مجلة البيان للبرقوقي/العدد 23/عالم الأدب
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 23/عالم الأدب
المرأة في رأي برنارد شو
برنارد شو هو الفيلسوف الإنكليزي الأوحد في هذا العصر، امتاز بآرائه الحرة الناضجة وفلسفته الإصلاحية السديدة، يضرب في كل مؤلفاته على نغمة الإصلاحيين الحربين، ويذهب مذهب الهادمين البانين، فهو خليف فردريك نيشته في حنقه على المجتمع وسخطه على انحطاط الإنسانية في كل وجوه الحياة وأساليبها، على أنه يطول على نيتشه بأنه أصفى ذهناً منه وأهدأ جأشاً، وأسكن نفساً، وأحلى أسلوباً، وهو يجنح في كتابته إلى العبقرية المزاجية فيجيء بالأعجب الأغرب، وليس كنيتشه في مرارة اللهجة، وقساوة التعبير، وفظاعة النقد، يضع فلسفته في روايات تمثيلية ليست في فن الروايات شيئاً مذكوراً بجانب روعة الآراء، وجلال الموضوع ونفاسة المغزى، وهو من أعظم أنصار الاشتراكية من الإنكليز وأكبر الدعاة إليها ونحن ناقلون له هنا رأيه في المرأة.
إن الوجهة الشيطانية من فتنة المرأة ومكرها، أنها تريدنا على أن نرضى بهذه الفتنة وذاك المبكر وليست غاية المرأة هي لذتها أو لذتنا، لا بل لذة الطبيعة، وإن في المرأة الحيوية عمياء مجنونة ثائرة طائشة، تضطرها إلى تضحية نفسها، فهل تظن أنها تنزوي هنيهة واحدة عن تضحيتك أنت؟.
إن للنساء غرضاً هو غرض الطبيعة نفسها، وليس الرجل عندهن غير الوسيلة إلى هذا الغرض، إنهن ليرعيننا ويحدبن علينا، ولكن كما يرعى الجندي سلاحه ولأمته، وكما يحدب الموسيقار على عوده وقيثارته، وهل تراهن يجزن لنا غرضاً نعمل له، أو حرية ننعم بها، أتراهن يرضين أن يتقارضنا بينهن، أيستطيع أقوى الرجال أن يفر من قبضتهن إذا احتبلنه مرة أو أوقعنه في شراكهن، إنهن ليرتعدن، ويرتجفن إذا حاق بنا حائق أو نزلن بنا نازلة، وإنهن ليرسلن أعينهن ويبعثن دموعهن في آثارنا إذا اختطفنا من بينهن الموت، ولكن هذه الدموع المستفيضة والعبرات المهراقة ليست من أجلنا بل لوالد قضي أو طفل تيتم، وتراهن يتهمننا بأننا لا نعدهن إلا وسائل للذتنا وشهواتنا، ولكن كيف تستطيع حماقة ضعيفة مسرعة متحولة مثل لذة الرجل أن تستعبد المرأة وفيها اجتمع غرض الطبيعة كلها؟.
عسيت تقول وماذا يضيرني استعباد المرأة إياي إذا كان في هذا الاستعباد رغدي ونعيمي؟.
بلى لا ضير عليك أيها السائل ولا شر، إذا لم يكن لك أنت غرض كغرض الطبيعة وكنت كسواد الناس لا هم لك إلا السعي وراء الرزق والخبز.
إن رب الفن العبقري ليهون عليه أن تجوع زوجته، ويعرى بنوه، وتسغب والدته، ولا يرضى لنفسه أن يشتغل بغير فنه، ولذلك كان عند النساء مكروهاً مبغوضاً، إنه لا يدنو منهن إلا ليدرسهن، لكي ينزع عنهن بشرة الكذب، وجلدة الخداع، وأديم الرياء، ولكي يكشف دفائن أسرارهن، ويخرج خبايا ضمائرهن.
لا يقترب منهن إلا لأنه يعرف فيهن القوة التي تثير فيه أعمق خواطره وأسمى ابتكاراته، وتنقذه من برودة القريحة، وتنجيه من خمود التفكير، وترسله يمرح في مراتع الحلم ومسارح الخيال وتلهمه الوحي كما يقول!.
فهو يحض النساء على أن يعملن العمل لغرضهن، بينا هو في الحقيقة يريدهن على أن يعملونه لغرضه، ويدعي أنه ينقذها من آلام الحمل ويغني عنها أوجاع الوضع لكي يظفر هو لنفسه بالرقة والحنان والعطف الواجبة لأولادها وأصبيتها، بل منذ كان الزواج والنساء يعددن رب الفن زوجاً سيئاً شريراً.
لينقرض الجنس، أو لتذبل ألف امرأة، أو لتذو غلائل ألف غانية، فما بضائره أو محزنه، إذا استطاع أن يظفر من ذلك بما يعينه على أن يمثل دور هملت أحسن من دوره أو يصور صوراً أفخم من صوره، أو ينظم قصيدة أعمق من قصيده، أو يخرج فلسفة أبدع من فلسفته.
واعلم أن رب الفن يرينا أنفسنا على حقيقتها، وما كانت أذهاننا إلا معرفتنا لأنفسنا، ولذلك كان كل من يضيف إلى هذه المعرفة ولو النزر اليسير إنما يخلق ذهناً جديداً، كما تخلق أية امرأة رجالاً جديدي، وليس رب الفن في هذا التكوين أقل قسوة وهولاً من المرأة، هو شديد الخطر عليها وهي شديدة الخطر عليه، وليس في الحروب الإنسانية كلها حرب هي أشد هولاً وخدعة ونكراً من الحرب القائمة بين الرجل العبقري وبين المرأة الوالدة!.
كل مطلب هذه الحرب هو أيهما الذي سينهك الآخر ويبتلع؟.
البحيرة هي بحيرة بورجيه، في مقاطعة سافوي، جنوب فرنسا الجميلة، والشاعر هو لا مارتين، شاعر الحب والجمال، هو الرجل الذي اجتمع في قلبه قلب الطبيعة كلها هو الجزء الملائكي في وجدان الإنسانية وعواطفها، وضع قصيدة البحيرة عام 1817، بعد أن جاء إلى (بروجيه) على موعد من (الغير) حبيبته، ولكنها وا أسفاه لم توافه إلى الموضع، بل قضت نحبها بعد ذلك بثلاثة أشهر، دون أن يقدر للشاعر أن يظفر بلقائها قبل الموت.
وهذه القصيدة تعد من أبدع منظومة، وأرق خواطره، هي كلمة حادة حزينة، صادرة من أعماق قلب خفاق كبير، غذي بلبان الحب، وعاش وقضى في أحضانه.
نحن بني الإنسان ما أن نزال نساق في الحياة من ضفاف إلى ضفاف، ونقذف من ساحل إلى ساحل، وننقل من عدوة إلى عدوة مقتربين من ليل الأبدية، محمولين إلى ظلمة الخلود، فهل مكن وقفة لسفيننا فوق أوقيانوس الزمن وهل من مستقر.
أيتها البحيرة، هذا العام قد دار دورته أو كاد، هذه أمواجك المحبوبة كم كانت تعاودها، وهذا آذيك الجميل كم كانت تشارفه، ولكن انظري. . . هذا أنا جئت وحيداً أجلس على صخرتك، وأقبلت فريداً أقتعد ثنيتك، حيث كانت تجلس، وحيث كنت تشهدين.
كنت تصخبين على هذه الصخور العميقة، وكنت تئنين، كنت تتكسرين على جوانبها الممزقة وكنت تتدافعين، وكانت الريح ترمي بزبد أمواهك عند قدميها المعبودتين. . ففي ذات ليلة - وهل تذكرين - ليلة كنا فوق صدرك نجذف في سكون، ويدري بنا الزورق في صمت، لا حس فوق اللج ولا صوت تحت السماء، غير ضوضاء المجاذيف وصحبتها، وهي تضرب صفحة أمواجك الحلوة المنسجمة، وتسقط على أديم إمدادك المطردة المنسقة. . وإذا بصوت لا تعرفه الدنيا، وتجهله الأرض جرس حلو في أذني، ناعم الموقع في مسمعي، تردد صداه فوق ضفتك الجميلة الفاتنة، هذا وقد أصغى الموج وسكن خرير الماء، وهو يساقط هذه الكلمات:
أيها الزمن. قف عن طيرانك، وامتنع عن جريانك، وأنت أيتها الساعات الحنون الرفيقة، هلا سكت عن دورانك، دعنا أيها الزمن نستطيب عذوبة ألذ أيامنا وحلاوة أبدع ساعات عيشنا، كم من مكدودين منحوسين في الأرض يضرعون إليك ويبتهلون، فخفف لهم أيها الزمن من عدوك، وهون لهم من غلوائك، وارفع عنهم الهموم التي تلتهمهم، وانس السعداء، وتجاف يوماً عن المجدودين.
ولكن عبثاً أبتهل، وباطلاً أضرع، فقد أبى الزمن إلا الفرار والطيران، إني لأقول لهذا الليل أبطئ ولا تعجل ولكن الفجر يأتي عادياً فيطرد الليل ويبدد.
إذن فلنحب ولنحب، ولنعجل بهذه الساعة الهاربة الطائرة، ولنتمتع بالهوى ولننعم، ليس للإنسان من شاطئ يستقر عنده ولا ساحل، وليس للزمن من جانب يقف عنده ولا ضفاف، بل أن الزمن ليمر، ونحن في الأثر.
أيها الزمن الغيور الحقود، ما بال سويعات النشوة والطرب، حيث يرسل الحب نبعة السعادة. وعين الهناء! تطير عنا في سرعة أيام البؤس وزمان الشقاء!.
كيف. . . ألا تستطيع أن نقتفي آثار أيامنا الحلوة ورسومها، وطيف، أتمضي إلى الأبد، لأرجع ولأعود، هل فقدنا كل شيء، وحرمنا كل بهجة، أم الزمان الذي حبانا بها، ثم جاء فنزعها، لن يعود؟.
أيتها الأبدية، أي عالم العدم، بل أيها الماضي الراحل المتحمل، أيتها الهاوية السحيقة، الغاشية المظلمة! ماذا تصنعين بالأيام التي تلتهمين وماذا تفعلين بالساعات التي تبتلعين. . . تكلمي - ألا تردين علينا اللذائذ التي استلبت، والفرحات التي استرقت.
أيتها البحيرة! أيتها الصخور الصامتة الخرساء، أيتها الكهوف المظلمة، أيتها الغابة الكثيفة المعتمة، أنت وحدك التي يغفل عنك الزمن، بل أنت الذي يرد عليك الصبا والشباب.
أيتها البحيرة، الجميلة في صمتك وسكونك، وزمجرتك وحنينك، وعصفك ورنينك، في رابيتك الزاهرة وكثيبك، في هذه الصفصافات السوداء، في هذه الصخور الموحشة، القائمة فوق أمواجك، المشرفة على لججك وأه واهك.
سواء في الريح تئن ثم تمر، في خرير مدك المتدافع، أم في الكوكب الفضي وهو يشرق فوق أديمك بأشعته اللينة الناعمة، بل أن الريح وهي تنتحب، والجدول وهو يئن وعبق نسيمك وهو يتضوع. . . كل شيء نرى، وكل شيء نسمع، يقول لقد كنا عاشقين!.
الرحمة
بين اليقظة والمنام
جلت في المدينة جولة ليليلة فرأيت السقيم المأوف، والعديم المهلوف، والكليم المشغوف، ورأيت الخليع الماسي الذي لا يرحم نفسه، والعتل القاسي الذي لا يرحم الناس، وسمعت من أخبار الشعوب، وأوضار الحروب، ما يغري بشق الجيوب. فقفلت إلى بيتي مثقل الرأس، مترع القلب، ونمت وأنا أقول أما في الأرض رحمة؟؟.
وما استغرقت في النوم حتى كأنني أصعدت إلى السماء وكأن ملكاً أخذ بيمناي وذهب يعرض على أسرار حجابها، ويفتح لي مغاليق أبوابها، حتى انتهينا إلى موضع فقال الملك ارفع بصرك واقرأ - فرفعت بصري فنظرت سطراً من نور رقمت حروفه بالكواكب والأقمار وإذا هو: خزائن السماء.
