انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/الروايات والقصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/الروايات والقصص

ملاحظات: صريع الكاس أو موت السكير The drunkard's death هي قصة قصيرة بقلم تشارلز ديكنز نشرت في مجموعة قصاصات بوز. نشرت هذه الترجمة في العدد 4 من مجلة البيان للبرقوقي الذي صدر بتاريخ 20 ديسمبر 1911



صريع الكاس

للكاتب الروائي الأشهر تشارلزد كنز

عربها إبراهيم عبد القادر المازني الأستاذ بالمدرسة الخديوية

ليس بين من يسيرون في شوارع لدره المزدحمه من لا يذكر أنه راى في بعض مغاديه أناساً تقتحمهم العين وتنبو عن منظرهم الأحداق لسوء متوسمهم وقبح هيئتهم كانوا فيما خلا من الأيام يرفلون في برود النعيم ويخطرون في مطارف السعادة ثم ما زال بهم الدهر يتخونهم ويسقط من جاههم ويخفض من حالهم حتى ألقاهم في مراغة الفقير وحمأة الهوان فلو رأيت أحدهم للعج فؤادك ما صار إليه من رقة الحال وخساسة المنزلة ومن ذا الذي تقلب بين الناس وحاضر طبقاتهم وتخلل دهماءهم فلم يعرف في بائس من هؤلاء إذ يمر به في سمل رث وقد شفه المرض وأضوته الفاقة ذلك التاجر السرى أو الوجيه الأغر ومن من الفراء لا يعرف من بين معارفه واحداً أوضعه الدهر وضعضعته الأيام فلصق بالتراب من الفقر ولصقت بطنه بظهره من الجوع وباعده من كان يمنحه الود والدهر مقبل ونفر منه الناس جميعاً.

ألا أن ذلك كثير الوقوع وعندي أن علة ذلك الولع بالشراب - تلك الشهوة الشديدة التي تحمل المرء على حتفه وتسوقه إلى حمامه وتختم على قلبه وتضرب على سمعه فيطرح زوجه وبنيه وصاحبه وعشيره وسعادته ومنزلته ويندفع في طريق الخراب والذل والموت. ومن هؤلاء من بلغت المحنة مجهوده وملكت عليه مذاهبه فتدلى إلى الاثموواقعه حتى صار إلى مثل ما وصفنا من ضعة الشأن وحقارة القدر فقد تحول ضروف الليالي بين المرء وما يؤمل أو ينزل الحمام بمن تيمه وذهب بفؤاده فتتقطع نفسه حسرات وتتصدع زفرات ويخونه الصبر ويسلمه الجلد فيختلط عقله. ويجن جنونه. ولكن جل هؤلاء قد عاقروا الخمر مختارين وطرحوا نفوسهم مفتوحي العيون في تلك الهوة التي لا ينجو منها أحد ولا يزال المرء فيها يهوى حتى تعز النجاة ويستحيل الخلاص.

ولقد وقف مرة واحد من هذا الصنف بإزاء زوجته وقد أظلها الحمام وبلغت روحها التراقي وكان حولها بنوها يبكون وقد اختلطت دعواتهم بزفراتهم وصلاتهم بعويلهم وكانت الغرفة حقيرة الأثاث وحسب الناظر أن يرى ذلك الوجه الشاحب وصاحبته في سياق الموت تجود بأنفاسها ليعلم أن الأسى والفاقة والهموم قد اعتلجت في ذلك الصدر سنين طوالا. وكان يسند رأسها أمرأة ذاوية العود خاوية العمود قد لجت في الاستعبار واسترسلت في البكاء وعلى ذراع الزوجة طفلة هي ابنتها. غير أن ذلك الوجه الشاحب لم يرفع إليها فقد كانت يدها الباردة المنتفضة ممسكة ذراع زوجها وعيناها ترنوان إليه في سكون وهو ينتفض من لحظهما: وكانت ثيابه رثة خلقة. ووجهه ملتهباً وعيناه كالفبس غير أن فيهما فترة الشراب وثقلة الخمار فقد كان في بعض الحانات بين الكؤوس والأقداح يرتشف الراح ويرتضع نثر الكأس فاستدعوه إلى سرير الموت.

وكان إلى جانب السرير مصباح ينبعث من بعض جوانبه نور ضئيل.

وقد شمل سكون الليل كل شيء خارج البيت وبات سكون الموت ملء الغرفة إلا ساعة على رف واهنة الدقات ولكنها دقات تهتك حجاب القلب ما سمعها أحد ممن التفوا حول السرير إلا أخذته رعدة وأحس أنها بعد ساعة ستدق للموت.

فظيع منظر الموت وارتقابه وإن نعلم أن الرجاء سحاب خلب وإن البرء لا مطمع فيه ولا مغمز - وإن نقضي الليالي الطوال تعد الساعات البطاء ولكن أفظع من هذا وذاك أن يبوح المريض وقد رنقت عليه المنية بما طوى من دفائن صدره وستر من مخبآت نفسه فلا ينفعه اكتتامه وحرصه إذا برجت به الحمى وأخذه هذيانها فقد قص الناس وهم في نزاع الروح أغرب القصص - جرائم وأوزار اجترحوها في حياتهم وغيبوها في صدورهم ففضت ختمها الحمى - حتى لقد ارتاع من قام عليهم ففروا لئلا تستلب عقولهم مما رأوا وسمعوا وكم من بائس قضى نحبه وهو يهذي بما ركب من الأثام ويحدث جدران الدار بجرائم جبن أقوى الناس جائشاً واثبتهم جناناً عن سماعها.

ولكن لم يسمع أحد شيئاً من ذلك في الغرفة التي تقدم ذكرها فقد كانت المرأة المسكينة ساكنة وحولها بنوها ركعاً يبكون ولما وهي ذراعها ورفعت طرفها إلى بنيها وزوجها وهي تجاول النطق عبثاً ثم سقطت رأسها على الوسادة كان يخيل للناظر انها اضطجعت لتنام. فأشرفوا عليها ونادوها برفق بادئ الأمر ثم صوت اليائس وصرخة القانط فلم يجبهم أحد. فاستمعوا إلى نفسها فلم يجدوا له حساً فأقبلوا بسمعهم على قلبها فلم يسمعوا له ركزا لقد زهقت نفسها وطاحت روحها. وارتمى الزوج على كرسي بجانب السرير واشتبكت يداه على جبينه الملتهب وجعل يصفح بنيه وكلما التقت عينه بعين عبرى نكس بصره وأغضاه ولم يعزه أحد في مصيبته ولا رق له بل نفروا منه جميعاً واجتنبوه ولم خرج يترنح من الغرفة لم يحاول أحد أن يتبعه ليواسيه.

لقد مرت به أيام لو نزل به فيها مثل هذا الخطب لتسابق إخوانه إلى ساحته ليشاطروه أحرانه ويضربوا له الأسى وأين هم الآن؟ لقد جفاه الإخوان والأقارب والناس جميعاً واجتووا عشرة السكير وعافوا صحبته ولم يحفظ له العهد في الرخاء والجهد والشدة والخفض والاعتلال والفقر غير زوجته وكيف كان جزاؤها؟ لقد جاء يتمايل من الخمارة ليشهد موتها.

وخرج من البيت وانصلت يعدو في الشارع وقد ننازعه الندم والخوف والخجل وغلب عليه الشراب وذهب بعقله ما رأى في ليلته فعاد إلى الخمارة التي تركها منذ قليل. وطيف عليه بالكاس بعد الكاس فدبت الخمر في عظامه وعملت فيه الصهباء الموت. شريعة كل الناس واردها. وما كانت إلا فرجاً مثل كافة الناس. ولقد انقضت أيامها فأي غرابة في ذلك أو بأس. لقد كانت أبر مني وأمثل ولقد قال لي ذلك أهلها مراراً لعنهم الله. ألم يقطعوها ويجذموا حبلها ويتركوها تنطع مراحل الوقت بالبكاء. لقد ماتت ولعلها اليوم أسعد حالاً ولعلني. فاسقنيها بحتا صراحا ما أعذب طعم الحياة وأحلى مذاقها.

