انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/النقد والتقريظ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/النقد والتقريظ

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 12 - 1911



تاريخ آداب العرب

أطرفنا صديقنا نابغة الفنين من البيان والأدب، وذو الرئاستين على النظم والنثر من لغة العرب أبو السامي مصطفى صادق الرافعي بنسخة من المجلد الأول من هذا التاريخ النفيس الذي طال تشوق الأدباء إليه وارتقابهم مطلعه منذ سنيات حتى جعلوا ينتقمون من إبطاء الأمل بتعجيل اليأس فيرون أن الكتاب لا يصدر ثم يذكرون عزيمة صاحبه وكفايته فيعودون إلى التأميل ويعتصمون بالصبر الجميل ويتركون الثمرة لغصنها إذ كان لا بد له في إنضاجها من وقت موقوت.

واليوم قد صدر المجلد الأول في قريب من 450 صفحة من الغرار الكامل وهو يحتوي الكلام في تأريخ اللغة وتأريخ روايتها وما يداخل هذين البابين. وقد بقي من التاريخ عشرة أبواب تقع في أربعة أجزاء من غرار هذا الجزء وحجمه - هكذا كتب الرافعي على غلاف الجزء الأول وإن حقاً على (البيان) - وهو الذي أرصدناه للآداب العربية - أن يفيض في القول على هذا الكتاب بما يوفيه بعض حقه فأنا أعلم الناس بما عاناه صاحبه من اقتحام هذه الخطة المنكرة المتوعرة ومطاولة التعب فيها حتى يضارع تقدير الذين أملوه من الأدباء وثقة الذين استكفوه من الفضلاء.

لما فتحت الجامعة المصرية أسقطت الآداب العربية من دروسها دون آداب اللغات الأخرى ومرت على ذلك زمناً حتى اشتهرها الرافعي وتبهها إلى هذا الواجب الذي ينبغي أن تجعل ما سواه نافلة بالنسبة إليه فنشرت الجامعة على الأدباء اقتراحاً تسألهم فيه أن يضعوا لها كتاباً وافياً في تاريخ آداب اللغة العربية على أن تكون مدة التأليف سبعة أشهر فقرأنا يومئذ في الجريدة الغراء مقالة للرافعي ليس أبلغ منها في باب التهكم والتقريع أوليس هذا الاقتراح نفسه مادة نادرة من مواد الهزل الذين يراد به الجد والا فأي أديب أو شبه أديب يطمع أن يؤلف ذلك الكتاب الوافي في سبعة أشهر وهو لو وجده في مكتبة الجامعة. .! مثلاً وأراد أن ينسخه ويدعيه لما كفته هذه الأشهر التي هي بطبيعتها مدة الحمل الناقص.

فتداول مجلس ادارة الجامعة الأمر لأطال مدة التأليف إلى سنتين وقد خلت وإن الثالثة لتوشك أن تنقضي ومع هذا لم يقدم للجامعة كتاب ولا شبه كتاب. وكانت تعلم حق العلم أ الرافعي يعمل في هذا التاريخ فلا ندري كيف تفهم اليوم هذا المعنى البليغ الصامت وهو طي الكتاب دونها ونشره للناس.

ونحن فقد قرأنا كتباً مختلفة سماها أصحابها تاريخ أدبيات اللغة العربية فلم نر إلا مايصح أن يسمى دروساً ابتدائية. أما للعلم الذي لايكون إلا بعد النظر والنظر الذي لا يكون إلا بعد البحث والبحث الذي لا يكون إلا مع الروية وبسطة الذرع فلم نر منه وفي الحقيقة أن الذي يطمح لأن يضع كتاباً في تاريخ الآداب العربية إنما يضطلع بعمل كان ينبغي أن يتوزعه كثير من العلماء والرواة المتقدمين في عصور مختلفة ولكنهم أهملوه فلم يبق إلا أن يقوم وحده مقامهم جميعاً وفي هذا من العنت والبلاء مالا يمكن لقلم أن يصوره ويصفه بأبلغ مما جاء به الرافعي في مقدمة كتابه المنشورة في غير هذا الموضع وإن العثور على مواد هذا التاريخ لايسر التعب فيه وإن كنت لاتجدها إلا متبددة ولا تجد المتبدد منها إلا ناقصاً ولا تجد الناقص إلا بعيداً كل البعد عن صورة التاريخ فأهون العمل في التأليف أن تقرأ عشرات المجلدات صابراً محتسباً فإن عثرت علي أشياء وأردت أن تستنبط منها التاريخ وتربط أجزاءه وتتم نقصه بالاستنتاج والتنظير فهناك العقبة الكؤد التي لا يصعد فيها إلا النسر. وعلى هذا ترى أنه لايمكن أن يجيء التاريخ من مؤرخ أو لغوي أو شاعر أو كاتب أو خطيب بل من مجموع هذه كلها حتى تكون شخصية المؤلف واضحة في كل باب فيكتب في التاريخ مؤرخاً وفي اللغة لغوياً وفي الشعر شاعراً وفي النثر كاتباً وفي الخطابة خطيباً ثم لا يفوته أن يكون جريئاً في الحق نقاباً عليه فإن التقديس الكاذب الذي أضعف جرأة العلماء المتقدمين من أهل الأدب هو الذي ضيع مواد هذا التاريخ وطمس على كثير من أصوله كما ترى شرح ذلك في مواضع متعددة من الكتاب الذي بين أيدينا. ولسنا نعلم أحداً في أدباء العصر يتقدم في تلك الأبواب كلها غير صاحب هذا الكتاب.

لذلك ترى النقص ظاهراً كل الظهور في كل الكتب التي وضعها فضلاء المستشرقين كما تراه في هذه الكتب والدروس التي ابتلى بها طلبة المدارس في مصر أعلاها وأدناها من كل كتاب مكتئب وأسلوب مسلوب وتحقيق غير حقيق.

