به القسوة وغلظة الكبد أن يتسبب في إيجاد من يعلم أنهم سيحملون عبء الحياة الفادح ويتجرعون غصصها المضاضة؟
أنا أعلم أن الكثيرين سيعترضون على فلسفتي بأنها داعية إلى اليأس والقنوط خالية من دواعي الانشراح والإنس وإن الناس يؤثرون أن يقال لهم أن الخير فيما اختاره الله وكل ما قضاه جميل. ألا فاذهبوا إلى قساوستكم أيها الناس ودعوا الفلاسفة وشأنهم وعلى كل حال لا تكلفونا أن نلائم بين آرائنا وبين ما تعلمتموه في الكنائس. ألا إنا لن نجيبكم إلى هذه الدعوة ما بقي فينا عرق ينبض. ولسان ينضنض ولكن امضوا إلى أدعياء الفلاسفة وغشاشيهم فإنهم لن يبخلوا عليكم بما تطلبون. اذهبوا إلى هيجل وصاحبيه فيشتي وشلنج وشيعتهم فقد أخذوا على عاتقهم ا، يعلموا مذهب (التفاؤل بالخير) ولو علموا أنه مناقض للحق. وما لهم وتأييد الحق وجل همهم الدرهم والوسام ووظيفة الحكومة.
قد ذكرت القارئ أن كل سرور في هذه الدنيا سلبي في كنهه وماهيته أعني أنه خلاص نمن الألم الذي هو العنصر الإيجابي في الحياة ينتج عن هذا أن سعادة أي مخلوق تقاس لا بمسراتها وملاذها بل مقدار خلوها من الألم من الشر الإيجابي. إذا كان ذلك أساس الموضوع فالحيوان إذن أسعد من الإنسان. وهنا نأخذ في هذا المبحث بطريقة أدق وأعمق.
أنه مهما تعددت أشكال السعادة والشقوة البشرية فالأساس الجوهري في جميعها هو اللذة أو الألم البدني. وهذا الأساس محدود جداً: إذ لا يتعدى الصحة والغذاء والوقاية من الحر والبرد والبلل والشهوة الجنسية. أو فقدان كل هذه الشياء. عليه فالإنسان من وجهة اللذة البدنية ليس أحسن حالاً من الحيوان إلا من حيث كونه أشد منه إحساساً وأرهف شعوراً بكافة أصناف اللذة لتفوقه عليه في وظائف الجهاز العصبي وقابلياته - على أنه لعين هذا السب يكون أيضاً أشد من الحيوان شوراً بكافة ضروب الألم. ولكن أي فرق هائل بينه وبين الحيوان من حيث سورة الانفعالات واضطرام نيرانها وبعد أعماقها! ومع ذلك فالنتيجة في كلتا الحالتين واحدة - أعني تحصيل الصحة والغذاء والملبس وهلم جرا.
وأهم مصادر هذه الانفعالات هو اشتغال الذهن بالماضي والمستقبل ولهذا أثر شديد في كل ما يصنعه الإنسان. وهذا أيضاً هو المنبع الحقيقي لهمومه وأكداره ومخاوفه وآماله - تلك الانفعالات التي لها من الأثر في نفسه ما هو أشد وأبلغ مما لحاضر الآلام واللذات في نفس الحيوان الذي لا يعرف غير الحاضر ولا قدرة له على الاشتغال بالماضي والمستقبل. وكذلك نرى أن ملكة التأمل وذكرى الماضي والنظر في المستقبل - هذه الملكة تنزل من الإنسان منزلة آلة وظيفتها حشد الآلام والملاذ وتكثيفها وخزنها في وعاء قلبه. ولكن الحيوان ليس له شيء من هذا القبيل. فكلما لحقه ألم كان كأنما أصابه لأول مرة في حياته وإن كان قد وقع فيه قبل ذلك آلاف المرات. فهو لا قدرة له على استجماع إحساساته. ومن ثم ما يلاحظ فيه من عدم الاكتراث والمبالاة: - نعمة يحسده عليها الإنسان - هنيئاً له!.
