انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 25/الكبراء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 25/الكبراء

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1915



إن المتوحش الهمجي السفاك ينحني أمام معبودات من الخشب والصخور والأحجار ولكن الإنسان المتحضر العصري يسجد لمعبودات من الدم واللحم إذ كان بين عاديي الناس وأوساطهم وبين أغنيائهم وكبرائهم ضرب من العبودية المنظمة عبودية ملونة بخليط من أصباغ العظمة المظهرية التي لا تعتمد في هيبتها وجلالها الأعلى العمي اللوني المتفشي في الطبقات الصغيرة من الجمعيات البشرية وليست هذه العظمة المظهرية إلا قوالب مجوفة من الضؤولة نفختها أنفاس المال أو أبهة المنصب أو حقوق الدم والناس جميعاً إلا أقلهم يرون من المال والمنصب أكبر مقياس للقوة وفي الظافر بالطائل منهما أكبر قوى فهم يقدسون هذه القوة القياسية لأنهم يشعرون من نحوها بالضعف كما يكون من المريض برئتيه أن يحسب السعداء هم الصحاح الرئات السليمة اللهى ومن ثم فمركبة الكبير بالقياس إلى قدمي الفقير هي قطعة من القوة ولذلك فهي قطعة من الاحترام.

وعلى هذا فقد أصبح للكبراء من وراء هذه العبودية المنظمة مجموعة من الآداب خاصة بهم هي آداب السادة وغيرها آداب العبيد فالكبر مثلاً من آداب الكبراء السائدين فإن فكر الرجل العادي أن يتأدب به عد عند العاديين هارباً خارجاً واعتبر عبد السادة متهجماً متوقحاً فالزهو والكبر والصلف والبذخ من آداب السائدين والقناعة والتواضع والخنوع والحياء من آداب المسودين.

عاش لابروبير وكان من عامة الشعب في ظل الكبراء وجناب النبلاء واختلط بالسادة والمتمولين ثم جعل يشرح نفسياتهم تشريحاً دقيقاً ويحلل آدابهم تحليلاً بديعاً وكان لابرويير من أبدع كتاب العصر وأحرهم لهجة وأسلوباً كان مرير التهكم قاسي الوصف جريء اللب وكان في بلاغته أبلغ من روسو وأسحر.

والآن فاسمع ما يقوله في وصف أخلاق الكبراء: أيها الكبراء! إني أترك لكم مآكلكم ومناعمكم وفرشكم وكلابكم وأفراسكم وقردتكم ومجانكم وملاقكم ومداحكم ولا أحسدكم على شيء إلا أن في حاشيتكم خدماً يساوونكم قلوباً ويضارعونكم أرواحاً بل قد يفوقونكم أنفساً ويفضلونكم شعوراً ووجداناً

أنكم تزهون علينا بأنكم تستطيعون أن تقطعوا في جوف الأكمة الكثيفة المختنقة طريقاً معبداً أو تشيدوا فوق بطحاء الأرض عالي الجدران وشامخ الأبنية أو تذهبوا سقوفاً وتجملوا قباباً وأعراشاً وتزرعوا الحدائق وتنشئوا البساتين ولكن أن تردوا قلباً واحداً إلى البهجة أو تدخلوا على روح محزونة الفرح أو المسرة أو تسدوا حاجة المحتاج أو تأسوا جراح المكدود فأنتم العاجزون والمتأففون.

أنا لنتسائل إذ نرى الفروق البينة بين الأنصبة بين آلام الفقراء ومباهج الأغنياء هل ترانا نتبين ضرباً من التعويض يتساوون به جميعاً ويتكافؤون فلا يكون نصيب الفقراء أقل احتراماً ورغبة من نصيب السراة والمتمولين هذا هو السؤال الذي لا يحكم فيه إلا الفقير.

إن للفقر وللغنى لسحراً جذاباً فتاناً إن الكبراء يبتهجون من اللذات بالتطرف وأما الصغار فيحبون الاعتدال الكبراء ينعمون بالأمر والنهي والأصاغر يبتهجون بالخدمة والطاعة الكبراء يحرسون ويحيون ويبجلون والأصاغر يحرسون ويكفرون وينحنون ويسجدون والكل مبتهج بأمره فرح مغتبط.