هذا في رأينا أكبر أسباب النقص أما أصل الخطأ الذي وقع فيه كل المؤلفين في تاريخ الآداب العربية فقد وصفه الرافعي في كلمته التي عقب بها على المقدمة وهو يرى أن ذلك إنما يجيء من تقسيم التاريخ إلى عصور متباينة اتباعاً ومساوقة لكتاب الأوربيين في وضع آدابهم مع أن بين الصنفين فروقاً طبيعية واضحة. قال الرافعي بعد أن بسط هذا المعنى بسطاً شافياً: إذا تدبرت هذا وأنعمت على تأمله علمت السبب في حشو مانراه من كتب الأدبيات التي ترتب على العصور بالطم والرم من تاريخ العلوم الدينية والدنيوية وبالتراجم الكثيرة التي تخرج بشطر الكتاب إلى أن يكون سجل وفيات ثم بتعداد الكتب والمؤلفات التي تلحق شطره الآخر بكتب الفهرست. ومؤلفوا هذه الكتب لا يدرون أنهم مرغمون على ذلك بحكم هذه الطريقة العقيمة التي تتبنى ولا تلد إذ ليس في تفتيش هذه القبور عن بقايا الحياة إلا العظام ومن يرجع إلى ورائه لا يقطع شيئاً إلا الأمام.

ثم هم يجهلون أن لتاريخ كل أمة تباين غيرها مباينة طبيعية مزاجاً معنوياً تتعلق به حوادثها كما تتعلق أخلاق الفرد بنوع مزاجه الفطري ومن أين يكون للعصبي في أبواب التحمل والأناة والسعة والخفض ما يكون لذي المزاج الليمفاوي مثلاً. فأيما أمرؤ أجرى على الاثنين حكماً واحداً ظلمهما كليهما وكذلك الأمر في أمزجة التاريخ.

وأنت خبير بأن الرجال في تاريخ الآداب الأوروبية هم قطعه التي يتألف منها لأنهم متصرفون في اللغة كأنها إنما توضع لعهدهم أوضاعاً جديدة فكل رجل منهم في طريقته ومذهبه فن علم أو هو على الحقيقة قطعة متميزة في تركيب التاريخ العقلي. ولكن الرجال عندنا في قياسهم بأولئك ينزلون منزلة التشبيهات من المعاني الأصلية إلا ماندر ولا حكم للنادر وذلك لأن في لغتنا معنى دينياً هو سرها وحقيقتها فلا نجد من رجل روى أو صنف أو أملي في فن من فنون الآداب أول عهدهم بذلك إلا خدمة للقرآن الكريم ثم استقلت الفنون بعد ذلك وبقى أثر هذا المعنى في فواتح الكتب والقرآن نفسه حادثة أدبية من المعجزات الحقيقية التي لا شبهة فيها وإن لم يفهم سر ذلك من لا يفهمونه أفيصلح بعد هذا أن يكون تاريخ الأدب العربي مبنياً على غير حوادثه التي كونته وتعلق بأكثرها رجاله دون أن تتعلق بهم كما هو الشأن في سواه انتهى كلام الرافعي.

وهذه هي الحقيقة بعينها فإن تطور التاريخ الأدبي لا يكون من تطور الدول واختلافها كما يقال الدولة الأموية والعباسية مثلاً وإنما يكون من تطور الشعوب والجماعات في أخلاقها وعاداتها وهو انقلاب لا يكون من تأثير الدولة وحدها ولكن من تأثير العلماء والأدباء وهؤلاء لا يتعلقون بالعصور السياسية إلا من أضعف الجهات الأدبية كما هو واضح في التاريخ العربي على الخصوص.

قال الرافعي ولذلك رأينا الطريقة المثلى أن نذهب في تأليفنا مذهب الضم لا التفريق وأن نجعل الكتاب على الأبحاث التي هي معاني الحوادث لا على العصور فنخصص الآداب بالتاريخ لا التاريخ بالآداب كما يفعلونه وبذلك يأخذ كل بحث من مبتدئه إلى منتهاه متقلباً على كل عصوره سواء اتسقت أم افترقت فلا تسقط مادة من موضعها ولا تقتسر على غير حقيقتها ولا تلجأ إلى غير مكانها ثم لا يكون بعد ذلك في التاريخ إلا التاريخ نفسه لا ما يزين به من العبارة المونقة ولا ماتوصل به الحقائق القليلة من تصورات الخيال وشعر التأليف إلى أمثال ذلك من مواضع الاستكراه وضيق المضطرب وأمثلته فيما بين أيدينا ماثلة لا تحتاج إلى انتزاع وهي على نفسها شاهدة فلم يبق في أمرها نزاع.

وقد جعل أبواب كتابه اثني عشر باباً ضمن الجزء الأول منها بابين اثنين وهما باب اللغة وباب الرواية والرواة وقدم بين يدي ذلك فصلين في تاريخ كلمة الأدب وفي أصل العرب.

وأكثر ما تراه من الفصول في باب اللغة مبتكر لم يسبق إليه وخصوصاً آراءه الاجتماعية التي طبق عليها تاريخ اللغة اما باب الرواية فهو بجملته ابتكار محض لم يسبقه إليه متقدم ولا متأخر.

ولا نعلم أحداً اجترأ عليه مع أن التاريخ لا يتحقق إلا به لمجيء كل الآداب العربية من طريق الرواية وقد وضع هذا الباب في نحن 160 صفحة تحتوي على فرائد اثيرة وفوائد كثيرة مما يعز العثور عليه ويندر التوفق إليه.