ولكي يضاعف الإنسان لذاته عمد بمحض إرادته إلى مضاعفة مطالبه وحاجاته - وكانت في الأصل معادلة لحاجات الحيوان في سهولة الطلب، ومن ثم كان الترف في جميع صوره وأشكاله: من طعمة لينة وحسوة مساغة وما إليهما من مناعم المطاعم ومطارب المشارب كالتبغ والأفيون وصنوف الخمر - دع التأنق في الملبس والمركب والمسكن والتفنن في ضروب الفرش وآلات الزخرف والزينة.
ويجيء بعد ذلك مصدر غريب للسرور وبالتالي للألم - وهذا المصدر قد أوجده الإنسان لنفسه وهو بعض نتائج ملكة التأمل والتخيل الآنفة الذكر وهذا المصدر يجشم الإنسان من المتاعب أضعاف أضعاف قيمته - يجشمه أكثر مما يتكلف في سبيل سائر مشاغله ومهامه برمتها - وأعني بهذا المصدر خلة الطمع والطموح إلى الجاه والمنصب وابتغاء المدح والخوف من الذم - أو بعبارة أوضح اهتمام المرء بآراء الناس فيه.
وهنا نحاول أن نشرح على وجود الشر في الدنيا وكونها مبنية على الآلام مطبوعة على الأكدار والهموم والآفات. ونقارن من هذه الوجهة بين مختلف العقائد والأديان لنرى أيها أشد التئاماً مع الواقع وأكثر انطباقاً على حقيقة الحياة فنقول: يزعم البراهمة أن الإله براهما خلق الدنيا بطريق الخطأ والزلل. وللتكفير عن هذه الحماقة أجبر نفسه على البقاء في الدنيا بنفسه حتى يكفر بذلك عن سيئته فينال العفو والغفران المؤدي إلى الفكاك والخلاص. وهذا في رأيي تعليل حسن بديع لخلق الدنيا وإيجاد العالم. ويزعم البوذيون أن سبب نشوء الدنيا هو حدوث تشويش - مجهول الكنه والعلة - في سكينة صفاء العالم السماوي - نيرفانا - (هو عند البوذيين عالم الخلود والراحة الذي تنتقل إليه أرواح الصالحين باتباع وصايا دينهم ولزوم سننه. وفي هذا العالم تنقذ الأرواح من آفة التناسح أي تكرار العودة إلى الدنيا - دار الردى وقرارة الأكباد - في أجسام جديدة). وأن هذا التشويش الذي طرأ على نيرفانا إنما حدث بطريق النحس والشؤم أي بلا علة. وهذا يشبه نظرية تكوين الدنيا عند علماء الطبيعة إذ يقولون أن الشمس التي هي أصل هذا العالم الأرضي ومنبعه كانت في الأصل (أي قبل ظهورها في صورة شمس) قطعة من غيم لا يعرف كيف تكونت. ثم يزعم البوذيون أنه بعد تكون الدنيا في عالم نيرفانا بواسطة ذلك التشويش الذي حدث في ذلك العالم - لم تزل هذه الدنيا تنتقل من حالة سيئة إلى حالة أسوأ (وهذا مناظر لما ورد في مقال علماء الطبيعة من تطور العالم الأرضي أثناء التكون من نظام إلى نظام) إلى أن وصلت إلى حالة البؤس والشقاء التي هي عليها الآن. وهذا أيضاً تعليل بديع لخلقة الدنيا وحالتها! وذهب اليونان إلى أن وجود الآلهة والدنيا هو أمر أوجدته ضرورة مجهولة لا يدرك سرها. وهذا تعليل مقبول يصح لنا أن نكتفي به حتى نوفق إلى خير منه. ويزعم الفرس أن المسيطرين على الدنيا إلهان - إله خير (هورمز) وإله شر (هرمن) وهذان لا يفتآن في حرب دائمة. وهذا تعليل لا بأس به. أما قولهم أن إلهاً يخلق هذه الدنيا المملوءة بالهموم والكرب والأحزان لمجرد خاطر خطر بباله وهوى نشأ في نفسه ولأنه أراد أن يلهو ويتلذذ بهذا العمل حتى إذا فرغ منه أخذ يصفق بيديه إعجاباً بصنعه وصاح قائلاً أن كل ما صنعته حسن جميل - فهذا لا يصح أن يقال به.
