مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/الاشتراكية
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/الاشتراكية
ركن المساواة
المساواة فكرة قديمة جداً ظهرت في العالم قبل ظهور الاشتراكية بقرون عديدة ومن الجائز أن تموت الاشتراكية وتبقى المساواة بعدها، وذلك لأن المساواة أمنية ومثل أعلى، أما الاشتراكية فوسيلة من ضمن الوسائل العديدة التي تتخذ لتحقيق هذه الأمنية، والأمنية حسب الترتيب الطبيعي وقواعد المنطق سابقة لوسائلها وعمرها أطول من عمر وسائلها، فإن الإنسان لا يفكر في اختيار طريق دون طريق إلا بعد أن يعرف لنفسه غرضاً ما، وقد يظهر له عوار الطريق الذي اختاره فيعدل عنه من غير أن يضطر للعدول من غرضه الأصلي.
ظهرت فكرة المساواة في العصر اليوناني الروماني وقام البليبيان وطلبوا من البريسيان أن يساووهم بأنفسهم في الحقوق السياسية والدينية وذكر أريستوفان في رواية له على لسان براسكاجو زوجة أحد قضاة أثينا أن من الواجب أن تكون الأشياء كلها ملكاً للمجتمع وأن يكون لكل إنسان نصيب فيها وأن تكون كل الأنصبة متساوية وأن يعيش الجميع كعائلة واحدة وعلى وتيرة واحدة وطعام واحد ومن يخالف ذلك يعاقب عقاباً صارماً، وهذه هي الاشتراكية بنفسها، ولكن لا يغيبن عن الأذهان أن العبيد في هذه العصور القديمة كانوا بمعزل عن الأحرار لا يقاسمونهم هذه الحياة الاشتراكية.
وبعد انقضاء هذا العصر اختفت فكرة المساواة وانطفأت جذوتها وبقيت كذلك مدة طويلة حتى أشرقت المدينة الحديثة فأرثت نارها وأشعلت لهيبها وألبستها حلة خلابة استهوت العقول وتبعها خلق كثيرون يسبحون باسمها ويستهدون بنورها.
وقد يقال لماذا ظهرت في هذين العصرين فقط ولم تظهر في العصور التي بينهما؟ وما الداعي لظهورها في جهة وعدم ظهورها في أخرى؟ وهل لهذا من سبب وما هو؟
إن مرجع الإجابة على هذه الأسئلة علم النفس والوقوف على حقيقة الهيئة الاجتماعية في هذين العصرين والعصور التي بينهما وتحليل الأخلاق والمعتقدات ومقارنتها بعضها ببعض، وهذا بحث يضيق المحال عن إيفائه حقه، وكل ما نقدر أن نقوله هو أن لتقارب الأجزاء التي يتكون منها المجتمع أو تنافرها وعدم التئامها وكيفية امتزاجها بعضها ببعض تأثيراً كبيراً في حمل النفوس على تطلب المساواة وأن طبيعة الشريعة تدعوهم إلى القناعة والرضا بما قسم لهم والاكتفاء بما لديهم وعدم التطلع إلى ما في أيدي غيرهم، وهذه أخلاق لا تساعد على انتشار المبادئ الاشتراكية بينهم، وكيف تنتشر المبادئ إذا كانت التربة غير صالحة لغذائها والنفوس غير مستعدة لقبولها.
محا التاريخ الفرنساوي الامتيازات السياسية والاجتماعية التي كانت لبعض الطبقات ومهد السبيل لقيام الطبقات المغبونة ومطالبتها لحقوقها المهضومة وفي سنة 1848 نال الفرنساويون عموماً حق الانتخاب وأصبح للعمال نواب في المجالس التشريعية يدافعون عنهم ويناضلون عن مصالحهم ويتطلبون لهم حقوقاً جديدة.
ومما زاد العمال قوة واقتداراً اكتسابهم حقوقاً لم تكن لهم من قبل بل كان القانون يحرمها ويعاقب عليها كحق الاجتماع وحق الاعتصاب، وساعدت المصانع الكبرى على تآزر العمال وتكاتفهم إذ من لوازمها اجتماع عدد كبير من العمال في بناء واحد وكانوا من قبل مبعثرين في أنحاء البلاد، والاجتماع من أهم العوامل الفعالة على نشر المبادئ خصوصاً المبادئ الخلابة.
تسلح العمال بكل هذه الأسلحة الماضية وقاموا في وجوه الملاك يناضلونهم ويحاولون التغلب عليهم وملء قلوبهم الحقد والضغينة على الملاك الذين خدعوهم في الثورة الفرنساوية وحملوهم على القيام معهم في مناهضة الإشراف والقسس، وبعد الثورة اشتغل الملاك بالقوة والمال أما العمال فقد رجعوا بخيبة الآمال، ولا يزال الملاك يخادعونهم ويسوقونهم إلى حروب لا فائدة لهم منها.