وبالجملة فأنت تقرأ هذا الجزء من أوله إلى آخره فتستمرئ أسلوبه الفصيح البارع الذي يكفي في وصفه أن يقال أنه من قلم الرافعي وتستغزر مواده النادرة غير أنك لا ترى في وضع مثله صعوبة إذ تجد نهج التاريخ. واضحاً ونسقه مطرداً واذ لا تجد حشوا ولا تكلفا ولا تعسفا ولا اضطرابا ولا نحو ذلك مما يدل على الحيرة وتقطع المادة ونضوب البيان وهي أخص عيوب الكتب التي وضعت في تاريخ الآداب ولكنك لو تماديت في ظنك وأردت أن تتحقق سهولة العمل من صعوبة وحملت نفسك على معارضة فصل واحد مما في الكتاب لأنفقت زمناً طويلاً ثم لا ترى إلا أنك أصبحت تقلب كفيك على ما أنفقت لأنك تجد الفصل الواحد في حكم الكتاب كله لا يتأتى لك إلا بعد الاستقراء والتتبع وتصفح الأسفار الكثيرة وإنضاء الخاطر والإنفاق من سواد القلب قبل الإنفاق من سواد المداد وليس ذلك فقط بل لا بد من اشتمالك على روح خاص يكون مفطوراً من الذكاء على قوة آلهية تتسلط على أرواح التاريخ وبعبارة أجلى بياناً لا بد من أن تكون نابغة نبوغاً غير مكيف ولا محدودا بصفات معينة بل هو في كل وقت يلبس مظهراً جديداً.

ولا ننكر أن الرافعي لم يخلق مواد كتابه ولا هي كانت خالصة له من دون الناس بل هي لا تزال مبتذلة في كل مكتبة ولكن أديب ولكن من غيره وفق لاستخراج هذه المواد وتنظيمها واستنباط التاريخ منها على هذا النهج الواضح حتى كأنه كذلك في أصل الوضع لقد ظهرت في الشرق مجلات وكتب أدبية كثيرة وتفرغ أناس من اهل الذكاء والاطلاع لخدمة الأدب وقضوا في ذلك مدة العمر الأطول فما الذي كان يصرفهم عن هذا العمل وما الذي كان يمنع مثل الأستاذ اليازجي أن يجعل هذا التاريخ من فصول مجلاته التي قام على إنشائها وأرصدها للآداب وقد أغنت في اللغة والإنشاء غناء كبيراً ولم تغن في تاريخ الأدب إلا شيئاً يسيراً؟

هذا على أن صاحب (تاريخ آداب العرب) تبه في عدة مواضع من كتابه إلى أنه يتفادى من التطويل والبسط والاتساع في الأمثلة ويضرب صفحاً عن كثير مما كان قد أعده للنشر في فصول هذا الجزء. فواها للشرق وأهله يضطلع النابغة بالعمل الشاق ويفترع الخطة العذراء وينزع كل منزع في طلب الكمال ثم لا يرى من يشد أزره أو يعينه في اظها عمله وتتركه الأمة فرداً يكتب ويطبع وينشر فيضطر إلى الاقتصار على مالا بد منه وينقص برغم نقص القادرين على التمام كأن الأديب ليس لقباً تاريخياً لأمة عليها أن تزيد في حاضرة ليزيد في مستقبلها لأنه قطعة من هذا المستقبل فهي إن شاءت جعلتها قطعة رثة بالية تظهر مظهر الرقعة في اسمال المحتاج وإن شاءت جعلتها قشيبة سابغة تنزل منها منزلة الطراز على الديباج.

ينبغي أن نتحول كما تحولت الأمم وأن نجانس هذه الأمم الراقية فنكون معها على السواء لا أن نطابقها فنكون معها على النقيض وهيهات أن يكون ذلك إلا إذا عمل أدباؤنا وجاءت أعمالهم ناضجة لا فجة تورث الحمى الاجتماعية. .! وإنى لهم ذلك وقد فقدوا المعاونة من سراة الأمة وحكومتها معاً على أن لنا ناشئة من الأمل الوثيق في هذا النشء الكريم الذي نهضت به الأمة هذه النهضة العالية ولعمري لو أقبل أفراد هذا النشء على كتاب الرافعي وأنفوا لجنسيتهم العربية فعاونوه بالإقبال على إظهار ما بقي من أجزائه لكان لنا بفضلهم موسوعات تامة نباهي بها آداب الأمم ولكان تمام هذا التاريخ تاريخاً جديداً على أنهم حياة هذه النهضة المباركة ولعلهم فاعلون إن شاء الله.

عتاب واستصراخ

للشاعر العصري الكبير خليل مطران

صدقت في عتبكم أو يصدق الشمم ... لا المجد دعوى ولا آياته كلم

يا أمتي حسبنا بالله سخرية ... منا ومما تقاضى أهلها الذمم

هل مثل ما نبتاكى عندنا حزن ... وهل كما نتشاكى عندنا ألم

إن كان من نجدة فينا تفجعنا ... فليكفنا ذلنا وليشفنا السقم

تمتعوا وتملوا ما يطيب لكم ... ولا ترعكم محاظير ولا حرم

أو اعلموا مرة في الدهر صالحة ... علما تؤيده الأفعال والهمم

بأي جهل غادونا أمة هملا ... وأي عقل تولت رعينا الأمم

لا تنكروا عذلي هذا فمعذرتي ... جرح بقلبي دام ليس يلتئم

نحن الذين أبحنا الراصدين لنا ... حمي به كانت العقبان تعتصم

هي الحقيقة عن نصح صدعت بها ... وما النصيحة إلا البر والرحم

لم أبغ من ذكرها ان تيأسوا جزعاً ... خير من اليأس أن يستقدم العدم

اليأس منهكة للقوم موبقة ... في حمأة تتلاشى عندها الشيم

ما مطلب الفخر من أيد منعمة ... رطيبة ونفوس ليس تحتدم

يأس الجماعات داء إن تملكها ... فهو التحلل يتلوه الردي العمم

كالشمس يأكل منها ظل سفعتها ... حتى يبيد شعاع الشمس والضرم

لا تقنطوا كره الله الالى قنطوا ... اليوم يعتزم الأبرار فاعتزموا

اليوم تنفس بالأوطان قيمتها ... عن كل شيء وتدنو دونها القيم

اليوم إن تبخلوا أعماركم سفه ... والجاه فقر ومقصوراتكم رجم إني لأسمع من حزب الحياة بكم ... نصراً لأمتنا سحقاً لمن ظلموا

