انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 38/رسائل النساء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 38/رسائل النساء

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1918



أو صورة فلسفية من روح المرأة

مارسل بريفوست، من كبار كتاب فرنسا، وروائييها الطائري الصيت، وأحد أعضاء الاكاديمية الفرنسية، قصر كل مقدرته الكتابية على تصوير نفوس النساء في جميع مراحل العمر، وبحسب أماكنهن في الحياة، فأجاد في ذلك الإجادة كلها، وعرف بهذه البراعة المدهشة، وخير تواليفه رسائله التي كتبها على ألسنة السيدات إلى عشاقهن وأحبابهن أو إلى معارفهن وكاتمي أسرارهن، من المرأة المخادعة زوجها، والسيدة الضاحكة من عشاقها، واللاهية بخدع رجلين في آن واحد، وما إلى تلك الصور.

ونحن نعرب هنا الآن رسالة من تكلم الرسائل الرقيقة، وهي من ممثلة إلى ضابط مفتون بها، وفي هذه الرسالة طائفة من المعاني الفلسفية، والحجج الغريبة في الحب، والفتنة العمياء، وعبث المرأة الساقطة بالقلوب.

الضابط

من مدام فيكتوريا لانسيني إلى مسيو جورج بريانشو

لقد كتبت إليّ إحدى عشرة مرة يا سيدي منذ جئنا لنمثل في بلدتك، وكانت الرسالة الأولى تحوي ما معناه سأكون هذا المساء في الصف الثالث بعد مقاعد الموسيقى الوترية، في الناحية اليمنى من الملهى وستعرفينني من ثوبي العسكري، ثوب ضابط في المدفعية، وستتبينين من الوردة الحمراء التي وضعتها في عروة ردائي المحب، المفتون بك المدله في الصمت. . . .،

وقد رأيتك حقاً، ولكني لا أقول أنني تأملتك ملياً وأنعمت فيك النظر، فإن التلفت والخروج عن طور التمثيل خطر مرعب فوق المسرح، ولكني لمحت هناك ضابطاً شاباً بديع المعارف في ذلك المقعد الذي عينته، تطل من عروته تلك الوردة القرمزية التي هي أشبه شيء بالوسام المجيد.

وفي اليوم التالي إذ عدت إلى الملهى لحفظ أدواري ومراجعتها، دفعوا إليّ رسالة جديدة ممضاة منك، فإذا أنا أمام أربع صفحات حشدت فيها أبدع ما قرأته في حياتي، فقلت إنك تعاني الألم الأليم من حبك إياي عن كثب وأنه ينبغي لك أن تراني، وتحدثني وتقضي م الحين إلى الحين بضع هنيهات على مقربة مني وفي مجلسي ولا تطلب أكثر من ذلك، وقد أقسمت لي بشرف رجل عسكري أن ذلك يكفي لكي يجعلك أسعد ضباط فرنسا بأسرها.

وأنا عليمة يا سيدي أنك ولا ريب قد حكمت عليّ سوءاً ورميتني بفساد التربية إذ لم أجب بسطر واحد على صفحاتك الأربع، ولكن ماذا تريد غير ذلك مني، لطالما تلقيت أشباهاً لهذه الرسائل ونظائر، ولم يكن لها من تأويل عندي إلا هذه الفكرة إن هذه القينة قد تستمال، إنني رجل شاب، ولست غنياً، فعلام الخوف ولا جزف ثمة ولا مخاطرة، لنجرب!. . . .

فلم أرد على رسالتك، فرحت تكتب إليّ غداة كل يوم رسالة، وجعلت أتلهى في الصباح بتصفحها من المطلع إلى الخاتمة، وكانت رسالتك كل يوم تبدو أقل احتراماً في لهجتها وتهيباً، وأكثر حرارة وولعاً وتوقد، وجعلت تقول أنك تعرف السبب الذي من أجله أصد عنك وأعرض، ذاهباً إلى أن ضابطاً في المدفعية ليس شيئاً مذكوراً وليس رجلاً مثرياً. . . ولكنك أردفت ذلك بقولك إنك خليق بالعناية وإنك أرفع من هذا قدراً، لأنك انحدرت من أصلاب أسرة شريفة في الريف، وإنها لاتزال على شيء من الخير والرزق وأنك ستصبح معلماً ذات يوم، وهي مكانة سامية، إلا إذا كنت أنا أفضل أن تظل في الخدمة العسكرية لكي تصبح ضابطاً عظيماً.