ليس للاعتصابات العديدة التي كثيراً ما تنتاب أوروبا أسباب مخصوصة خلافاً لما يظهر للعيان لأول نظرة، وإنما كلها ناشئة عن سبب واحد هو تمسك العمال بمثلهم الأعلى وتطلعهم للمساواة التامة وهم يعتقدون في أنفسهم أنهم أساس الثروة العمومية ومصدر الخير ومنبع الأرزاق وأن كل ما في العالم من متاع وزخرف صنع أيديهم، وإن ثروة الأغنياء آتية من الظلم والسرقة لأن العامل ينتج أكثر من حاجياته بكثير ولكنه لا يأخذ منه إلا القدر الضروري لحياته وما زاد عن هذا القدر يدخل في جيوب الأغنياء ظلماً وعدواناً، فاعتصاب العمال مهما اختلفت أسبابه الظاهرية حركة اقتصادية غرضها الحقيقي انزال الملاك عن عروشهم.
المساواة الاقتصادية والمساواة القانونية
هل يجوز لنا أن نستنتج أن المساواة الاقتصادية تولدت عن المساواة القانونية وأنها درجة من درجات تطورها ولولا المساواة القانونية لما وجدت المساواة الاقتصادية ولما شعر بضرورتها وعد لها إنسان؟
كلا فإن المساواة الاقتصادية مساواة تامة تشمل المساواة القانونية وزيادة فهي الأصل وغيرها الفرع، والأصل حسب ترتيب الوجود الطبيعي سابق للفرع.
إن القول بأقدمية المساواة القانونية وأسبقيتها المساواة الاقتصادية خطأ محض، وسبب هذا الخطأ الخلط بين أمرين مختلفين واعتبارهما كشيء واحد وهما الرغبة في المساواة وحركة المساواة، فالرغبة في المساواة الاقتصادية سابقة للرغبة في المساواة القانونية لأنها هي الأصل كما سبق بيانه، أما حركة المساواة فبخلاف ذلك أي أنها ابتدأت أولاً بالدعوى إلى المساواة القانونية فلما أدركها العالم اتخذها وسيلة للوصول إلى المساواة الاقتصادية، والسبب في البدء بالمساواة القانونية سهولة فهمها وقرب نوالها فإنه يكفي للوصول إليها بضعة أسطر أو كلمات من قلم الشارع أما المساواة الاقتصادية فغامضة المعنى حتى لدى المتشيعين لها تحفها الأوهام والخرافات وليس لها حدود معروفة.
الركن الأولى للاشتراكية
ليست الاشتراكية بالمذهب الوحيد الداعي إلى المساواة بل هناك مذاهب أخرى تنشدها وتسعى إليها، وهذه المذاهب ليست من الاشتراكية في شيء بل تخالفها وتحاول القضاء عليها، وإذن فمن الخطأ البين الاكتفاء بركن المساواة في تعريف الاشتراكية بل يجب أن نضيف إليه ركناً آخر وهو الركن الأولى أو الحامل النفساني على طلب المساواة، وأعني بالحامل العواطف التي تخالج النفس وتستفزها للعمل.
إن للعواطف النفسانية تأثيراً كبيراً على المرء في سلوكه واختياره الطريق الذي يوصله إلى غرضه، وسترى فيما يلي أن العواطف التي تأتمر بها الاشتراكية تخالف العواطف الخاضعة لها المذاهب الأخرى التي تتبارى مع الاشتراكية في طلب المساواة وإن لهذا الخلاف أثراً ظاهراً في أعمال القائمين بنشر هذه المذاهب واتخاذ القوة أو اللين وسيلة لتحقيق آمالهم.
تنشد المساواة لسبب من اثنين الأول رقة القلب وشرف العواطف والتأذي من رؤية الفاقة والفقر، والسبب الثاني عدم الرضا عن الأغنياء لأثرتهم الشديدة، والسبب الأول هو الحامل على تأسيس المذاهب التي تخالف الاشتراكية وهذه المذاهب وديعة ساكنة لا تنقم على أحد ولا تبغض الأغنياء لأنها لا تري في غناهم ظلماً للفقراء أو سبباً للشقاء وإذن فلا تسعى إلى قلب النظام الحالي بل تحافظ على كيانه وترد عنه كيد أعدائه لأنه كفيل حسب رأيها بإسعاد الإنسانية والصعود بها إلى أوج الرفعة والرفاهية.
أما الحامل الثاني فخاص بالاشتراكية لأن الاشتراكيين لا يطلبون فقط الرحمة وإنما يطلبون النصفة والعدل ويعتبرون الأغنياء قوماً أنانيين.
