مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/كتاب الانحطاط
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/كتاب الانحطاط
للكاتب ماكس نوردو الفيلسوف الهدامة البديع كتاب سماه الانحطاط بحث فيه على طريقته المعروفة عن أسباب الانحطاط السائد على العالم اليوم وبخاصة أوروبا، وعن مظاهره ونتاجه، ولعل القراء يذكرون أنا نقلنا إلى العربية كثيراً من آراء هذا الرجل، واخترنا له مذ السنة الأولى من كتابه الغرائب وأكاذيب المدنية الحاضرة وكتاب الانحطاط هذا واليوم نلخص لهم آخر فصل من كتاب الانحطاط وهو الذي عقده للبحث عن انحطاط أوروبا ومصير هذا الانحطاط قال:
أصيبت أوروبا في هذه العصور الأخيرة بالمرض النفساني أو العقلي الذي اصطلح علماء البسيكولوجيا والباثولوجيا (علماء النفس وعلماء الأمراض) على تسميته بالانحطاط، وهو مرض في الجهاز العصبي له تأثير شنيع على الحياة الذهنية والأخلاقية للفرد وبالتالي للجماعة، وأول من فطن إلى حقيقة كنه هذا الداء واستجلى غوامضه وأحاط بظاهره وباطنه ثم وضع له تعريفاً فنياً أصولياً هو البحاثة موريل إذ قال: إن أوضح فكرة يمكننا تكوينها عن مرض الانحطاط هو أنه انحراف فاسد عن صورة أصلية يترك المصاب به عاجزاً عن تأدية وظائفه الاجتماعية في الحياة، وهذا الداء ينتقل إلى الذرية بطريق الوراثة ويزداد ويتجسم مع التسلسل، وخواص هذا الداء - تعطل في نمو الملكات الذهنية والأعضاء البدنية وضعف وسقم فيهما.
وأهم أعراض هذا الداء النفسية هي: عدم الشعور بفروض الآداب وواجبات الفضيلة أعني قلة التمييز بين الخير والشر، فالمصابون به لا يعرفون ما يسميه الناس قانون الحشمة واللياقة فتراهم لأقل باعث من شهوة أو هوي يقترفون الإثم والجريمة بكل طمأنينة وارتياح، ولا يكادون يحسبون أن في فعلهم هذا ما يسوء الغير ويؤذيه، وهذه الخصلة في أقصى درجاتها تسمي الجنون الأخلاقي، ولها سببان نفسيان، الأنانية الشديدة، وسرعة التهيج العصبي، أعني العجز عن مقاومة الإرادة متى همت باتيان أي شيء، ومن أعراض الداء أيضاً سرعة تأثر العواطف (وإن كان هذا العرض ربما شوهد في الرجل السليم عندما يصاب بعلة وقتية كالمرض الجثماني أو انتهاك القوى أو بصدمة ذهنية، ففي هذه الحالة يزول العرض بزوال السبب) فترى المصاب يضحك حتى تسيل دموعه أو يبكي منتحباً بلا داع ولا موجب، فالشعر البارد السخيف يطربه ويشجيه، والغناء الفاتر الضعيف يميته ويحييه، وهو بين هذا وذاك يفخر ويتيه بما قد أوتي من رقة الإحساس وحدة الشعور، ويحسب أن الله قد خصه من دقة النظر ونفاذ البصيرة بما حرمه العوام والغوغاء من الطبقة الغبية البليدة، فيدلّ على أولئك المساكين ويرمقهم بعين الإصغار والاحتقار، وقد فاته أنه هو المسكين الخليق بالازدراء بل بالرحمة والرثاء، وإنه إنما يتيه ويفخر بداء وفساد في العقل.
ومن أعراض الداء أيضاً نوع من الكآبة والضيق والهم يعتري المصاب ويظهر فيه على صورة اليأس والتشاؤم والتبرم بالناس والكراهة لجملة ظواهر الحياة والكون، أو الكراهة لنفسه والتأفف من ذاته، قال العلامة موريل وأمثال هؤلاء لا تكاد تسمع منهم إلا الأنين والشكوى يندبون حظوظهم ويلعنون القضاء والقدر بألفاظ وكلمات محدودة معدودة لا تتغير ولا تتنوع ويصورون لأنفسهم بأيدي الخيال صوراً شنيعة من الخسران والخراب والتلف.