ثم تقدم على باب مكتوب عليه خزانة الرحمة ففتحها فإذا بها خاوية وحارسها نائم، وتقدم إلى باب آخر مكتوب عليه خزانة المال ففتحها فإذا هي خاوية كذلك.
قلت ما هذا؟؟
قال: لقد سمعناك العشية تشكو قلة الرحمة في الأرض، فاعلم إننا نسمع الناس من عهد أبيكم آدم يطلبون الرحمة والمال فوهبناهم منهما حتى فرغت خزائن الرحمة والمال، وشرعنا في أن نملأها بجانب من كنوز السماء التي ضاقت بها الخزائن والناس لا يطلبوها وها هي خزائن الحكمة والعلم والذكاء والأخلاق موصدة لا تفتح أبوابها إلا ساعة أو ساعتين في كل حقبة.
قلت: ولكنكم أسديتم الرحمة لمن لا يفيد بها ولا يستفيد.
قال: بل أعطيناها لمن سألها - سمعنا الحكماء والشعراء والمرضى والتعساء يصيحون الرحمة الرحمة فقلنا هاكم الرحمة، ولم نسمع أحداً غيرهم يطلبها فحبسناها عمن سواهم.
قلت هذا سبب الخطأ
قال: بل الصواب هذا.
قلت وكيف ذلك؟؟.
قال: أو كان يجعل عندك أن نبذل الرحمة لمن هو في غنية عنها. أم كان يعجبك أن تمسكها عمن هو في حاجة إليها وكيف لعمري يأخذ الرحمة إلا من هو أولى بها من الناس كافة؟؟.
قلت: أنا لا أفهم معنى للرحمة إلا إذا أسعفت من بلاء. فإن كنتم تبذلونها لأهل البلاء ففيم بذلتموها؟؟.
قال: وفيم نبذلها لغير المبتلين وليس يعرف البلوى إلا أهلها. أفتدعونا إلى أن نخص طائفة من الناس بأنعم السماء كلها ومعها الرحمة والبلاء ويبقي الآخرون بلا رحمة ولا نعمة ولا بلاء - ذلك مالا ينتظم به أمر العالم الأرضي.
إنكم يا بني آدم تجتدون النعم وتلحفون في أجتدائها فإن أعطيتموها لم تحسنوا تصريفها فتلوموا القدر ولأنتم أحق باللائمة - تطلبون الرحمة فنرسلها إليكم فتقولون هلا بعثتم بها إلى الأغنياء. وإن سألناكم ولمه؟؟ أجبتم ليجودوا بالمال!! فكأنكم إنما تطلبون المال ولا تطلبون الرحمة. وكأن الذي أردتموه رحمة تحملها أكياسكم لا قلوبكم وتطلبون المال فإذا بعثنا به إليكم ترمونه في الدور والضياع ثم لا نلقيكم قانعين. ولا والله ما أردتم المال ولا الدور والضياع ولنكم أردتم ما في احتوائها من اللذة، وليت شعري إن كانت اللذة هي مبتغاكم فما أحجاكم أن تعلموا أنه قد تكون لذة ولا مال وقد يكون مال ولا لذة وإن ليس في الغني من اللذة أكثر مما في الفقر، لأنها إحساس في النفوس، والذهب متاع في الصناديق.
فعرفت أن أرسطو قد خدع أهل الأرض حين زعم أنه جاءهم بالمنطق بفصه. وأحببت أن لا أسترسل معه في الحوار فقلت فما بال الناس أشقياء بما عندهم من رحمة وحتام يظلون في شقوتهم هذه؟؟.
قال حتى ينتقل ما في هذه الخزائن إلى الأرض - فعلم الناس أن يطلبوا غير الرحمة فإن في أرضهم منها فوق كفايتها وهي لا تعوزهم وإنما تعوزهم نهاتي الكنوز المهجورة، وأنبئهم أنه ما دامت هي بعيدة عنهم فالأرض أرض والسماء سماء.
وإني لأفتح الباب لأنظر وراءه نظرة، فاندفع فكر على عقبه ورن له في السماء صرير نبه الحارس النائم فصحوت. وأنا أقول أليس في السماء رحمة؟؟.
عباس محمود العقاد