انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 31/باب الأدب والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 31/باب الأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 5 - 2 - 1917



مذكرات شبلي شميل

قلت أن جمال الدين كان من الفلاسفة الرواقين أي أنه كان ينشر تعاليمه في طي المحادثات الإعتيادية ولكنها كانت محادثات خلابة في لذة المعنى وحسن الإنسجام، ولم يتهيأ له أن وقف خطيباً في قوم إلا مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوه أيضاً، وكان ذلك بمعنى أديب اسحق وفي تياتروزيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبني وجرأة وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو عليه أدنى تعب أو يتعلثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم كأنه رابطهم بسلاسل كلامه يلعب بهم كما يشاء وقد أعجبني منه قوله فيها وهو يتكلم عن استبداد الملوك واستماتة الشعوب. قال كأن الناس ليسوا شيئاً والملك هو كل شيء إن قام قاموا وإن قعد قعدوا.

ولما بلغني أن جمال الدين بعد أن نفي من مصر ببضع سنين كتب رسالة باللغة الأفغانية في نفي مذهب الماديين ترجمها الشيخ محمد عبده إلى العربية دهشت لتصوري أن الرجل لم يكن من المتدينين. على أن جمال الدين كسائر الفلاسفة الأقدمين لم يكن يستطيع بمبادئه النظرية وفلسفته المجردة أن يجزم جزم الطبيعيين في استنادهم إلى العلوم الحديثة اليوم فكان يتعذر عليه إلا أن يكون من الشكوكيين أمثال المعري وفولتير الذين ينكرون الأنبياء ولكنهم يقفون مترددين في أمر الخلق هل هو حادث أو قديم فيكونون تارةً من الإلهين وطوراً من اللا أدريين لعم تمكنهم من ضابط علمي محسوس يضبط أحكامهم ويقوي حجتهم في ترددهم اللهم إلا أن يكون كفولتير من النفعيين وجمال الدين تنبوا أخلاقه العالية عن ذلك. فبقي أنه من المصافيين الحكماء الذين يكونون في اعتقادهم على هوى جليسهم تارة أقرب إلى المعطلين وطوراً أقرب إلى المؤمنين أي أنهم يكونون كما وصفهم الإمام الغزالي حيث يقول إن الآراء ثلاثة أقسام رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد ورأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع عليه الأمن هو شريكه في اعتقادي. ويصعب علي جداً بعد اختباري الرجل بنفسي من جهة ثم سماعي عنه بعد ذلك أن أبدي فيه حكماً جازماً ولكني أرجح جداً أنه لم يكن من المؤمنين.

اليوم الثالث

وأما أديب فأول عدد أصدره من جريدة مصر أصدره في القاهرة. وقد أعدت له مقالة موضوعها العبادة الفتيشية لقرب عهد المذاكرة في هذا الموضوع على ما تقدم وجعلت لها توطئة من عندياتي تعبت فيها جداً حتى جاءت على ما أحب (وهي التي كانت غرضي في كل تلك المقالة) ودفعتها إلى أديب لينشرها في أول عدد يصدر من جريدته فلم يبد عليها أقل ملاحظة وكان يقيم هو في المكان الذي كنت فيه. وقد تأخر صدور العدد الأول أكثر من أسبوعين وكلما سألته عن ميعاد صدوره كان يجيب بأن أسباباً طرأت أخرت صدوره ولكنه لم يذكر لي شيئاً يختص بمقالتي. ثم قبل صدور العدد بأيام قليلة عزمت على ترك القاهرة والعودة إلى الإسكندرية. وبعد وصولي إليها بأيام وصلني العدد المنتظر من الجريدة وبالطبع أول ما بحثت عنه مقالتي وهي كانت أول مقالة نشرتها في جريدة مصر. ولقد دهشت جداً لما رأيتها منشورة ولكنها مبتورة والتوطئة التي كانت موضع إعجابي - لأنها كانت لي وكل فتاة بأبيها معجبة - محذوفة بلا شفقة ولم ينشر من المقالة إلا الحوادث المعروفة في الكتب والتي هي شواهد على حقيقة هذه العبادة في الأمم والقبائل المختلفة. فأخذتني سورة الغضب من صاحبي ولاسيما من تكتمه هذا وهو معي كل يوم فكتبت له كتاباً بأحرف من نار أظهرت له فيه مزيد استيائي من سلوكه هذا المسلك معي وحسبت ذلك آخر العهد بيننا لتبايننا في الأخلاق. أما أديب فكان إذا جرح يعرف كيف يؤاسي فما عتم أن وردني جوابه فكان لغضبي كالزيت الطافي فوق أمواج البحر الهائج فاسترضاني بذكائه أكثر مما أغضبني بحيلته وكان جوابه شعراً في أكثر من عشرين بيتاً من النظم الرقيق الخفيف لا أروي منها سوى الأبيات الثلاثة الأولى والكتاب فقد مني. قال: ـ