نعم لتنصر على الباغين أمتنا ... لا بالدعاء ولكن نصرها بكم

لتبق يقظى على الأدهار نابهة ... لا إلا من يهفو بها سكرى ولا النعم

لتحي وليمت الموت المحيط بها ... من حيث يدفعه أعداؤنا الغشم

إن نبغ إعلاءها لاشيء يخفضها ... فهل تموت وفيها هذه النسم

لسنا من الجبناء الحاسبين إذا ... نجوا نجاة العبدي إنهم سلموا

الشعب يحي بأن يفدى ومطعمه ... مال البنين مزكى والشراب دم

مهما منحناه من جاه ومن مهج ... فبيعة البخس بالغالي ولا جرم

عودوا إلى سير التاريخ لا تجدوا ... شعبا قضى غير من ضلوا الهدى وعموا

أولئكم إنما بادوا بغرتهم ... وإنهم آثروا اللذات وانقسموا

لا شعب يقوى على شعب فيهلكه ... فإن تر القوم صرعى فالجناة هم

يا أمتي هبة للمجد صادقة ... فالنصر منكم قريب والمنى أمم

عاذت بآبائها الماضين دولتنا ... من أن يلم بها في عهدنا يتم

فاحموا حماها ولا تهتك ستائرها ... عن منجبات العلى يستحيها العقم

واحر قلباه من حرب شهدت بها ... سطو الثعالب لما أقفر الأجم

هانت علينا وإن جلت مصيبتها ... لو أن خطاب ذاك الفخر غيرهم

أي طيف عثمان لم يبرح بهيبته ... حياً على أنه بالذكر مرتسم

أني تخطي حدوداً أنت حارسها ... جفلى الطلايين لم يخشوا ولم يجموا

أني وقد علموا من جارهم قدما ... ومن بنيه غزاة الروم ما علموا

لورعت يا طيف من غيب مسامعهم ... بزأرة حين جد الجد لانهزموا

أو كنت تملك وثباً من نوى لرأوا ... من ذلك الليث ما لا تحمد النعم

ظنوا بملكك من طول المدى هرما ... سيعرفون فتي لا يعرف الهزم

يحميه عزم إذا اغتروا بهدنته ... فما به وهن لكن بهم وهم

خذوا حقيقة ما شبهتموه لكم ... مما تخبره القيعان والقمم

هل في جزائركم أم في مدائنكم ... مالم تطأه له من سالف قدم أبناء عثمان حفاظ وقد عهدوا ... تاريخ عثمان فيه الفتح والعظم

هم الحماة لاعلاق الجدد فلن ... يرضوا بأن ينثر العقد الذي نظموا

خلتم طرابلس الغنم المباح لكم ... وشر ما قتل الخداع ماغنموا

هناك يلقي سراياكم وإن ثقلت ... احلاس حرب خفاف في الوغاي هضم

يغشون بكر الروابي وهي ناهدة ... فتكتسيهم على عرى وتحتشم

وربما طرقوا الطود الوقور ضحى ... فهو الخليع يصابيهم ويغتلم

ورب واد تواروا فيه ليلتهم ... فحاطهم بجناحيه وقد جثموا

عطف العقاب على أفراخه فإذا ... تواثبوا قلقت من روعها الأكم

أتنظرون بني الطليان معجزهم ... وتذكرون الذي أنساكم القدم

هل في الجيوش كما فيهم مباسطة ... مع المكاره أما لزت الأزم

جند من الجن مهما أجهدوا نشطوا ... كأنما الضيم بالأعداء دونهم

مهما تشنعت الحرب الضروس لهم ... أعارها ملمحاً للحسن حسنهم

متى صلوها وفي الجنات موعدهم ... فالهول عرس ومن زيناته الخذم

والأرض راقصة والريح عازفة ... والجد يمزح والأخطار تبتسم

مغلبين ولا دعوى ولا صلف ... معذبين ولا شكوى ولا سأم

وقد يكونون في بؤس وفي عطش ... فما يقي الغرماء الري والبشم

الجوع قبح من كفر وإن ولدت ... منه أعاجيبها الغارات والقحم

هو القوي الذي لا يظفرون به ... وهو الخفي الذي يفنى ويهتضم

لا تتركوه يراديهم وقد قعدت ... بلا قتال تلاشي بأسها البهم

يارب عفوك حتى الماء يعوزهم ... فمر تجدهم بنقع الغلة الديم

لا خطب أبشع من خطب الأوار وقد ... باتت حشاشاتهم كالنار تضطرم

لكن أراهم وفي أروحهم علل ... مما تواعدها الثارات والنقم

كونوا ملائك لا جوع ولا ظمأ ... وليغلبن نظام الخلق صبركم

ألستم الغالبين الدهر تدهمكم ... منه الصروف فتعي ثم تنصرم

أليس منكم أوان الكركل فتى ... يصول ماشاء في الدنيا ويحتكم صعب المراس على الآفات يتعبها ... جلد تحاذفه الأنوار والظلم

