انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/جبريل داننزيو

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/جبريل داننزيو

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1915



مثير إيطاليا إلى الحرب مع الحلفاء

من أكبر العوامل التي بعثت إيطاليا على الخروج من شملة السلم وارتداء لباس الحرب - بعد أن لبثت أشهر لا تدري ماذا يراد بها ولا ماذا تريد - قول شاعر، والشعراء لا يزالون يحفظون عظمة الماضي في هذا العصر العملي الغريب، يثيرون الشعب بالقصيد ويوقدون سعير الحرب بالقصيد، لأنهم سادة القلوب، وسلاطين العواطف، والعواطف البشرية نزاعة وثابة خوارة، وإذا كان ذلك هكذا فليس إذن من الغرابة أن يكون السنيور جبريل داننزيو، شاعر الطليان في هذا العصر، هو الذي دفع الجنود إلى البنود، وأقام إيطاليا وأقعدها، وأرسل نبض المملكة في أشد خفقانه وضربانه، وذلك لأنه مولع بفرنسا ومدنيتها ورقتها، ومن أكبر المدافعين المتحمسين للمدنية اللاتينية، إذ قال بعد أن ظفر بتحريك إيطاليا إلى الحرب. . لقد دق ناقوس الحرب. . . وصيحات الجماهير تصيح في فضاء السموات الحلوة الجميلة. . إني الآن أكاد أجن من الفرح. إن معجزة النهضة اللاتينية ستعاد. الآن سيشهد العالم معجزة إيطالية.

والشاعر داننزيو اليوم في الثانية والخمسين، وقد ولد في بصقرة في شمال إيطاليا، وهو ابن دوقة، وربيب النعمة والترف والرقة والأبهة، وقضى عهد طفوليته يمرح في الحقول يمرح في الحقول والمراعي والمزارع والأمكنة العراء، ولعل هذا هو الذي أحدث شاعريته، فلما كان في السادسة عشر دفع إلى الجامعة في ولاية تسكانيا، ولم تمض سنة حتى نشر ديوان أشعاره الأولى، وسماه الشعر الجديد، وكان يحتوي عدة مترجمات من الأدب اللاتيني القديم. وكان أسلوبه فيها على الرغم من حداثة سنه طيباً رائقاً، حتى أن أحد كبار كتاب ذلك العهد نشر عنه مقالاً مستفيضاً في الصحف.

وذهب داننزيو بعد ذلك إلى رومة وبدأ ينشر قصائده ورواياته وكان أسلوبه الخفيف الروح، والعاطفة الشهوية الحيوانية المتجلية في شعره قد بدآ يدهشان نقادي الشاعر ومقرظيه، وقد أعرض عنه أولئك الذين قد التفوا حوله بادئ بدء واستمعوا لأغنياته، ذاهبين إلى أن شعره يحمل أكبر مفسدة لآداب العصر، ولكن الشهويين أخذوا يمجدونه ويحيونه ويصفقون له ويحيون فيه الشاعر الجديد الذي جاء يرسل روحاً جديدة في الآداب.

ودخل بعد في الصحف فاشتغل في جريدة التريبونا الإيطالية فكان عهده فيها أكبر العهود، ولئن كان شعر في دانونزيو محبوباً اليوم من هذا الجيل مقدساً من أهل العصر، لأنه يمجد اللذة والشهوة ويتغنى بهما، إلا أن دانونزيو قد ظفر بأكثر مما يستحق، وأما رواياته فتدور حول النفسيات وهو قد استمد أبحاثه النفسية من الكتاب البسيكولوجيين من الفرنسيين والروس والاسكندناويين والألمان، وقوة الابتكار في تواليفه كبيرة فياضة، ولكنها لا تستمد نفسها إلا من المعلومات الشخصية ولذلك فهي ضيقة الحدود.

والشاعر يميل إلى فرنسا ويتعشقها، لأن كل شاعر يميل إلى فرنسا ويعبدها، ودانونزيو، ومعناها في الإيطالية الرسول يعيش في إيطاليا كأمير، ويحب اللذائذ والمناعم، ولا يشتغل إلا ليلاً، ومن عادته أن يتعشى في الساعة السابعة عشاء فاخراً منوعاً غالياً، فإذا جاءت الثامنة جلس إلى مكتبه منزوياً إلى تأليفه، وهو من أشد الكتاب سرعة في الكتابة واستفاضة، فلا يترك مكتبه حتى التاسعة صبحاً من الغداة فإذا تناول القهوة واستحم أوى إلى مضجعه فلا يصحو حتى الأصيل، ولا يكتب إلا إذا ارتدى في شملة مزركشة بالذهب، وقد جمع بيته بين القصر والمتحف معاً.