مجلة البيان للبرقوقي/العدد 29/مذكرات بكويك
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 29/مذكرات بكويك
لأكبر الروائيين شارل دكنز
اشتهر دكنز بتفوقه على سائر الروائيين في باب الفكاهة والمراد بهذه اللفظة هنا المضحك فليس من رواية له إلا وتتخللها المضحكات كالبستان تشقه الجداول والأنهار على أن أثري. ولذته من الفكاهة هو الكتاب المسمى مذكرات بكويك فهذا بلا خلاف أضحك كتاب في الإنكليزية وحسبه أنه في باب المضحكات هو ثاني دون كيثوت الإسبانيولي - أضحك كتاب أخرج إلى الناس منذ بدء تاريخ البشر إلى وقتنا هذا.
وأبطال الكتاب الإنكليزي خمسة أسماءهم منزلة الخادم صموئيل ولر (مختصر سام ولر) والثاني هو سيده المستر صموئيل بكويك رئيس نادي بكويك.
ثم الأعضاء الثلاثة ناثانيل ونكل تراسيي تبمان وأغسطس سنودجراس وأساس هذه القصة هو أن النادي المسمى باسم رئيسته نادي بكويك نظراً إلى ما قد عهده في الرئيس صموئيل بكويك من الفطنة الثاقبة والذكاء الحاد والخبرة التامة بأخلاق البشر والغيرة الشديدة على نصرة العلوم ورفع منارها ولما عرف في تلاميذه الثلاثة الآنفى الذكر من جليل المواهب والمزايا كطبيعة الشعر في المستر سنودجراس وعبارة الجنس اللطيف في المستر تيمان والفتوة والفروسية في المستر ونكل قد أسند إلى الرئيس الجليل وتلاميذه الفضلاء مهمة عظيمة الخطر وهي عمل سياحة طويلة في أنحاء إنكلترا لإستكشاف الخفى المجهول من آثار القدماء ومن طبائع النفس وغرائزها فيمن يصادفون أثناء هذه التجولات من مختلف صنوف الناس وشتى ضروبهم. وإرسال التقارير بذلك إلى إدارة النادي من حين إلى آخر.
المدهش العجيب في ذلك هو أن أولئك الأربعة الذين عهد إليهم النادي بهذه المهمة الكبرى ووصفهم بهذه الصفات الجليلة النادرة هم أعجز خلق الله عن القيام بالمهمة المذكورة لحملهم من الصفات عكس ما نسبه إليهم النادي فالمستر بكويك الذي وصف بالفطنة الثاقبة والخبرة التامة بأخلاق البشر هو في الحقيقة أجهل الناس بأخلاق البشر لشدة غفلته الناشئة عن سلامة النية والسذاجة المتناهية والمستر سنودجراس الموصوف بالنزعة الشعرية هو رجل رقيق الشعور ولكنه أسخف من نظم قافية والمستر ونكل المنعوت بالفروسية والألعاب الرياضية رجل نحيف ضعيف ثقيل الحركة يصلح لكل شيء إلا لما ألصق به من تل التهمة الكاذبة والمستر تيمان زير النساء هو في الحقيقة لا تتجاوز منزلته عند النساء منزلة زير قناوي تمر به الواحدة عطشى إلى الضحك حتى إذا أخذت منه نصيبها من المضحكات تركته أزهد الناس فيه. ولكن البطل الأول أعني الخادم سام ولر هو غير هؤلاء البتة. فهو وإن كان خادمهم لكنه في الحقيقة سيدهم. وذلك أنه أمرؤ لم تمنعه عاميته من أن يكون سريع الخاطر حاضر الجواب نادر الذكاء مزاحاً ثاقب المعرفة عظيم البصر واسع التجربة شديد الدهاء حتى لقد قال عنه جماعة النقاد أنه هو في الحقيقة صورة شارل دكنز نفسه لو كان أمياً.
وقد صحت عزيمتنا على أن نتحف القراء بفصول عدة من هذه القصة العجيبة ولن نقيد أنفسنا بترتيب فصول الكتاب بل نختار من ههنا وههنا حسب ما نراه أوفق للقراء وبالله التوفيق
(1)
المستر بكويك في فراش إحدى السيدات
نزل المستر بكويك في بعض جولاته بفندق من فنادق لندوة وكان من المباني القديمة الكثيرة الدهاليز والمتائه، الجمة السلالم والدرج. فبعد أن أقام ساعة في غرفة الجلوس العامة بأسفل النزل صعدت به الخادمة في عديد من السلالم والدهاليز مما يضل في متاهاته الجن إلى غرفة كانت أعدتها لنومه في الدور الأعلى من الفندق فأدخلته تلك الغرفة وتركته وعادت أدراجها. فلما بدأ بكويك ينزع ثيابه رأى أنه قد نسى ساعته بغرفة الجلوس ولم يشأ أن يزعج الخدم فعزم على أن يأخذ الشمعة وينزل وحده ليبحث عن ساعته.
