مجلة البيان للبرقوقي/العدد 33/مسكينة مسكينة
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 33/مسكينة مسكينة
قال الشيخ علي: واسمع الآن يا بني ما أقص عليك فإني محدثك بخبر ليتني إذ علمته ما وعيته وليتني إذ هذا الفصل الروائي البديع هو أحد فصول كتاب المساكين للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي - آثر البيان بنشره فرحب به البيان - والكلام كما ترى موضوع على لسان الشيخ على بطل هذا الكتاب، والشيخ على المذكور - كما شرحنا ذلك في آخر عدد من البيان الشهري - رجل مجذوب سعيد بالدنيا والدنيا سعيدة به - وهذا الفصل قائم بنفسه لا علاقة له بما قبله ولا بما بعده. والكتاب سيظهر قريباً وهو يطلب من إدارة البيان وعيته ما أثبته ولا نفذت فيه كما نفذ في.
ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نشهد أموات الأحياء ونحملهم إلى أبواب الآخرة من تلك الحفر، تقضي علينا كذلك أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل وتحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا.
فواها لك أيتها الحياة الدنيا تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره ولا تؤتين عسل الحكمة إلا بعد لسع كثير. . .!
وقد علمنا أن كل شيء يسير فإنما هو يذهب في طريق يهتدي أو بعنف وكأن الأسف على أهل الشر لم يجد له طريقاً في هذه الحياة إلا من ضمائر أهل الخير.
كانت لنا يا بني في هذه القرية النضرة فتاة بائسة ضاق بها العريض من هذا البر فخرجت إلى بعض المدن تستطعم الحياة. فحدثتني أنها استضاقت حتى كأنما كانت تنفذ إلى رزقها من شق في صخرة في غر في جبل. ثم استضاقت فكأنما ولجت هذا الغار فانحدرت تلك الصخرة فسدت عليها عليها فلا وراء ولا أمام وأعجزها حتى المعاش الملفق.
وخرجت يوماً على الناس وكأنها لقذارتها قطعة من الحياة البالية مدرجة في بعض الأطمار، أو روح من الهواء تمشي ساكنة في أردية من الغبار، وما تحصي العين تلك البقع المنتشرة في ثيابها، كأنها أرقام للفقر يعد بها ليالي عذابها، وهي علم الله بقع، أشأم منها أنها في رقع، وقد أغبر شعرها الفاحم وتلبد، فكأنه بعض ما وقع على رأسها من حظها الأسود، ولاح من تحته وجه كالدينار الزائف في صفرته ورده، وكالقمر المحقوق في استطالته تحت الظلام ومده، وهي فتاة عليلة قد أخذ السقام من حجمها، كما أطفأت الأقدار من نجمها، وخفي من المرض في صدرها، أكثر مما خفي بين الناس من قدرها، وما تعرف من أسماء الأموات والأحياء غير أسماء أهلها، ولا تملك من الأرض كلها أكثر من غبار نعلها، وقد خرجت تتحامل فكلما خافتت في مشيها قليلاً خافت العثار، فاستندت إلى جدار، فإذا رأيت ثم رأيت صورة البؤس ولكن في غير إطار، وإنها لتمشي وليس فيها دم ينتهي إلى قدميها فهي تجرهما جراً وتقتلعهما بين الخطوة وما تدري من الألم أهما على الأرض أم في الأرض يسوخان، وقد تزايلت أعضاؤها فما تحس أن فيها حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خلق نعشاً لقلبها فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام.
وفي رأسها عقل زاد فضل الله ورحمته في جهة منه ونقص عنف الناس وقسوتهم من جهة أخرى، فبينا هي على ذلك نحمد الله إذا هي مع ذلك تلعن الناس. وهي مرة تنظر إلى الحياة فترى كل شيء في الحياة إلا نفسها ومرة تنظر إلى الموت فلا ترى في الموت شيئاً إلا نفسها ولم يكن يمسك روحها بين الإثنين إلا خيطان أحدهما من السماء وهو الأمل في رحمة الله والآخر من الأرض وهو إشفاقها على جدتها التي كانت تكدح منذ الصغر لقوتها. تلك الجدة الفانية التي كبرت وبلغت من الكبر حتى حسبتها الفتاة قد كبرت عن سن الموت. . .
