مجلة البيان للبرقوقي/العدد 29/مذكرات شبلي شميل
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 29/مذكرات شبلي شميل
الدكتور شبلي شميل معروف مشهور لإخفاء به، وهل يخفى القمر؟ والدكتور - وليس يدافع في ذلك اثنان - ذو عقل كبير جبار كعقول الفلاسفة، وذو قلب سليم طاهر كقلوب الأطفال. لذلك نحبه جداً ونحترمه جداً. والدكتور خليق منا نحن الناطقين بالضاد بالحب والإحترام، وأن ننافس به الغربيين رافعين أصواتنا إذا كان عندكم معشر الغربيين أمثال هيكلوولس ودارون فعندنا شبلي شميل، وليس ينقصنا أن يكون عندنا أمثاله ولكن ينقصنا فقط أن جمهورنا ليس كجمهورهم في تقدير النوابغ والعبقريين.
والدكتور وان كنا نحبه ونحترمه كما أسلفنا بيد أنا لا نتفق وإياه في كثير من أرائه الدينية وبعض آرائه الأخرى وهذا لا ينافي حبنا احترامنا وأن ننتفع بعمله وأدبه وبكل ما يفيض علينا عقله وتجاربه وملاحظاته - ونحن نقدم اليوم إلى قرائنا مما لم ينشره الدكتور مذكراته التي رأيناها كالمرآة يرى فيها الناظر تاريخ مصر ونهضتها العلمية والأدبية والسياسية والإجتماعية منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم مما لا يكاد يظفر بمثله في كتاب أو مجلة، ذلك إلى كثير من تعليقات الدكتور التي لا نغالي إذا قلنا أنها جماع فلسفته وآرائه وسننشرها تباعاً في البيان إن شاء الله.
اليوم الأول
حتى سنة 1875 وهي السنة التي اتخذت فيها مصر موطناً لي بعد تخرجي من المدرسة الكلية في بيروت ورجوعي من فرنسا لم يكن في كل القطر المصري جريدة عربية عمومية سوى جريدة أسبوعية اسمها (الإسكندرية) لمنشئها سليم حموي وكان مركزها مدينة الإسكندرية. وهي التي انتقلت بعد ذلك إلى القاهرة وتحول اسمها إلى (الفلاح) ثم ماتت. فسليم حموي شيخ الصحافة العربية في القطر المصري لو برَّ الصحافيون.
وفي هذه السنة قدم إلى مصر سليم تقلا وأخوه بشارة تقلا من كفرشيما من أعمال لبنان وأنشأ جريدة الأهرام في الإسكندرية أسبوعية أولاً ثم يومية ثم انتقلت إلى القاهرة ولا تزال حية حتى اليوم. ولقد أظهرا من الثبات وحسن الإدارة وصادفا من المساعدة ما سهل لهما النجاح وحبب للآخرين الإقتداء بهما.
وفي هذه السنة عينها قد الإسكندرية أديب إسحق وسليم نقاش من مدينة بيروت وف عزمهما أن يمارسا فن التمثيل وقد مثلا بعض الروايات في تياتروزيزينيا في الإسكندرية وأثنى الجمهور عليها كثيراً لأنهما كانا مقتدرين في فن الإنشاء والتمثيل معاً.