وهذا الضيق والهم والضجر تكون في العادة مصحوبة بالعجز عن القيام بالعمل أياً كان إلى حد الكراهية الشديدة للحركة على الإطلاق وموت العزيمة، والمريض المصاب بهذه البلية لا يخطر بباله أن سبب ما هو فيه من الضيق والملل ونتيجتهما من البلادة والتقاعد إنما هو فساد في الخلقة ومرض في العقل، ولكنه ترى أن الحالة التي هو بها هي نتيجة مشيئته الحرة واختياره فيعتقد أنه هو الذي فضل بمحض إرادته ترك الأعمال ترفعاً واستنكافاً من خسة العمل وحقارته وهو الذي تجنب السعي احتقاراً للدنيا وطلابها وعملاً بسنة الزهاد والمتصوفة وإيثاراً لمبدأ الرهبنة ودين البوذية، مادحاً نرفانا بأنه أكمل إنسان وأفضل مخلوق، فمثل هذا المصاب وأشكاله قد أعدتهم الفطرة لأن يكونوا شيعة الفيلسوف النابغة والمريض المصاب آرثر شوبنهور وليس عليهم إلا أن يتعلموا أصول البوذية حتى يعتنقوا هذه الديانة.
وعلى ذكر الفيلسوف العظيم الذي كان من زمرة المصابين بذلك الداء (الانحطاط) نقول إنه لا يتحتم أن يكون (المنحط) (المصاب بداء الانحطاط) خلوا من النبوغ والعبقرية، فلقد أجمع الباحثون طرا على عكس ذلك، قال العلامة ليجران (ربما كان المنحط عبقرياً، وذلك لأن الذهن المختل التوازن هو بطبيعة خلقته وتكوينه جدير أن يعظم فيه بعض الملكات بقدر ما يصغر فيه البعض الآخر فبينما يسوؤك ويحزنك بأخبث الرذائل وأنكر القبائح إذ يروعك ويفتنك بأعجب البراعات وأبدع المزايا) وقال العلامة روبينوفتش أن المنحط قد يبلغ من حيث ملكات التفكير والتصور (أي الملكات العقلية) درجة عالية جداً ولكنه لن يكون من الوجهة الأخلاقية إلا فاسداً فساداً تاماً، فهو يستخدم ملكاته الباهرة سواء في أشرف الأعمال وفي أخسها وأحقرها.
أما منشأ هذا الداء (الانحطاط) فهو ضعف الأعصاب وانتهاك القوى وهما نتيجة لسببين رئيسين، أولهما الانهماك في الشهوات والملاذ وما يقتضي ذلك من معاقرة الخمور وتعاطي المخدرات وكد الأعضاء وإقلاق البال وتهييج العواطف وثانيهما ما كابدته أوروبا في القرن السالف وما تكابده الآن من الثورات والحروب ونحن قائلون هنا كلمة في شرح تأثير الحرب على الشعوب بإنهاك قواها وإضعاف أعصابها بمناسبة الحرب الحاضرة.
