مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/الحرب
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/الحرب
كلمة شعرية نثرية بديعة في وصف الحرب الحاضرة
من كتاب المساكين
رقعة من الأرض كأن فيها شيئاً من الطينة التي خلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله فلا يكاد ينزل بها الجيشان. حتى تعيد أرواح أكثرهم إلى سمائه، ينجذب إليها الجندي لأن فيها ترابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب منيته في اقترابها، ولا تزل تصرعه وكأنها من شوقها تضمه. وتلقيه على صدرها ميتاً أو جريحاً كأنها تعلمه بذلك أن الأرض أمه. وهي مزرعة الموت نباتها الرؤوس، فمنها قائم وحصيد، وثمراتها النفوس، فمنها داني القطاف ومنها بعيد، وقد رواها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد.
بل هي ساحة لحرب ترفع عليها القوة راية وتنزل راية، ويحشر في مسرحها الناس لتمثيل لهم الموت كل يوم رواية، وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر ناخره، وتناثر فيها الرجال فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخره. وظهرت تلك الساحة وقد كشرت عن أنياب من السيوف وأسنان من الأسنة كأنها لأهل الدنيا فم الآخرة أما الجنود فإذا رأيتهم يلتحمون قلت زلازل الأرض قد خلقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحمون خلت نفوس الكرام قد حملت على دهرها، وقد أيقنوا أنهم إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومن لم يبن منهم على الفتح بنى على الكسر وما منهم إلا من يحمل رأساً كأنه لا يمكنه على عنق لا يدري كيف يمسكه، في بدن لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه، فهو لا يبالي أظلته الشمس. أم أظلم عليه الرمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس، وإذا كان من صفة الميت أنه اسم في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسم يعيش بغير اسم. وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه الطرح أم أخذه الضرب وإنما هو حيث يتهيأ له انتظار الأقدار، فليس إلا الصبر، ولو في بطن القبر، وحيث يطبخ له النصر على النار. فثم المكان ولو في جوف البركان، وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنة تعمل بلا عقل فلا يخشى الحيف، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكائه أن يكون من صحة الذهن. . . بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من خفة الروح بحيث تحمله اللفظة الخفيفة على جناح الأمر.
وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضياً، ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكماً على الحياة ماضياً، فكلا الفريقين يقدم الحجج، من المهج، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه بكل ضرب ويجري الحياة مجرى الإستعارة في بيان الحرب.
وقد توقف الرجال في يوم أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينزل منها أن تقع على الأرض، فالخيل منقضة كأنها صواعق أرسلها الموت في أعنه، أو نوازع من السحاب بروقها الصورم والأسنة، مسرعة كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلةً كأنما تحيرت كيف تفر من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسد في غاب، وكأن الموت من سيفه سم خلق في ناب، وكان العنان في يده سوط ولكنه سوط عذاب، لم يعد في الفرسان، حتى لم يعد من الإنسان، فإذا صاح بقرنه عرفت وحوش ذلك الصوت، وإذا هاجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر إلى مقتل عدوه حسبت عينيه نقطتين على تاء الموت.
وقد ثار الغبار كآفة طريق يمتد من الأرض إلى السماء، أو كأنما أراد أن يمثل السحاب وقد رأى المطر تمثله الدماء، أو كأنه لما رأى الحرب تتوقد هب مستجيراً من الرمضاء، أو هو قد فر من الأرض لما خشي أن تنفلق الأرض من حوافر الخيل، أو كأنه أنف أن يأتي الناس أعمال اللصوص في نور الشمس فضرب عليهم قبة من الليل، أو حسب عقول الجند في أيديهم وأرجلهم. . . فطار ينظر أين تلك الهام، أو هو لما رأى المطر أحمر خشي على الأرض فثار ينظر ماذا دهى الغمام.
والمدافع قد رمت الأرض بزلزالها، وألقت على الجند من شر أفعالها، فتركنهم كالغابة الملتفة إذا استطار فيها الحريق وانحط فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقض عليهم من قنابلها جدار من الجحيم. وكأن كل مدفع في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم.
