انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/جوسلان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/جوسلان

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1915



أو

صفحة من الحياة

العصر الثاني

في الدير

. . . مضت ستة أعوام وجوسلان لم يكتب في خلالها حرفاً واحداً. . . قضى هذا الدهر وراء حائط الدير متوفراً على العبادة والتفكير والدرس. . . .

إذا امتد ظل الليل، وانتشرت في أركان الدير ظلمته، وفرغنا نحن سكان المعبد من طعام العشاء، وانتثرنا ملتمسين المقاعد في رحاب الدير وأفنائه، كل يطلب من الجمع صاحبه، وكل يبحث فيه عن رفيقه، يتهامسون في هدأة الليل ويتناجون، حيث يفيض القلب، ويتفتح الضمير، ويتدفق الحب، إذ ذاك أروح أنا الغريب الذي لم يجد بعد من أهل المعبد صديقاً، المنقطع الذي لم يجن له منهم وليّاً ولا خليلاً، لأن القلب المترع المفعم لا يميل إلى بعض الحب ولا يرتضي منه نصفه أو قليلاً، أنطلق منتبذاً مجالس القوم أطلب قرب الصديق العظيم ونجوي الوليّ السامي الأشم، باب معبده الخفي، ألقي عند قدميه حبي في وحشه الليل وهجعته.

أي أو سْيَان. . أوسيان لطالما زرت لأجلك سحائب أنيستور وأجبالها أحمل في قلبي شعرك، وفي يدي قيثارتك ممعنا في صميم الشتاء، أضرب في قلب الغابة الكثيفة العذراء لشدَّ ما استمعت لأنين الشمأل، وحشرجة الريح الباردة وهي تحف بفروع الشجرة الفنيانة المورقة، ولطالما مست طرة شعري جبيني المتبلل المتدفق، ولكم رأيت الريح العاصفة هاربة متولية، كأنما من خوف ورعب، إلى حدود الوهاد البعيدة المترامية، تجري من السماء مذعورة عاجلة هوجاء، تضرب وجه الصخرة الغضبى المزبدة، حاملة إلى أذنيّ صيحاتها وعولاتها وزبدها وعزيفها، فإذا انتفضت جذوع السرحات وأفنانها، كما تنتفض في ملعب الريح القصبة الجوفاء، وثارت الزوبعة المثلجة فنالت من أعاليها الشم الموحشة، وخفضت من رأسها المشرف المتطاول، وأنا أمشي مشتملاً في بُردَة العاصفة، مؤتزراً إزاره العاتية، وإني لأنظر فإذا شعاعة متوثبة تبدد غيم النوء المتكاثف، تمشي في أثره الشمس مشرقة من مكمنها، تنظر إليّ وتطالعني في إشراق وانتعاش وبهجة، تفتح لي طريقي بين المنحدر والهاوية. . . إن قلبي ليخفق إذ ذاك في ناحيته، وإن دموعي لتطفر من مختزنها، وإني لأسير متفتح الأذن، منتشر الذراع، مسرعاً كالمجنون موسع الخطى، أسير كأني أبصر ظل الله في ظل العاصفة، وكأني أسمع العظيم في زفيف الريح ورجع أصدائها، وما أشدني إذ ذاك بهجة وما أحرني حباً للطبيعة ووجداً، وما أبعدني إمعاناً في قلبها وصميمها.

تلك كانت لحظات نعمة أين لي بوصفها، تلك كانت برهات غبطة أدمع الله كأسها، أشعة مراح، وظل نعيم، يخلطان بين الحياة وبين الأبد. . . أن روحنا لتذكرها فتمر بنا الذكرى كخطرة مسرعة في حلم مسرع مبعد. . . يا الله. . . لقد ذقتها فما شككت في أن نبعة من نبعات الأبدية ما أن تزال تتدفق في هذه الأرض وتسح وتفيض.