قد اكتشف العلم الحديث الأمراض العصبية الناشئة من صدمة عصبية كطروء خطر فجائي مثلاً، فأثبت أن كثيراً ممن نجوا من الغرق أو النار أو حوادث القطارات أو ممن هددوا بالقتل قد فقدوا عقولهم أو أصيبوا بأمراض عصبية خطيرة مزمنة عقيمة، فما بالك بمن يغشون ساحة القتال ويغامسون حومة الوغي وأنهم ليكافحون كل هذه الأخطار مجتمعة في وقت واحد، فهم يبقون الأشهر والسنين مهددين في كل لحظة بالعاهات الفظيعة والموت الذريع محفوفين بمناظر الخراب والدمار والغرق والنار والجراح المخيفة وكثبان القتلى مكدسة مركومة مما تهلع له القلوب وتطيش العقول، أضف إلى ذلك الأعمال الشاقة التي تستهلك قواهم وتستنفذ مجهوداتهم، من الزحف المؤدي إلى الإعياء والحفا، وسوء الغذاء، والقحط أحياناً، وقلة النوم، واهتياج العواطف، ولا يقولن معترض إن الجندي يكتسب بالاستمرار مرانة على استقبال هذه الأهوال حتى يصبح عديم التأثر بتلك الفظائع المحيطة به، فرداً على هذا الاعتراض نقول إن قلة تأثر الجندي تؤول بأن منظر الفظائع الماثلة أمامه قد لا يستفز شعوره ولكنه يقع في حواسه بلا شك وتنقله الحواس إلى المراكز العصبية فيترك أثره في الجهاز العصبي، فكون الجندي لا يشعر بالصدمة العصبية - بل بالتحطم العصبي - ليس دليلاً على عدم حصول الصدمة، لأنه كثيراً ما شوهد في حوادث القطار والحريق والغرق أن المصاب وإن فقد الشعور أثناء الصدمة فلم يحس بهولها إلا أن آثارها من الأمراض العصبية لا بد أن تظهر ولو بعد مرور الأشهر على حدوث الصدمة.
وعلى ذلك فلا ريب في أن الحرب هي منشأ لداء الانحطاط بين الجماعات وأن معظم الجنود العائدين من المعارك يحملون إلى أوطانهم أعصاباً مريضة، وهذه النظرية قد تكون أقل انطباقاً على الفريق الغالب منها على الفريق المغلوب لأن الشعور بالفوز من ألذ إحساسات النفس البشرية، ونتيجة هذا الإحساس اللذيذ من تجدد النشاط والقوة خليق أن يقاوم المضار الموبقة الناشئة من تأثير فظائع الحرب، ولكنه لا يستطيع محو هذه المضار البتة، وهكذا يعود الغالب والمغلوب إلى وطنيهما وقد خلف كل منهما على ساحة القتال جانباً عظيماً من قوته العصبية والأدبية.
إن تفشي الغلظة والوحشية في الشعوب غب الحروب قد أصبح من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل، فقد عرف الناس أن الشعوب المتحاربة تخرج من الحرب أسوأ أخلاقاً وأخشن طباعاً مما كانت عليه قبل، فيزداد في كشوف إحصائياتها تعداد الجرائم والفظائع، ولا يحسب أحد أن الجندي الذي يعود من الحرب سريع الغضب يسحب خنجره على الناس لأقل باعث - إنما يفعل ذلك لأنه قد صار أشجع قلباً وأخشن جانباً - كلا بل لأنه قد صار أشد تهيجاً، وقد أثبت العلم أن سرعة التهيج ليست إلا إحدى ظواهر الفساد العصبي.
ولما كان هذا الداء الانحطاط شاملاً لم يخل منه فريق المفكرين من الكتاب والشعراء والمصورين والموسيقيين فقد خرج جانب عظيم من مؤلفات الأجيال الحاضرة متلبساً بعاهات هذا الداء وشوهاته ومقاذره وهو على ذلك أروج من الكتب السليمة القيمة النقية وقامت الجماهير المصابة العليلة فأجلست على أريكة دولة الآداب والفنون رجالاً أدهشوا القراء ببدائع الخيال وروائعه ولكنهم أصفار من الآراء الناضجة والأفكار المنتجة الخصيبة مجردون من المبادئ القويمة والمذاهب السليمة منحرفون عن سنن الحق والمنطق والطهر والفضيلة يشحنون مؤلفاتهم بأصناف الباطل والخرافات والخزعبلات ويفعمونها فوق ذلك بأفانين الفسق والفجور والإثم والرذيلة، والجماهير الحمقى السخيفة تسميهم قادة الدنيا وأعلام الهدى ومصابيح المستقبل، وما هم إلا فئة من المرضى المصابين لولا مزية الخيال القوي والأسلوب الرائع لكان المستشفى أولى بهم من غرفة الكاتب والمؤلف.