لم يثروا إلا بإجهاد الفقير واستنفاد قواه، وهم قد استأثروا بالأموال من غير عمل وبدون حق ولا يبذلونها إلا في المفاسد وزيادة الأرباح، ولن تهدأ الإنسانية وتذوق طعم الراحة، ما دام في الأرض فقر مدقع ولا يخيم السلام على العالم إلا إذا حاسبنا الأغنياء لا بالذبح والقتل بل بإلغاء الملكية الفردية التي هي بيت الداء ومظلمة الفقراء.
ومن هنا يرى القارئ أن الركن المادي للاشتراكية وهو إلغاء الملكية الفردية نتيجة لازمة للركن النفساني وإن الاشتراكية ليست بالمساواة فقط بل تزيد عليها بحبها للعدل، ولو كانت الاشتراكية قاصرة على فكرة المساواة لكان من العبث واللغو تسميتها كذلك ولوجب الاكتفاء بلفظة المساواة وتسمية الاشتراكيين بالمتساوين أو طلاب المساواة، على أنها مع ذلك أقرب إلى الحلم اللذيذ منها إلى الحقيقة الممكنة.
إلغاء الملكية الفردية
إن للوصول إلى المساواة في نظر الاشتراكيين طرقاً عديدة وسبلاً شتى منها توزيع الأملاك والأموال على جميع الأفراد بالتساوي وفرض ضرائب ثقيلة على الأغنياء بحيث تكون مانعة إياهم من التغالي في الغنى وتأخذ منهم ما تكدس في خزائنهم من الأموال لتعطيه الفقراء، ومنها هدم الملكية الفردية وتأسيس الملكية الاجتماعية على أنقاضها، وهذا المثل الأخير دون سواه بغية الاشتراكية الصميمة وأمنيتها الوحيدة، وما عداه فمن المذاهب الأخرى.
تحاول الاشتراكية أن تلغي الملكية الفردية بمعنى أنها تحرم على الأفراد امتلاك الأشياء التي من شأنها الإنتاج كالأراضي الزراعية والمعدنية ومحلات الصناعة والتجارة أما الأشياء التي تقتنى للاستهلاك كالطعام والثياب فيجوز للأفراد أن يملكوها لا على سبيل الاحتكار بل للانتفاع بها.
إقامة الملكية الاجتماعية
ولكن لا تكتفي الاشتراكية بهدم الملكية الفردية بل تسعى إلى تأسيس ملكية اجتماعية تكون شاملة لجميع موارد الرزق وخاضعة في الإدارة والاستثمار إلى رأي الجماعة.
إن الاشتراكية إدارة مترامية الأطراف يشترك فيها جميع الأفراد كموظفين يتقاضون على عملهم أجراً وتشمل جميع مرافق الحياة لا تترك كبيرة ولا صغيرة إلا وتضع لها نظاماً.
وليس من شأنها الهدم والتخريب والقضاء على كل نظام وإماتة كل قانون، وإنما هذا من شأن الفوضوية التي تبغض النظام وتسعى في استئصال شأفة الحكومات مهما كان شكلها السياسي والاقتصادي.
إن الاشتراكية والفوضوية على طرفي نقيض، هذه تسعى إلى تخريب النظام الحالي وتحول دون إقامة أي نظام آخر، وتلك تحترم جميع القوانين ما عدا الخاص منها بحماية الملكية الفردية وتسعى في تأسيس نظام جديد يكفل للأفراد السعادة والرخاء وتكون الحكومة هي المالكة الوحيدة لمنابع الرزق لتديرها لخير الأفراد بطريقة عادلة تكفل لهم أقل ما يكون من التعب وأكثر ما يكون من الراحة.
الاشتراكية والحكم الجمهوري
ليس من مستلزمات الاشتراكية الحكم الجمهوري بل من الجائز أن تعيش وتزهى في أحضان الملوكية فإن همها الوحيد الحصول على المساواة الاقتصادية فلا يهمها بعد النظام السياسي إلا إذا عارضها في أغراضها وانضم إلى أعدائها، ففي هذه الحالة تثل عرشه وتقوض أركانه.
قال - كانت - الاشتراكي الشهير رب ملوكية خير من جمهورية.
ولكن ليس هذا بالرأي السائد بين الاشتراكيين الحديثين فإن أغلبيتهم من أنصار الجمهورية وأعداء الحكم الملوكي فإنهم في الحوادث الأخيرة ثلوا عروش ملوك عديدين ونادوا بالحكم الجمهوري من قبل أن يبدأوا بتنفيذ برنامجهم الاقتصادي.
عبده البرقوقي