تحمل في بطونها أجنة من النار ترتعد الحصون لهول ميلادها، وتنحني القلاع مخافةً منها على أولادها، ولها صوت بعيد كأنها تنادي به السماء لترسل المنايا الطارقة، أو لتستقبل الأرواح المفارقة، أو كأنه نشيد فخم تفتخر به الأرض على الرعد والصاعقة، وهي القارعة وما أدراك ما القارعة، أما يومها فيوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وهو إن لم يكن يوم النفخ في الصور. فإنه يوم تحصيل ما في الصدور، وإن لم يكن يوم يبعثر من في القبور فإنه يوم يبعثر الناس في القبور. وهو المدفع حسبه قوة أنه من الحديد، وحسب ما يحويه قول الله عز وجل فيه بأس شديد، وحسبه رعباً أنه شكل عصري من عذاب الخف القديم أعده الله لهذا الإنسان الجديد، فكم من حصن منيع إعتزبه أهله اعتصاماً، فتركهم فيه تراباً وعظاماً، وكم من قلعة شامخة اغتر الجند بقواها، فدمدم عليهم بذنبهم فسواها.
وأما الرصاص فهو من سماء الموت حب غمامة، وله صفير كأنه ترنم الشيطان ببعض أنغامه، ولو أن عاصفة كنست أرض الجحيم لما شوت الوجوه بأشد من ناره. ولا حملت من من هناك إلا ما تحسب هذا الرصاص من حصاره وغباره، يثور كما تثور الأعاصير، ويندفع كما تندفع المقادير، ويقع على الأجسام بالأجل أو يطير، ويتناثر كأن في السماء نجماً تفتت فسقط، أو كأن قطعة ذابت من الشمس فألقت على وجوه الناس هذه النقط، أو هو فوج من ذباب النار، هبط إلى هذه الدار، فلا هم له إلا الجلود وإنضاجها بلذعه، والعيون وإخراجها بنزعه، والعروق واستخلاصها، والدماء وامتصاصها، والأرواح بعد ذلك واقتناصها. وكأنه زفرات غير أنها لا تخرج من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تشفيه، وهو أوقع في الرؤوس من الأوهام، وأنفذ في الأغراض من مكائد الأفهام، وأحر على الأكباد من كل ما يضرم غضب الجبار المغيظ، وما هو إلا العذاب الرفيع إن كان المدفع هو العذاب الغليظ. . .
وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصله، وإن عرفت آلة التصوير كيف تجمله فليس يعرف القلم كيف يفصله، ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رزقها العقل فكانت بلاء على الأبدان. قوة المعجزات التي أركبت هذه الذبابة الإنسان على متن الغمام، وطوت لها من السماء بين جناحي النور والظلام، فإذا سمت الطيارةخفض لها السحاب جناح الذل، وأقبلت الملائكة تسأل ربها ما هذا الجزء من العالم بل ما هذا الكل، وما هذه الجرادة التي رأسها في ظهرها، وسرها في جهرها، بل ما هذه الحياة الأرضية التي عرجت في السماء فخرجت من حدود دهرها، وماذا العقل الإنساني الذي لا يوزع جأشه، والذي يرفعه إلى السماء ارتعاشه، وهو مع ذلك يندفع على أهله بالويل اندفاع السيل، ويطلع نصفه كالبور على الأرض ليطلع نصفه الآخر كالليل؟
وهي الحرب العامة كأنها ثورة الدهر وقد ضجر من هذا العالم وطغيانه، ومل من سماجة إنسانه، واشتاق إلى عصر حيوانه، فزفر زفرةً أيقظت الموت وكان نائماً، وتركت هذا الإنسان من الفزع لجنبه أو قاعداً أو قائماً، واستنزلت من القضاء ما كان في علم الله غيباً، واشتعل من هولها رأس الأرض ببياض السيوف شيباً، وجعلت من البيوت قبوراً لأهلها، وساوت في معايش الناس بين صعبها وسهلها، وأظهرت لعقول العلماء أن أكثر علمها من فنون جهلها. . . فالأرض في بلاء منتشر لا يعرف له حجم، والشعوب في ظلام من اليأس ملتهب النجم، والدول في عصر كليل الشياطين كله رجم. .!
تلك هي الحروب القائمة اليوم وليكن كما ترى خيال النار في الماء، أما الحقيقة فكل حرف منها جيش وكل كلمة أمة، ووراء ذلك معنى رائع هو استجماع الحياة الأرضية لمقابلة الموت. ولو أن لهذا الكون مرضاً يعتريه كما نعتري الناس أمراضهم لقلت إن شق الأرض قد ضرب بالفالج فأصبح شقها الآخر لا يكاد يجر ظله حول الشمس لأن الحركة مقسومة بينه وبين ذلك النصف الميت، فقد اشتبكت العلائق بين دول الأرض جميعاً إذ لا تعرف دولة بين الناس ترعى شعباً من البهائم، ولما بدأ الإنسان يعرف نفسه في عصر العلم والمدنية عرف أخاه لأن أكثر حقيقته الإنسانية فيه ومن ثم اتصل به اتصال اليد بأختها في المعاونة على ما يسرت له كلتاهما، وجمع العلم بين هذه الأمم لأنه لا ينتسب لواحدة منها وليس له في الأرض خال ولا عم ولا يعرف شيء يقول للعلم يا بني ويقول له العلم يا أبت إلا التاريخ الإنساني.