فخرج من الغرفة والشمعة في يده وهبط في السلام وكلما انتهى من سلم بدا له سلم وكلما سلك دهليزاً اعترضه دهليز. وما زال تتقاذفه الدهاليز وتتلقفه السلالم ويطل من ثقوب الأبواب حتى عثر أخيراً بطريق الصدفة على الغرفة المنشودة وهنالك وجد ساعته. وبدأ يصعد من حيث نزل. ولا غرو إذا قلنا أنه وجد المرتقى أصعب ألف مرة من المنحدر. لقد جعل عشرات المرات يلوى أكر الأبواب بمنتهى الرفق والخفة يحسب أنع عثر بباب غرفته فيصيح به من الداخل صوت أخشن أبح ماذا تريد! باسم أبليس من الطارق، فينقلب على مشطي قدميه مثلاً بأسرع ما لديه. ومازال ذلك شأنه حتى قطع الأمل من العثور على حجرته فإنه لكذلك إذ جذب بصره باب مفتوح فأطل فقال في نفسه. لقد اهتديت إلى الغرفة أخيراً. وذلك أنه وجد السرير بالموضع الذي يتذكر جيداً. ووجد الموقد لا يزال يتقد. فدخل وأغلق الباب وكانت شمعته لكثرة ملاعبتها للريح قد أشرفت على النفاذ ولكنه قال في نفسه لا بأس أن في ضوء النار ما يكفي
ثم أنه رفع كلة السرير وجلس على كرسي أمامه وأقبل فصاحت المرأة صيحة مذعورة رجل! قال بكويك في نفسه قضى الأمر! وصاحت المرأة رجل غريب! قال بكويك في نفسه وابلواه! - صرخة أخرى وأجد أهل الفندق على الباب
وأحس بكويك خشخشة ثياب المرأة وهي تهرع ناحية الباب
قال بكويك وأخرج رأسه وهو في أسوأ حالات اليأس والجزع سيدتي! سيدتي!
وقد كان لظهور رأس المستر بكويك خارج الأستار أحسن الأثر وذلك أن منظر هذا الرأس في قبعة النوم ذات الزر أزعج المرأة وهي في طريقها إلى الباب فأثبتها في منتصف الطريق كأنما قد سمرت في الأرض قدماها. فوقفت تنظر إلى هذا المنظر العجيب فاغرة فاها (فاتحة فمهاـ وهو شأن المندهش) المنظر العجيب (أعني المستر بكويك) ينظر كذلك إليها فاغر فاه وصاحت المرأة مغطية عينيها بيديها (أيها الشقي! ماذا يدههنا؟)
قال بكويك بإخلاص وتضرع (لاشيء يا سيدتي لا شيء مطلقاً)
قالت السيدة رافعة بصرها (لاشيء!)
قال بكويك وهز رأسه بما ترك زر قبعته يدور في الهواء يرقص (لاشيء يا سيدتي وشرفي! إني ليكاد يغمى علي يا سيدتي وتكاد الأرض تخف بي من مضاضة مشافهتي سيدة نبيلة وأنا لابس قبعة النوم (هنا أسرعت السيدة إلى نزع قبعة النوم من فوق رأسها وكانت لابستها) ولكني لا أطيق نزعها (وهنا جذبها جذبة شديدة برهاناً على مقالته) الآن قد وضح لي يا سيدتي أني أخطأت غرفتي فدخلت غيرها. ولم تمر علي خمس دقائق ههنا يا سيدتي حتى حضرت أنت على بغتة قالت السيدة وقد خنقتها العبرة إذا كان هذا القول الذي لا يكاد يصدق هو في الواقع حقاً فأخرج من ههنا في الحال
قال بكويك سأفعل بكل سرور يا سيدتي
قالت السيدة في الحال قال بكويك بكل سكينة وتؤدة (بلا شك يا سيدتي بلا شك - ولكن اسمحي لي أن أبدي لك عظيم أسفي واستيائي يا سيدتي - وهنا ظهر خارج السرير - لما سببته لك عن غير قصد من هذا الرعب والأسى.