فأوروبا الآن قائمة في حومة داء ذهني فتاك - أو بعبارة أخرى في حومة موت أسود من الانحطاط فلا جرم إذا تساءلنا ماذا يكون بعد ذلك؟ لا يسعنا إزاء ما نبصر من أعراض هذا الداء العضال إلا استنباط النتيجة الآتية هي أنه إذا كان الداء المذكور لم يبلغ بعد أقصاه وأنه سيزداد شدة وعمقاً واتساعاً فلا بد أن يأتي زمن تصبح فيه الظواهر المقصورة البوم على سكان مستشفيات المجاذيب فقط قد شاعت في المجتمع الأوروبي وصارت من أحواله وصفاته العادية، وإذ ذاك ترى الحياة قد أخذت الصورة الآتية أو نحوها:
تؤسس أندية الانتحار في كل مدينة، وإلى جانبها تقام أندية التذابح أي قتل الأعضاء بعضهم بعضاً عن اتفاق وتراض بواسطة الخنق والشنق والطعن بالمدى والخناجر، وبدلاً من الحانات والفنادق تنشأ أماكن لتعاطي الأثير والكلورال والنفط والأفيون والحشيش، ويزداد عدد المصابين بفساد حاستي الذوق والشم ازدياداً يستوجب فتح دكاكين تقدم فيها على صحون الذهب وأواني البلور جميع أصناف القاذورات للزبائن الذين يجلسون على فاخر الكراسي محفوفين بكافة ضروب الأوساخ متلذذين باستنشاق روائح النتن والعفونة، وتخلق وظائف وأعمال جديدة - كوظيفة الحقن بالمورفين والكوكايين، ووظيفة أناس يقفون على معاطف الطرقات يمدون أيديهم للمصابين بمرض الأجورافوبيا (مرض ذهني من شأنه أن صاحبه يعتريه الخوف الشديد إذا أراد عبور طريق واسع) ليساعدوهم على عبور الطرق والساحات، ووظيفة أناس يهدئون - بجميع أساليب الأيمان والتأكيدات - خواطر المصابين بداء الشك والارتياب كلما جاءتهم النوبة العصبية.
يشتد في الناس التهيج العصبي إلى حد أنك تجد المصابين به يطلقون الرصاص من نوافذهم على الأطفال الذين يصفرون أو يصرخون تحت بيوتهم صراخاً غير موسيقي خالياً من الأوزان والقوافي، أو تجدهم يهجمون على مدارس الموسيقى فيقتلون صغار الفتيات اللاتي يتلقين دروسهن الابتدائية في الكمنجة والبيانو لأنهن صدعن رؤوسهم وهيجن أعصابهم بضوضائهن الأليمة، أو تجدهم يحاولون أن ينسفوا بالديناميت شركات الترام لأن السواقين يطيّرون عقولهم بالأجراس والصفافير، فلهذه الأسباب كلها تسن الحكومة قوانين لمنع التصفير والصياح في الطرق، وتبنى مدارس الغناء والموسيقى بكيفية تمنع نفاذ الأصوات إلى الخارج، وتوضع في القانون مادة لتحذير المركبات من إحداث أقل صوت أثناء سيرها، ونظراً إلى أن نباح الكلاب يصيب الكثيرين بالجنون ويغرى الكثيرين بالانتحار يسن قانون بمنع إبقاء الكلاب داخل المدن إلا بعد إخراسها بقطع العصب الحنجري وآخر يحرم على الصحافيين وأرباب المجلات أن ينشروا موضوعات تتعلق بحوادث الانتحار والإكراه والاغتصاب وإلا فهم مسؤولون عن كل ما يرتكبه القراء من الجرائم تقليداً لما دونوه في صحائفهم.
