مجلة البيان للبرقوقي/العدد 3/تاريخ الإسلام
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 3/تاريخ الإسلام
المقدمة الثانية
في الأديان
نحن الآن بمعرض تاريخ الإسلام بمعرض تاريخ الإسلام دين من الأديان وقد نبع بين أمة كانت تدين قبله بدين وكان لكل جيل من العالم وقتئذ دين كذلك فجاء الإسلام واشتهرها وسفه أحلام أهليها ومحاها كما يمحو النور الظلام فكان حقاً علينا لذلك أن نلم إلمامة بالأديان التي كانت معروفة قبل الإسلام ولاسيما ما كان منها ذائعاً في جزيرة العرب وما ضاقبها حتى نكون على بصيرة تامة بالحركة الدينية في تلك الأعصر ونعلم هل كان هناك حاجة إلى دين صحيح ينتاش أهل تلك الأوقات مما هم مرتطمون فيه ويهديهم إلى صراط مستقيم - وحتى يتجلى لنا كثير من تلك الاصطلاحات الدينية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وعلى لسان السيد الرسول عليه الصلاة والسلام وفيما يمر بنا من التاريخ الإسلامي من مثل يهود ونصاري وصابئة ومجوس ومشركين ومن مثل بد وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وهبل ومن مثل بحيرة ووسيلة وحام إلى أمثال تلك الأسماء التي نجهل كثيراً من مسمياتها كما هي في الواقع وفي عرف الإسلام.
إن الدين عند الله الإسلام وهو الذي أوصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وأوتي النبيون من ربهم وأوحي بعد ذلك إلى خاتم النبيين محمد بن عبد الله ﷺ.
فدين الله واحد وإنما تتفاوت صوره وتتباين أشكاله بتباين استعدادات الأمم وما تمثله به أمزجتها وتكيفه به طبائعها وتدخله عليه من ضروب البدع وأفانين الأوهام.
دين الله واحد وكذلك الحقيقة واحدة وإنما تتعدد ظواهرها بتعدد الأزياء التي تتزياً بها وكثرة ما تحلى به من صنوف الزخارف وأنواع الزينة (وإن كانت زينة كشينة) حتى تتوارى الحقيقة بالحجاب ولا يكون هناك إلا الزخرف والثياب.
دين الله واحد لأن ينبوعه واحد - ينبوعه ذات الإله المقدسة وما الأنبياء والمرسلون إلا مبلغون عنها ما فيه صلاح الإنسان متضافرون على طريق هذا الصلاح لأنهم من عند الله الواحد لا من عند أنفسهم مرسلون.
دين الله واحد وهل هو غير الفضيلة وكما الإنسان وأن يكون بحال من التقى والصلاح تستدر عليه أخلاف السعادة وبلهنية العيش وتنفى عنه أكداره.
ما هو الدين؟ هو كما أسلفنا وبعبارة أوجز وأجمع (الإسلام) وليس قولنا الإسلام كقولنا الإسلام والنصرانية واليهودية والمجوسية والصابئة والبوذية وما إلى ذلك وإنما هو كما جاء في القرآن الكريم وكما يشعر مدلول اللفظ أن تسلم وجهك لله وتخلص إليه التوحيد والعبادة وما يستتبع ذلك من الخلوص والتقى والصلاح وفعل الخير والتنكب عن الأذي والضير: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعن وقل للذين اؤتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد: لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه - والإسلام هكذا هو الدين الحنيف دين إبراهيم وموسى وعيسى وسائر النبيين بل هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبوراً ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك} {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
أما ما أصار الدين أدياناً وجعله فرقاً وألواناً وأوجد هذا الاختلاف المبين وذلك التعدد المشين فإنما هو ضيق الفكر الإنساني وما جبل عليه البشر من الطمع والأثرة وما يريده القائمون بأمر الدين لأنفسهم من الهيمنة والسلطان والاستبداد بالعقول وما يصيب العقول في بعض الأحايين من الانحطاط والوهن وما يتسرب إلى الأذهان من الأوهام والأفن حتى يستحيل كل ذلك على كر الغداة ومر العشى ديناً وما هو بدين.