ولهذا سفر بين أمم الأرض كل من يخرج من رأس الإنسان وما ينتج من يده واتصل ذلك واستفاض حتى كأنما دارت الأرض دورة جديدة من داخلها فما إن يقع الإضطراب في ناحية منها إلا دخلها من الأثر في سائر نواحيها من هزة ترجف إلى زلزلة تهدم إلى الخسف الذي يجعل عاليها سافلها.
وإني باسط لك شيئاً من الرأي في كلمات قليلة ولكنها كالمعركة الأخيرة التي يحق بها النصر فتكون هي تاريخ الحياة ولا يكون ما سبقها إلا تاريخاً للموت.
ألا فلتعلم أنه لو كان لحوادث الدهر منذ نشأ الدهر تاريخ صحيح يصف لنا ما كان سبباً في كل حادثة وما صارت كل حادثة سبباً فيه لأثبت يقيناً أن ليس في الأرض شيء من خير أو شر غير ما يلزم لبناء هذا التاريخ الأرضي على الوجه الذي يتفق مع بناء الإنسان، والتاريخ يطرد حيناً ثم يعطف ههنا وههنا في مجراه من الغيب فلا يتحول إلا انشقت له ناحية من العالم. فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله وقد كان لها قسمها منه ثم عاد الدهر يطلب قسمه منها. ولن يجدد البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده.
فالحرب شر لا بد منه لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية وهي بذلك سبب من أسباب استمراره، وكل شر لا بد منه فهو خير لا غنى عنه. وهل يبتغي الإنسان أن تضرب العصور والدول كما تضرب الدنابير والدراهم من معدن معروف على وجه معروف ولغاية معروفة! وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ وكنا في عمر محدود فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدم لله آلات البناء ثم نحكم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتفر أو يكسر أو يرض!
أنما يجعل للحرب ذلك الوصف الذي يطير لها في كل أرض صوتاً بالذم والسوء أنها لا تأتي إلا بغتةً ولا تطبق إلا في غفلات العيش وأنها تثور في بياض الأمن حمراء من لون الموت وتطلع في خطب النعمة سوداء من لون القحط وتنبثق بالشر مأموناً وتصب المحنة على من لا يطيقها ثم لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تلف من جانبي الحياة لفاً، وهي في كل ذلك الليلة المكشوفة التي تشتهرها الأحاديث وتضرب فيها الألسنة وتسيل عليها الأوهام بما في طباع الناس من طبقات الأخلاق ضعفاً وشدة وخوفاً وطمعاً وبخلاً وكرماً وحذراً واندفاعاً بحيث تصبح وكأنما ترتمي على رأس كل إنسان بالموت أو بالخوف من الموت أو بالخبر عن الموت أو بما يشبه الموت أو بما يكون الموت خيراً منه. وإلا فكم يترضرض الناس كل يوم وكم يجدون من صنوف الدمار، في الأعمار، ومن ضروب الأرزاء في الأرزاق، ما لو جمع بعضه إلى بعض في نسق واحد لطم على هذه الحروب كلها ولا ظهر لك أن في السلم ما هو شر من الحرب وإن لم يصرخ به صوت الموت.
وما البغي والظلم والكيد والفتنة والإستبداد ونحوها مما يشمل أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروب من القتل الخفي وربما عد الموت في بعضها راحة من الموت. . ولكن ذهب باثمها في اصطلاح الناس أنها خطط موضوعة للمغالبة على الحياة وإنها لا تنالهم إلا فرداً فرداً، وكأن بطل الأمم غير باطل الأفراد لأن الإجتماع قضى منذ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر الشرع وأن يكون الفرد مظهر العقاب. ولكن ليت شعري لم يكون الفرد كذلك من الأمة ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها!