لم تفه السيدة بشيء ولكنها أومأت بإصبعها نحو الباب في هذه الظروف الحرجة لم تخن المستر بريك مزاياه الجليلة من رقة الآداب ومعرفة واجبات التحية والتسليم فرغماً من أنه كان في هذه اللحظة يسير حافي القدمين حاملاً خفيه في يده مع الجوربين واضعاً كسوته وصديريته فوق كتفه كدلالي الثياب وباعة الخرق القديمة في الأسواق. جاعلاً قلنسوته فوق قبعة النوم على رأسه - نقول بالرغم من كل ذلك لم يكن شيء قط ليمنع المستر بكويك من تقديمه إلى السيدة واجب تحية الوداع بإحنائه رأسه بكل أدب واحترام وقوله بأرق لهجة وأرخم نغمة (اسمحي لي يا سيدتي أن أظهر عظيم أسفي واستيائي وجزيل شكري)
فقاطعته السيدة قائلة (إن كان ذلك حقاً فاخرج في الحال يا سيدي)
قال بكويك في الحال يا سيدتي في الحال
ثم فتح الباب فسقط الخفان من يده على الأرض بصوت شديد فتناول الخفين وبعد خروجه من الباب التفت إلى السيدة فقال (أملي وطيد يا سيدتي في أن ما يؤثر عني في جميع أنحاء العالم المتأدب من العفة والنزاهة ومن إجلالي جنسكم اللطيف ومغالاتي بقدره سيشفع لي عندك ويقوم ببعض) ولكن السيدة لم تمله حتى يكمل خطبته بل قذفته في الدهليز وأغلقت الباب في وجهه يخلع نعليه وجوربيه على رسله ثم نضا ثوبه وصديريته ووشاحه ولبس قبعة النوم ذات الزر الطويل وربطها جيداً من تحت ذقنه بزناقها. وبعد ذلك أخذ يتذكر ما كان أصابه من الحيرة والإرتباك عند إضلاله غرفته وشرع يضحك من نفسه لنفسه ما أعجب ضلالي بين هاتيك السلالم والدهاليز التي كأنها أبدية لا مبدأ لها ولا نهاية. عجيب عجيب عجيب ثم عاد إلى الضحك وشرع ينضو بقية ثيابه وإذا بحادث فجائي أوقفه وسط عمله. وما أدراك ما هو؟ دخول إنسان من الباب يحمل في يده شمعة. وهذا الطارئ بعد إغلاق الباب سار إلى منضدة اللبس فوضع الشمعة عليها.
فاختفت ابتسامة المستر بكويك تحت ما غشي وجهه إذ ذاك من سيما الإندهاش التام. لقد كان دخول هذا الطارئ بمنتهى المباغتة والخفية والخفة حتى أن المستر بكويك لم يجد أدنى فرصة للإستغاثة أو للمقاومة. من ترى هذا القادم؟ لص؟ شرير بصر به صاعداً وفي يده ساعة بديعة قيمة؟ ربما كان ذلك ماذا يصنع؟
رأى المستر بكويك أن أحسن طريقة لرؤية الطارق دون أن يراه الطارق هو اختفاؤه في السرير والنظر من خلال الستائر. ففعل ذلك وضم فرجة الكلة بأصابعه بحيث لم يظهر منه سوى وجهه وقبعته. ثم لبس نظارته واستجمع قواه وجعل ينظر.
وهنا كاد يغمى عليه من الخوف والدهشة إذ أبصر أمام المنضدة سيدة نصفاً (متوسطة السن) تسرح ضفائرها وقد ظهر له من حركاتها أنها تنوي البقاء في الغرفة طول ليلتها لأنها وضعت الشمعة التي كانت معها في إناء خاص بذلك.
قال بكويك في نفسه أعوذ بالله الرحمن الرحيم ما أهول ذلك وما أفظعه!
هنا تنحت السيدة فاختفى وجه السيد وراء الستائر بسرعة البرق اللامح. وقال في نفسه ما رأيت أهول من هذا الموقف، وتحلب العرق البارد من جبينه. ما أخوف وما أهول!، لم يكن في طاقة بكويك أن يمنع نفسه من تأمل هذا المنظر فأخرج رأسه ثانياً فأبصر ما هو أفظع وأبشع. فرغت السيدة من تمشيط شعرها ولبست قبعة النوم وأقبلت تتأمل النار مطرقة تفكر.
قال بكويك في نفسه الأمر يزداد بشاعة وهولاً ليس في وسعي أن أدع الأمر يستمر في مجراه هذا. يلوح لي منن ثبات هذه المرأة وهدوء بالها أني دخلت غرفتها بطريق الخطأ. فماذا أفعل؟ إني إذا ناديتها صاحت فأزعجت الفندق. وإذا سكت كانت العاقبة أسوأ.
لا حاجة بنا أن نذكر هنا أن المستر بكويك كان من أرق الناس عاطفة وأطهرهم ذيلاً وأحسنهم أدباً. وإنه يرى في مجرد ظهوره أمام إحدى السيدات لابساً قبعة النوم المصاب الأكبر والخطب الأجل. ولكنه قد عقد زناق قبعته عقدة لا تحل. ثم لا بد له من كشف هذا الأمر. إذن فليس أمامه إلا طريقة واحدة. فاتخذ هذه الطريقة وذلك أنه انكمش وراء الستائر وصاح بملء فيههوه! هوه!.
لا حاجة بنا أن نقول أن السيدة ذعرت من هذا الصوت فتقهقرت نحو الشمعة. غير أنها نسبت هذا الصوت إلى تأثير الوهم والخيال الكاذب. وكان المستر بكويك حسب أن صوته هذا سيفقدها الصواب فاختفى وراء الستار ولكنه لما عاد فأطل رآها جالسة أمام النار مطرقة تفكر كحالتها من قبل قال بكويك ما أعجب شأن هذه المرأة هوه! هوه لقد كان الصوت هذه المرة أبين وأوضح حينئذٍ صاحت المرأة واخطباه! ماهذا؟
قال بكويك من وراء الستارهذا - هذا - رجل يا سيدتي