انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/الصين الجديدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/الصين الجديدة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1918



إن كل ما يصل إلى المسامع عن دولة الصين لا يزال يترك وراءه أثراً من الحيرة ومزيجاً من الدهشة والاستغراب، ويرسل الذهن يجري عادياً على أجنحة الخيال إلى تلك المملكة القصية النائية فيرسمها في مخيلته ويصور أناسيها ويتأمل وجوههم الصفراء ويستقصي الألوان المتعددة من أطوارهم الغريبة وتقلباتهم العجيبة فكأنما القارئ يطالع في قصة من قصص روكامبول أو يقرأ سيرة من سير سندباد البحري.

ونحن نقدم الآن لقراء البيان فذلكة تاريخية تحتوي خلاصة تاريخ الصين منذ نشوب الحرب إلى اليوم والأدوار التي تمشت فيها حتى قطعت منذ عهد قليل علاقاتها بألمانيا وأسهمت مع الحلفاء في معاداة الألمان، وهذا البحث لا بد منه ليربط الناس ما علموه من أخابير الحرب بما لم يعلموه، وليتموا في أذهانهم السلسلة المتطاولة حتى لا تكون منها حلقة مفقودة.

عندما نشبت الحرب، كانت الصين جمهورية وكانت الجمهورية قد اجتازت من العمر إذ ذاك عامين ونصف عام، وذلك منذ اعتزلت العرش أسرة تسنج المالكة في اليوم الثاني عشر من شهر يناير عام 1912 ولكن كانت في الحقيقة جمهورية بالاسم فقط إذ كانت قد استحالت إلى حكومة فردية مطلقة تحت الرئيس يوان شي كاي، إذ لم ين هذا الرئيس أن فض البرلمان واستعاض عن القوة العسكرية قوة ملكية سلمية وبدأ فرديته بأن دعا إلى قرض قدره خمسة وسبعون مليوناً من الجنيهات لكي يذهب بالضائقة المالية في الصين، فجمع هذا القرض في باريس في السابع من شهر فبراير من ذلك العام وألقى إلى المصرف الصناعي الصيني ثم أعقب هذا القرض قرض آخر تشفع هذا الرئيس له برغبة إعادة النظام وتدبير شؤون الدولة فاشتركت في جمعه انجلترا واليابان والولايات المتحدة والروسيا وألمانيا وفرنسا وكان ذلك قبل أن تنشب الحرب.

وكان النزاع قد بدأ إذ ذاك بين الصين واليابان إذ كانت مقاطعة كيوتشو قد أسلمتها اليابان في سنة 1897 إلى ألمانيا ولم تلبث أن أرسلت اليابان مذكرة إلى ألمانيا في 15 أغسطس، ولم يحن السابع من نوفمبر حتى سقطت عاصمة المقاطعة الألمانية وهي تسنج تو في أيدي اليابان وسكت الألمان عن النزاع ولكن الصين أرسلت احتجاجاً إلى اليابان عن فعلها وأمسكت عن رد كيوتشو إليها وأجلت المناقشة فيها إلى ما بعد الحرب، فلم تلبث أ أصبحت العلاقة بينهما واهنة العرى وانتهى الأمر بأن سلمت بكين عاصمة الصين في 8 يونيو عام 1915 فانتفع الرئيس يوان شي كي بالظروف الخارجية إذ كانت قد أحالت الأنظار عن داخلية المملكة، وانطلق يدأب على إقامة حكومة ملكية مطلقة وذلك بعون الحزب العسكري الذي يرأسه نيجان هوفاي ومجلس الوزراء تحت رئاسة تسان تشنج يوان ففي شهر أكتوبر نشر مجلس الوزراء قراراً بأن أعضاء البرلمان الجديد لهم أن يضعوا أصواتهم في صف الجمهورية أو يطلبوا إزالتها، وفي الوقت نفسه عمد يوان شي كاي إلى التنازل عن الشرف الملقى إليه وهو رئاسة الجمهورية، وإذ ذاك تداخلت دول الحلفاء وابتدأ تداخل اليابان وروسيا وانجلترا ثم جرت فرنسا على آثارها لكي تحول دون رجعة الحكومة الملكية المطلقة ولكن السواد الأعظم من ولايات الدولة كانت قد صوتت في صالح عودة الملكية، وفي الحادي عشر من ديسمبر أقر في الانتخابات العمومية على رغبة الشعب، وكانت خطبتان في المجلس كافيتين لقبول يوان شي كاي مراعاة لرغبة الشعب الأهلية، وفي الثالث عشر من ديسمبر احتفلت الصين بالإمبراطور الجديد، ولكن عهد يوان شي كاي بالحكم الإمبراطوري المطلق لم يلبث طويلاً إذ تلقى في الحادي والعشرين من ذلك الشهر من قائدين زعيمين من زعماء الولايات وهما الجنرال تسي نجو من ولاية نويان والجنرال تيانج كي يو من ولاية كيوتشو بلاغين مستطيلين، وطلباً إليه الإجابة عنهما في مدى خمسة أيام، فلما لم يجب، أعلنت الولايتان الاستقلال، وظلت الثورة أشهراً ثلاثاً ثم بدأت تخمد نارها بعد ذلك، ولكن لم يكد يهجم الربيع حتى امتدت نيران الثورة مرة أخرى فأقبلت على التمرد ولايات الغرب وأسهمت في العصيان، فعاد يوان شي كاي يلتمس صلاح ذات البين بالمفاوضات والملاينات والمسالمات، ولكن المفاوضة لم تغن شيئاً لأن هذه الثورة المشادة باسم الجمهورية لم تكن في الحقيقة إلى مأرباً من مآرب عدة من الموظفين والقواد والزعماء، وكذلك شاعت الثورة في الإمبراطورية كلها، إذ كان المجلس معقوداً للصلح في نانكين، فاستفحل الأمر واستعصى على يوان شي كاي، فلم يلبث أن وافته المنية فجأة في السادس من شهر يونيو بعد غلاب خمسة أعوام طوال وظلت الصين بعد موته مقسمة مفصومة العرى، إذ ثارت مطامع أهل الأغراض والدسائس، وكان يوان شي كاي الحائل دون رجعة الجمهورية، فلما قضي زال ذلك الحائل، وكانت اليد الألمانية تعمل في الخفاء، فلم يلبث الرئيس الذي خلف يوان على الجمهورية وهو لي يوان هونج أن ألقى نفسه إزاء حرب شديدة مع رجال الحزب العسكري القديم ولما أعيد فتح البرلمان ألفت الحكومة حرباً أخرى من الحزب الراديكال أو حزب المتطرفين تحت زعامة سن يان سن، وخمدت نار الخلاف بأن انتخب لوظيفة نائب رئيس الجمهورية رجل سياسي عامل محبوب من الأحزاب المعارضة والفرق المتناهضة، وهو المارشال فونج كونشانج.