تفسد العلاقة الجنسية (التي بين الذكور والإناث) فساداً يستدعي تغيير النواميس المشروعة والعادات المألوفة ملاءمة للحالة المستجدة، فترى المخنثين - الذين يصبحون يومئذ السواد الأعظم من الناس - يلبسون أزياء نسائية لوناً وتفصيلاً، أما النساء فلا يستطعن إذ ذاك إرضاء الرجال إلا إذا لبسن أزياء رجالية - أحذية طويلة غليظة بمهاميز ونظارات على عيونهن وعصيّ وسياط في أيديهن وسيجار طويل في ثغورهن، وتشرع القوانين القاضية بتزويج الرجل بالرجل وإباحة مواطأة الأخوات والأمهات وغيرهن من المحرمات ومواطأة الحيوانات والموتى، وكذلك يصبح العفاف والتقى من خرافات الماضي ويعدان من قبيل الوحشية والصفات الرجعية المنافية لروح الرقي والتقدم ويعد الشغف بسفك الدماء مرضاً بسيطاً يقدم المصاب به إلى عيادة الطبيب بدلاً من محكمة الجنايات.
ويشتد ضعف العقول بدرجة تستدعي تقصير وقت الدراسة بالمعاهد العلمية فيجعل ساعة واحدة في اليوم، وكذلك لا يسمح للمحاضرات والخطب بل للروايات التمثيلية والمناظر السينماتوغرافية أن تستغرق أكثر من ربع ساعة على الأكثر وعلى ذلك يحذف من بروجرامات المدارس كافة المواد المتعلقة بالتربية الذهنية وتكثر المواد الخاصة بالألعاب الرياضية ولا يمثل على المسارح إلا مناظر الفسق والدعارة وقتل الآباء والأبناء وإلى هذه المسارح يهرع الآلاف من غواة الفن للتبرع لأرباب الأجواق بتمثيل هذه المنكرات حتى يفوزوا بلذة هذه الميتات الحلوة الشهية بين هتاف الجماهير المأنوفة.
وينسلخ معظم الناس من الأديان المعروفة ويتكون عدد عظيم من الشيع الروحانية التي تستخدم العرافين والكهان وضراب الرمل ومحضري الأرواح والمنجمين والسحرة وقراء الأكف بدلاً من القسوس والأساقفة.
وتشتد مبالغة الشعراء والكتاب والمصورين في تعمية أغراضهم وإخفاء مقاصدهم واستعمال الرموز الغامضة والكنايات المبهمة بدلاً من الجمل الواضحة والعبارات الصريحة وذلك لاختلاط أذهانهم وتشويش عقولهم وخلوها من المعاني المحدودة والأفكار البينة الجلية - نقول ويبلغ من تعاظم هذه العيوب الكتابية إن المؤلفين لا يضعون الكتب والأسفار، والمصورين لا يرسمون الصور والنقوش كعهدنا بها الآن ولكنك تجد الكتاب مطبوعاً على ورق أحمر أو أسود أو أزرق أو ذهبي، وعلى هذه ترقم ألفاظ متنافرة غير متسقة ولا متصلة وأحياناً ترقم مقاطع من الألفاظ أو أحرف أو أرقام ولكنها منطوية على رموز خفية يطلب من القارئ حلها بواسطة لون الورقة وصنف حروف الطباعة وحجمها وشكلها، والمؤلفون الذين يطلبون الشهرة والرواج يستعينون على بلوغ ذلك بتحلية الأسطر بنقوش رمزية وإشباع الصحيفة بنوع معين من الروائح العطرية يرمز به طبعاً لغرض معين ومعنى مقصود، ولكنّ هذا المذهب الكتابي يعد مستهجناً مبتذلاً عند علية القراء ومهذبيهم وذوي الفطنة والبصر بأسرار البلاغة منهم، فهؤلاء يعدون أحسن الكتب والدواوين ما ضمنت صحفها حروفاً مبعثرة مفرقة من أحرف الهجاء، وأفضل منها الكتب التي تضم أغلفتها صحفاً غفلاً خالية من كل أثر ولكنها مصبوغة بألوان مختلفة وهناك جمعيات تؤلف خاصة لشرح هذه المؤلفات وتفسيرها وحل ألغازها وفك طلاسمها، وهذه الجمعيات تتضارب آراؤها في تأويل الكتب المذكورة وتتباين مذاهبها فيحدث بينها من المشاجرات والمشاحنات ما يؤدي في معظم الأحايين إلى سفك الدم وإزهاق الأرواح الخ الخ.