مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/الأرق
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/الأرق
فوائده - أسبابه - أنواعه - دواؤه
نحن أهل هذا العصر مصابون بالأرق، حتى لقد كان يغلبنا الوهم أنا مصبحون عما قليل جيلاً مسهداً مؤرقاً وإن الأرق ومنهكة الذهن ومتعبة الأعصاب سائقتنا ولا ريب إلى مستشفيات المجاذيب، ولكنا في وهمنا مخطئون لأن الأرق الرقيق المتقطع الذي يعرض في الحين بعد الحين ليس مرضاً أو خطراً. إذ كان أكبر آراء الدنيا البدائع التي عملت على تهذيب الإنسانية ورقيها وأبهم مشكلات العلم ومستغلقات المسائل، لم تخطر ولم تحل إلا في ساعة يقظة غير محبوبة ولا مطلوبة وخلال سهد مكروه مسترذل، والذهن القوي الذي يأرق هو غالباً الذهن الحاد الفعال المفكر وإن كان ثمت أذهان لا تكاد تنام أو تهجع لأنها أذهان فارغة مختلة مجنونة.
فإذا وجدت إنك لا تستطيع نوماً لأن ذهنك يأبى إلا أن يفكر ويسير في تفكيره فدعه مسترسلاً فيه ولا تقطع عليه عمله وثق أنه لن يصيبك أو يصيب ذهنك كذلك ضر أو سوء. ولعلك تخرج في هذا المأزق الملعون طائفة من الآراء الصائبة النافعة. فإذا تعب الذهن وأجهد قواه بعد حين فأنت واجده ولا ريب مذعناً عند ذلك إلى الرقاد والنعاس.
هذا ولا ينبغي أن يضطرب بالك إذا رأيت أنك قد اعتدت أن تأرق مرة في الأسبوع ومرتين أو ثلاثاً في الشهر ولا تظن أنك مقدم على مرض، وإنك سوف تصاب بالميلا خوليا والاضطرابات العصبية العديدة فإن جميع الذين يسهمون في حركة العالم ويأخذون نصيباً ذهنياً من مشاغل النهار وأعماله ويعيشون على التفكير والتدبير معروضون ولا شك لأوقات تنبه فيها قواهم المفكرة وتأرق أداة تفكيرهم. وهم مع ذلك يطلبون الراحة والنوم. ومن ثم فلا ينبغي لهم أن يظنوا ذلك إعراض مرض أو ضعف أو اضطراب، بل على النقيض منها دلائل صحة وقوة وانتظام.
ولا يجب أن يندهش القارئ إذا قلنا أن الأرق الرفيق المتقطع في الحقيقة لا يحدث أدنى ضر أو سوء، لأن للذهن القوي السليم من القوة الاحتياطية المختزنة ما يكفل له أن يحتمل خسارة ساعتين أو ثلاث أو أربع من النوم في الأسبوع، بل ليال معدودات في أوقات الشدة والكرب، دون أن يكون عليه من ذلك ضير أو شر، غير ضعف وقتي وفتور يذهبان بنوم طيب هنيء مكتمل.
ولا يخشى من الأرق إلا إذا كان عارضاً من أعراض مرض مقبل قادم، أو إذا جاء من ناحية نوع المعيشة نفسها ويكون الضرر منه محساً منه صاحبه بينا له. وهذا النوع من الأرق لا يحدث من فقد النوم، ولكن يرجع إلى أحوال خفية أخرى فإن الكلى المريضة والقلب الضعيف والجهاز الهضمي المختل الفاسد تذهب النوم وترنق العيش وتحدث الأرق.
وسواد الذين نلتقي بهم في مستوصفات الأطباء من الذين يشكون الأرق هم في الغالب أصحاء البدن أقوياء لا يعتور صحتهم شيء من المرض أو الاعتلال ولكنهم إما أن يكونوا قد عرضوا بأنفسهم إلى انهماك شديد ثم لم يستعيدوا ما فقدوه وأما أن يكونوا قد اعتادوا أن يأخذوا بأسباب معيشة فاسدة غير صحية تمنعهم من أن يستوفوا قسطهم من الراحة والنوم الهنيء الرفيق، وفي هذه الحال لا يحتاج في تخفيف آلامهم إلا إلى معالجة هذه المعيشة نفسها وردهم إلى معيشة صحية صالحة، من ناحية الطعام والعمل واللهو والرياضة.
