انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/مصر

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 4 - 1917



منذ مائة وأربعة وخمسين عاماً

قطعة مجهولة من التاريخ

ظفرنا في هذه الأيام بكتاب غريب نادر الوجود، يربى عمره على المائة والعشرين عاماً، إذ كان طبعه عام 1792 أي يوم جن جنون الثورة الفرنسية واحتدمت نارها، والكتاب مترجم إلى الإنكليزية عن الألمانية وهو غريب الأسلوب، قديم التراكيب، تخالف لهجته ونطق حروفه اللغة الإنكليزية الحديثة، ولعل ذلك لأن اللغة الإنكليزية قد تنقلت في أدوار عدة وتطورت أطواراً شتى، ومشت في قوانين الطبيعة التي تأبى إلا التجديد، وليس تقدم الكتاب في العمر، وتراخيه في السن، هو الذي استأثر بدهشتنا، وامتلك عجبنا، ولكنا كنا بموضوعه أشد دهشةً، وأكثر عجباً، وذلك أن الكتاب يدور حول سياحة غريبة خطيرة قامت بها بعثة علمية في عدة أنحاء من الشرق، فجاءت إلى مصر عام 1761 من الميلاد أي منذ 154 سنة. ثم واصلت المسير إلى جزيرة العرب حتى بلغت الهند، وتفصيل الخبر أن فريدريك الخامس، ملك الدانيمارك في ذلك العصر - وكان للدانيمارك في العصور الماضية شأن وأي شأن - أنفذ طائفة من العلماء المقربين إليه، والسائحين المشهورين في ذلك العهد، واختار لهم رجلاً من كبار أهل الرياضيات والعلوم الهندسية لمرافقتهم وإعانتهم على استكشاف تلك البلاد، ومسح أراضيها، وتعرف طبائع ترتبها وجوهاً، وعادات أهلها وهذا الرياضي هو العالم الألماني نيبور جاء به من ألمانيا لهذا الغرض خاصة، فبدأت الرحلة عام 1716 من كوبنهاجن. عاصمة الدانيمارك فانحدرت إلى مرسيليا، ثم عرجت على القسطنطينية فأقامت فيها أياماً واجتازت البحر الأبيض إلى الإسكندرية.

وقد آثرنا أن ننقل طرفاً من هذا الكتاب الغريب، وهو من قلم نيبور نفسه، ولعله كان على شيء كثير من الأدب والبحث ودقة الملاحظة والإستنساج، لأننا نشتم من مؤلفه روحاً أدبية خفيفة الظل، ولعل الذي أعانه على تفهم غرائب البلدان التي احتوته في سفرته. هو أنه قبل قيام البعثة، توفر على تعلم العربية وإتقان الكلام بها، واعرف ما في أمره أنه هو الفرد الوحيد الذي واصل الرحلة إلى بومباي في الهند، ولقى في سبيل ذلك الأهوال والمخاوف وعانى التهلكات والمخاطر لأن افراد البعثة جميعاً قضوا في الطريق، عندما اشتملت عليه بلاد العرب بحرها ووقدة شمسها وغرابة جوها، فلم يبق منهم حي غير نيبور هذا، وليس ذلك إلا لأنه عرف كيف يتحصن من الجو، ويأخذ لنفسه الحذر من أثر المناخ الغريب عن مناخه، إذ كان يرتدي اللباس العربي، ويتخذ الأثواب الملائمة لزي البلاد التي كان ينزل بها.

وفي هذا الكتاب شذوذ من التاريخ المعروف، والوصف الجغرافي العادي الذي نعرفه نحن أكثر من نيبور، ومن ثم قد آثرنا أن نمر بذلك مراً، ونتحاشى نقله، ونأخذ في كل ما يفيد القارئ، ويبعث على الفكاهة والغرابة.

بعد أن وصف الإسكندرية وآثارها القديمة المعروفة، استطرد يصف كنيسة الأقباط فقال وللأقباط كنيسة مقامة للقديس مرقس، وفيها قبره، ولكنها لا تفتح ولا تدخل، لأن بعض قساوسة الروم حاولوا أن يسلبوا رأس هذا القديس، وإن كنت أعلم أن أهل فينيسيا البندقية يدعون أن لديهم هذا الرأس المقدس. ولا أعرف أي الخبرين أصح وأقبل للتصديق، وقساوسة الكاثوليك يفخرون دائماً بأنهم استطاعوا أن يخدعوا العرب والأقباط بأن قطعوا الرأس وشحنوه في طرد سميك، ونجحوا في تسفيره بصفة طرد يحوي لحم خنزير. لأنهم عرفوا أنهم عندما يصفونه بأنه لحم خنزير لا يستطيع أن تدنوا منه الضباط الأتراك الموظفون في الجمرك، والأتراك يحرمون تصدير الجثث أو الموميات إلى الخارج، ولهذا كان من الصعب أن تنقل الجثث القديمة التي يعثر بها في أرض مصر، ولكن كانت الجمارك وشؤونها الكبرى إذ ذاك في أيدي اليهود، وبذلك استطعنا أن ننقل مومياء وجدناها في الإسكندرية على ظهر سفينة إيطالية، بعد أن رشونا عمال الجمارك، وحاولنا ترحيلها إلى أوروبا، ولكننا لم نلبث أن أعدناها على الرغم منا، لأن جميع البحارة الطليان في تلك السفينة هددونا بتركهم السفينة، إذا لم تقذف هذه المومياء بعيداً، إذ توقعوا أنها ستجر الشقاء عليهم.