وعندي أن أحسن تعليل يمكن تقديمه في هذا الصدد هو أن نتوهم أن وجودنا في هذه الدنيا هو عقاب يوقع علينا لذنب جنيناه في عالم سابق لهذا. وأنا كذرية الرجل الفاسق نخرج إلى الدنيا مثقلين بجريمة سلفنا. وأن ما نكابده من الآلام ليس إلا تكفيراً لتلك الجريمة وهذا التكفير هو الوسيلة الوحيدة للبراءة والخلاص.
فإذا أردت الراي الصحيح في تقرير حقيقة هذه الدنيا والمنهج السديد للسير فيها فما عليك إلا تعدها كدار للندم والتوبة أعني (كإصلاحية المجرمين) كما ورد في مذاهب البراهمة والبوذيين وآراء فلاسفة اليونان أمثال فيثاغورس وأمبوريكليس وكما قال (شيشرون) وصرح فانيني الذي رأى معاصروه أن إعدامه بالنار أسهل عليه من إبطال برهانه - والذي قال بصريح العبارة (لقد أفعم الإنسان بجميع أصناف البؤس والألم والبلاء فلولا محاذرتي مناقضة الدين المسيحي لقلت أن بني البشر ليسو إلا أبالسة متقمصين أجساماً آدمية يكفرون الآن عن سالف ذنوبهم بمكابدة أصناف العذاب والبؤس.
فإذا عودت نفسك أن ترى في الحياة هذا الرأي لم تجد الدنيا في أحزانها وآفاتها وآلامها إلا جارية على سننها. منتجة لتلك الثمرات التي هي أشبه ببذورها وأليق بجذورها. وأصبح عجيب الزمان غير عجيب. وغريب الحدثان غير غريب. وألفيت أن كل شيء هو كما ينتظر وينبغي أن يكون - في هذه الدنيا التي يعيش فيها كل امرئ ليكفر باحتمال الهموم والمحن عن سالف جريمة البشر في حياة غابرة. وليعلم القارئ أن من أسوأ سيئات إصلاحية المجرمين (كناية عن الدنيا) كما تقدم رداءة الوسط وسوء الخليط. وحسبك أن أفراد مثل هذه الإصلاحية هم قوم مجرمون. فإذا كنت أيها القارئ لسوء حظك أكرم جوهراً وأطيب عنصراً م السواد الأعظم من معاشريك وزملائك في السجن فأنت تحمل بين جنبيك قلباً أكبر وروحاً أطهر من تلك القلوب الحكرة والأرواح القذرة فاعلم أنه لا ملجأ لك سوى الصبر والتجمل، ولا حيلة لك سوى التسامح والإغضاء والعزلة والابتعاد.
قال الحسن بن سهل: عجبت لمن يرجو من فوقه كيف يحرم من دونه. وكان يقول: الشرف في السرف فقيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير. وقال عبد الحميد الكاتب: لو كان الوحي ينزل على أحد بعد الأنبياء فعلى بلغاء الكتاب. وقال أرسطو: ما زلت أشرب ولا أروى فلما عرفت الله رويت من غير شرب. وقال اعص الهوى واطلع من شئت. وقال سقراط استهينوا بالموت فإن مرارته في خوفه. وقال ابن المعتز:
كم من والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تبصر ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد