مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/نصيحة شاعر
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/نصيحة شاعر
إذا درس المرء التاريخ ونظر في حياة الأمم التي بادت ولم يبق منها غير أسمائها وجد في الطور الأخير من أطوارها والعصر الأخير من عصور حياتها صفات معروفة ذا رآها في أمة حية علم أن مصيرها مصير تلك الأمم التي بادت وانقرضت وليس انقراض العناصر البشرية مما يستدعي الدهشة فإن ذلك سنة لا مناص منها وإذا نظرنا في حياتنا وجدنا في أمتنا تلك الصفات التي تبدو في حياة كل أمة قبيل انقراضها مثل العجز والملل والكسل والتوا كل والضعة.
والزمان وحده هو الذي يحكم على صفات أمتنا أهي عوارض تزول أم عوامل تؤدي إلى الهلاك.
لا الدهر غر ولا الأيام ظالمة ... وإنما العيش فينا والردى علل
كل له أجل يسعى ليبلغه ... وليس يفلت أمَّأ جاءه الأجل
لولا التنافس في الدنيا لما صلحت ... ولا الحضارة والأيام والدول
زاوين إلا عن الفحشاء أنفسهم ... وفوقهم من بوادي خزيهم حُلَلُ
يا بارك الله مقدروا يعاجلهم ... فتطهر الأرض لا رجس ولا خطل
ما باشروا الصديق في قول ولا عمل ... فكُذبَ الأصدقان القول والعمل
إذا أصيبوا بشْر هيّن خنعوا ... وإن أصابوا منالاً هيّناً جذلوا
ويغضبون على من رام نفعهم ... فما يشجعه في السعي محتفل
فلا حكيم ولا نَدْب ولا فَطِن ... ولا عظيم ولا ثَبْت ولا بطل
إذا هممتم بأمر نفعه عممِ ... ألهاكم العجز والذلات والملل
وإن بدهتم بخطب ضره أمم ... ضاقت لديكم به الغايات والسبل
وصاحب الجهل فيكم آمن فَرح ... وصاحب العقل فيكم حاذر وَجِلُ
إذا نطقتم بحق فيكم حَصَر ... والبُطْل مبتدر منكم ومرتجل
فإن رقدتم فإن النوم عادتكم ... وليس تصحو لكم روح ولا مقل
تهافتون على الأدناس ما نتنت ... مثل الذباب على الأدناس ينتقل
أفهامكم مثل أفهام الفراش إذا ... حام الفراش على مصباحِ يشتعل
فإن دعيتم إلى خير ومكرمة ... حكيتم البُهْم لا عقل ولا حيل فما طبيب يداوي داءكم أبداً ... إلا الهلاك وهذا ريثه عجل
ومن دلائل هذا الهُلْك أن لنا ... فخرا فنحسب أن الفضل متصل
إذا خُشِيتم فأنتم مشعر جبُن ... وإن رُجِيتُم فأنتم معشر خُذُل
كم من نصيح لكم بالرشد ينصحكم ... كأنما حظه من نصحه الصَّحلُ
كلوا وناموا ونالوا حظكم أبداً ... من التثاؤب لا لوم ولا عَذَل
وعاقروا الخمر والأفيون في دعة ... فعيشكم مثل ظل سوف يرتحل
واستخبروا عن هوى اللذات قاطبة ... أمَّا عن العز والعليا فلا تسلوا
وملء أشداقكم ضحك أأسكركم ... من حسن حالكم خمر هي الجذل
أم ضحكة الرجل المجنون من حَزَنٍ ... لشد ما نال منك البؤس يا رجل
أم ضحكة الخنث الموهون أضحكه ... أمر معيب فلا تقوى ولا خجل
أنا النذير إليكم والنصيح لكم ... وليس يؤثر نصحاً عاجز مَذِل
يمضي الزمان فلا عزم فيُسْعِدكم ... وليس يزداد إلا العجز والخبل