وكان المظهر الذي اتخذته الولايات المتحدة إزاء ألمانيا ودعوة الرئيس ويلسون التي ألقاها إلى الدول المحايدة احتجاجاً على حرب الغواصات قد أحدثت أثرها في الصين لأن للولايات المتحدة فيها أثراً أكبر من أثر دول الغرب فقد اجتهدت منذ سنين في أن يسود نفوذها الاقتصادي في المملكة الصفراء حتى أصبح لها حق عليها واستمالت عاطفة الجمهورية الوليدة، ولم تلبث أن صارت إزاءها الراعي المدافع يحميها من دول الغرب وأطماعها ومن شر اليابان قبلها فلم يسعها خشية على نفسها إلا أن تنضم إلى الحلفاء، وتمهد السبيل لمستقبلها، وتشترك في مؤتمر الصلح الذي سيبتدئ بعد الحرب، ليرى رأيه في مستقبل العالم الإنساني.

ذلك ما ذهب إليه الحزب الجمهوري، فبعد المعارضة الشديدة من المحافظين والعسكريين عشاق القوة الألمانية وعبدة الإمبراطور غليوم، تحت زعيمهم تشانج سون ظفرت الحكومة بهذا الرأي فأرسلت إلى برلين مذكرتها الأولى احتجاجاً على امتداد الحرب البحرية وتوسع الألمان فيها ثم ثنتها بأخرى في 28 فبراير من العام الماضي فلما تلقت رداً سلبياً عرض رئيس الجمهورية لي يوان هونج على البرلمان نيته في قطع العلاقة السياسية بين الصين وألمانيا، فتلقي البرلمان الرأي بالقبول وفي الرابع عشر من شهر مارس أعطى الأميرال فون هنتز سفير ألمانيا جواز السفر.

ولكن لم يكن ذلك يعد إعلاناً للحرب، فقد اعترضت الجمهورية حرب داخلية جديدة، إذ كان الجنرال تشانج وحزب كبير في أثره يسعون في إعادة الملكية وقد استطاع هذا الحزب أن ينشر الدعوة ويظفر بالأنصار، ونجح القوم في النداء بطفل صغير يناهز الحادية عشر إمبراطوراً جديداً للمملكة، ولكن عهد بن بي بالو وهو هذا الطفل الإمبراطور لم يكن طويلاً، فلم يجد الرئيس لي يوان هونج إلا الاستسلام والرضى بالهزيمة، على أن الجمهورية لم تلبث أن رجحت كفتها وظفرت بمكانتها الأولى، وانتخب للرئاسة المارشال فونج كوك تشانج فأخذ الرئيس سبيله إلى الحرب بجانب الحلفاء.