أما الآن فقد تبين لها الخط الأبيض من الخط الأسود وانصدعت حفرة جدتها المسكينة ولم يبق لها إلا رحمة الله.
قال الشيخ علي: وكان خروج هذه البائسة أصيل يوم من أيام الصيف ذهبت فيه طاوية على الجوع كما تغدو الطيور من وكناتها وملء بطونها هواء. غير أن الطيور تهزأ بالناس جميعاً وهي على ضعفها أقوى من الشرائع والقوانين إذ تنبعث وكأن كل طائر منها إرادة متجسمة تقذف بها السماء فما تبالي على أي أرض تقع ومن أي حب تلتقط ولا نعرف إلا أن هذا الإنسان يعمل على السخرة ليخرج لها من الأرض رزقها رغداً.
أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وضع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثاً فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حال لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ فإن اختلست قيل سارقة فعوقبت، وإن سألت قيل متشردة فكذلك.
ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها وكلا النوعين سواء في الإفتراس. والكلب والتوحش فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة. . . وقلما يؤذي الإنسان، قبل أن يؤذي بهذا اللسان.
ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الإنتحار وكأنما يخال لها أن في الموت عيشاً فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يعيشونها. ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت ولا أقول وهي حية ترزق فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق حتى لم تترك لها في الناس وجهاً وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ ولا تعطي وهي يد الموت.
وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع وما تأخذ عينها من الناس إلا من يحمل بطنه حملاً من شبع وري فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها وكأنها تقتل من وجهين.
وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر وأمضت نيتها على الموت غرقاً لتموت نظيفة وتكون لنفسها غاسلة وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء.
ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركناً أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت. وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه. وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة وكلما امتد بها السير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئٌ بها من عينيها. وإنها لكذلك إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع وهو يحمل طعامه الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوماً كاملاً. على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع أداماً ورغيفين وقطعة من الحلوى.
قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة وأدرك أن روحها تخطو في أنفسها وإنه الجوع لا غير، وهو من أبنائه طالما شد عليه حتى انطوى. ولأن لغمزاته حتى التوى، وما يعرف أنه ابن أبيه وأمه، أكثر مما يعرف أنه ابن فقره وهمه، فابتدر إلى المسكينة وكانت حركة الحياة فيها أسرع من حركة أضراسها في طعامه ثم ذهب لا يعرف ما نصنع لأنه طفل أو لأنه فقير. لا أدري. غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا الأطفال وإلا الفقراء. أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير.
وانطلق الطفل وهو يلوي رأسه ويفكر في أي خديه تقع عليه اللطمة الأولى من أمه لأنها لا محالة ستحسبه اقترف إثماً فطرد من عمله، وانقطعت به طريق أمله، وإلى أن يأتي الله بالصباح الذي ينير برهانه، ويثبت لها إحسانه، يكون هذا الليل، قد صب عليه الويل، وهكذا جعل يشهد الله على ما سيلقاه في سبيل الخير بدلاً من أن يشهد الناس على ما لقي غيره منه في هذا السبيل من إحسانه وإيثاره. لأنه طفل أو لأنه فقير؟ لا أدري.
أما الفتاة فأرسلت في أثره نظرة حية ولم تجزه غيرها بل جعلت جزاء عمله من عمله نفسه لأن ثرثرة الفقراء في الشكر على المعروف كهذيان الأغنياء في التبسط على المن به كلاهما لا يكون الأمن خبث أو لؤم وهي فتاة أقدمت على الموت ولم تقدم على السرقة. وإنها لتعلم أن من أحياها فكأنما أحياء الناس جميعاً ولكنها رأت الطفل غير أهل لأن يعرف إحسانه من نفسها. لأنه طفل أو لأنه فقير: لا ادري.