وفيكم من صفات السوء أخبثها ... حتى لقد صار فيكم يضرب المثل
أشعلتم نار يأسي وهي خابية ... وقد قتلتم ذكائي وهو مشتعل
هيهات هيهات إني مِقْول أبداً ... حلق الزمان به الناس يرتجل
أنتم بفيّ كطعم المر أمضغه ... حتى تساوى لديّ الصاب والعَسَلُ
فإن فهمتم فمالي فيكم أرب ... وإن جهلتم فشر العادة الجهل
إذا هجوت فما أهجوكم أبداً ... إلا ودمع على الخدين ينهمل
أنتم أحق بتأبين ومرثية ... والرزء بالحي جرح ليس يندمل
أنتم عليّ وإن طالت مهانتكم ... أعز ذي قدم يسعى وينتعل
فنحن في أمرنا طرا سواسية ... وأن تفاوتت الأخلاق والنّحَلُ
ليس لي فيكم حظ ولا أمل ... وليس لي في الورى من دونكم بدل
إني رأيت حياة الناس أولها ... يدعو لآخر ما يأتي ويُقْتَبَلُ
لقد ورثنا كلها كمد ... مور على القلب مثل النار يشتعل
فنحصد الشوك مما ذَرّ أولنا ... لقد ورثنا عن الأسلاف ما فعلوا فمن خمول ومن جهل ومن كسل ... وأعظم الخطب ما يأتي به الكسل
ثقل على النفس نُمضيه ونصرفه ... حتى يصح وحتى يصدق العمل
ونجتني العز غضا كله ثمر ... ونشرب العيش ريا كله جذل
أن الأماني دون القلب ما برحت ... في القلب منزلها مُسْتَمْرأ خَضِل
نستخبر القوم أني وجهة سلكوا ... فبلغتهم إلى عليائها القلل
هم زاولوا الجد قد دانت تجاربه ... لهم فعزوا بها والدهر مقتبل
قوموا اجعلوا السعي في الأطماع رائدكم ... ما أضيع المرء لولا السعي والأمل
بعض العلوم إلى الأعمال منتسب ... وأحسن العلم ما يجدي به العمل
هذا السلاح الذي يدع لهم سبلا ... في مجدهم لا ألقنا الخطية الذُبُل
يا قوم هذا سبيل لا خفاء به ... فيه الحياة لأقوام إذا عقلوا
أنا بمنزلة الفصل يتبعها ... أما الحياة وأما الموت والأجل
حتام ننكر حقاً غير مشتبه ... لا يكره الحق إلا من به دخل
لا يصلح العلم مضنوناً به أبداً ... فأين شؤبوبه إلا ينفع البلل
هذا الذي يدعى الأقوام قادرة ... فكل فرد كعضو ما به شلل
أذلك المال مضنون به أبداً ... إن العزيز لدى الأوطان مبتذل
والعلم مثل عصا السحار يبسطها ... فيصبح المال قد ضاقت به السبل
والعلم والمال مقرونان في قَرَن ... لا نجتني المال حتى يصدق العمل
وإنما لغة الأقوام مِيْزَتُهُمْ ... فإن تولت فمجد القوم مرتحل
قد أصبح العلم والآداب ضائعة ... وأصبح الشعر فوضى كله ذلل
يرقى الوجود بعيش الصالحين له ... من ليس يدركهم عجز ولا كلل
ليس الحياة بمستشفى لمن سَدِكَت ... به الزمانات والأمراض والعلل
بل الحياة جهاد لا خفاء به ... فليس يفلح إلا الأغلب البطل
إن الحياة كَتَنُّور ومعركة ... يَصْلَى الشجاعُ ويصلى العاجز الوكل
وكلكل الدهر لا يُبْقي على ضَرع ... وليس يخدعه جود ولا بَخَل
نلهو عن العيش والأقدار نافذة ... كأنهن مطايا تحتنا ذُلُلُ إن المقادير أجناد مُجَنَّدة ... تصول بالحق لا ظلم ولا خطل
لا رحمة عندها ترجي ولا مِقة ... ولا الشفاعة تُقْصيها ولا الخَوَل
عبد الرحمن شكري