ثم هناك طائفة من المصابين بالأرق يكون أرقهم عارضاً من أعراض مرض من الأمراض إما من ناحية الأعصاب أو المخ وغالباً الكلي أو القلب أو الهضم. وهم لا يحتاجون إلى معالجة أرقهم وإنما إلى وسائل تمنع ازدياد الأرق واشتداده.
ويلي هؤلاء جماعة هم أشد عناداً وإصراراً وإرهاقاً من بقية الشاكي الأرق، لأن أرقهم لا وجود له إلا في أذهانهم وهؤلاء لا وسيلة للطبيب معهم إلا أن يداويهم بأذهانهم نفسها، وذلك بأن يجعلهم يعتقدون أنهم ليسوا مصابين بالأرق. وهذا الضرب من العلاج يدخل في حدود علاج الوهم.
هذا وتصور إنك في ليلة صاحية أضحيانة وقد اضطجعت في فراشك وأسندت رأسك إلى وسادتك واستقبلت طائف النوم. ثم مكثت كذلك بضعة دقائق، ثم أوفت الدقائق على نصف الساعة، تنتظر وفادة النوم ولم يفد. إذن فماذا أنت صانع؟
لقد دلت طبيعة الأرق على أن الوقت المناسب الواجب لمعالجة الأرق وتلافيه ينبغي أن يكون قبل حدوثه لأن الأرق ليس إلا نتيجة اضطرابات ومتاعب وأسباب حدثت قبله بساعات بل بأيام - وفي هذه الحال لا يفيدك أن تعد جدول الضرب أو تحسب على أصابعك عدد ما في كيسك من النقود أو ما في مكتبتك من الكتب أو تقوم إلى أدوات الزينة فتصلح من شعرك أو تشرب قدحاً من الماء وإنما يجب عليك أن تلتمس الأسباب التي أرقتك وأسهدت جفنيك إما في كثرة العمل أو قلة الرياضة واللهو أو في فساد هواء الحجرة أو في خلو المعدة من الطعام، فإذا وجدته في شيء من ذلك فاعمل على إصلاحه وتلافيه من غدك، وأما في الحالة الراهنة فتحمل عقوبة إفراطك أو تفريطك بسكون الفيلسوف، واثقاً من أن الأرق لن يحدث لك ضرراً.
فإذا لم تجد سر الأرق في هذه فالتمسه في الأشياء التي حولك، وانظر إذا كان فراشك موضوعاً في موضع غير صالح، كأن يكون في زاوية من الحجرة بعيدة عن مجرى الهواء محتبسة عن التنفس، كما هي الحال في وضع السرر في المنازل، وفي هذه الحال يجب أن تضطجع بحيث تستقبل بوجهك النافذة حتى تحس علائل الهواء تجري فوق جبينك الملتهب، ولا تخف فلن يصيبك برد من ذلك أو رطوبة.
والكثيرون منا لا يعنون العناية الواجبة بالوسائد والمضاجع وفراش السرور وإن كنا نصرف في مضاجعنا ثلث يومنا، وكم من وجع وألم مستطيلين يحدثهما الاضطجاع فوق فراش خشن صلب غير ممهد، ولذلك كان خليقاً بك أن تتحرى مضاجعك وتتناولها بالإصلاح والتنجيد والتوثير كل سنة وتغيرها كل خمس فإن إغفال وثارة المضاجع ولينها يفسدان على كثير النوم ويحدثان الأرق.