ودرجت الأيام وتصرمت الليالي وشب من بنيه أربعة أخطاتهم المنايا فجاوزوا حد الصغر وأبوهم على ما يعهد القارئ من الفقر المدقع وضعة الشأن ودناءة المنزلة والإدمان وكان قد فر من أولاده الغلمان فتشردوا في الشوارع وبقيت البنت تكدح له وتصل نهارها بالليل وصباحها بالمساء ابتغاء الرزق وكلما كسبت شيئاً سلبها إياه تارة بالقول اللين وأخرى بقرع العصا وصرفه في الخمارة ولبث على هذه الحال ردحا من الزمن وفي ليلة ليلاء من ليالي الشتاء بمم داره في الساعة العاشرة - وذلك خلاف عادته ولكن الفتاة كانت مريضة فلم يجد ما يصرفه في الخمارة - أقول في الساعة العاشرة من هذه الليلة يمم داره فسار وهو يحدث نفسه ويقول أنه ينبغي أن يسألها مم تشكو (وهو مالم يتكلفه حتى اليوم) أو أن يستوصف لعاتها لتقوى على السعي والكسب: وكانت الليلة قرة ذات رياح وأمطار فاستمنح أحد المارة بضع بنسات وابتاع رغيفاً (لأن من أصالة الرأي أن يطعم الفتاة حتى لا تهمد من الجوع) ثم أغذ السير إلى البيت. فألفى بابه أو ما بقي منه مفتوحاً إلى آخره. ليتسنى لكل ساكن أن يلج البيت من غير أن يكلفه ذلك عناء. وصعد مدرجاً قديماً متهدماً وهو يوشك من فرط الظلمة أن يمشي على راحتيه ورجليه وينال الأرض بوجهه. فلما صارت غرفته منه قاب قوسين أو أدنى فتح الباب وظهرت فيه فتاة ذات وجه ظمآن وجثمان تخونه السقم ودكه المرض وأذوت نضرته الفاقة. وفي إحدى يديها شمعة أظلتها بالأخرى. ونظرت بمجامع عينها إلى القادم ثم قالت أهذا أنت يا أبي؟ فتعبس وقال ومن غيري كنت تتوقعين، وما بالك ترعشين، إني لم أنقع إلى الساعة غلتي ولقد طال تلوحى ولا سبيل إلى الري إلا بالمال ولا مال إلا بالعمل فما خطب الفتاة. فقالت الفتاة إني عليلة وصبة وتحدرت عبرتها وتساتلت على وجنتها عقود دمعها.

فزقر الرجل زفرة من لا يجد مناصاً من الاعتراف بأمر لا يندى على كبده يود لو استطاع أن يتلهى عنه ويسهو. وقال يجب أن تصحى وتثوبي إذ لا بد لي من المال ولذلك يجب أن تستوصفي طبيب الكنيسة ليحسم عنك داءك قبل أن يستغز بك ويعطيك بعض الاشفية لعنهم الله فلا بد من دفع ثمنها، مالك تقفين في وجهي. دعيني أدخل

فأوصدت الباب وراءها وهمست إليه أبي لقد عاد وليام

فقال وقد نالته فزعة شديدة من؟

قالت صه - ويليام. أخي ويليام

فقال الرجل وهو يحاول أن يسكن جأشه وماذا يبغي مني أخوك وليام. ألمال، أم اللحم، أم الشراب لقد ضل فليس هنا قراه. اعطني الشمعة - اعطنيها ياغبية - فلا بأس على أخيك ولا مكروه واختطف الشمعة من يدها ودخل الغرفة. فانس فيها شاباً في الثانية والعشرين من عمره رث الكسوة باذ الهيئة جالساً على صندوق قديم ورأسه مسندة إلى يده وعيناه ترنوان إلى نار قد خبا سعارها وفتر ضرامها. فلما أحس أباه حملق إليه وقال لأخته أو صدى الباب يا ماري أو صدى الباب أراك يا أبي تنظر إلى كانك لا تعرفني إن عهدك بطردي بعيد لا ريب وأنت معذور إذا نسيتني.

فجلس الأب على دكة وقال وماذا تبغي مني الآن قل ماذا تبغي.

أريد أن تبوأني كنفك وتأويني إلى ظلك فقد حدثت على حادثة وحسبك هذا فإذا ظفر بي الشرط فأنا ميت لا محالة وهم لا ريب ظافرون بي إن لم تحلني دارك وقد حدثتك بأمري فأشر كيف تأمر، فقال الأب أتعني أنك سرقت أو قتلت،

نعم. أعني ذلك. وهل فيه ما يعجبك يا أبي ثم أتأر إليه بصره ولكنه ما عتم أن غضه ونظر إلى الأرض. وقال الأب بعد سكتة طويلة وأين أخوتك هم حيث لا ينالك منهم أذى. أما جون فقد ذهب إلى أمريكا وأما هنري فقد - مات:

فارتعدت فرائص الأب على الرغم منه وقال مات،.

نعم مات - وفاضت نفسه بين ذراعي - رماه حارس الصيد فتساقط إليّ وسال دمه على يدي - لقد كان الدم يجري كالماء - وكان ضعيفاً فغشى عليه ولكنه ما لبث أن ركع على الأرض واستغفر الله ثم قال لقد كنت قرة عين أمي ومحل أنسها يا ويليام وأنه ليثلج نفسي ويطيب قلبي أني لم أبكها يوماً إني ليلة ماتت - وإن كنت إذ ذاك حديث السن - ركعت عند قدميها وجوانحي تكاد تنقض وحمدت الله على ذلك.

أي ويليام كيف تودي ويبقى أبي، هذه كانت كلماته وهو في نزاع الروح فتبين منها ما تشاء. لقد لطمت وجهه في خمارك يوم تشردنا وهذا ما صار إليه أمرنا جميعاً فانتحبت الفتاة وأطرق الأب وجعل يميل يمنة ويسرة ورأسه بين ركبتيه وعاد ويليام إلى الكلام فقال:

هذا وإذا قبض على الشرط ذهبوا بي إلى الريف وأباؤوني بذلك الحارس وذلك من فوق امكانهم إلا أ، تمدهم بعلمك وتكون وهم يداً واحدة علي وكأني بك تفعل ذلك فإذا كذب ظني وأخلق به أن يكون كاذباً فإني أقيم حيث أنا حتى تلين لي أعطاف الأمور ويستيسر لي الفرار.

وقبع الثلاثة في كسر غرفتهم يومين كاملين وأقاموا بها لا يبرحونها وفي مساء اليوم الثالث اشتد على الفتاة المرض وفدحها ونفد طعامهم فكان لا مندوحة لأحدهم من الخروج ولما كانت الفتاة لأقبل لها بذلك خرج الأب وعلى الأرض غيابات الطفل.

فاستجدى المارة واشترى ببعض مالديه بعض الأشافي للفتاة وجاءته في أوبته بنسات ست فصار معه من المال ما يكفيهم جميعاً يومين أو ثلاثة ومرفى طريقه على الخمارة فراودته نفسه فتلكا ثم مضى ولم يلو عليها ثم سولت له نفسه الدخول فتباطأ ونزل على حكم الشيطان فدخل وكان على كثب منه رجلان يتبعانه رسل النظر وقد كادا يضمران اليأس من مطلبهما فاسترعاهما تريثه وتردده فتتبعا آثاره وتعقبا خطواته ودخلا وراءه وناوله أحدهما كأساً دهاقاً وقال عاطنيها يا سيدي وما كاد يشتف ما في الكأس حتى أترعها له الأخر وقال وأنا أيضاً وليشرب بعضنا نخب بعض.

وذكر الرجل بنيه الجائعين وموقف ولده المسكين ولكنه لم يكترث لذلك ولم يحفله فالح على الشرب حتى خرج الرشد من كفيه.

ورآه أحد الرجلين بهم بالخروج بعد أن أضاع نصف ما معه ولعل حياة ابنته رهينة به فهمس في أذنه ما أبرد ليلتنا وانداها ياواردن.

فقال الآخر هي كما يشتهي إخواننا المختفون ياواردن فاجتذ به الأول وانتبذ به جانباً وقال له إجلس. أنا نطلب ابنك لنبلغه أن الفرصة سانحة والزمان مؤات ولكن قعد بنا عن ذلك جهلنا مقره وليس في هذا غرابة. فإن أقرب الظن أنه جاء إلى لندره وهو لا يعلم من هذا شيئاً أليس كذلك.

فقال الأب صدقت

فتسارق الرجلان النظر وعاد الأول إلى الحديث فقال إن في الميناء سفينة ستقلع إذا انتصف الليل وقد هيأنا له أسباب السفر فيها فسيسافر متنكرا هذا إلى أن ثمن التذكرة قد دفع نالله لقد أمكنتنا الفرصة من قيادها:

فقال الثاني صدقت وبررت

فقال الأول ونظر إلى صاحبه عن عرض إن جدنا عظيم

فمال الآخر ونقد إليه بنظره عظيم جدا

ونادى الأول هات كأساً أخرى - عجل ولم تمض بعد ذلك دقائق معدودات حتى أمكنهما من ولده من حيث لا يدري.

وكان الولد وأخته في أثناء ذلك ينتظران في مكمنهما وهما لا يتقاران من الضجر فأرهفا أذنيهما لأستراق السمع وتوجس الأصوات فمر بسمعهما وقع قدم ثقيلة الوطأة وما هي إلا برهة حتى دخل عليهما أبوهما يترنح من السكر وقد عبقت به أنفاس لحمياً وصرعته الخمر.