ولما أمسكت عليها النفس وراجعت الحياة بدا لها فيما اعتزمه من الانتحار فترددت وجعلت تساورها الظنون وخلق لها من معدتها عقل جديد يبصرها فرق ما بين الجوع والشبع وكذلك تعرض لبعض الناس حالات من الحرص يعقلون فيها يبطنوهم حتى أن أحدهم لو تحسس رأسه وهو يفكر لحسبه بطناً صغيراً من العظم. . . فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامر نفسيها على الحياة والموت وقد بدأت تهضم في معدتها الطعام والعزيمة جميعاً.
وبينما هي تسير نظرت في عرض الطريق سيدة لولبس معنى الغنى لفظاً مابس غير اسمها، ولو كان للكبرياء رسم ما رأيته غير رسمها، وقد أورثها الغني ذلك الغرور بنفسها، حتى توهمت أنها في الأرض أخت شمسها، وبلغت في النعمة من الحمق والبطر، بحيث جعلت نفسها كالسماء متى تعبس وجهها استهلت لعنتها المطر، وهي من أولئك اللواتي يخرج الغنى معهن في الطريق لا حارساً ولا منعاً ولكن للكيد والفتنة. فتنة المساكين وكيد الحاسدين فخرجت في زينتها وكأنها حانوت جوهري. . . وهي نصف من النساء ولكنها تتصابى فكأن في سامتها وابتسامتها شباب عشر فتيات جميلات. . . وقد ذهبت في أوضاع جسمها مذاهب هندسية بين المستدير والمستقيم والمنحني. . . حتى ظهرت كأن نصفها من الله ونصفها من الخياطة. . . وإذا رأيت جملتها رأيت روضة الجمال بألوانها وأزهارها ولكن. . . مصوره، فإذا انتهيت إلى وجهها رأيت للحسن هناك شهادة على الله ولكن. . مزورة. . . وعلى الجملة فقد جعلها حسنها المالي في رأي نفسها كالشرائع لا جدال فيها إلا من زنديق. . .
ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأة بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر، فقالت يا لها سعادة أن تكون هذه العجوز. . . لا تتقدم في عمرها إلى الأمام ولكنها ترجع إلى الوراء، وأن تظهر بين الناس حسناء وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصف نهارها في التحسن، وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من هم الألفاظ أن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها. ويا له شقاء أن تكون هي كما هي وأكون أنا كما أنا.
ثم رمت بعينيها إلى السماء وانحرفت تواجه تلك السيدة فما تبينتها هذه وألمت بما نفسها حتى انقبضت كأنما أثارت الأرض في وجهها دابة جامحة، وجعلت تتحاماها وتلوذ ههنا وههنا وتحتث قدميها كأنها لقاء خطر شديد. غير أن الفتاة ملأت عليها الطريق بحركاتها فكانت وجهها كيفما يمنة أو يسرة وكأنما تطاردها مطاردةً.
فلما عيت السيدة بأمرها وغاظ الفقر نعمتها وهاج الفضول الفتاة حنقها وكبرياءها. وقفت لها وقفة القضاء عابسة الوجه شامخة الأنف يكاد يستنفض الناس طرفها وتكاد تميز من الغيظ وتدل هيئة وجهها على أن وراء شفتيها المرتجفتين كلمات أحد من أنياب الوحش.
فلم تبال الفتاة وبقيت رئتاها واسعتين للهواء إذ ليس بعد الفقر خوف، ودلفت إليها باسطة اليد وهي تكاد تزلقها ببصرها حتى إذا وقفت بإزائها خفضت رأسها وقالت:
سيدتي! أدام الله نعمته عليك وهنأك هذه النعمة بدوامها.