ليس بالأمر العظيم عند الكبراء أن يعطوك المواعيد ثم لا يتقيدوا بقيودها والحزم الحزم عندهم أن يخرجوا عن المواعيد وينحرفوا عن المواثيق وكلمات الشرف.

أنت تقول في لهجة باردة وصوت محتقر ممتهن إن هذا الخادم يضرب بسهام في الاجتهاد ونشاط الروح والطاعة وأداء الواجب والإخلاص والزافي إلى سيده ولكن قل ما يكترث لهذه فيه ويحفل إنه لا يحترم إنه لا يحب هذا ولكني أسألك أهذا الخادم تقرف أم السيد تنهم؟

قد تكون في أغلب الأحيان خيراً أن نفر من حظائر الكبراء من أن نشكو إليهم ونسترحم.

إن الكبراء يحتقرون ذوي الأرواح لأن هؤلاء لا يملكون غير الروح وذوي الأرواح يزرون على الكبراء لأنهم لا يملكون غير الأبهة وذو الخير يرثون للجميع لأنهم لا يملكون إلا الروح وإلا الأبهة خلوا من الخير صفراً من الفضيلة

إن فلاناً يؤثر أن يقطع حياته صنيعة للكبراء على أن يضطر إلى العيش الناعم بين لذاته ونظرائه

إن تجهيمة أو تقطيبه تأتي إلينا ممن هم فوقنا تكرهنا فيهم وتبغض وتحية منهم أو ابتسامة توددنا إليهم وتحبب

إن الاحتقار الذي يشعر به الكبراء نحو العامة هو الذي يجعلهم لا يأبهون بأماليقهم وأماديحهم لأنها تخفف من حدة زهوهم وهي تطفئ من جذوة كبرهم أنظر إلى الأمراء أنهم يروحون بمديح الأكابر أشد زهواً وأكثر عجباً لأنهم لا يحتقرونهم بل يقدرونهم ويعظمون.

يعتقد الكبراء أن وحدهم المستبدون بالكمال المتفردون بالمحاسن لا يحتملون أن يروا في الناس نبل الروح ولا فضيلة النشاط ولا رقة الحاشية وهم يدعون ملكية كل شيء جميل كحقوق وجبت لهم بطيب مولدهم وكرم دمائهم ومن أكبر الخطأ أنهم يعيشون على هذا الخطأ هم يرون أن الأرض لم تخرج أثقف عقولاً منهم ولا أبلغ قولاً ولا أرق تأليفاً ولا أبدع إنشاء بل ولا أرق بصراً ولا أنعمى خلقاً بل أنهم ليذهبون إلى أن هذه لم تنبت إلا فيهم ومنهم لكم الله أيها الأكابر نعم إن لكم أرضاً واسعة وملكاً كبيراً وسلسلة من الأجداد متراخية مترامية من ذا الذي ينكر عليكم هذا ومن ذا يجحد!

أيها الأكابر أتريدون أن أعتقد أن لكم نبل الروح وروعة العظمة وجمال الذوق والحكمة وبعد النظر أتريدون أن أصدق الأماديح المتغنية بأوصافكم غني لا أومن بها إني أتميز غيظاً ن كذبها إني ألفظها إني أزدريها أتريدون أن تخدعوني بمظهر العظمة الذي تلبسونه وسمت السمو والعلاء الذي تضعونه في كل كلمة تقولون وكل أمر تحدثون وكل لفظ تكتبون إني لا أومن إلا بأن لكم الجاه والأبهة ومناعم الغنى وأطايب الثروة. . . بأية وسيلة نستطيع تعريفك أيها الكبير الخشن الصوت الفظ الجرس إنا لا نقترب منك إلا كما نقترب من النار الموقدة إنا لا نكلمك إلا عن كثب ولا ندانيك إلا عن رهب يجب أن نخلع عنك حجابك ونلمس حقيقتك ونواجهك بنظراتك ونصدمك بأقرانك حتى نخرج منك بحكم فيك سديد رشيد.