وكل ذي مرة يمضي برايته ... إلى الجهاد كما اعتادت ويغتنم

يقول للعلم الخفاق في يده ... فيئ من الأرض ما تختار يا علم

وكل آب بقاء أن أباه له ... عز لدولته أو مطمع سنم

يهوى وفي قلبه رؤيا تصاحبه ... من آية الفتح حيث العمر يختتم

الموت مالم يكن عقبي مجاهدة ... نوم تبالد حتى ما به حلم

بعض الثرى فيه آمال يحس لها ... ركز ونبض وفي بعض البرى رمم

أولئكم منصفونا يوم كربتنا ... من الأولى غاصبونا الحق واختصموا

أرعد حديدا أبرق في كتائبنا ... أغلظ ورق كما يبغيك بطشهم

ابصق دخاناً بوجه المعتدي ولظى ... إذا التفت تحاذيه وفيك فم

أو التمع في نصال لا عداد لها ... خطافة تتغنى وهي تقتسم

فحيثما اعوزتنا منك ذات لهى ... تسيل منها الحتوف الحمر والحمم

فليخطب السيف فصلاً في مفارقهم ... يدن لذاك البيان القاطع العجم

أولاً فكن هنة في كف مقتحم ... منا ويصلم أذن المدفع الجلم

ليبرز العلم من تلك الصفوف لنا ... علام يمكث فيها وهو ملتثم

إنا عرفناك أنت اليوم قائدهم ... وكل آياتك الكبرى لهم خدم

هل جئت تبترنا أم جئت تزجرنا ... من حيث توقظنا الأوجاع والغمم

تالله لو طار فوق النسر طائرهم ... وذللت لهم الأبحار فلكهم

وسخرت كل آيات الفناء لهم ... حتى الجوارف والأرياح والرجم

لن يملكوا نفس حر في طرابلس ... ولن يضيعو اسوي الأشلاء إن حكموا

ولن يكون لهم من كسب غزوتهم ... إلا الشقاء وعار خالد يصم

قل لامرئ لم ترقه مصر دائلة ... عدلاً لدولتها منهم بما اجترموا

أتحرم الرفد جيراناً يضورهم ... جوع وتنكر قتلى الحرب إن رحموا

أم تدعي أن مصراً أن تبر بهم ... تشبب بها فتن جوفاء تلتهم

إذا أبو الهول أبدى مصر مرعبة ... فما يخبر عن طاعاتها الهرم كيد يروع لولا أن كائده ... أوطانه الأوهام والسدم

بزعمه يقتل الأيام فلسفة ... وربما قتلته هذه الحكم

الحمد لله لا تفني كتائبنا ... بقول قال ولا الأسطول ينحطم

يا أيها الوطن الداعي لنجدته ... لبتك مصر ولبى القدس والحرم

ما كان خطب ليدهانا ويبكينا ... كما دهانا وأبكى خطبك العرم

لقد شعرنا بما نالت جهالتنا ... منا وبالغ في تأديبنا الندم

أشر بما شئت تكفيراً لزلتنا ... يشفع لنا عندك الإخلاص والكرم

أموالنا لك وقف والنفوس فدى ... وعش ولا عاش في نعماك متهم

النقد

للكاتب النقادة الشيخ طه حسين

حقيقته. أثره في الأمم. شروطه ومضار الغلو فيه

ميز الخبيث من الطيب والغث من السمين واستخلاص الحق من الباطل والصواب من الخطأ وفك العقول من أسار التقليد وعقال الجمود وإعانة الطبيعة على إحياء النافع وتخليد المفيد كل هذا هو النقد الذي نرغب فيه وندعو إليه ونود لو اشتدت عناية الناس به وكثر اقبالهم عليه لأنه أقوم سبيل إلى نمو العقل المصري وبلوغه أقصى منزلة تسمو إليها الأمم الناهضة من الرقي الصحيح.

ذلك بأن أرقى ما يفزع إليه المصلحون في التربية العقلية للأفراد والجماعات أن يمدوا ظل العقل ويبسطوا سلطانه على جميع الأعمال والآمال وكافة النزاعات والحركات النفسية والجسمية التي تصدر عنا في كثير من الأحيان من غير أن يكون للعقل شعور بها أو سلطان عليها.

فالعقل الإنساني الآن سراج قاصر الضوء لا تكاد تهتدي به النفس إلا إلى قليل من حقائق هذا العالم على كثرتها وتشعب أطرافها وتعدد مناحيها.

وإذا تلمسنا مصدر هذا القصور لم يعد بنا البحث شيئاً واحداً هو ذلك السحاب المركوم الذي اشتركت العادة والقوة والرواثة في إقامته حجاباً كثيفاً يحول بين هذا السراج وبين كثير من الحقائق المختلفة في الدين والسياسة والاجتماع.

وقد كان هذا السحاب علة حقيقية لجمود العقل ووقوفه عن الحركة أو قلة نصيبه منها حتى لزمه كثير من الضعف والفتور.

والغرض الحقيقي الذي يسمو إليه المصلحون من علماء التربية هو علاج العقل والطب له حتى يبرأ من هذا الضعف ويسلم من هذا الفتور ويصبح قادراً على أن يتناول جميع الحقائق أو أكثرها بالبحث والتمحيص ويستخرج منها وجه الصواب

وهذا ما يسميه العلماء بقوة الحكم وشدة الملاحظة وما نسميه نحن الآن بالنقد الصحيح.

فطهر من هذا شيآن أحدهما أن النقد ليس مقصوراً على أنواع القول وفنون الكلام من نظيم ونثير بل هو عام يستطيع أن يتناول كل شيء من صنائع وأعمال وعلوم ونحو ذلك.