فماذا تظنني أجيبك على هذا، إني أسألك ذلك وألتمسه إليك، كان هناك في الإمكان جواب واحد، أليس كذلك، وهو يتلخص في هذه الألفاظ إنني أرتقبك في هذا المساء!

ولكني لم أكن أريد ذلك، ولم أكن أستطيع أن أجيبك بمثل هذا، وسأبسط لك الآن السبب.

فعمدت إلى وسيلة أخرى، إذ بدا لك أن من السذاجة وبلاهة الفؤاد أن يكثر الإنسان من لغة العاطفة مع امرأة على شاكلتي، فوضعت في غلاف خمس سفاتج من ذات الألف فرنك، ومع الخمسة آلاف هذه الألفاظ في قطعة صغيرة من الورق: الضابط بريانشو يود أن يرقد ليلة الغد مع مدام لانسيني، الرد منتظر. . . .، وكان الرد بسيطاً للغاية وهو إرسال خمسة آلافك إليك في التو واللحظة.

ولما كنت رجلاً ذا قلب، وشاباً من أهل الخير، فقد علمت أنك قد ارتكبت أمراً نكراً إذ أهنت امرأة - قد لا تكون امرأة شريفة - ولكنها امرأة ليس لك عليها من حق أو سلطان.

ولعل أبدع كتبك عندي وأشدها تأثيراً أخيرة رسائلك، تلك التي سألتني فيها الصفح والمغفرة، وإن كنت ختمتها بتهديد، إذ قلت إنني أرى أنك لن تحبيني يوماً، بل إنك لتكرهينني الآن إذ أهنتك، ولكني أعلم ماذا بقي عليّ أن أفعل، إنني سأنتظر حتى مساء الغد، فإذا لم أتلق في مساء الغد كتاباً منك ينبئني أنك ستكونين لي فلن أكون غداة اليوم التالي إلا جثة هامدة، الوداع يا سيدتي، لتنسي الضابط بريانشو وتروحي في الحياة سعيدة!.

رباه! إني أعلم أن هذه الكلمات كثيراً ما تكتب دون أن يكون هناك أية نية على إنفاذها، ولكني رأيتك مضطرباً في كتابك متألماً، وشاهدتك في مقعدك وراء الموسيقى أصفر شاحباً، ثم خمسة آلاف فرنك هذا القدر الكبير على ضابط صغير في مرتبتك، هذا القدر الذي لا يعرف أحد غير الله كيف جئت به، كل ذلك قد أزعجني، وأخافني، وأشفقت من أن تنفذ وعيدك، فلم يسعني إلا أن أرد عليك في هذه المرة. . . . . .

إنك تسألني أن أكون لك وتحفل بذلك أكثر من احتفالك بالحياة، ولكني لا أستطيع يا بني أغضبك بالحكم على ذوقك. . . بل إنه ليعد ملالي وتغالياً، ولا تظن أنك دميم في عيني، كريه إلى ناظري، بل إنني لأراك آية الرقة وروعة الحسن، ولعل في هذا ما يرد عليك عزة نفسك ويرضي خاطرك، ولكني الآن أقول لك أن هذه الرغبة التي أثرتها في فؤادك، طالما ثارت كذلك منذ خمسة وعشرين عاماً قضيتها فوق المسرح، في قلوب عدد كبير من الرجال، شباباً وكهولاً، وأشراراً وأخياراً، وفقراء ومثريين، وكانت هي الضرورة التي خلقتها صناعتي وشهرتي، ولكني أقسم لك أنها لم تكن لديّ في شيء من الأهمية، ولاسيما إذ تعدو الشيخوخة، ويحل الضعف، وتتقدم السن، كحالي اليوم، فإن لي ولداً يناهز الربيع التاسع عشر، ويبدو لي الآن ولع الرجال بي وتوثبهم ضرباً من التحية اللازمة فقط.

ولكنك ستقول ولكني أحبك بقلبي وأحس أشد العذاب في حبك، وأوثر أن أموت. . . . ولكنك مع ذلك ستقنع ولن تعود بك حاجة إلى الانتحار إذا أنا وهبتك خلوة في سبيل خمسة آلافك، وإنني إذا منحتك نفسي في هذا المساء فستأذن لي غداً بالسفر في جولة للتمثيل.