العذر ثم العذر يا سيدي ... من حادث ما إن جرى عمدا

قد ألزموني حذف ديباجه ... كانت لجيد صحيفتي عقدا

قالوا تمس الدين في بلد ... كل له فيه غداً عبدا

وهذا كان شأنه معي كلما طرأ طارئ أثارني ضده وأديب كان كاتباً مصوراً فإذا وصف شيئاً أراكه كأنه مرسوم أمامك وقد وقع لي مرة أني كتبت له كتاباً طويلاً في أمر تأثرت منه جداً خططته بريشة دقيقة وبسرعة واحدة فائقتين وخطي الهيروغليفي معروف للمطلعين عليه فوردني منه جواب لم أطلع على فاتحته حتى كنت ألين من الشمع لقبول عذره فيه مهما كان. قال: ـ

قرأتك بصعوبة وفهمتك بسهولة أما الأول فلتعرج خطك السرطاني وأما الثاني فلظهور حدتك على رؤوس أحرفك.

للمذكرات بقية

قصيدة اغتصاب الضفيرة

الفصل الثاني

ما نضار أشعة الغزالة فياضاً على بساط الماء. وغلالة الهواء بأبهى من جمال نظيرتها بيلندا الحسناء. ينساب بها على التاميز فوق لجينه المذاب. زورق سهو الأراجيح وثاب. لقد كانت هذه الشمس الآدمية محفوفة من الشباب إناثاً وذكراناً بأمثال النجوم الشوابك غير أن العيون لم تكن لغيرها ترنو. ولا النفوس إلى غيرها تصبو. وكانت تلبس على صدرها صليباً لا تستنكف اليهود إن تلثمه حباً وإكراماً. ولا تأنف المجوس إن تسجد له تجلة وإعظاما. وكانت حركات لحظها السراع تنم عن قلب ذكي وقاد. شبيه بطرفها في البريق وفي كثرة التقلب والترداد. وكانت الآنسة تجود للكل بغرور الإبتسام. وتبخل بصدق الإحسان والإنعام. وتعطي زور الموعد الهواء. وتمنع رعاية العهد والوفاء. ولطالما قابلت خاطب ودها بالإباء. وإن لم يشب إباءها قط إساءة ولاإيذاء. وكانت مقلتها كالشمس تبهر الإبصار بالضياء. وهي كذلك كالشمس تعم بنورها الكل على حد سواء. وكانت عذوبة شمائلها وحلاوة أنسها تستر عيوبها إن كان للحسان عيوب وكان من ساءه من صفاتها شيء نكر فحسبه إن ينظر إلى وجهها ليزول ذلك الأثر.

وكانت هذه الغادة تحمل على متنها لإتلاف نفوس البشر ضفيرتين تحسن ربهما وتعهدهما فكانتا تنسدلان وراءها في حسن تماثل وتعادل متآزرتين على تزيين جيدها الحسان بحلقات فاحم ذي صقال. ففي ألغاز هذه الحلقات كان الغرام يسجن أسراه. ويقيد حسراه. فيا من أبصر صناديد الرجال. ترسف من خيوط الذهب في أغلال. وما زال ابن آدم يتخذ من الشعر شباكه. ومن الخيط أشراكه، يصيد بها السمك في الماء. والطير في السماء. غير أن الإنسان سيد الأسماك والطيور تصيده ضفائر الفتيات والحسن يقود الرجال بشعرات. بهاتين الضفيرتين أولع البارون الجسور. فما هو إلا أن رآهما حتى تطاول إليهما سوم طاوية الضفور وضارية النور ولما أبى إلا نيل بغيته. شرع في أعمال حيلته. وتدبير خطته. سيان عنده الكيد ومخاتلة. والبطش والمصاولة. بحجة أنه متى كلل النجح سعى العاشق الملتاع. فليس يحفل الناس أكان ذلك بالغضب أم بالخداع.