ومن الروايات التي شخصاها رواية أندرومارك لراسين المؤلف الفرنسوي نقلها إلى العربية أديب اسحق واقتفى مؤلفها في كل ما التزمه من المحسنات اللغوية فجاءت في العربية محكمة كما هي في الفرنساوية. وكأنهما رأيا كثرة نفقات التمثيل وليس لهما سند مالي فانفصل أديب ونوى أن يلحق بالصحافة ففي ذات يوم ورد لي كتاب من أخي أمين شميل المقيم في الإسكندرية يقول فيه أن أديب اسحق متوجه إلى القاهرة وفي نيته أن يشترك مع أنيس خلاط صاحب جريدة الجريدة العربية الوحيدة التي كانت تطبع فيها. وقد وصف لي براعته وكنت قد سمعت بها. فلما تعرفت به فتنت بمقدرته في فن الإنشاء مع اتساع مقتبساته مما كان له شأن عظيم في تلك الأيام والنهضة اللغوية في أولها. ومما قرأه لي حينئذٍ مقالة في غاية الإحكام كل عباراتها مقتبسة وليس له فيها غير التنسيق والربط فأسكنته معي وعرفته ببعض نوابع تلك الأيام كالشيخ محمد عبده واللقاني ولطيف سليم وغيرهم ممن كانوا يجتمعون كل مساء تحت لواء الشيخ جمال الدين الأفغاني في قهوة بالقرب من البوستة القديمة.
ولما أبدى لي أنه آتٍ ليشترك في تحرير جريدة أنيس خلاط لم أستصوب رأيه لعلمي أن الجريدة المذكورة ليس لها شأن فخفت أن تؤثر على مطلعه فلا تبدو حينئذٍ مواهبه كما يجب. ووددت له الإستقلال في العمل. فأشرت عليه أن ينشئ جريدة باسمه وكأنه استصعب الأمر جداً فقال ومن أين لي المال اللازم وذكر لي أن تقلا كلفته الرخصة نحو مائة ليرة. فشجعته وقلت له لعلي أستطيع أن آخذ لك رخصة بلا نفقة تذكر. وأما الطبع فيكون في أول الأمر بالأجرة المؤجلة. وفي الحال قمت معه إلى نظارة الداخلية وكانت الأعمال يومئذٍ تجري بالنفوذ أكثر منها بالنظام. وقابلنا أدوار اليأس من مفتشي الداخلية فعرفته به وأوصيته أن يساعده للحصول على الرخصة فوعدنا الرجل خيراً وبراً بوعده.
فقدم أديب حينئذٍ طلباً بإنشاء جريدة أسبوعية اسمها (مصر) ومركزها القاهرة. ثم تركته يمشي وحده لأني رأيته في أمر المداخلة مع الناس أقدر مني جداً فحيث أخطو أنا خطوة يخطو هو خطوات. ولم يمض أسبوع حتى جاءني يقول أن الرخصة جاهزة ويلزم نصف جنيه فقط لدفع الرسم في المحافظة فنقدته القيمة وكنا حينئذٍ في الطريق متوجهين إلى المطعم للغذاء ومعنا أخي أمين وكان قد قدم إلى القاهرة زائراً في شغل.
قلت عن أديب أنه كان مقتدراً جداً في أمر الإختلاط بالناس واجتذابهم إليه فكان يفتن من يجانسه ممن يجالسه فتعرف في هذه المدة القصيرة بكثير من أهمهم له كان بلا ريب عبد السلام المويلحي وكان في إبان نفوذه يومئذٍ فأعجب بأديب جداً وأصبح له صديقاً حميماً وسنداً مالياً عظيماً كما كان له بعد ذلك جبرائيل مخلع من وجهاء التجار السوريين في الإسكندرية فلم يصادف صعوبات كثيرة في إصدار جريدته في القاهرة ولا في نقلها بعد ذلك بأشهر قليلة إلى الإسكندرية.
ومن أول ما ظهرت جريدة مصر انتشرت انتشاراً عظيماً والتف حولها أشهر كتاب مصر في تلك الأيام من مصريين وسوريين. وقد تمكنت الصداقة بين أديب وجمال الدين ورجاله حتى صارت جريدة مصر لسان جمال الدين وحزبه بل صارت معروفة بين الجميع أنها لسان الحزب الوطني. وهذه أول مرة ذكر فيها اسم هذا الحزب في مصر فيما أعلم. وكانت مرامي هذا الحزب ضد. وهي التي انتهت بعد ذلك بالثورة العرابية.