ويلي ذلك في الأهمية الاحتفاظ بتوازن مجرى الدم بين طرفي الجسم، وطرفا جسمك هما رأسك وقدماك، وكأن بين الرأس وبين القدمين ضرباً من المنافسة والمزاحمة لأن كلاً منهما يحاول أن يجتذب إليه جزءاً من الدم أكثر من الآخر فإذا كانت قدماك باردتين فأنت واجد رأسك في الأكثر ملتهباً حاراً والعكس بالعكس ولا يحدث الاضطراب في هذا التوازن إلا من الرأس غالباً ولاسيما عقب الاشتغال أو القراءة أو التفكير في مسألة معضلة، فإذا أويت إلى مضجعك لم تلبث أن تجد أن رأسك قد اجتذب إلى أوعيته كثيراً من الدورة الدموية ولم يترك القدمين فقط باردتين بل اليدين كذلك والجلد وكثيراً من أطراف البدن وأجزائه، وقد يحدث غالباً أن تكون القدمان قد اعتمدتا على بلاط الحجرة أو كانتا حافيتين أو في جوربين خفيفين وإذ ذاك ينسحب الدم إلى أوعية المخ فيلتهب الذهن وتشتد حرارته، وهنا يجب تدفئة القدمين بأية الوسائل الممكنة حتى ينزل الدم من الدماغ ويعود إلى القدمين.
ومن أكبر الأسباب المجلبة للأرق خلو المعدة من الطعام ونحن قد حذرنا كثيراً من أن ننام ونحن ممتلئون بالطعام، مخافة أن يعتور نومنا الأحلام المخيفة والأشباح المرعبة والرؤيا المفزعة. ولكن خلو المعدة كذلك يحدث اضطراباً في النوم يفضي إلى الأرق ولهذا ينبغي أن تدرأ عنك عواقب الطرفين. الامتلاء بالطعام والخلو منه.
وحركة الهضم تنتظم في خلال النوم على شريطة أن تكون كمية الطعام التي تناولتها صغيرة حتى تتمكن المعدة من هضمها، وإن يمكث الإنسان ساعتين متيقظاً قبل أن يأوي إلى مضجعه إذا كان المقدار كبيراً. حتى يتيسر للمعدة أن تأخذ من الدم ما يكفيها، وحتى يسير الهضم بانتظام قبل الاضطجاع. والسبب الوحيد للامتناع عن الرقاد عقب الطعام أن الرقاد يجعل المعدة الممتلئة تضغط على الرئتين والقلب فتعطل عمل التنفس وحركة الدورة الدموية.
وكثرة العمل - ولاسيما الذهني منه - وما يكون ضيق المضطرب مترادف الوتيرة يجلب الأرق لأن سموم التعب السارية في الدم تقتل النوم كما يقتل السم الحقيقي، وشغل الساعات الطوال يحدث الأرق، لأنه يجهد ناحية واحدة من المخ أو نواحي واحدة من البدن، والملاذ العمومية كالمراقص والتمثيل وحفلات الغناء والملهى من أبدع المنومات، لأنها ترقد الناحية المتعبة من الذهن وتشبع الناحية الجائعة ومن ثم ينبغي لك أن لا تجعل عملك يحول بينك وبين ملهاتك الصالحة الطاهرة، لأن الدأب على العمل والسكون له والانقطاع عن الرياضة تؤدي إلى الأرق وتطرد النعاس ليلاً أو نهاراً، ومن هنا اندفع كثيرون من أصحاب الأعمال الكبيرة الشاقة إلى اتخاذ العقاقير المنومة وآخرون إلى الإدمان على الشراب ومعاقرة الكأس.
والناس اليوم يتشددون في التساؤل عن مقدار الساعات الكافية ولكن لا يجدي التساؤل عن المقدار لأنه لا يقاس إلا بنتائجه فالسواد الأعظم من الناس يجدون الراحة في نوم ثماني ساعات، ولكن كثيرين من كبار الرجال والمفكرين والعلماء يكتفون بساعات قلائل من النوم فإن توماس أديسون أكبر شيوخ العلم في هذا العصر يصرح بأنه لا ينام أكثر من أربع ساعات، ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها هو أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف بالضبط الوقت الحقيقي الذي نام فيه وأخذ النعاس عينيه، فقد ذكر كثيرون ممن يشتغلون تحت أديسون أنه كثيراً ما يكون في ذهول ذهني شديد مغمض الجفنين مُهوماً مما يدل على أنه في سِنة.
وأما العقاقير التي يستعان بها على قتل الأرق فيجب أن يحكم عليها بالإعدام لأنها أقتل للبدن من الأرق ومتاعبه وآلامه.