انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 22/عالم العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 22/عالم العلم

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1914



الإنسانية الأولى

بينما يزهى الإنسان المتحضر الحديث بآدابه وفلسفته وعلومه، وبينا هو يظن أن الأرض قد تبدلت بقوة ابتكاره وابتداعه غير الأرض، وأن الإنسانية قد دانت الكمال الاجتماعي، وبينا نحن نهرف بقوة المثل الأعلى، ونفخر بأننا ذللنا قوى الطبيعة وسخرنا لإرادتنا عناصر الكون، بينا كل هذا يجري في بقعة من الأرض، إذ بأقطار بعيدة المرامي والأنحاء لا تزال تعيش وتنمو في الظلام، ولا تزال تجري مع غرائزها الحيوانية المخيفة الرهيبة، تطلع عليهم الشمس اليوم وتغرب كما كانت تطلع عليهم وتغرب منذ أبعد عهود النشوء، وأنأى أدوار التكوين، كل ذلك ونحن لا نستطيع أن نحرمهم من مشاركتنا في لفظة الإنسانية ولا نخجل بعد ذلك من الإغراق في الزهو والعجب والخيلاء.

حدث أحد قباطنة الإنكليز بعد سفرة طويلة إلى جزر الملانزيا الواقعة بين جزيرة غينيا الجديدة وبين جزر فيجي، غرب القارة الإسترالية، عما شاهد من غرائب الإنسانية المتوحشة، قال: إن أهل هذه الجزر يأكلون الآدميين، ويقطعون جماجمهم، ولا يزال الرجل منهم يعتقد أن من أوجب الواجبات عليه أن يأكل شخصاً عظيم الشأن، قوي الأسر حتى يكتسب من أكله القوة، ويجتني من التهامه الشدة والعظمة.

وإذا اقتتلت طائفتان منهم، اجتهدت كل واحدة منها لتقتل زعيم القبيلة الأخرى فإذا ظفروا بجثته أقاموا عليها وليمة شائقة يقتسمون فيها لحمه بينهم، في فرح شديد كما لو كانوا يقتسمون بينهم ديكاً أو حملاً، وهم يعتقدون أنهم يأكل رجل قوي كهذا يكتسبون قوته وشدة مراسه، وهذه العقيدة الجائعة تجعل مقام الرجل الأبيض محفوفاً بأشد المكاره لأنهم يرون في البيض أقصى حدود الشجاعة والشدة والقوة.

والفخر عندهم كل الفخر أن يعلق الرجل منهم على رأس كوخه العدد الأكبر من الجماجم الآدمية والهامز

والحروب بين قبائلهم لا انقطاع لها، وهي نهاية في الوحشية والهول، حتى اعتاد بعض القبائل أن يبنى جزراً صناعية فوق الصخور في وسط النهار والبحيرات يأوى إليها خلق كثير من نسائهم وأطفالهم وشيوخهم، خلاصاً بهم من شر القبائل الأخرى المعادية لهم.

والخرافات شائعة بينهم، حتى لقد بلغ من تأثيرها عندهم أن الرجل قد يلقى في روعه أنه سيموت، فلا ينثني عن مكانه رافضاً الطعام والشراب، طالباً الموت حتى يدركه.

ومنهم قبائل كثيرة تعتقد أن كل أسرة منهم يجب أن تظفر في العام برأس آدمي وإلا حاق بها الويل، ونزل بها العذاب، من مرض أو جراح أو جدب أو قحط أو موت، فإذا اصطاد أحدهم جمجمة رجل دفنها تحت أرض الكوخ الذي يقيم فيه، ووضع فوق مكان الحفرة ألواحاً يضع فيها نذراً للشياطين والأرواح الشريرة، فإذا فرغ من ذلك هجر الكوخ، منتظراً الفرج والتيسير، مرتقباً الخلاص من الأمراض والأخطار مؤملاً النجاح في صيده، والتوفيق في أمور معاشه.

وهم يعدون الرجل الذي يفقد في هذا السعي جمجمته أنه قد جاء بعار لا يمحى، ووصمة لشرف الأسرة لا تزول، فلا يدفنونه بينهم، بل يقذفونه على رابية أو جبل بعيد عن القرية وأهلها، ثم يحفرون له حفرة في الأرض ويضعون رمحه فوق الحفرة إشارة إلى أنه قتل محارباً، ولا يحملونه إلى الحفرة على نعش بل فوق درغه يشدون بينها وبين عمود من الخشب بالحبال.

والقبيلة التي يظفر أحد رجالها بالجمجمة تقيم حفلة عظيمة بينها، فيسيرون بالجمجمة صارخين فرحين مهللين، ثم يعدو كل إلى داره فيجيء بقطعة نظيفة من لحاء الشجر فيغمسها في دماء الجمجمة والعنق فإذا فرغ من ذلك أسرع إلى البيت فعلقها على باب داره، لأنهم يعتقدون أن ذلك يمنع الأمراض، ويحمي أهل الدار من انتقام أصحاب القتيل المقطوعة عنقه.