الثاني إن سبيل النقد مظلمة مشتبهة الاعلام لا تسلك إلا بعد كثير من اقتحام العقبات وتجشم الأهوال وبعبارة واضحة لا يمكن أن تبلغ أمة من النقد نصيباً موفوراً صالحاً إلا إذا استطاعت أن تقهر العادة والقوة والوراثة أي إذا تغيرت حالتها الفكرية تغيراً ظاهراً واضح الأثر.

فنحن إذا لا نستطيع أن نبلغ من النقد ما نريد إلا إذا أمن أحدنا من أن يشاع عنه الكفر والالحاد إذا بحث بحثاً عقلياً صحيحاً عن قضية من قضايا الفلسفة والدين وإذا لم يخف أن يرمي بالخيانة والمروق إذا نازع السواد الأعظم قضية من القضايا السياسية فلم ير رأيهم فيها ولم يمالئهم عليها وإذا لم يخش أن تبطش به القوة وينال منه البأس إذا نقد شيئاً من أعمالها وبين أنه مضر أو غير مفيد ومما لا شك فيه أننا لا نسطيع أن نبلغ هذه المنزلة إلا بعد أن نرقى فينا أساليب التربية رقياً كثيراً حتى تؤدي بنا إلى هذا الطور الصالح من أطوار الحياة فسبيلنا إلى النقد إصلاح التربية وتهذبيها وإطراح الفاسد من أساليبها حتى ينشأ الشبان أحرار العقول قابلين البحث عن كل شيء معترفين بأن الحق لا يمكن أن يكون مقصوراً على فرد من الناس دون فرد ولا محصوراً في فريق منهم دون فريق.

وإذا كان كل إصلاح لا يمكن أن تشعر الأمة بالحاجة إليه إلا إذا شعر بهذه الحاجة فذ من أفذاذها ونابغة من نوابغها وأخذ يدعوها إليه مرة بالشدة ومرة باللين.

وإذا كانت مخالفة العادة وإطراح القديم مبغوضاً من كل أمة ممقوتاً في كل جمهور كان من اليسير علينا أن نتبين السبب الحقيقي والعلة الصحيحة التي نشأ عنها بعض المصريين للنقد ومقتهم للناقدين.

إنهم يحبون الحق وشفقون به ولكنهم يعتقدون بحكم العادة والوراثة أن الحق ما هم فيه وإن غيره هو الباطل فإذا قام بينهم من يقبح عادة من عاداتهم أو يسوئ رذيلة من رزائلهم نقموا منه وزروا عليه ونهضوا لتسفيه رأيه وتهجين خطته بمقدار ما أوتوا من قوة الدفاع عما يعتقدون أنه الحق وتلك طبيعة الإنسان في كل زمان ومكن فليس للناقد إذا كان مخلصاً إلا سبيل واحدة وهي صدق العزيمة واحتمال الاذاة في نفسه وعقيدته حتى يصل إلى ما يريد.

إنهم يكرهون أن يقبل أحد منهم الدرهم والدينار من غير أن ينقد ويتبين مكانه من الجودة والرداءة ولكنهم لا يكرهون أن تتقبل نفوسهم حقائق العلم وأنواع المعقولات من غير بحث ولا تمحيص ومن غير تفريق بين غثها وسمينها وليتهم إذ كرهوا أن يجهدوا أنفسهم بالنقد تركوا غيرهم وما يريد من تمحيص الحقائق لهم وتحقيقها قبل أن تصل إلى عقولهم ولكنهم لا يستطيعون لأنهم خاضعون لذلك السلطان القوي القاهر سلطان الاحتفاظ بالعادة والحرص على القديم.

إنهم يجهلون مقدار المشابهة الشديدة بين النقد في المعنويات وعمل الطبيعة في الحسيات فلا يعلمون أن عمل الطبيعة في تحليل المادة وتركيبها وتحويلها من صورة إلى صورة أخرى ليس إلا نوعاً من النقد الحقيقي بل هو أسح أنواع الانتقاد لأن أقرب نتائجه ابقاء النافع المفيد وإفناء الفاسد المضر فالرجل لا يموت إلا إذا حقت عليه كلمة الطبيعة بعد النقد الصحيح وعرفت أنه لم يبق صالحاً للحياة وإن وجوده أصبح من أنواع العبث الذي يجب أن تبرأ منه الطبيعة ويتنزه عنه الله عز وجل وليس النقد في الأشياء العقلية والمعنوية إلا نوعاً من هذا النقد الفطري فنحن إذا عمدنا إلى قضية في الفلسفة فبينا بعدها ما نعتقد أنه الحق وأوضحنا نصيبها من مخالفة حكم العقل والحيرة عن طريق الصواب لم يكن عملنا هذا إلا إعانة للطبيعة على ماهي بإزائه من محو الضار وإبقاء النافع.

ولو أنهم علموا بذلك وأنعموا النظر فيه ما استطاعوا إلا أن يكونوا للنقد أنصار ولرجائه مؤيدين نعم إن النقد في المعنويات ليس إلا إعانة للطبيعة على عمله فكلنا نعترف أن الباطل في نفسه مفسد للعقول مقوض للعمران وإن أقدس واجب على الإنسان هو بإزهاق الباطل وإظهار الحق ولئن كان هذا ظاهراً في قواعد العلم وقضايا الفلسفة فهو في فنون القول وأنواع الكلام ظاهر أيضاً لا يحتاج إلا إلى شيء قليل من البحث والتفكير فأننا إذا عمدنا إلى قصيدة من الشعر فعرضناها على النقد الصحيح وبينا وجوه الخطأ في ألفاظها ومعانيها وفي نظمها وتنسيق الخيال فيها ثم طلبنا إلى القراء أن يتجنبوا ما أشرنا إليه من هذا الخطأ ويتلمسوا ما بيناه من الصواب لم نزد على أن بينا الحق والباطل ودعونا إلى نصر أحدهما وخذلان الآخر ولا شك في أن أقل نتيجة تنتج عن ترك هذا النوع من النقد أو التقصير فيه هي فساد الشعر واضطراب أمره وقصوره عن أن يؤدي ما خلق له من إصلاح العقول والوجدان وإحياء الحق والفضيلة وإزهاق الباطل والرذيلة.