وقد كانت الإسكندرية تستطيع أن تكون أحسن حالاً من حالها الحاضرة لو لم تنتابها النكبات والعوائق من كل سبيل، لأن أهل الإسكندرية يحملون استعداداً طبيعياً كبيراً للتجارة، ولكن تأثير الحكومة يحول دون ذلك، ولم ألتق في أسفاري ببلد أهله أعرف باللغات الأوروبية من أهل الإسكندرية بل إنهم ليحسنون التكلم بلغات شمال أوروبا كذلك، مثل الألمانية والدانيماركية والسلافية وغيرها، وكثيرون من الإسكندريين يشتغلون تراجمة، واللغة الأجنبية شائعة على ألسنة الإسكندريين هي الطليانية.

ولكن جهل المسلمين فيها وبلاهتهم عاقتني عن كثير من أبحاثي وملاحظاتي، فقد حدث أن تاجراً تركياً شهدني وأنا أوجه أداة المساحة التي كانت معي ناحية المدينة، فثار في نفسه الفضول، ودنا فنظر إلي من خلال الزجاجة وإذ رأى البرج من خلالها عاليه سافله، تملكه الخوف، وذهبت نفسه شعاعاً من الفزع، فانطلق هارباً، وراح ينشر في المدينة خبراً غريباً مؤداه أنني أريد أن أقلب المدينة، وانتهى الأمر إلى الحاكم، ومنذ ذلك اليوم امتنع خادمي التركي عن المشي معي.

واتفق مرة أنني وأنا في إحدى قرى الدلتا كنت أقيس بعض الزوايا وكان أحد الفلاحين واقفاً عن كثب مني فردت أن أمتحن شجاعته فجعلته ينظر من خلال الزجاجة، فراعه أن يرى قريته المحبوبة عاليها سافلها، فاشتدت رعدته، وزاد خوفه عندما أشرت إلى الخادم أن يقول له أن الحكومة قد غضبت على هذه القرية فأرادت أن تدمرها تدميراً، وقد جئت لهذا الغرض، ففزع الرجل، وتوسل إلي أن أنتظر بضع دقائق فقط حتى يستطيع أن ينقذ زوجته وبقرته، وإذ ذاك أفلت تاركاً ساقيه للريح يريد بيته قبل أن يخر عليه السقف وعدت أنا ثانية إلى الزورق الذي جئت فيه.

وبعد أن أقامت الجماعة بالإسكندرية قليلاً سافرت إلى رشيد وقد وصفها نيبور وصفاً يكاد يجعل رشيد اليوم نجعاً صغيراً بجانب رشيد الأمس، إذ كانت في ذلك العهد ثغراً من أكبر ثغور البلاد المصرية - قال نيبور وقد حدث أن فرداً منا يسمى فورسكال، أبى إلا أن يسافر إلي عن طريق البر، وكان المسافر عرضة لسطوا العرب الأفاقين المتجولين في ذلك الإقليم، وقد كان من هذه المخاطرة أن جاء زميلنا وليس عليه إلا بنطلونه فقط، لأن العرب باغتته في الطريق فسلبته كل ما يملكه، ولكن هزتها أريحية الكرم، فأبقت له بنطلونه.

وانحدرت البعثة بعد ذلك إلى القاهرة، فبعد أن وصف كثيراً من آثارها وأحوالها وموقعها وقلعتها قصر الباشا والإنكشارية قال كثيراً ما يخطئ السائحون في تقدير عدد سكان المدن في الشرق، وكذلك القاهرة لأن ضيق شوارعها وطرقها تدعو إلى التوهم أنها آهلة بالسكان مزدحمة بالأهلين، وفي عدة من الأحياء دروب ضيقة طويلة لا تنتهي إلى شارع. ولا تحور إلى غاية ولا ترجع إلى طريق معين، وسكان هذه الأحياء يستطيعون أن يتحدثوا خلف بيوتهم، ولكنهم يمشون ميلاً كاملاً قبل أن يلتقوا، وهذه الحواري يسكنها الصناع، وهم يتركونها نهاراً إلى مصانعهم في الشوارع الكبرى ويغادرون نسائهم وأطفالهم في البيوت، ولهذا يندهش أهل الحارة وينزعجون عندما يرون رجلاً يمر بين بيوتهم ويظنونه قد ضل طريقه ويجتمعون حوله يمنعونه من المرور.

والقاهرة حافلة بالبرك وتكثر عند فيضان النيل، فتكون بساتين ناضرة، وفيها يسكن أكابر البلد، وليست قصور الكبراء والذوات في شيء من الفخار والرواء وإنما تمتاز بجدرانها العالية، وحيطانها التي تخفي ما ورائها.

يتلي - ومزايا الكتاب ستتجلى فيما يأتي