وجسته الفتاة بعينها فأدركت أنه سكران طافح فدنت منه والشمعة في يمينها. غيرانها وقفت بغتة وصرخت ثم هوت إلى الأرض فاقدة الإحساس فقد رأت خيال رجل على الأرض. ودخل اثنان (يعرفهما القارئ) وما هي إلا وثبة ثم صار الفتى أسيراً يرسف في الأغلال.

وقال أحدهما للأخر لقد أدركنا طلبتنا عفواً صفواً وقيدنا أسيرنا في سراح ورواح فشكرا للشيخ أبيه. أنهض الفتاة ياتم. وأنت يا سيدتي تعزى وكفكفي الدمع فإن البكاء لا يرد هالكاً قضى الأمر ولا حيلة لك فيما لا تستطيعين دفعه.

فانثنى الفتى على أخته برهة يقبلها ويودعها ثم انثنى على أبيه يلعنه وكان قد تطرح إلى الحائط وجعل يرمقهم جميعاً بعين من غبى عنه معنى ما يرى فقال الفتى لأبيه راعني سمعك ياأبي إن دمي ودم أخي في عنقك. ضيعتنا صغاراً فستسأل عنا كباراً ما أعرفك حنون علينا يوماً أو عطفت. أو عنيت بنا أو حفلت. وما أظنك ترجو أن أغتفر جريمتك وأهب لك فعلتك وقد علمت أن ذنبك لا تسعه مغفرة ولا تتغمده رحمة. فأنا لا أغفر لك ولا أعفو عنك حياً وميتاً. مت كيف شئت ومتى شئت فإني معك. إني أكلمك وأنا في عداد الموتى فاعلم أن الله لا يتجاوز عن جرمك وسيجتمع بنوك جميعاً يوم تقف أمام خالقك ويطلبون منه بلسان واحد أن ينتصف لهم منك ويجزيك بإساءتك ولتعلمن نبأه بعد حين

ورفع يده مثقلة بالحديد بتوعده ورشقه بنظرة قام لها قلبه وقعد ثم خرج يمشي على هينته ولم يره بعدها أحد.

ولما تمزق ستر الليل وتنفس الصبح في تلك الحجرة الحقيرة انتبه واردن فلم يجد معه أحداً فهب ونفض الغرفة فوجد الفراش القديم لم يمسسه أحد وألغى كل شيء كما رآه أخر مرة وإذا كل الدلائل تبنى أن المكان لم يبت به أحد سواه. فسأل جيرانه وسائر السكان فاجتمعت كلمتهم جميعاً على أنهم لم يروا الفتاة ولا سمعوا لها حساً فخرج إلى الشوارع وجعل يقلب طرفه في كل أنثى بائسة ثم رجع أدراجه وقد أنبت حبل رجائه وتقلص ظل أمانيه ولما زحف الليل آوى إلى غرفته محلول العرى مهدود القوى يئن من التعب ويتوجع من الكلال.

ولبث على هذه الحال أيا ماغير أنه لم يجد للفتاة أثراً ولم يسمع عنها خبراً فأضمر اليأس منها ولم يدهشه ما فعلت فقد كان ينتظر منها أن تهجره لتسعى على نفسها وها هي قد تركته ليموت وحده جوعاً فنزت في رأسه سورة الغضب وعض على ناجذيه ولعنها.

وجعل يستجدي المارة. ويستمطر غيث معروفهم ويلفق لهم أحاديث هو ناسج بردها وكلما منّ عليه أحد بدرهم أضاعه فيما يعرف القارئ. ومضى على ذلك حول كامل لم يظله فيه إلا السجون وكان إذا خرج منها ينام على الأعتاب وفي مصانع الآجر وحيثما وجد معاذا من البرد ومعصما من الامطار ولكنه ما زال سكيراً على الرغم من فقره ومرضه وحاجته.

وفي ليلة قارسة صردة تساقط على بعض الأعتاب خائراً فاتر القوى وقد نهكته الخمر وهده الإدمان فأصبح بادي الفصب غائر العينين كليل البصر لا تتبعه رجلاه قد حطمته الأيام وأرعشه البؤس والفسوق.

فكرت أمام عينه صفحات حياته وخلص إلى نور الذكرى ما كان قد غاب في ظلمات النسيان. فتمثل له بيته القديم - إيه ما كان أهناه - ونفض غبار الموت عمن عمروه فالتفوا حوله واحتشدوا أمامه. وخيل له أن الأرض قد انشقت عن أكبر بنيه فبرزوا له ملفوفين في الأكفان. حتى لكاد من فرط الوضوح والجلاء يلمسهم بيده ويفضي إليهم بحواسه ورشقته نظرات نسى وقعها من قديم ووردت على سمعه أصوات أسكتها الموت ولكن ذلك لم يدم إلا برهة ثم استسرت الوجوه وخفيت المنازل وهمدت الأصوات وصرح الحق عن محضه فانحلت عقود الغمام وتناثرت لآلئ المزن.

فادمعها سح وسكب وديمة ... ورش وتوكاف وتنهملان

وعض الجوع بالشر أسيف واصطكت الأسنان من البرد فنهض وجر رجليه بضعة أمتار وهما يئنان من التعب ويتأففان من السعي وكان الشارع ساكناً والليل بائماً إلا عدداً قليلاً كانوا يمرون به مهطعين حال بينهم وبين ندائه هول الليل وتهطال السماء وهبت ريح جربياء قف منه جلده وتقبض فانتبذ مدخل بيت وحاول النوم

ولكن عينه لم تكتحل بغمض كأن الرقاد هجرها وجفاها وكأنما اعتراه مس من خبال وإن لم يغب عنه إدراكه وعقله فرنت في أذنه قرقرة الشراب إذ يضحك الواحد بملء فيه حتى يمسك صدره - وصور له أن ثغر الكأس على ثغره وأن المائدة غاصة بألون الطعام الشهية - لقد كان كل ذلك بمرأى منه ومعان وليس عليه إلا أن يمد يده ليتناول منه ما شاء - غير أنه لم يرتب في أن ذلك خيال كاذب ووهم باطل - وإن كان باطلاً أشبه بحق - وإنه وحده في شارع مهجور ينظر إلى الطل وهو يتساقط على الحصباء وأنه قد أشفى على الموت وأشرف على التلف وأنه ليس له في الحياة من يكترث له أو يعبأ به.

ثم وقف بغتة وهو يرتعد من الذعر فقد سمع صوته في سكوت الليل من غير ما سبب وتبع ذلك أنه وأخرى - لقد مسه الجنون وخرجت من فمه كلمات مقتضبة وحاولت يداه أن تمزق لحمه ثم ثار ثائر جنونه فجعل يصرخ مستنجداً حتى خانه الصوت.

فرفع رأسه وسرح طرفه في الشارع وذكر أن بعض من نفاهم عن الناس الهم والتشريد مثله وقضى عليهم أن يطوفوا في الشوارع ليل نهار قد سلبت عقلهم الوحدة فجنو. وذكر أنه سمع منذ عهد بعيد أن الناس وجدوا بائساً من هؤلاء في ناحية منزوية يشحذ سكيناً صدية ويرهف حدها ليغمدها في قلبه مؤثرا الموت على حياة التشريد. فدبت في مفاصله الحياة وقام في رأسه خطة وانجرد يعدو لا يلوى على شيء حتى بلغ عبر النهر فمشى هوناً ونزل على رود حتى أتى الماء فقبع في ركن وحبس نفسه حتى يمر الحارس فلا والله ماهش سجين للحرية والحياة واهتز لهما اهتزاز هذا البائس للموت. ومر عليه الحارس ورآه المسكين عين عنه وظل في مكمنه حتى غاب الحارس في ظلام الليل ثم خرج من ظلمة الاستتار ووقف تحت حنية عند مرسى النهر.

فجرى الماء عند قدميه. وكانت السحب قد رقأ دمعها وسكنت الرياح وسادت السكينة في البر والبحر وجرى الماء بيطئاً ريثا وخلصت إلى سطحه أشباح غريبة وأشخاص جعلت تومئ إليه وتستدنيه. ورمته من الماء عيون دعجاء الحدق كأنما تسخر من تردده وتهزأ واستحثته من ورائه أصوات جوفاء. فتراجع بضع خطوات ثم اندفع يجري ووثب وثبة الشيطان واحتوى عليه الماء. ولم تمض إلا ثوان خمس حتى طفا على وجهه - ولكن ما أعظم الفرق. وما أكبر ما طرأ عليه من التغير في أفكاره وشعوره الحياة - الحياة - في أي صورة - الفقر أو البؤس أو الجوع - أي صورة إلا الموت فكافح الماء واعتلج الموج فوق رأسه فصرخ مذعوراً ودويت أذنه بلعنة ابنه - ودنا من الشاطئ حتى صار بينهما نحو قدم وحتى كاد يلمس سلمه. ولكن التيار ساقه تحت حنايا الجسر احتمله فهوى إلى القاع.