إنني أعلم هذه النزعة الشديدة التي تلهم الشباب لأجل امتلاك مرأة من نساء المسرح فإنهم يحتاجون إليها مرة واحدة، ثم تهدأ ثورتهم فلا يحفلون بما يكون مصيرها بعدها.

ستقول كلا، أليس كذلك، لست هذا الرجل، إن لحظة لذة لا تهدئ ثائرك ولا تبرد حرارتك، إذن فينبغي يا بني أن لا أمنحك هذه اللحظة، بل أقول لك أنني مخافة أن تكون حقاً في حبي أرفض اللقاء بك لأنني لا أود أن تحبني إذ لا يجب أن تحب وأنت في سنك هذه الناضرة إلا سيدة شابة تصلح لك أو المرأة التي ستصبح زوجك، ولكنك إذا تركت فؤادي ينطلق في حبي فأي مستقبل لك تؤمله، إنني لا أستطيع أن أعيش في ظلك، فهل أنت تابعي وسائر في أذيالي إلى أي مكان أريده أم هل مقدم على المسرح فتكون ممثلاً، وتترك السيف والجند، أو تكون رفيق ممثلة يتبعها في جولاتها ولو فعلت ذلك لألفيت نفسك بعد أيام قد ضحيت كل شيء لأجل امرأة عجوز.

نعم لقد كنت من قبل حسناء فاتنة ولكني أعترف أنني لم أعد اليوم في شيء من ذلك الحسن ولا على شيء من تلك الفتنة، فأزل عن عينيك تلك الصورة التي تخدعك منها المساحيق والطلاء والأثواب، وتأثير الأضواء وسلطان الموسيقى بل إنني لأكاد أبكي ألماً إذ أتصور العذاب الذي سيثور في نفسك لو رأيتني على حقيقتي، وشهدت ما أصارتني الخمسون ربيعاً التي أعض الآن عليها.

ثم تصور أن الحقيقة لا تبدو لك إلا بعد ما قد امتلكتني وتمتعت بي، وإذ أكون قد بدأت أنطلق في حبك، وتكون أنت قد بدأت لا تود إلا أن تفر هارباً وتعتصم مني بالنسيان.

كلا، لا يصح لي أن أقدم على هذه المخاطرات، وخير لي وإن كنت على الخمسين أن أكون رفيقة رجل مالي شيخ فإن ذلك من صناعتي، ولا خطر فيه على الفؤاد، ولكني لا أريد عاطفة شابة حارة مضطرمة وأنا في هذه السن فليس لديّ ما أبادلها به ولا أستطيع لها إمساكاً ولا بها احتفاظاً.

فهل أدركت الآن أن كل ذلك في صالحك، وأنه لا يثقل عليّ مطلقاً أن أهب نفسي ليلة إلى ضابط شاب جميل وقد رأيت أن أرسل إليك مع رسالتي هذه صورتي الشمسية التي صنعتها منذ خمسة عشر عاماً، إذ كنت في عيني عشيقي المرأة الحسناء التي وهمتها فوق المسرح فاحتفظ بتلك الصورة فهي دليل على أنني لم أحقر حب ضابط صغير ذي وردة حمراء في عروته.

فشجاعة يا بني صبراً، فقد كان حقاً على أن أحدثك جميع هذا الحديث، وإذا أردت أن تعلم ما بعثني على أن أتشجع فأدلي إليك به فإنني منبئك. .

إنني إذ تلقيت تلك الرسالة التي حدثتني فيها عن نيتك في الانتحار كنت أفكر في طفلي الذي يوشك يخرج من الجامعة ويلتحق بخدمة الجيش كذلك، وقد تخيلته في لباس الجند مثلك، في مدينة من مدائن الريف، مذهوب الرشد بمغنية مثلى، أواه أينتحر لا جل ذلك أو يفر من الجندية أو يستلب أو يشوه مستقبله!

إني أرجو الله أن يحفظه جزاء لي إذ أنقذتك وحفظتك اليوم.

أيها الأحمق، أمل إليّ وجنتيك أطبع فوقهما قبلتين مستطيلتين، من تلك القبلات التي تهبك إياها والدتك. . . . .