لذلك لما شابت ذوائب الظلماء. وهم نجم الصبح بالإغفاء ركع هذا البارون لربة الحب وتضرع إليها أن تنيل طلبته. وتقضي حاجته. وأقام لها قرباناً من اثنتي عشر قصة من غزليات شعراء الفرنس ذهبية الأغلفة ووضع على هذه المجلدات ثلاثة مناديل ووشاحين وقفازتين وغير هذه من آيات حوادث غرامه السالفة ودلائل معاشقه السابقة. ثم جاء ببعض ما لديه من رسائل الحب فأضرمها وبذلك اللهب أشعل القربان الذي هيأه. ثم أزكى الضرام بخمس زفرات من صدره الحران. وقلبه الولهان. وبعد ذلك سجد للربة وابتهل إليها أن تقدره على نيل بغيته. ثم تبقيها مدى العمر في حوزته. فسمعت الآلهة دعاءه فقضت له نصف حوجائه. ونصفها الثاني أطاره عاصف الريح في نكبائه.

وانسابت السفينة الأنيقة في تيه وخيلاء وخفقت الأشعة على بساط الماء، وسرت أنغام الآلات في صفاء جو بديع. ورقت على الموج لطاف الألحان قد براها الشجا فكادت تضيع. وسالت الأمواج لينة المسيل. ولاعب سيالها كل نفس من لين المطرد عليل. في تلك الساعة السعيدة تبسمت من السرور بيلندا فابتسم لابتسامتها الوجود وسبح الماء والهواء بحمد خالق بيلندا الإله الموجود.

ولكن الملك الحافظ حارس المليحة كان بحازب الهم مقهوراً وفي حومة الغم مغموراً. فأومأ إلى أعوانه وجنوده. فانضوت إلى ظل أعلامه وبنوده. وجعلت تتهامس من خافت أجراسها. بما ظنه أهل الأرض خفيف الرياح ودوى وسواسها وبعضها أقبل ينشر في بهاء الأشعة وشى جناحه. وأخرى أنشأت تهبط الماء كأنها سحب من العسجد وتارةً تركب من الهواء كواهل رياحه فيا لها من خلائق لطفت فغابت عن الأبصار وكأن أجسادها للخفاء جواهر مذابة في أضواء وأنوار. وقد طارت منها في الهواء أطراف الجلابيب والحلل. وما حللها إلا الشفوف حاكتها يد الغزالة من الندى والطل. ثم غمستها في أبهج أصباغ السماء.

حيث النور لا يزال من ضروب الألوان يلبس رداء وينصل من رداء. ويمزج ياقوتةً حمراء. بلا زوردةٍ زرقاء. والشعاع يطرح على الدنيا كل لون ناصع لماع. كالرشقاء تفرش الأرض من ثوبها المخلوع بصبغ أنواع. والحباحب تتداول من ألوانه التي يخلعها على الروض المجاور أطياف لماحة سراع وكان زعيمهم آريل يتبوأ قمة الدقل فاستقبل الشمس بجناحيه الزرقاوين ثم افتتح القول:

أيها الملائكة والجنة والعفاريت والأبالسة أعيروني أنا زعيمكم وقريعكم آذاناً صاغية. وأفئدة واعية. كلكم يعرف ما قد أسند إلى كل طائفة منكم من الأعمال والوظائف فجماعة يمرحن في نسائم الأسحار. ويصلين جمرة النهار وفئة تهدي جحافل النجوم الزاهرة. وكتائب الكواكب الباهرة. وطائفة أكشف جوهراً. وأغلظ عنصراً. ترشف النطف من الدجنة المستهلة أو تغمس أطراف القوادم في الخضلة أو تنشئ الرواعد القاصفة أو تمسح حوالب المزنة الواكفة. وطائفة تحرس الإنسان في عالمه الأرضي وترعاه. وتمهد السبيلة وتسدد خطاه. ورؤوس هذه الطائفة وزعمائها تدبر شؤون الأقاليم والأمصار. وتحوط سدود المملكة في البر والبحار.