لذلك كانت هناك ملل ونحل ومذاهب وأديان: ولا يزالون مختلفين الأمن رحم ربك
أسلفنا أن الدين عند الله الإسلام وأنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها فكان من البديهة لذلك إن الدين وجد مع الإنسان إذ لا حياة للإنسان بلا دين كما لا حياة له بلا قلب - وجد الدين مع الإنسان الأول ولكن لا في تلك الصورة التي نعرفها نحن وإنما في صورة هي أبسط وأليق بعقل الإنسان الموحش القديم وللعلماء في ذلك أي في ما هو أول معبود للإنسان وما الذي دفعه إلى التدين آراء مضطربة ومذاهب متناقضة لصعوبة أن يعرف المؤرخ ذلك معرفة يقين وأن يعلمه علماً ليس بالظن فمن قائل أن أول ما عبد الإنسان آباؤه وأجداده وذلك أنه لما رأى ريب المنون يتخطف من كانوا معه من أهليه وذوي قرباه ولم يدرك ما هنالك من بعث ونشور خاف موتاه ثم عبدهم - ومن ذاهب إلى أن الإنسان استهول قوي الكون وخافها فساقه خوفه إلى التماس آلهة يذهبون عنه الروح فجعل يعبدها في الأنهار والأشجار والشمس والقمر وسائر الكواكب وما إلى ذلك فأفرخ ذلك من روعه وسكن من خوفه - وقريب من هذا ما قاله آخرون من أن الإنسان لما أحس ضعف نفسه وضؤولته حيال هذا الوجود وضخامته حاول التماس المعونة فيما يعالج من شؤون الحياة فطفق يقدس ما يظنه الها أو ما فيه روح من عند الله ويتقرب بالقرابين والذبائح وكل ما يظنه مجتلباً رضاء الآلهة ومعونتهم - أما ما ذهب إليه أكثر النظار من المتقدمين والمتأخرين وكات تتفق عليه كلمتهم فهو هذا.
فرض الفلاسفة أنه لو ولد إنسان في جوف الأرض فترك ثمت حتى بلغ أشده وكمل عقله ثم اخرج بغتة إلى ظاهر الأرض فإذا الشمس بارزة في موكب لألائها نهاراً وإذا الكوكب الوقاد قد طلع له ليلاً كأنه ماسة تلتهب بلألاء أبهر مما نرى نحن - نحن الذين حجبت الألحاد والكفريات - فيشرق الكوكب في نواحي نفس ذلك الإنسان كما يشررق في نواحي الأفق ويظهر كأنه مقلة في وجه السماء تنظر إليه من أعماق الأبدية وتنم له عن رونق السر الأزلي القديم - ألا ينظر هذا الموحش إلى هذا المنظر الباهر كما ينظر الشاعر وإن لم يقدر على القصيد ثم ينفذ بصره الثاقب إلى ما أودع الله ذاك المشهد من روعة الجلال فيخر له ساجداً.
فهذا هو أصل غريزة الدين وهذا هو ما كان من الإنسان الموحش القديم حتى إذا دبت الأيام ودرجت الليالي وجاء اللاحق على أثر السابق وتلقي عنه دينه وتقاليده محرفة غير منظور فيها إلى اللب والجوهر كما هو الشأن في التقليد والمحاكاة وتلوثت فطرة الإنسان وضعف إدراكه ونمت فيه غريزة الطمع والأثرة أخذ هذا السر يتضاءل وذلك الشعور الفطري السليم يختفي وقامت الأصنام والتماثيل مقام هذه المخلوقات السماوية القدسية فإذ ذاك يرسل الله أناساً ذوي بصائر نافذة وقلوب ذكية ثاقبة يفطنون إلى انحراف الإنسان عن الجادة ويقيمونه على الطريق المتسقيم وهكذا أرسل الله الأنبياء والرسل تترى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فمن الناس من استرسل في غوايته وتشبث بتقاليده وعادته ومنهم من أنار الله بصيرته وعرفه الحق فانتهج محجته ومنهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن هنا بقيت على الأرض أديان كثيرة وعاشت أدهاراً طويلة وقصيرة (متلو).
{وتلك الأيام نداولها بين الناس}
بالأمس كانت العرب تغزو إيطاليا وتفري في أحشائها
واليوم تغزو إيطاليا بلاد العرب وتعالج امتلاكها
وليس يعلم إلا الله ماذا تلده الليالي فربما غزى العرب إيطاليا كرة أخرى.
(للبيان كلمة بهذا العنوان ألم فيها بما كان بالأمس من فتوحات العرب في إيطاليا وما يكون الآن من إيطاليا في بلاد العرب وكلمة في تقويم طرابلس وتاريخها وقد كانت النية أن تنشر في هذا العدد بيد أنه لم تتسع لها صفحاته فأرجأناها إلى العدد الخامس واجتزأنا بنشر خريطة طرابلس وبرقة في هذا العدد وكذلك أرجأنا موضوعات وفيرة كثيرة من بينها شذرات فلسفية وباب النقد والتقريظ وتدبير الصحة وأخبار العلم ومقالات مختلفة لكتاب كثيرين - أرجأنا كل ذلك للأعداد التالية).