ثم طفا مرة أخرى وجاهد في سبيل الحياة وتراءت له المباني على جانبي النهر والأضواء على الجسر الذي مر من تحته والماء الأسود عن يمينه وشماله والسحب سابحة في الأفق صريحة واضحة. ثم هوى مرة أخرى وطفا فارتفع من الأرض إلى السماء عمود من لهب زاغ فيه بصره وصوت الرعد بلسان الماء في أذنه فذهب بحسه.

وبعد أسبوع من ذلك لفظ الماء جثته مشوهة منتفخة فلم يعرفه أحد ولم يرث له ديار ثم حملت على الحرج وأودعت اللحد ونفضت من ترابها الأيدي.

الأستاذ

(قصة غرامية)

للكاتب الإنكليزي الكبير وليم ثكارى

تعريب الكاتب العبقري محمد السباعي

الفصل الأول

تحتوي مدينة هاكني فيما تحتويه من الزخارف والتحف. والنفائس والطرف. عدة مدارس للفتيات. ومعاهد للغانيات. فلا تكاد ترى داراً أبيقة بيضاء. في طرقة نضيرة خضراء إلا وعلى بابها لوح ينبئك أنها مدرسة للسيدات وكان مكتوباً على إحدى هذه الدور السطر الآتي:

(بيت بلغاريا)

مدرسة للجنس اللطيف من سن ثلاث إلى عشرين لصاحبتها ومديرتها المسؤولة

السيدة بيدج وشركائها.

(تنبيه ممنوع البصق)

وكانت المدرسة تتولى تعليم تلميذاتها من الفنون والعلوم مالم تزل السيدة الإنكليزية بفضله في طليعة النساء وفوق سائر الأوربيات أدباً وفضلاً. فتلقى الصغيرات مبادىء الغرز على اختلاف أنواعها وضروب الأناشيد والأدعية ولاسيما الأنشودة التي أولها

بين خضر الرياض والجنات ... منزل شيد للتقى والصلاة وتلقن الكبيرات أوزان النغم وأصول التوقيع. والضرب على الأوتار والنفخ في المزمار. والنقر بالدف. وسائر صنوف الشدو والعزف. إلى كثير من المعلومات التاريخية والجغرافية. والطبية والميكانيكية وألسنة الفرنس والألمان. والمجر والطليان والبرتقال والاسبان. خلاف علمى الرقص والألعاب الرياضية وكان يقوم بتعليمهما الأستاذ دوندولو

وكان الأستاذ برغم إيطالية اسمه إنكليزي السحنة واللسان قد أخذ لهجته من صميم بلدة لندن وارتدى شمائل سكان تلك الناحية وحمل في كل عضو وجارحة وفي كل إشارة وعبارة وحركة وسكنة حلية أولئك القوم وسيماهم فكانه أحدهم نشأ وسطهم ودرج بينهم. ولم ير ناساً غيرهم. ولا وطأ إلا أرضهم. أو سكن إلا ديارهم وكان مدير القامة عادي الألواح عريض المنكبين. طويل الشاربين. براق المقلتين.

ولست أدري أني حصل السيد المذكور في مدرسة المسز بيدج أم كيف وجد السبيل إلى ذلك المنصب على أنه أشيع أنها عرفته أول ما عرفته في مرقص ثم تأكدت المودة بينهما حى إذا وقع الحادث الذي أنا ذاكره لك الآن برئت السيدة إلى الله من كل صلة بالإستاذ وعلاقة. ومن كل نسبة إليه وصداقة. وقالت أنه ما كان لمثلها قط أن يأتي بمثله إلى مثل مدرستها وأنها ما كانت لتنزله بين جدران مكانها لولا لجاجة المسز أولدرمان جرامباس. ومن ذلك يتبين للقارئ أن سيرة الأستاذ في عهده الأخير بالمدرسة لم تكن بالحميدة - وأنه لكذلك فعسى تعلم صاحبات أمثال هذه المدارس بعد ذلك أنه قد تخطئ الظنون في الأصدقاء. وتضاع الثقة ولمودة عند غير الأكفاء. وأن بعض الصداقة خيانة وربما تنكر الغدر في زي الأمانة.

أقول وجعل الفتى الغطريف دوندولو يعجب الفتيات بخفته ورشاقة حركته ويروعهم بسرعته ونشاطه وميعته في مجال الرقص وكرته. ويدهشهم بأيده وقوته. وشطاطه وقامته. فمن نتيجة تعليمه أنه استطاع في مدة قصيرة من الزمن أن يمكن الفتاة بنكس وكانت مفرطة السمن قطيع الخطو تبهرها المسافة القصيرة من اتقان أعجل فنون الرقص فكانت تجول الجولة كأنها ظبية الرمل أو أسرع. ولكن أنجب تلميذاته وأملحهن جميعاً كانت الفتاة إديليزا جرامباس قرة عين أبيها ومناط أمل أمها وفخر أبويها وكانت مليحة عذراء قد ارتوت من ماء الشباب وغلا بها عظم وناهزت التاسعة بعد العشر. بعينين زرقاوين يعى بوصفهما كل أزرق من الحبر ون بلغ في الزرقة أقصاها. وفي جمال الصبغة منتهاها. وجبين بسنا الصباح مصقول. وطرف بفنون السحر مكحول. وشعر كذوائب الظلماء مسدول كأنما عناه الذي قال:

وفاحم وارد يقبل ممشا ... هـ إذا اختال مسبلاً غدره

ولكن أين منا نعتها وأنها لغاية تنكل عنها سوابق الأفهام. وتحسر دونها مبالغ الأوهام. وما أراني أزاء وصفها إلا كما قيل:

يسهل القول أنها أحسن الاش ... ياء طراً ويعسر التحديد

وحسب القارئ أن يذكر أول فتاة عشقها ثم يصوغ على شكلها غانيه هذه القصة المسز أديليزا. أقول فلما رآها الشاب دوندولو وكانت فيمن عهد إليه بتعليمهن عشقها شأن كل فتى على شاكلته له صبوة وفيه غزل وخلاعة.

هذا وليعلم القاريء أن أكثر الناس فرصة لبلوغ وطره من الغانيات هو إستاذ الرقص وإن أوضح الناهج وأزلف الوسائل إلى نفوس الحسان هو باب الرقص. ولأستاذ الرقص على متن تلميذته وذراعيهما وكتفيها وكفيها سلطان تام ثم هو جدير بأن يمد ذلك السلطان إلى قلب الفتاة وينهيه إلى نفسها. فكان يقول للمسز اديليز بصوت يذيبه الشغف ويبريه الشجي وهو يعلمها مدى قدميك أصبعا يا مسز اديليز وأنصبى قناتك ثم يأخذ يدها في رفق ولين ويرفعها حتى يحاذي بها شحمة أذنها ثم يمس بأنامل يسراه فقارها ويرنو إليها بعين هائم وله! وذلك لعمر الله منظر يوقظ الهوى ويثير الداء. ولا طاقة لأنثى بمثل هذا الموقف وهذه النظرة قط فلما رنا الفتى إلى العذراء أول نظرة فالثانية لم تعرها إلا رجفة الحياء وحمرة الخجل فلما رنا الثالثة أغضت ونكست وعلا وجهها اصفرار. وصاحت قدحا من الماء! وخيف عليها الإغماء. فأسرع معلم الرقص لقضاء حاجتها حتى إذا عاد بالماء فصبه في فيها همس في أذنها بصوت أرق منه الشوق وقطعته الصبابة عبدك ما عشت وأسيرك ما بقيت يا اديليزا

فاستلقت الفتاة بين ذراعي المسز بنكس وقد رآها العاشق الظافر ترفع طرفها إلى سماء الغرفة وتناجي نفسها دوندولو! دوندولو!

وطالما كانت بعد ذلك تخلو إلي خليلتها وثقتها المسز بنكس فتقول دوندولو! لقد كان هذا الاسم فيما مضى من الزمان علماً على بطل جليل وشهم نبيل. وهو ذلك الاسم الذي ضج به الآلاف المؤلفة من عباد الله منذ خمسمائة عام في مدينة فينيس - زينة البحر وعروس الماء - وكان جيش العدو أزاءها بالمرصاد فلما دوت في آذانهم صيحة الفينسيين دوندولو! وارتجت لها أرجاء الدأماء. ومادت جوانب الغبراء. ورجعت صداها القبة الزرقاء. طارت قلوب الأعداء فزعاً. ونحبت أفئدتهم هلعاً. بينما الفينسيون تارجعت هممهم. وهبت عزائمهم لتلك الصيحة التي تضمحل عندها زماجر الرعد القاصف. وتتضاءل لديها جلاجل المدفع القاذف. واها لهاتيك الأيام يا بنكس! وهنا تميل الفتاة على ذراع خليلتها وتغمزها غمزة امرأة ضاق بالكتمان صدرها ثم تقول أليس عجيباً يا بنكس أن يبقى أحد ذرية هذا البيت المجيد. ذى الحسب العتيد. والسؤدد الوطيد. حتى يومنا هذا وإنه ما بقي إلا لكي يعشقني؟ ولكني أنا أيضاً كما تعلمين من بنات البحر.