ـ هي دائمة وما أنت والنعمة؟
سيدتي! وقاك الله ما أنا فيه من بأساء الحياة ولا كتب عليك أن تعرفي ما هي.
ـ فلماذا أنت وأمثالك في الحياة إذن أيتها الحمقاء وهل يكتب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟
سيدتي! هبيني خادماً أحسنت إليها.
ـ فلتكوني خادماً طردتها إن بلغت أن تكوني خادماً لمثلنا.
ـ يا ويلتا! إلا رحمة في قلبك فتجودي علي بما لا بأس عليك منه؟
ـ ولماذا أفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي أن أجود عليهم جميعاً إذا أنا وجدت عليك ولو فعلت لطلبت بعد ذلك من يجود علي.
سيدتي! ألا فاجعليني من نصيبك في الإحسان وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.
ـ إذاً فكوني أنت من نصيب غيري ودعي غيرك لي سيدتي! ليس فقري عن خطأ مني وليس غناك عن صواب منك وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة.
ـ وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الخطأ.
ـ رجماك واتقي الله في الإنسانية فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتها أحسن حالاً مني.
ـ حينما تصيرين مثلها فتعالي إلينا ويومئذٍ تعرفين كيف تطرد الكلاب.
قال الشيخ علي: فكبر ذلك على الفتاة وانتبهت في نفسها فضيلة الفقر فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخاً. هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها ولم تجد لها عزماً.
أما السيدة الكريمة - كما يقال فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة وافتر ثغرها قليلاً عن ابتسامة السخرية وسرها أن يكون في لسانها كل هذا النطق. . . ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: مسكينة مسكينة ومرت بعد ذلك لا تلوي.
وسمع الله قولها إذ تجادل الفتاة وقد ربت في ثيابها من الغيظ وتنفشت كالإسفنج فأطلق عليها دموع البائسة وإن هذه لتأنس راحة في البكاء لم تعهدها من قبل فانزوت جانب الطريق وجعلت تبكي ثم تبكي ثم تبكي حتى لو جمعت دموعها لغمرتها وقد جمعها الله وأرصدها من أقداره لتلك الإسفنجة وقضى ربك ألا تعصر بعد اليوم إلا دموعاً.
كانت السيدة فتاة كطلعة البدر في الرابعة عشرة لا تصفها إلا مرآتها وهي الدنيا مجموعة في قصرها. وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيماً ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله فولدت لها فتاة وكأنما انشق لها القمر. ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحاور تلك المسكينة بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى. ومن شؤم الغنى على أله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم فلا يعلمون أن الفقر أواع كثيرة وأن الغني نفسه نوع من الفقر إلى الله. وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر كأن الألوهية درجات جعلهم الغني في واحدة منها. فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟
وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتاتها تنتفض من وعكة الحمى وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع. فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت ولقد تكون المصيبة جنوناً وإن لم يكن من أسمائها الجنون. على أنها لم تر ملجأً من الله إلا إليه فابتدرت تدعوه وضرب الذهول بينها وبين اللعنة فلا تردد غير هذه الكلمات: يا رب. يا رب. ابنتي. ماذا جنت. مسكينة مسكينة.
وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم. . . . . فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب مسكينة مسكينة. ثم مرت الأيام وابنتها مريضة وهي مريضة ببنتها فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: أه يا ابنتي مسكينة مسكينة.
قال السيخ علي: وضرب الدهر من ضرباته خرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملاً فتردم جانب من حالها وبينما هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق فجعلت تدانيه حتى حاذته فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لونها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منتصب في سواد، وظهرت من الخزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والإنكسار، كأنما مات بعضها، وبقي بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار، فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها.
فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزناً ثم رفعت عينيها إلى السماء وقالت:
يا رباه مسكينة مسكينة. . . .
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع من تشاء
ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك
على كل شيءٍ قدير.