وهذا ما نحن فيه الآن فقد نشأ من بغضنا للنقد ورغبتنا عنه ومن زهدنا فيه ومقتنا إياه انتكاث فتل الأدب العربي وانتقاض أمره فأصبح الشعراء والكتاب يسيرون في الشعر والنثر على غير هدي لا يميزون خطأ من صواب ولا يفرقون بين فاسد وصحيح فقصائدهم ورسائلهم ليست إلا خليطاً سيئاً من الألفاظ الصحيحة والفاسدة ومن المعاني التي نصيب الباطل منها أكثر من نصيب الحق. . .

وهم على كل ذلك معجبون بأنفسهم مدلون بمكانتهم والجمهور فيهم مغرور وبهم مخدوع لا يرى الكلمة إلا لهم ولا الحق إلا منهم ولا الصواب إلا فيهم أما الناقدون فهم عند الجمهور وعند هؤلاء الكتاب والشعراء أدعياء واغلون قد أكل الحسد قلوبهم وأفعمت الموجدة صدورهم وعبث حب الصيت بنفوسهم فاتخذوا من نقد النوابغ وأفذاذ الرجال سبيلاً إلى الشهرة وطريقاً إلى سمو المنزل وعلو المكان.

كلا كلا أيها الشعراء المفلقون والكتاب المجيدون والجمهور المخدوع ليس النقد كما تظنون سبيلاً من سبل الشهرة أو طريقاً من طرق الصيت وإنما هو مقياس الخطأ والصواب ومميز الحق من الباطل وهو المنظم لحركات عقولكم المصلح لنفثات أقلامكم الحافظ لمجيدكم حق الإجادة والمرغم رديئكم على اتباع الجيد وابتغاء الرقي وإن أحدكم إذا نال الشهر وبلغ الصيت بإعانة النقد له وعدم قدحه فيه ونعيه عليه كان ذلك خيراً له من أن ينال تلك الشهرة ويبلغ هذا الصيت مكتفياً بثناء الجمهور وتقريظ الجمهور أولئك الذين لا ينفع ثناؤهم ولا يضر هجاؤهم لأنهم لم يؤتوا من العلم نصيباً قليلاً ولا كثيراً. إذا فالنقد لكم صديق وليس عليكم حرباً كما تظنون فكونوا له كما هو لكم فإن بلوغكم رفعة المنزلة وسمو المكانة رهين بذلك موقوف عليه.

أثر النقد في الامم

بعد ما بيناه من حقيقة النقد ومكانه من إصلاح العقل وتنظيم حركته لسنا في حاجة شديدة إلى أن نكثر القول في بيان أثره في الأمم مما لا شك فيه أن رقي العقل وانتظام حركته هما أرقى مطلب بطلبه المصلح في أي أمة من الأمم أي ليس للأمم مطلب اسمي ولا أجل من هذا المطلب وإذا كان النقد كما بينا ليس مقصوراً على أنواع القول وفنون الكلام بل هو عام يشمل أنواع الأعمال والصناعات والعلوم كان رقي الأمة فيه من أوضح الأدلة على رقيها في هذه الأشياء فإن الصانع لا يبلغ من النقد في صناعته منزلة صالحة إلا إذا مهر فيها وأحاط بدقائقها واسرارها وكذلك الأمر في النقد الأدبي والعلمي وغيرهما من أنواع النقد ومن هنا يتبين أن من الأسباب الحقيقة لسقوط أمر النقد في مصر ضعفها المطلق في أنواع العلوم والصناعات وفي اليوم الذي ترقى مصر فيه رقياً ظاهراً فتدرك من الإجادة في كل شيء طرفاً غير قليل لا يكون لها بد من إجلال النقد وإكباره ومن تصديق الظن به وتحسين الرأي فيه.

ذلك شأن الأمم لا ترقى في شيء حتى تجعل النقد مقياس جيده ورديئه ومرآة خطئه وصوابه ومن اليسير علينا أن نتبين ذلك واضحاً جلياً في تاريخ العرب في جاهليتهم وإسلامهم وفي بداوتهم وحضارتهم فإنهم لما لم يكن لهم في العصر الجاهلي نصيب موفور من الرقي في غير فنون القول كان نصيبهم من النقد موقوفاً عليه ومحصوراً فيه فبلغ النقد الأدبي عندهم في هذا العصر أرقى ما يمكن أن يبلغه في أمة بدوية تمتاز بالفصاحة وحسن الإعراب وبزلاقة الألسنة وذرابتها وصدق البصائر وإصابتها ولك من أنباء عكاظ وأخبارها ومن أحاديثها وآثارها أصدق دليل على ذلك بل أن هناك دليلاً ليس أنصع ولا أسطع منه على مكانة أولئك الناس من النقد الأدبي فإن الله عز وجل لم يجعل القرآن الكريم معجزة نبيه وبرهانه إلا لأن أولئك الناس الذين بعث فيهم النبي كانوا من رسوخ القدم في النقد اللفظي والمعنوي في المكانة التي لا يساميهم إليها مسام ولا ينازعهم فيه شريك. .

ولو أن أولئك الناس لم يكونوا ذوي امتياز في النقد وتفوق كثير ما كان الكتاب على فصاحته ومكانته من البلاغة قيماً عندهم ولا مستجاداً لديهم وتلك قاعدة فطرية فإن الشيء ذا القيمة الغالية والمكانة العالية لا ينبه شأنه ولا ينبل أمره إلا عند من له بأمثاله علم ومعرفة.