وإنما قالت أنها من بنات البحر لأن أباها كان سماكا. وكانت قد أكثرت من قراءة القصص والحكايات وأشرب عقلها ذخرا وافراً من الخياليات حتى استبد الخيال في نفسها بالتمييز والتدبر وتغلب الوهم في ذهنها على النظر والتبصر. وكان أبوها قد أقصاها عن داره فبعث بها إلى هذه المدرسة لما رآها عشقت فتى من غلمان حانوته. عل في أقصائها ذلك ما يشفيها من داء الهوى وهيهات ليس لداء الحب من شاف.

ما للمحب إذا تفاقم داؤه ... غير الحبيب يزوره من راق

لا أستفيق من الغرام ولا أرى ... خلوا من البرجاء والأوصاب

فكان لا يلذها إلا أحاديث الحب ونوادر العشاق ولا تقرأ من القصص إلا الغرامية ولا من القصائد إلا الغزلية ولا تزال تحفظ خصلة من شعر الشاعر الغرامي توماس مور وقطعة من شعره. وكذلك بدا المستر دوندولو لظنها المكذوب ووهمها المخدوع كأنه نجل بيت من أشرف بيوتات فينيس فحسبها لذة وفخرا أن يعشقها وتعشقه.

وكانت المسز اديليز قد أحرزت بفضل زيادة كانت تدفعها في أجر التعليم مزيداً في امتيازات جعلتها أكثر حرية من سائر الطالبات فمن ذلك أنه كان يمكنها الطواف في ضواحي المدرسة مع صاحبتها بنكس وزيارة المكتبة وحدهما والذهاب في بعض حاجات سيدة المدرسة والمسير إلى الكنيسة لا ثالث لهما. وأنه ليسوءني جداً أن أخبر القارئ أن دوندولو كان يتبعهما أو يلاقيهما في كثير من تلك الغدوات والروحات.

وكانت المسز بنكس تتناقل في مشيتها حتى تنقطع عن صاحبتها أديليز وهنالك يلتقي العاشقان وتقابل بنكسر أيضاً صديقاً لمعلم الرقص فيرون مثني كتؤامى الورد والجلنار. وقران القمرى والهزار. يتشاكون الغرام. ويتباثون لواعج الهيام. ويتزودن من سحر النظر وسحر الكلام. ما يكون تعلة الفراق حتى ساعة الانضمام. فليت كل صاحبة مرسة تصادف مقالتي هذه فتعترف من كوامن الأسرار. ما هو جدير بالذكر والاعتبار. وتعلم أنه لا يليق ترك الغانيات. يخرجن منفردات لا راع ولا رقيب. ولا داع ولا مهيب. فيكن كالغنم المهملة لا تؤمن عليهن فتكة الضيغم وعيثة الذئب.

وكانت اديليز تقول لعاشقها في مثل هذه الخلوات عجباً يا دوندولو كيف كنت في الأيام السالفة تجاذب الفتاة زيلا بيدج اهداب الكلام ولا تنازعني لفظة واحدة؟

فيجيبها الفتى قائلا إن لم تخاطبك يوم ذاك شفتاي فطالما خاطبتك عيناي (إلى هذا الحد من سقوط الكلفة وضياع الاحتشام كان قد وصل العاشقان).

فتقول الغانية ولا تحسب أني كنت عنك إذ ذاك ذاهلة الفؤاد مصروفة الطرف. فأينما سرت فعيني كانت على الأثر وإنما كانت تتلوك لعجزها أن تلاحظك وأنت بحياء الفتيات أعلم. وأنه وإن كان قد فات أذنك إذ ذاك دقات لساني فما أظن أنه قد فاتها دقات قلبي!

وهنا يجيها الفتى قائلاً ظنك عين الصواب ولقد كنت أسمع دقات قلبك كما أسمع حديثك الآن وما منعني عن خطابك يوم ذاك إلا خوفي أن أوقظ راقد الظن وأثير كامن التهمة. ثم اذكري أنه لم يجيء بي إلى هذه المدرسة إلا حبيك الذي دفعني إلى مصادقة ربة المدرسة والتزلف إليها ولم يتم لي ذلك حتى تنكرت في زي أستاذ للرقص كما ترين. (وهنا كان يعلو وجهه ابتسامة جهنمية. وتبرق في عينه نظرة شيطانية) ويمضي في كلامه فيقول. نعم لقد أسقطت مرؤتي. وامتهنت شرفي ووصمت سمعتي. وأفسدت حسب قومي ومجد أسرتي. وحملت الخزي ولبست العار بين طرتي هذا الثوب الخبيث والبرد الخسيس وما تجشمت كل ذلك إلا من أجلك وفي سبيل هواك يا اديليزا وهنا يهم السنيور دوندولو أن يركع تحت قدمي الفتاة فلا يمنعه إلا وحل الطريق وبلله.

ولكن لابد لنا من ذكر الحقيقة وهي أن سيدة المدرسة المسز زيلابيدج صادفت ذلك الرجل في مرقص وكان رجلاً عاطلاً من الحرف والصناعات. جواب بلدان وفلوات. فقدم إليها فهويته. وادعى أنه استاذ ألعاب فقبلته ثم نظرته الفتاة اديليز فعشقته. ورأت صاحبة المدرسة أن أديليز قد فطنت إلى ميلها لدوندولو فتغاضت لها عن كثير وأعارتها أذنا سميعة صماء. وعيناً بصيرة عشواء. حتى حصل ما حصل.

ولنعد بعد إلى ما كنا فيه من محاورة العاشقين فنقول وكذلك كانت اديلزا تجيبه بقولها يا لهذا النبأ الغريب. والسر العجيب! ويالقومي ما أخفى شأنك وأعظم أمرك! وياويح نفسي من أنا حتى أعشق مثلك وأي سانح قد جرى لي باليمن وشارق قد طلع بالسعد حتى ساقك القدر من ديارك لتستبي لب اديليزا وتحتبل فؤادها

فيقول ما أصدق ما تقولين يا أديليزا. فما حقيقتي كما تنظرين ولا أستطيع أن أكشف لك الحقيقة وإنما هو نبأ عظيم. وأمر جسيم. وحديث يهول. وقصة شرحها يطول.

ولكني على ذلتي وشقائي. وخمولي وخفائي. تنكر أمري وسوء حالي. وتجدد لوعتي وعفاء آمالي أهواك يا اديليزا. وإنما أهواك بذلك القلب الطاهر الذي كنت أحمله بين أضلعي في سالف زمني إذ أنا نقي صحيفة الحسب طاهر ذيل الذكر ساطع شهاب الصيت تلحظني عيون السعادة وتنام عني أعين الدهر. أهواك بذلك القلب الطاهر وتلك النفس البيضاء. لا بقلبي المشوب الذي يخفق الآن بين يديك فإنه أحط منك درجة وأسفل مقاماً! بلى ياصفوة الفتيات. ونخبة السيدات وزبدة العفاف وخلاصة الكرم وعصارة الفضل أني الآن نهب الخطوب وسلب الملمات. للحزن شطر مني وللضعة شطر. ولكن حسبي من زمني الغشوم أني أحبك وأنك حلم نومي وشغل يقظتي. ومطمح أملي ومجال لذتي. وإني عبس لي الدهر الآن وتجهم فلطالما هش في وجهي وتبسم. والحياة سجال يوم لك ويوم عليك.

فاصفرت وجنة الفتاة واصطكت قدماها. وخارت قواها. وكانت لا محالة تسقط من قامتها لولا أن تداركها داندولو فرفع بضبعيها. وأخذ بيديها ثم تعلقت بعطفيه. ولاذت بحقويه. وقالت. أنا لا أسألك من أنت ولا أبالي أسأت أم أحسنت. ولكني أحبك كيفما كنت.

فقال دوندولو أتقولين أسأت أم أحسنت؟ أأسيئك أنا؟ أيسيء دوندولو منية نفسه أديليزا! إذن لقد خولطت في عقلي وجن جنوني! وهنا جذبها نحوه ونثر القبل على قناعها ونقابها بل على وجهها. وكان في فعله ذلك من شدة الوجد كالذي أصابه خبل ومس. ثم قال لها ولكن خبريني أيتها المليحة الحسناء من أنت؟ اني أخلني لا أعرف منك إلا اسمك على أنه حلو الرنين لذيذ المسموع.