والآن. . وقد قامت بيني وبين العالم تلك الجدران الشاهقة، التي شادها الإيمان ورفعتها القرون والأجيال، والآن وأنا أطوف في رفق وصمت بأجنحة الدير البعيدة. . . هذه الجدران المعتزلة الجامدة الصليبة، بيت الله ومسكنه ومقامه، حيث يعيش السكون والرهبة والجلال والأبد، وضياء المساء ينتشر فوق زجاج النوافذ آخر أشعته، وفي المحراب نار مشبوهة تسطع كالعين المشرقة في ظلمة الليل، وصوت الناقوس يتبدد في نعومته ويتشتت، وأنا أعتمد جبيني بعامود من أعمدة الدير فأسمع من جوفه صدى متردداً فيه متمشياً يهتز كما يهتز مفتاح العود الطروب الشجي، وإني لأرسل بصري في فضاء هذه الدار فأحس في فراغها كأن أذنا تصيخ إليّ وتستمع، وكأن صديقاً خفياً يشارفني في صحن الدير وباحته، يستهويني إليه ويجتذبني، وإنه ليكلمني في لغة غريبة، لا يقع معناها إلا للروح، ولا يدركها إلا القلب، وأنه ليخاطبني في أعماق صمت مرسل منشور وأنه ليحتويني في صدره ويواريني، وركبتاي عاطفتان على أرض الدير راكعتان وأنا أنشر على عيني طرف قبائي كالمبهوت المذعور، أسكن إلى ظل الرحمن العظيم، أنصت له واستمع، حديثاً روحانياً لا تستطيع كنهها لغات هذه الأرض، ولا تعيها بابل ألسنتها.

وكذلك يسلخ الليل ساعة فساعة. . والآن وقد أقفلت أبواب هذا البيت المقدس ومنافسه، وأنا أبتعد عن موقفي في رفق وتؤدة، أمسح بيدي الباردة القطرة المتحيرة فوق جبيني من دموع السماء. . .

الآن قامت الثورة. . . وقد بلغت أخبارها الدير فضج لها أهله، وتولى الجميع الرعب والخوف، وراع قلب جوسلان مقتل الملك ومذابح سنة 1793، ثم انتهى إليه أن بيته الذي درج فيه وليداً قد أحرق واندكت جدرانه، وإن والدته وأخته قد ركنتا إلى الهرب، ثم سمع بعد ذلك بأيام أنهما قد هجرتا أرض فرنسا، ولكن لم يلبث الدير كذلك أن انقض عليه الغوغاء فذبحوا من سكانه من ذبحوا، واعتصم الآخرون برؤوس الجبال ومعاصم الكهوف، وقدر لجوسلان النجاة من شر الثوريين وجنتهم، فلاذ بقمة مهجورة متناهية في وهاد الألب، عند كهف هناك يسمى كهف النسور دل عليه كان شيخاً متهدماً، وكان مكمناً لا يقتحم ولا يدانى، ينفذ إليه فوق هاوية متحدرة غائرة الأعماق، تشقها قنطرة من الصخر المعشوشب، وفي ذلك المكان الموحش الجليل قدر لجوسلان أن يقضي بقية عيشه، منقطعاً عن العالم مقصياً. . .

العصر الثالث

جوسلان ولورانس في الجبل

. . . لئن كان مشهد المكان رائعاً جليلاً يأخذ على اللب نواحيه، ولئن كان قلب جوسلان مفعماً بسكون المؤمن وتقواه، إلا أن وحشة المعتصم لم تلبث أن نزعت من فؤاده مراحه وبهجته، وأنه لفي ذات يوم خارج الكهف، إذ لمح عن كثب منه سجينين، رجلاً وفتى، يعدوان وفي أثرهما جنديان، متدانين جميعاً إلى الهاوية يطلبون طريقاً ومخلصاً، فصرخ جوسلان، وقد ثار في روحه إحساس طبيعي غريب، صرخة عالية، وأشار يدل السيجينين المطارَدين على القنطرة الصخرية، فعمدا إليها فاقتحماها مخاطرين مجازفين، والجنديان في آثارهما يعدوان، وإذا ذاك ضج في الفضاء من الناحيتين دوي الرصاص، فنهادي الجنديان مرتطمين في الهاوية، وأما أكبر الطريدين فأصيب بجرح بالغ شديد فلم يكد يحمل إلى الكهف حتى جاد بأنفاسه بين ذراعي جوسلان، بعد أن أوصاه الخير بفتاه.

وكان الغلام يدعى لورنس، في الربيع السادس عشر، وكان وحيداً في العالم، لا نصير له بعد أبيه ولا كفيل، فلم يلبث جوسلان أن فتح لرفيقه الصغير قلبه، وأحله منه محل العطف والحب والحنان، وكذلك اقتسما وحشة العزلة في الجبل، فأضحت عند جوسلان حلوة المبتسم طيبة الجناب. . . . .

في الكهف 25 سبتمبر سنة 1793

وكنت إذا عدت أدراجي عند المغيب منحدراً من مقانصي المتجافية النائية، كليل القدمين، مجروح الأصابع من أثر الثلوج، محتقباً الظبي الأرن، أو الشاة الجبلية، وأنا مشرف من الرابية في أبعد حدود البصر على البحيرة الزرقاء المتصاغرة، كالقطرة المرتجفة المتحيرة في راحة الطفل الغرير، والعشب الأخضر المزهر يحف بساحلها الصلد، والسنديانات من حولها مائلة الأعناق ذابلتها، وألمح سطع الموقدة المشبوبة متوهجاً من ناحية الكهف البعيد، وإذ ذاك يطير لبي في عالم التفكير ومسارح الخاطر، أسير أقول لنفسي. . . . . هناك عند هذه الناحية المستنيرة التي لا تبلغها عين الفهد، هناك تقيم القطعة الطاهرة مني، هناك الجزء الآخر من روحي ومهجتي. . .، هناك العين المشرقة تتشوف مقدمي، والأذن المنصتة تتسمع مقتبلي، والذاكرة النقية التي تحبني، هناك الصديق الذي يخفق فؤاده لموقع قدمي، والمخلوق الذي أرسلتني السماء لحمايته ورعيه، وهناك الإنسان الذي أرى فيه كل شيء في الحياة، ويراني عنده كل شيء في الأرض، كل منا عند صاحبه الوطن والصحابة والأحباب والأب والأم والأخ والأخت، هو الذي يعد خطواتي بخفقات فؤاده، ويطالعني وأنا أنحدر إليه فكأنما اليوم المستطيل الذي قضى بعيداً عني كان برهة من الزمن، وطرفة من العين، وأنه ليقبل علي إذ ذاك متشبثاً بنحري متوثباً، باسطاً ذراعيه إلى محاضنتي، عادياً كالرشأ من مرح، طافراً من بهجة، يجري أمامي إلى الكوخ وأنا في أثره. . . .

فإذا فرغت من تفكيري، أسرعت الخطى في طريقي الثلجي الأشهب، وأنا أتبع ببصري الممر الذي يفضي إليه، نافذاً من بين ربي الثلج أجباله، منزلجاً مع المنحدر هاوياً، وإذ ذاك أجد لورنس عند سفح الجبل مرتقباً رؤيتي مستطلعاً، وأنه ليأخذ ذراعي الضعيف في ذراعه، وأروح أقص عليه حديث يومي وخبره، ويتلو عليّ هو وقائع نهاره ونبأه، ونعود أدراجنا يحدثني كيف أن يماماتا نقفت البيض تحت أجنحتها وكم أعطت العنزة من لبانها، وكم من السمكات اصطادت حبائلها، ثم يأخذني فيريني ما جمع من أوراق الطحلبات وأغصانها، وما ركم من غثاء الأشجار ولحائها، يفرش به أرض الكهف قبل وفدة الشتاء وقرسة الزمهرير، وما اقتطف من أبّ الغابة وفاكهتها وما شاك أصابعه الدامية من إبرها وأشواكها، وما مَد ولوى من دوالي الكروم، وعواسج اللبلاب، فوق جوانب المغارة وجدرانها، وما أمسك من العصافير بمخادعتها بالحبوب ومداعبتها، والظباء الجائعة يلقطها الحب بيده ويؤكلها، لأن كل شركائنا في عزلتنا، ظباء الجبل وأيلها، وعصافير الغابة وأطيارها، أما من حب له، وأما من رضي واعتياد، تتسابق عند رؤيته، وتجتمع لمطلعه، وتطير على صوته ومشيئته. .

وكنا نأكل ما أصبناه في نهارنا، تحلو لنا الألبان وتوافه الطعام وتطيب، ونلتهم بعدها غرائب الفاكهة، ونوادر الثمر، وحينا نشرب ماءها، ونؤثر عليها عصيرها، وتختزن للفصل المحتضر ما تجفف الشمس ويحفظ الزمن، وينوه أحدنا بفكرة أخيه ويصفق لمبتكره، ويطفر لأملوحته، ونقتل السماء المتطاول في النادرة أثر النادرة والطريفة تتلوها الطريفة، والضحكة الحلوة في أعقاب الضحكة، وحينا نشهد القمر في صميم الليل بازغاً مستهلاً، ساطعاً على صفحة البحيرة منبسطاً، فنسجد فوق الصخر إلا هم خاشعين ضارعين، نستقبل مطلع ذلك النور، ومتألق ذلك الضياء وقد أمال لورانس جبينه المؤمن الطاهر فوق الضريح متفجرة عينه بالعبرة المهراقة، ندية وجنته بالدمعة المسفوحة، نشكر الله اليوم الذي أعطانا، ونحمد له الليلة التي وهبنا، ونسأله الشمس تطلع علينا بالغد الهنيء، والأيام الحلوة الراغدة، ونرسل ضراعاتنا ودعواتنا للذين على الأرض، مبتهلين للمتوسدين بطونها ولورانس يجاهد الدمع ويغالبه، متهدج الصوت في حزن، ناشجاً في شجن، يرسل من عينه ما بقي من عبرات الابن لذكرى الوالد، ويروي يديه المشتبكتين فوق صدره من شؤونه ودموعه. . . . . .

كذلك نختم يومنا، نمضي في سلام لنهجع في رفق، ملتحفين كثيف اللحاء متوسدين غليظ أوراق الشجر، حتى يصدح صوت الذي يصحو قبل رفيقه مع نشائد القنبرة، ويمتزج بأغاني البلبل، فيطرب أذن صاحبه، ويوقظه من هجعته.

هذا ولورانس ينمو ويفرع، ويزداد في كل يوم روعة وجمالاً، وفتنة ونضرة شباب، وتشتد بينهما أواصر الود والحب والعطف والإعزاز.

العصر الرابع

الشتاء في الجبل مضى عام. . . والفصول تتابع

هنا هبط الشتاء متعجلاً باكراً قل زمن مهبطه، وقد انتشرت فوق جسم الأرض أكفانها، والرياح من حولنا ترمي بآكام من الثلج الأشهب. . . الله لنا، ورعيا للصخرة التي تضمنا، وبركة للثغرة الت تكنفنا وتعصمنا، فالآن لم نعد نستطيع أن نخرج من ظلمة كهفنا ومنفنانا، ولم نعد نتبين الوديان من القمم التي كانت تعلوها، والذوائب التي كانت تزينها، ولا جسور الصخر التي كانت تحوطها، ولا الروابي التي كانت تسامي وهادها ونجادها، وقد حجب الطوفان المتجلد مناحر الجبل ومنافسه، وعواليه ورؤسه، وسهوله وحزونه، وأن الظبي ليرتجف مثلنا ويرتعش، لا يفارق الكهف ولا يخرج إلى الجبل كما كان يفعل متوثباً ممراحاً لاعباً، وقد سمت على القنطرة التي تعوج بالجبل إلى الوادي ركام من الثلج شماء عالية، ونحن الآن في جزيرة لا تبلغها العين، ولا يشارفها البصر، مسجونين حتى مرحل الشتاء وهجرته. . . يا الله لشد ما أحييت أيام الشتاء وأشهره، إنه لتذكرني بحال الأرض وتعلّمني أن القلب لينزوي وينكمش إلى دفئه، ويمسك عليه في هذا الموت الأصغر مهجته، وعصارة قوته، مقتصدها للربيع الرنوان الجميل، وعلائل نسيمه السجسج الساكن، ليجري فيه أخف من قبل نشاطاً وأشد روحاً، أن الروح المنزوية في خلاله المنقبضة من جهامته لتخرج عند الربيع من حجبها ووسائدها هاربة من هدأة المشتى وظلماته ومحازنه وما الشتاء للروح إلا كالملح للطعام يرفع شهوتها ويصلح مذاقها ولقد كنا ننعم إذ نحس بأننا نحب، ونشعر بأنا نعيش، بينا كل شيء في الطبيعة يحتضر تحت الجليد ويموت. . .

ولكن ما لبث أن عدا على هذه السعادة المعسولة ظل من الحزن. . . إذ وقع للورانس حادث مزعج ألقاه جريحاً مريضاً، فدأب جوسلان على تطبيبه والعناية به، وأسكنه لم يلبث أن اكتشف أن لورنس ليس إلا فتاة، فثار فيه عند ذلك إحساس مخيف، يمتزج فيه الرعب بالخجل، وكان إخفاء لورانس جنسها عن أمر من أبيها، واشتدت الحيرة بجوسلان، وتملكه الاضطراب، ولكنه ظل يحوط لورانس بالحب والعطف والإجلال. . .