أما نحن فإن لنا عملاً أدنى قيمة من ذلك وهو صيانة الملاح، وقاية الوجوه الصباح في الأمساء والأصباح. فنحن نقي مسحوق الطلاء. أن تطير الريح الهوجاء عن الخد الأسيل والعارض الصقيل. والأنف. الذي كأنه خد السيف. ونحن نحفظ الغاية أن تزول عن الغانية ونحن نستعير حلك الليلة الظلماء، لنزيد به كحل اللواحظ الوطفاء. ولمع السراب. لمنضودة الثغور العذاب. وحلاوة الشهد المشتار. لطلاوة اللفظ المختار. وحمرة الورود. لصبغة الخجل في الخدود واهتزاز الغصن الميال. لخطرات التيه والدلال. بل ربما أوحينا إلى المليحة في المنام. استبدال قلادة بقلادة أو حزام بحزام.

وبعد فاعلموا أيها الجن والعفاريت والملائكة إن أشأم الفال يهدد اليوم بيلندا نخبة الخرد. الغيد. وصفوة البيض الرعاديد. لست أعلم ما كنهه وما حقيقته. بل كل ما أعلم أنه خطب سينالها اليوم بطشه أو خديعته. فلا ندري أذلك الخطب هو أن الغادة ستهتك اليوم ستر العفاف. أم ستكسر كوبة أو تخدش صفحة من الصحاف. بل لا ندري أهو أنها ستلوث الشرف الوضاح. أم المنطقة والوشاح وهل تفوتها الصلات في المحراب. أو موعد في بعض مجالس اللهو والشراب. وهل تصاب اليوم بغارة على القلب. أو على الجيب. وهل تفقد في بعض المراقص حشاها. أو شيئاً من حلاها. فبادروا أيها الأعوان إلى المليحة وادفعوا عنها كل طارئ شر. وطارق ضر. ولتكن عناية العفريت نسيم بالمروحة الرجراجة. وعناية لؤلؤ بالجواهر الوهاجة. وليوكل (أبو دقيق) بساعتها العسجدية. وليستكف (الجعدي) أمر ضفائرها الذهبية. أما أنا فسأرعى كلبها المألوف. وأحوطه من المهالك والحتوف. فشمروا في مهمتكم هذه عن ساعد الجد وأنجزوها بعزيمة وحد. واعلموا أن من فرط أو قصر فليلقين أنكى العقاب، وأنكل العذاب. فما يسجن في القوارير. أو يسمر بالدبابيس على خرق الحرير. أو يغرق في محلول من البياض والحمرة. أو يعزز ألف عام في خرت إبرة. فإذا حاول الهرب عاقت سبيله الخطوط اللزج واللبان. فهو في حبالته مغلول الجناحين حيران. هنالك يلقى الويل من الشبه القابضة للجلود والأبشار. حتى يعود كالزهرة الرقيقة إذ بلها البرد والإعصار. أو يعلق في أبخرة القرفة والكاكاو. فهو من هول ما تحته من ذلك الزبد الخصم صارخ عاو.

عند ذلك هبطت العفاريت من شرع السفينة فأحدقت بالفتاة طبقة فوق طبقة وحلقة دون حلقة. فجماعة تغلغلت في الغاز شعرها الوحف. وأخرى رفرفت منها حول قرط وشنف. وطائفة أحدقت بخصرها كأنها له دون النطاق نطاق. وأخرى بجيدها الحسان كأن أحداقها لزام وعناق. وفئة عند مستعذب الثغر. كأنها سرب من الحور حول الكوثر. قد وقفت من ذلك الفم على باب الخزانة الصدر. تسمح بالخروج لمعروف الكلام وتمنع المنكر وأخرى على باب الأذن تزيد محاسن القول الجميل. وتخفف وطأة الخشن الثقيل وتلطف ثماجة المستهجن المملول. وفرقة عند اللحاظ تحولها عن الصالح. إلى الصالح. وتغريها بالمليح. بصرفها عن القبيح. وأخرى لدى الكف تمنعها مصافحة اللثيم. وتمدها إلى الكريم وجماعة عند القدم تأخذ عليها سبل الفساد. وتخلي لها طرق الرشاد. وتسد مالك الشر. وتفتح مناهج الخير.

كل ذلك حاوله العفاريت والجنة بأمر الزعيم آريل إذعاناً لرغبته. وأخذاً بطاعته. وهم أثناء ذلك ترعد أوصالهم وجلاً. وتخفق أحشاؤهم وهلاً. لهول ذلك الخطب المنذر. والمصاب المنتظر. ضارعين إلى الله أن يهديهم إلى سبيل رده. وطريق صده. لو كان يدفع قضاء لهذه القصة بقية