فأطرقت خجلاً وقالت أنا من أسرة وضعة فقال الفتى فكيف إذن بلغت أن تكوني بهذا المدرسة وإني لك بدفع أجرها:

قالت إن أبوي على ضعة النسب في ثروة

قال فمن أبوك

قالت هو واخجلاه سماك فصاح دوندلو بارفع صوته سماك! هذا مالا يكاد يحتمل. ثم سل يده من يد الفتاة وأطرق صامتاً فلم يفه يلفظة حتى عادا إلى جدار المدرسة وكانت المسز بنكس وصاحبها يعجبان من سكوتهما فلما صاروا من المدرسة بمراى قالت أديليزا هذه المدرسة يادوندلو فلا بد أن نفترق! ثم ألقت بنفسها بين ذراعيه من شدة الوجد والوله.

وهنا صدمت مسمعيهما صيحة من المسز بنكس فالتفتا نحوها فإذا هي تعدو نحو المدرسة مسرعة وإذا خليلها ثابت مكانه كالذاهل وإذا صاحبة المدرسة المسز زيلا بيدج واقفة من الفتى والفتاة على كثب.

والتفتت ربة المدرسة إلى دوندولو آسفة غضبي وقالت ويحك يا دندولو! أكذلك تكذبني وتخدعني؟ الاجل ذلك كان إتياني بك إلى هذه المدرسة ترتع من جنابها خصباً مريعاً. وتنزل من كنفها رحباً وسيعاً بعد استنقاذك من وهدة الفقر وانتياشك من مخالب الجوع والباسك القشيب الجديد. وحملك على الفاره الحديد؟ أبعد ذلك كله تخفر ذمتي. وتنكث عهدي؟ وتستبدل في خرفاء ورهاء كهذه الفتاة التي يدعونها اديليزا أحق ما أراه أم باطل وحقيقة أم حلم؟ وهل تصدقني عيناي؟

فزمجر دوندولو صائحاً قلعت عيناك! ثك قذفها بنظرة كأنها شواظ من نار وولى مدبراً وهو يسب ويلعن حتى إذا غاب شخصه عن الأبصار لم تغب عن الأسماع لعناته ودعواته. ووصله في غد تلك الليلة قرار رفته من المدرسة فكان ذلك اليوم آخر أيامه هنالك.

وفي الليلة التالية تحطمت نوافذ المدرسة جميعها بالحجارة.

وبعد ذلك اليوم بثلاثة أيام كانت ترى مركبة تطوى الطريق إلى البلد وفي جوف هذه المركبة تجلس أديليزا قد أرمضت عينها الدموع وأنحل بدنها الهم والسهر.

الفصل الثاني

ولكن الأمر لم ينته عند هذا وذلك إن خروج أديابزا من المدرسة أثار منها أسراراً كان كتمانها أوفر لعرض السيدة بيدج وأبقى على سمعة المدرسة حتى إذا فشت وذاعت جرت على ذلك المعهد سبة وعاراً. وفضيحة وشنارا. فهجرتها التلميذات مثنى وثلاث ورباع ومنهن المسز بنكس والمسز يعقوب وغيرهما ممن لم تذكر بهذه القصة أسماؤهن. حتى إذا مضى على هذا الحادث نصف عام أقفرت عرصات المدرسة إلا من تلميذتين. ابنتين لرجل عطار كانتا تدفعان أجر التعليم شمعاً من حانوت أبيهما وبناً وصابوناً وشاياً.

فلو اطلعت على السيدة ومدرستها إذ ذاك لرأيت منظراً محزناً ومشهداً أليماً - رأيت امرأة ناحلة البدن معروقة العظام عارية الأشاجع تجوب مكانا قفراً خربا. وخاوياً تربا لا يجيبها فيها إلا صوت خطاها ورجع صداها. وهي ترثي حالها تارة بالصمت وآونة تقول بلى لقد خبروني عنك يادوندولو إنك مشؤوم الفال ماطلعت على امرأة قط إلا بالنحس ولا عشقت أنثى إلا عشقها معك الشقاء. وإنك مابزغت في روضة الحب على قوام مياس إلا أذبلت فينانه. ولا أطلت ثمت على خد صقيل إلا أشحبت أرجوانه. ويحك يادوندولو لقد تركت داري للعفاء مسكناً وللبلى موطناً وسلبتها حلاها وما حلاها إلا الخرد الغيد. والبيض الرغاديد. ومالي أشكر عفاء منزلي وخواء داري؟ وقلبي على بعدك أعفى جنابا. وأكثر خرابا. وهنا تنهل عبراتها فكأن في كل عين سحابة وطفاء. أو سقاء. وأهي الخروق في كف خرقاء

وما هو إلا أسبوع بعد ذلك حتى عطلت المدرسة ومحي عن بابها العنوان. عثرة لم تنعش منها آخر الأبد. وإنك إن تأت ذلك المكان اليوم قرأت على بابه قاعة موسكو للمستر سويشتال وشركائه والله وحده يعلم أين اختفت السيدة بيدج وفي أي زوايا الأرض أخفت عارها وعبراتها.

ولم تصادف المسز اديليزا عند والدها احتفالاً ولا احتفاء وأني تصادف ذاك من أهملت درسها وأضاعت أدبها وكات تقع للمرة الثانية فريسة في مخالب الفجرة وتخسر دينها للخسرة الكفرة فحق لأبيها أنه منعها الخروج إلا إلى الحدائق لشم النسمات. أو إلى الكنائس لشم الصلوات. وأنه رغماً من يقينها أن الفتى لعهد الوداد خافر. ولذمة الحب خاتر. غير أنها لم تستطع إلا لهفاً عليه. وحنيناً إليه. وادكاراً له. وجنونا به.

أما دوندولو فكان قد اهتدى إلى دار أبيها فجعل يذهب ثمت ويطوف بالبيت يتحين الفرص لاستراق اللمح ويرصد الغفلة لاختلاس النظر وكان يرقب الفتاة في غدواتها إلى الكنيسة فيقفو أثرها. وكم من مرة كنت ترى العاشقين يتلاصقان في الزحام فيشفيان ببرد التلامس حر غليل الفؤاد. ويأسوان بالتضام جراح الأحشاء والأكباد. ويدس الفتى إلى الغادة في شفاعة الزحام رقعة تشرح الهوى. وتصف الجوى. فسرعان ما تختطفها الفتاة فتلفها في منديلها أو تجعلها تميمة لصدرها. كل ذلك بحيلة الهوى! قاتل الله الهوى! فما ألطف حيلته. وأكثر وسيلته. وأنجح وساطته وأكرم شفاعته وما أصح تفكيره. وأبلغ تدبيره فهو الملئ بأن يتخذ من خيط العنكبوت سلما إلى غايته. ومن الشعرة سبباً إلى حاجته!

وكذلك كنت ترى العاشقين وإن باتا من لذة اللقاء محرومين ولكنهما أصبحا بلذة التراسل فائزين وقد تمكنت الغادة برشوة الخادمة من إرسالها للفتى تسعة كتب في الأسبوع كان يرد إليها منه الرد على معظمها.

وإليك بعض تلك الرسائل وهي من الفتاة إلى خليلها.

ماذا طرأ على حبيبي دوندولو من سوء الحال وتغير الهيئة؟ ولماذا أراه في تلك الثياب الرثة. أبه فقر. أم به تنكر؟ وهل ركبه دين فادح. أو ورى كبده حزن فادح. أم ألحت عليه الغرماء. أم طارده طالب بدماء ألا ليت أني على معونته وحوطه قديرة. فإني بذلك مليئة وجديرة اديليزا.

ذيل - لما أعلمه عنك من حبك السمك بعثت إليك بحيتان كالتي تشتهيها مع خادمتي سوسان اديليزا

ملحق - أتحب المحار؟ ستحضر لك الخادمة كمية من منديل من الحرير عليه رباط من شعر حبيبتك ايليزا

ذيل - مع الرسول وعاء من شهد وخابية من نبيذ بوردو. فياليتني في هذه الخابية اديليزا

فيظهر من تلك الرسالة أن دوندولو قد تغير زيه بتغير حاله. وأنه يلبس لكل دهر ملبساً ولك دعوى زيا فلما ادعى أنه من أسرة كريمة طليانية وأنه أستاذ لبس حلي فاخرة. حتى إذا أسلمته جنايته إلى العدم والأتراب وأفضت به جريمته إلى الفضاء والتراب. راح في أسمال وأخلاق. وأطمار وإسحاق. وحذاء يمتاز عن أمثاله بالغبرة والوحل. على أنه كان مع تلك الرثاثة يبدي نخوة وكبرياء. وزهوا وخيلاء. يميل قلنسونة حتى يمس بها حاجبه ولا تزال يده في بمباغه تسويه لتحكمه ويبعث بكفه في جيبه إن كان به دراهم ليسمع الناس رنينها وكذلك يرى القارئ أن دوندولو لم يكن إلا متشرداً قد أصاب من اديليزا طعمة سهلة ولقمة سائغة.

والأستاذ وإن سرته رسالة الفتاة فقد كان بذيولها وملحقاتها أشد سروراً حتى جعل يلتهم ألفاظها بعينه ثم قام فالتهم مدلولات تلك الألفاظ (هدايا الغادة - السمك والمحار والنبيذ والعسل) بفهمه.