فالحرب هي عقاب الجماعات وهي كذلك ضرورة اجتماعية ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمة واجدة في تركيب مستحيل لا يتهيأ معه أبد الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري أن ذلك التركيب الإجتماعي الذي يخلو من الحروب لزهد الناس في جنة الله ولا يدع للأديان محلاً على الأرض، يحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها فما هو إلا خيال خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية وما أرى الحرب إلا البرهان الذي تقيمه الطبيعة أحياناً على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقة. وإذا كان الله لم يخلق إنساناً من النور فلا تظلم نفسه ولا من الثلج فلا يحمى دمه ولا من الصخر فلا يهن كاهله ولا من الحق فلا يحيد على غيره ولا من الرضى فلا يطمع في سواه ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع، فكيف لعمري يخلق بعض الكتاب والفلاسفة هذا الإنسان الجديد من عناصر السلم وحدها؟
إلا أن الإنسان لا يولد ساكناً ولا نظيفاً وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دموية تتفجر من حوله ههنا وههنا وما أرى الحرب أكثر ما تكون إلا ولادة للتاريخ على هذا الأسلوب فكأن من التاريخ ما يولد على أسلوب الأحياء في ثورة من الدم ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحول ساكن غير منظور.
والحركات المجهولة في نظام الأرض كثيرة بعضها يجري على الطبيعة وبعضها يجري على الإنسان، فكما يدك الجبل وتخسف الأرض ويطغي الماء وتثور العواصف وتنفجر الباراكين يجري على الإنسان من مثل ذلك في القحط والوباء والحروب وغيرها، لأن الإنسان في الحقيقة هو الطبيعة الرفيعة وما القوة المركبة فيه التي تخرج من مجموع غرائزه إلا تهيئة حربية في نفسه، فلولا أن هذا الإنسان مهيأ للحروب بأدواتها الطبيعية وأن هذه الأدوات هي كذلك من أسباب بقاءه اللازمة له لما قامت في الأرض حرب أبداً، ولو أبعدنا في مطارح الفكر ونظرنا من وراء النفوس الإنسانية إلى ميادين الحروب لرأينا أن الحرب التي تقوم بين الأحياء إنما هي حروب قائمة بين مذاهب الحياة.
وكما يجتمع العلماء وأهل السياسة لتنقيح الأنظمة والقوانين تجتمع الأمم المتحاربة لتنقيح الطباع والعادات وما أعجب أن يكون القتل تنقيحاً في قانون الحياة. . . فلا تنظر من الحروب إلا هؤلاء المساكين والمتوجعين والمحزونين فذلك كله إلى نهاية ولا يبقى منه على الأرض شيء قل أو كثر، ولا أحمق ممن ينظر ساعة الهدم إلى آثار الهدم ولا يعلم أن ذلك سبب لما بعده وأنه إذا لم يهلك يوم في سبيل الغد هلك المستقبل كله.
ولكن متى تكون الحرب حقاً ومتى تكون باطلاً فهذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه وربما كان الجواب عليه سؤالاً آخر، وهو متى تعرض في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها. ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحول بها التاريخ الإنساني كلما وجب أن ينحرف ليتبع مجراه من الغيب؟ أليس ذلك هو السبب في أن العقل أحياناً يكون أول من ينهزم في الحرب كما نراه اليوم فيصبح الفلاسفة والعلماء والمتفننون ولاهم لهم إلا إدارة حركة الموت هجوماً ودفاعاً وترى الصلوات والأدعية تتصاعد إلى الله وفيها ريح الدم والنار كأنها قنابل صنعت من العواصف؟
وقد يقول بعضهم أن في الحرب إسرافاً اجتماعياً بما تأخذ من الموتى وما تترك من المرضى ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاق في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونعمهم ومصائبهم ونحوها مما يؤدي إلى انطواء هذا المجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الإجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيواناً على شكل مخترع. .؟ فلا ترين هذه الوحشية التي تعتري الناس في حروبهم إلا سبباً في رجوعهم بعد ذلك إلى الإنسانية الخالصة التي أفسدوها بحضارتهم وضربوا عليها الحدود من مصطلحات التمدن ومن أصول المعاملة فأصبح الإنسان منهم يقضي العمر وهو يتعلم كيف يصير إنساناً. .!
هو أنا ففي خاصة نفسي أكره الحرب لأني أراها تصور بكل ألوان الهلاك والخراب فكرة العدم المبهمة على قطعة من أديم الأرض، وأمقتها لأنها تلوث الحياة بدماء الرجال ثم لا تغسلها إلا بدموع النساء والأطفال، وأبغضها لأنها تدفن تاريخها الصحيح للمستقبل ولا تترك للحاضر إلا تاريخها المشوه في أعضاء الجرحى، ولكن البغض يا بني لا ينفي الحكم مما تبغضه وما سرور نصف الناس إلا بما يكره النصف الآخر.
وأكبر شخص اجتماعي وهو الأمة كأصغر شخص اجتماعي وهو الطفل كلاهما يبكي ويتألم حين يضرب لتأديبه.