وبعد ظهور الإسلام وارتقاء العقل العربي ارتقت منزلتهم في النقد واشتدت عنايتهم به ورغبتهم فيه وأخبارهم وآثارهم المستفيضة في ذلك تغنينا عن إقامة الحجة وتكلف البرهان وجملة القول أن النقد لا يكون راقياً عالي المنزلة في أمة ما إلا إذا كانت هي في نفسها راقية سامية المنزلة في الموضوع الذي يتناوله النقد ويقصد إليه ولنا بعد هذا كله أن نقول أن ما تبلغه الأمم من رقي في الحضارة وتفوق في العلم وفوز بالسيادة وتمتع بأنواع الحرية العقلية والسياسية والشخصية ليس إلا نتيجة لازمة لرقي النقد فيها فالنقد هو أحسن مقياس يمكن أن يقاس به صعود الأمم وهبوطها ورفعتها وانحطاطها.

شروط النقد

أما شروط النقد فقد كثر فيها قول القائلين وتعددت مذاهبهم واختلفت أهواؤهم ولاسيما في هذا البلد الذي ليس للنقد فيه إلا مكان المبغض القالي ومنزل الممقوت الذميم.

فترى الكاتب أو الشاعر إذا ألح به الناقد فبين نصيب نثره أو شعره من الخطأ والصواب ومن الصحة والفساد أبرق وأرعد وأرغى وأزبد ورمى الناقد بتهم أقلها ممالأته للهوى واستجابته للحسد واسترساله في الشتم والسب وغلوه في الادعاء والغرور ولست الآن بإزاء القول المفصل في شروط النقد ولكني أقول على سبيل الإجمال أن النقد نوع من أنواع المناظرة فكل ما يشترط في الجدل يشترط فيه إذ كلاهما لم يصطنع إلا لإظهار الحق وخذلان الباطل ولا شك في أن الشتم والسب والتقريع والتأنيب ليس شيء منها بطريق إلى الحق وإنما الحق نتيجة البحث الهاديء المعتدل الذي يبرأ من الاستجابة لعواطف الحب والبغض ونحوهما فلا يمكن أن يكون الناقد منصفاً إذا استجاب لعاطفة من هذه العواطف فمالأ خصمه وانحاز إليه أو ظلمه وألح عليه وإنما الانصاف مزاج لا يعتدل إلا بصدق النية وحسن المقصد وتحكيم العقل ورفض الهوى وعدم الاستسلام إلى العواطف والوجدان.

وإذا كان النقد في كل شيء لا يصدر إلا عن ذي العلم بذلك الشيء والتفوق فيه كان نقد الجاهل نوعاً من لغو القول وسخف الحديث وكان من الشروط الضرورية في النقد العلم بالموضوع الذي يبحث الناقد عنه ويتكلم فيه.

قالو ومن ضروريات النقد أن يعترف الناقد بحسنات خصمه قبل أن يذكر سيئاته ليكون ذلك ادعى إلى تصديق الظن به وتحسين الرأي فيه وعدم أتهامه بالميل أو الحسد أو الاستجابة للأهواء ولست أرى هذا الرأي ولا أميل إليه لأني أعتقد أن النفس التي لا تميل إلى الحق إلا إذا توسل إليها بأنواع من الملق والتزلف وفنون من المدح والاطراء خليقة أن لا يحفل بها الناقد ولا يلتفت إليها لأنها إنما ترغب في الحمد والثناء لا في الحق والصواب قالوا وإذا كان الكتاب مؤلفاً في الفلسفة الإلهية مثلاً فمن الجهل نقد أغلاطه اللغوية ولست أدري من أين لهم هذا الرأي فإن للعالم بالفلسفة أن ينقد الكتاب في موضوعه وللعالم بالألفاظ أن ينقد الكتاب في ألفاظه ولم يقل أحد أننا إنما نريد الرقي في موضوع دون موضوع وإنما نريد أن نرقي في ألفاظه ولم يقل أحد أننا إنما نريد الرقي في موضوع دون موضوع وإنما نريد أن نرقي في ألفاظنا كما نريد أن نرقي في أفكارنا ولو أننا شايعناهم في هذا الرأي ومالأناهم عليه لانعقدت ألسنتنا وتحطمت أقلامنا وغلت أيدينا بإزاء ذلك الكاتب الذي يؤلف كتابه في الطب والمنطق بلغة العامة ودهماء الناس.

قالوا ولا يحسن بالناقد إلا أن يكون معتدل اللهجة بريئاً من الغلو في التشهير بخصمه والقدح فيه وهذا حق لاينكره إلا مكابر أو عنيد ولكن مالهم يكرهون قول الحق والاعتراف به ويعدونه نوعاً من الشتم وقاسي الكلام فلو أني قرأت فصلاً من كتاب فضحكت من سخفه أو خجلت من جهل صاحبه وقلت في نقده أنه مخجل أو مضحك لم أكن عنده إلا سبابة سفيهاً مع أني لم أقل إلا الحق ولم أمل إلا إليه

ومبلغ القول أن شروط النقد كلها تنحصر في شيء واحد وهو الاعتدال وعدم الميل إلى الهوى والغلو في الثناء أو الهجاء.

هذه كلمتنا المجملة على النقد في نفسه ومما لا شك فيه أن النقد ينقسم بانقسام موضوعاته أقساماً شتى يهمنا منها النقد الأدبي والعلمي أي الذي يتعلق بفنون الكلام ولهذا النوع من النقد شروط وأركان خاصة نحن آتون عليها في الأجزاء الآتية وسنبدأ منها بنقد الشعر في الجزء الآتي إن شاء الله.