وفي غد ذلك اليوم وردت على الفتاة من حبيها رسالة ففضت ختامها بيد راجفة. وحشا واجفة. حتى إذا قرأتها لم تجد بها سروراً عظيماً وإليك الرسالة.

كرمك ياعزيزي يفوت كل وصف ويعي كل واصف. على أنه ما كان إنسان أحوج مني إلى مثل هذا الكرم وأفقر من حبيبك البائس إلى مثل ذلك السخاء ولقد صدقت في فراستك إذ تقولين أبك فقر. أم تنكر. وهل ركبك دين فادح وورى كبدك حزن قادح. وهل ألحت عليك الغرماء. وطاردتك طلاب بدماء. بلى بي كل ذلك وأبرح. وأصابين جميع ما تذكرين وأقرح. وتف قلبي من الهم ما تصفين وأقدح ورماني الدهر بما قد عشت وأوفر. واكتفني من المحن ماسردت وأكثر. نعم لقد حال بعدك الزمن وتغير وساء بعدك العيش وتنكر. وعبس بعدك الدهر وتنمر. وكشف لي الخطب عن ساقه وشمر:

وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي ياعز لايتغير

أجل لقد تغيرت أحوالي زيا وثياباً. وزادا وشرابا. ولذة وهناء. وغبطة وصفاء. اللهم إلا أمراً واحداً أنا لازم له مالزمت الحرارة النار. باق عليه مابقى الليل والنهار. وذلك حبيك. وغرامي بك!

وبعد فلتسمعي نبأي: أنا سليل بيت طلياني عريق في المجد أصيل في السؤدد يحل من شرف النسب في الغارب والسنام. وتبدو أبناؤه لنصاعة الأحساب غرراً في جباه الأيام وينزل من أكرم البيوتات حيث يلقي صميم الرأس مجتمع الشؤون. من بيت لا أكون مغالياً إن قلت أنه أمجد بيوتات فينيس ولقد أتى علينا حين من الدهر كنا في غبطة وسرور. ولذة وحبور وثروة وفراء ونعمة فيحاء ولكن الظالم الجبار قددهم فينيس فحل رباها. واستحل دماها. واستباح حماها وسلب حلاها. واشتف صبابتها. بعد أن امتص عصارتها فقسم قبائلنا بين القيد والنصل. والنفي والقتل. فكان النفي قرعتي والغربة قسمتي يقاسمني إياها أم ضعيفة وجدة مقعدة وأخوات لباسهن الخوف والذلة. والبؤس والقلة وهنى نحاف. صفر عجاف لا طاعم لهم ولا كاس. ولا معاون ولا مواس. ولقد دافعت عنهم الدهر وحاربت دونهم البؤس والضر. بجيوش الحيل وكتائب الصبر فما دفعت عنهم هجماته. ولا صددت دونهم حملاته. وماذا أقول يا اديليزا أأقول لك أني احتجت الخبز والماء. وافتقرت إلى المئزر والرداء وإلى الفراش والقطاء؟

وبعد فلقد وجدت السمك شهياً. وأكلت العسل هنياً. وشربت النبيذ مريا. ولكن المزيد المزيد من هذه الطيبات فإن ما وصلنا منها لا يشبع النهمة ولا يقطع الغلة على أني أستزيد وبي من الخجل ما يتعثر معه القلم في أذيال بيانه ويحمر منه خد الطرس. وسلام الله عليك ورحمته من محبك الولهان. وصبك اللهفان.

فريدريك دوندولو

نقول لما قرأت اديليزا هذه الرسالة أول مرة نالها سخط وغضب وذلك لما بدا بين سطورها من آيات العدم والإفلاس. ولا غرو أن يمتعض من كان له رقة مزاج الفتاة ويشمئز من تلك الصورة الشنعاء - صورة الفقر المدقع. والجوع الموجع.

ولكن امتعاض الغادة مالبث أن اضمحل فزال وأعقبه رحمة أخذتها على الحبيب البائس ورقة. ورأفة وشفقة. ولاسيما عند ذكرها ذلك العدو الظلوم. والجبار الغشوم. الذي نملك وطن الفتى وأمته. وأذل قومه وأسرته واغتصب حريته واستلب غزته. ورفع على تلك الربى وهاتيك البطاح رأيته فرددت قراءة الرسالة ولاسيما تلك الفقرة وكلما مر طرفها على تلك الكلم الخحزنةذابت مهجتها. وفاضت مقلتها وصاحت لأبلغن في سبيلك مجهودي وإن كان فيه حتفي!

ثم بدا لها في الأمر صعوبة وهي أنها لا تعرف وهي أنها لا تعرف اني تجد ما يعرض بطلبه دوندولو من المال ولكنها مالبثت أن انفتقت لها الحيلة فأصابت شيئاً من الدنانير وما هي إلا بضع ساعات حتى سمعت بحانوت أبيها ضجة عظيمة وسمع أبوها يصيح على غلامه بالويل والحرب. ويدعو عليه بالبرص والجرب ويتهمه بأنه سرق جميع ما بالصندوق من المال وتركه في أحرج موقف وأسواء حال. ثم ساقه إلى دار الخصام. وبيت الأحكام. وهو مما قرف به يعلم الله براء ومما وصم به طاهر الذيل نظيف الإناء حتى إذا حضرا مجلس القضاء أشرقت حجة البرئ. وأخزى الله المسيء. ولكنه طرد من خدمة السماك ظلما. وذلك لأن للفتاة عاشقاً معدما.

وأرسلت اديليزا إلى حبيبها الدنانير طيّ الرسالة الآتية:

عزيزي: أيكفيك ستة دنانير ونصف دينار فإنها وربك أقصى ما بلغته حيلتي وانتهت إليه وسيلتي. وصحيفة عذرى بعد ذلك وضاحة غراء وديباجة حجتي وضاءة بيضاء هذا وقد سنح لي خاطر وهو أن غلامنا قد طرد وأبى لا يشهد الحانوت ليلاً وكذلك يمكنني أن أقضي نصف الليل بالحانوت.

اديليزا

وما وصلت هذه الرسالة دوندولو حتى صحت على مقابلة الفتاة نيته قائلاً سألقاها وأدخل ذلك الحانوت الملعون وقد دخله وإنما دخله ليعجل بالخسران على نفسه.

وفي هذه الليلة قامت اديليزا وأمها على الحانوت تدير شؤونه وجعلت الأم والسكين في يدها تقشر المحار ليقدم للآكلين. ولم تكن السن قد قللت نشاطها. ولا شمخت بها الثورة عن مزاولة مهنة كانت سبب ثروتها وجعلت ايليزا تنساب في أنحاء الحانوت كأنها الأوزة في الماء وهي تحمل أثناء ذلك إلى الآكلين رغفان الخبز وقطع الزبد وزجاجات الخل. وكان معهما صبي صغير فكان يروح ويغدو بين الحانوت وبين خمار أمامه يحمل إلى الآكلين ما شاؤا من خوابي الخمر.

فلما انتصف الليل وكانت اديليزا تنظر من وراء زجاج النافذة إلى نور القمر تقارن بينه وبين نور الغاز الوضاء ينعكس سناه على صدور الحيتان المصقولة فإنها لكذلك غرقة في بحار الخيال تائهة في بيداء التشبيه إذا بانف رجل قد التصقت بزجاج النافذة فتأملته فإذا هو دوندولو.

فطار قلبها فرحاً ومالت على المنضدة وكان يغمى عليها. وكان دوندولو يصفر لحنا فاستمر في صفيره ودخل الحانوت يديه في جيبه يميل زهوراً ويميد عجباً. وتظاهر بأنه لا يعرف اديليزا البتة وسلم على الأم وابنتها سلام خليع متظرف قائلاً

أسعد الله ليلتك سيدتي وانحنى أمام الأم. ما أحر هذه الليلة. حران وجوعان أيها السيدة كما يقول المثل. شد ما استهواني منظر هذه الحيتان ولاسيما إذ كان مقروناً بمنظرك أيتها السيدة

فلما سمعت الأم هذا التغزل الرقيق قالت واحمرت حياء أو حاولت أن تحمر دينك أيها الشاب

فقال الشاب أنت خير من ديني. انت معبودتي. ولكن من هذه السيدة اظنها أختك

وأشار إلى اديليزا وهي صامتة مبهوتة قد ملكتها حيرة وعراها ارتباك وخانتها قواها فمالت على كثبان من زجاجات الجنجر وارتاحت الأم أيما ارتياح إلى مقال دوندولو إذ يرى شبهاً في الهيئة وقرباً في السن بينها وبين ابنتها فيقول أظنها أختك

ثم قالت كلا ولكنها ابنتي. ثم التفتت إلى الصبي فقالت يا ادلي افرش نضداً للسيد. أتريد محاراً أبها السيد أم حيتانا

فقال دوندولو كليهما سيدتي فإني أتيت على قدمي من مكان قصى ومحلة نازحة. وقد نهكني الكد. وأعياني الجهد. فيا حبذا لو أسعفتني بمقدار من كليهما. وقد نهكني الكد. وأعياني الجهد. فيا حبذا لو أسعفتني بمقدار من كليهما. وسأبدأ إن شئت بالحيتان. ويا حبذا زعانفها فما أرى أشبه بها في الحمرة والرقة إلا شفتيك. قال ذلك وانقض على الحيتان كأن يديه شبكة لا تبقى منها ولا تذر.

فسرت الأم بحسن آداب الفتى وحدة شهيته. ثم أقبلت تشق له سمكات دقاقا. ودلف السيد يترنح ويترنم حتى أتى مقعداً إلى منضدة فجلس جلسة المغتبط المحبور.

وما كاد يستوي جالساً حتى سمعت الأم من ناحيته شهيق ضحك مكتوم وصوت لثم وتقبيل وتلتفتت تطلب ابنتها فلم تجدها فخالجتها ريبة وصاحت يا اديليزا فعادت إليها الفتاة وقد لبست وجنتها حمرة الجلنار بعد صفرة البهار.

فأمرت الأم ابنتها أن تلزم مكانها وسارت هي بالسمكات إلى الفتى حتى إذا جاءته وضعتها أمامه وقالت عابسة واخجلاه أيها السيد! وما هو إلا كطرفة العين حتى شرعت المرأة تضحك كما كانت تضحك ابنتها وختمت عبارتها التي أولها واخجلاه أيها السيد بقولها انته ودعني أذهب

ولم أك معهما إذ ذاك فاعرف ماذا دار بينهما وماذا عكس الأمر وصرف السيدة عن الغضب إلى الرضا وعن العبوس إلى الضحك على أنه يظهر لي أن دوندولو يغازل كل من صادف من الإناث ويعشق النساء بالكميات الجسيمة. والمقادير العظيمة.

وعادت الأم إلى مكانها تمسح عن شفتيها - لا أدري ماذا؟ وقد عادت إلى أكمل حال من الانشراح والصفاء وأرسل الصبي إلى حانوت الخمار ليحضر زقاً من الجن وراقوداً من نبيذ التفاح.

وصاح دوندولو من أقصى المكان وهو يلتهم السمك التهاماً أسرع! وساء اديليزا إن رأت أضراس حبيبها تسرع في الطعام كالنار في الحطب وما هكذا تكون العشاق في حضرة حبائبهم. حتى أنشد لسان حالها:

فلو كنت عذري المحبة لم تكن ... أكولاً وانساك الهوى كثر الأكل

والحقيقة أن دوندولو كان يأكل كالذي لم يذق الزاد قط. وإليك مقدار ما أكل وثمنه كما قدمته إليه المرأة أم اديليزا

يوجد جدول

ويلزمه تقديم ثمنه إلى المستر صمؤيل جرامباس

قال المستر دوندولو عند ما قدمت إليه ورقة الحساب كلا يا سيدتي يجب أن تسقطي لي شيئاً في المائة فضحكت الأم وابنتها والصبي من هذه الكلمة وقال دوندولو ولكن ما علينا وما أحسب أنا سنتشاحن من جراء الطعام وثمنه. ولكن أضيفي إلى الحساب زجاجة أخرى من الكنياك وأحضرينهيا متى جرى لها ما سيجري لي الآن؟

قالت المرأة ماذا تعني بقولك هذا؟ قال أعني أحضريها متى وصلت. مثلما وصلت الآن عجيزتي إلى هذا الكرسي ثم جلس في كرسيه وكان واقفاً.

فانصرفت المرأة تضحك من فكاهة الفتى ووقاحته وأخذ الصبي من بين أقدام دوندولو هرماً ضخماً من قشر المحار.

وصاحت المرأة بالصبي يا سام اذهب إلى الخمار فأت بزجاجة كينياك للسيد. ولكن لا تفعل فإنك من التقاطك هذا القشر في عمل أهم وأعظم اذهبي أنت يا اديليزا فساء ذلك الأمر الفتاة لأنه حرمها اختلاس الكلام مع حبيبها. ولعل الغيرة هي التي بعثت الأم أن تصنع ذلك الصنيع مع ابنتها.

فذهبت الفتاة ساخطة مغتمة وما كادت تذهب حتى أقبل أبوها وكان في حفلة أنس والرجل على فرط حبه للهو والعبث لا يفرط في شيء من أمره ولا يضيع مثقال ذرة من حزمه وجده. فما دخل الحانوت حتى نضا عنه حلله ولبس مباذلة ثم أقبل على امرأته يسألها ماذا حدث بعد ذهابه وماذا باعت؟

فقالت حال لا بأس بها. عندنا في الصندوق ليرتان. وورقة بليرة وثمانية شلنات ثم أسلمته الورقة.

فنظر فيها وابتسم ثم قال وكم كان آكلو هذا المقدار؟

فقالت المرأة كم تظن؟

قال إذا كان آكلوه ثمانية فلنعم ما صنعوا ولشد ما أجادوا

فضحكت المرأة وقالت فما قولك في واحد؟ إنه قد أكل كل ذلك وقد ذهب الصبي ليأتيه ينا جود من الخمر فوق ماشرب

فذعر الرجل وارتاع وقال أو أحد يفعل كل ذلك؟ ثم تقولين أنه لم يدفع

فأخذ الرجل الورقة وأسرع يعدو حتى دخل المطعم. وكان الصبي لا يزال يلتقط قشر المحار وكان لا يعد ولا يحصى. ودندولو أمام المائدة ثملاً يضحك وينكش بالسواك أسنانه.

ومثل المستر جرامباس أمام الفتي النشوان وليس في جسمه جارحة إلا ترتعد وترتعش وقد خطر بباله خاطر مزعج مشؤوم وهو أنه قد رأى ذلك الوجه قبل ذلك وأنه وجه لص.

فتناول درندولو الورقة ورمى بها في الهواء هازئاً وقال بصوت كالرعد ما أبلهك وما أجنك إذ تحسب أني أدفع دانقاً من هذا المبلغ؟ أأنا أدفع فلساً؟ ألا تعرفني. أنا دوندو!

فهرع الحاضرون من مجالسهم لينظروا الفتى المشهور واندهش الصبي فسقط من كفيه مئتان وأربعون قشرة محار. وجرى المستر جرامباس إلى باب الحانوت يصح ويصيح مستغيثاً برجال الشرطة.

وبينما كان يجري عثر في طريقه بشبه فتاة منطرحة على الأرض إلى جانبها خابية من النبيذ.

وقصارى الكلام أن الفتاة لما رجعت بخابية النبيذ سمعت الفتى تنطق ذلك الإسم المشؤوم داندو اسم شرير مشهور ومجرم معروف ثم أبصرت الفتى يميد من شدة السكر ويترنح ويصيح ويضحك ضحكاً شنيعاً ممقوتاً فسطعت الحقيقة لعينيها فسقطت مغشياً عليها.

فأكب الأبوان وهيعلى ابنتهما المغمى عليها وقد ذهلا عن كل ماعداها وأدنت الأم زجاجة الخل من خياشيم الفتاة وسلط الأب عليها رشاش الصودا فعادت إلى حسها ولكنها لم تعد قط إلى عقلها وإنما أفاقت من تلك الغشية مجنونة!

وماذا صنع الكاذب الغشاش؟ انسل هارباً من بين الجماعة وهم في شغل عنه بالفتاة فلو بصرته وهو مفلت إذ ذاك أبصرت نذلاً جباناً ووغداً خسيساً يمر كالذي لايبالي بما جرى حوله ولا يحفل قد أمال القلنسوة عجباً وخرج يميد ويميس خيلاء ويترنم بلحنه السافل الممقوت.

ولما كان الصبي ينظف الحانوت في غد تلك الليلة افتقد من متاع المكان وما عونه شوكتين من الفضة وصحفة من الصفر وطبقاً من الصيني وأبريقاً ولا أحسب القارئ في حاجة إلى معرفة من هو السارق.

أيها السادة هذه قصتي قد قلتها. فإن صلحت عليها نفس فاسدة. وتطهرت بعظاتها من أدران الخبث روح واحدة فقد نلت غايتي. وبلغت أربتي وحسبي أنها تنبه رئيسات المدارس. من غفلتهن. وتصحي التلميذات من سكرتهن. وتبصرهن بأساليب الدهاة المكرة فيعرفنها ثم يجتنبنها. وتفطنهن إلى مسالك الفسقة الفجرة. فيتعلمنها ثم يتحامينها. وتحذر الفتيان مخابث الشره وعواقبه. ومتالفه ومعاطبه وما يجر إليه من العورات والسوآت. والآفات والنكبات. أجل لو أي هذه لدروس أفادت قصتي هذه لكان ذلك حسبي اربي.