مجلة البيان للبرقوقي/العدد 21/رجال الحرب
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 21/رجال الحرب
الكونت فون زبلن
هذا اسم مشهور معروف، له شهرة الشمس والقمر، فهو أمير الهواء، وفاتح أقطار السماء، رأى الأرض توشك أن تضيق دون جنود الإنسانية، وإن صعيدها لا يكفي ميداناً للحيوانية الإنسانية، وإن سوحها لا تتسع لهذا التنازع الرهيب على البقاء ففتح لها الجو وذلل لها الريح تجري مسخرة رخاء.
ومن ترى يدري ماذا كنا آخذين عن هذا الذهن العظيم غير الطيارات لو لم يصنعها، ومن ذا يعلم ماذا كنا واجدين منه لو كان وجه هذا العقل الكبير إلى حسنات العلم وثماره الصالحة؟.
لقد كان في حياة زبلن أكبر الأمثال على قوة الدأب، ومتانة الصبر، وشدة المراس، وهول الثبات، وعظمة المثابرة، وهو اليوم شيخ قديم العهد بالحياة، دخل منذ أوائل الحرب في حدود السابعة والسبعين، فقد داءه المجد متأخراً متثاقلاً متباطئاً كأنما كان على كره منه، ولم يعط نصيبه منه إلا منذ ستة أعوام لا غير، إذ أقبلت عليه الشهرة وهو في السبعين ووضعت يدها في يده قائلة له لقد أحسنت!.
وليس في تراجم المخترعين من الوقائع الغريبة والصعوبات العظيمة والآمال المخفقة والحيل الضائعة والحوائل المنيعة ما في حياة هذا البطل، ولم يظهر رجل على متن المصاعب ولم يتسلق القحم إلى العظمة، بأشد ثباتاً ومراساً من هذا الرجل، فإن الضربات الصاعقة القائلة التي هوت فوق رأسه من يد القدر لم تستطع أن تقتله، بل كانت كل ضربة لا تقتله تخدمه، فلا بدع إذا أصبح اليوم معبوداً لي بني قومه مقدساً.
ولد في سويسرا، على ضفاف كونستانس، تلك البحيرة الجميلة الزاهية، وكان أبوه من ضباط البلاط في برلين، وقد صرف زبلن شبابه جندياً باسلاً مغواراً تطوع أول مرة في حرب الثورة الأمريكية فأبلى أعظم البلاء.
وكانت خدمته في الجيش الأمريكي هي التي قدمت إليه الفرصة الأولى لولعه بفن الطيران، إذ كان في الجيش بالون أسير للاستكشاف فكأنما أراد القدر أن لا يولد مستقبل ألمانيا الهوائي إلا في العالم الجديد!.
فلما كانت سنة 1892 انقطع زبلن لدراسة الطيران، وأعلن قومه بأنه صانع لهم مركباً هوائياً عظيماً، يجول في الجو المسافات البعيدة، ويكتشف لهم أجنبي المواقع والسواحل والبلدان - وإذا بصيحة ضحك عالية من الجمهور وضجة عبث وسخرية واستهزاء وقهقهة عالية يمازجها نوع من الرثا، فقد ظن القوم أن الرجل قد عرته جنة أو أصابه مس أو انتابه دخل.
كان أصدقاؤه إذا نظروه يقولون إن زبلن قد أشرف على طفولة الشيخوخة وأما أعداؤه فكانوا أخف رحمة وأقل ضحكاً، كانوا يصيحون إن زبلن مخترع مغرور ممرور.
ولما لم ير في بني جنسه رجاءه المطلوب، قصد رجلاً من أصحاب الملايين في أمريكا ليرهنه مستقبله على قرض يقرضه وهو خمسة آلاف جنيه فما كان من هذا المتمول الكبير إلا أن نهره قائلاً: أن لا أحفل أبداً بأمثال هذه السخافات التي يحلم بها السفهاء!.
ولكن زبلن لم يكن ليرجع عن أمله بل ما فتئ يجاهد غير محتفل بمجون الناس ولا مكترث لمزاحهم واستهزائهم وإهمالهم، فأضاع ثروته وثروة زوجته، إذ كان ينشئ المئات من النماذج والتجارب، ثم يعود فينسخها ويحاول غيرها، يضع النموذج فإذا أتمه وطبق عليه كل قواعد العلم وقوانينه، عمد إلى تجربته، فإذا هو لسوء الخيبة لا يطير!.
وما لبث الناس حتى المعجبون به أن تناسوه بتة واحدة ولكنه جعل يكتب في الصحف ويستصرخ ويحث ويحض ويقول إنه في طريق الحق وإنه في أثر النجاح وأنه وأنه، ولكن عبثاً كان يطلب وباطلاً يريد، ولكن هذا لم يقض على قوة الثبات فيه، بل عاد فادخر بعض المال وعمد إلى مواصلة البحث والاجتهاد، ولشد ما كان عجب الحكومة والشعب والعالم كله يوم رأوا الرجل الذي كانوا بالأمس يسخرون منه ويتضاحكون من سخافته كما كانوا يدعونها، يوم رأوا هذا الرجل يطير ست جولات ناجحة لابثاً في الأخيرة منها محلقاً ثماني ساعات أو تزيد، قاطعاً في خلالها مائتي ميل أوتربو - وكان ذلك في خريف عام 1907.
إذ ذاك توارى الشاتمون المتضاحكون في أجحارهم وشقوقهم، خزياً وخجلاً وندماً، واشترت حكومته منه منطاده هذا، بل وأعطته فوق ذلك خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات يستعين بها على تجاريبه.
وكذلك أخذ هذا الرجل القوي الروح القوي المبدأ في تحسين مراكبه وتنقيح مناطيده حتى استطاع في سنة 1909 أن يطوف في الجو طوفة لا يقل محيطها عن ألف ميل والكونت زبلن ككل العظماء الذين حاربوا الدهر وخاضوا سبيلهم المحفوف بالمكاره إلى عرش المجد فاقتعدوه، أجل، هو ككل هؤلاء في أنه التواضع مجسماً، وهو وإن كان معبود الملايين إلا أن ذلك لم يحدث أدن أثر في أخلاقه ولين عريكته يعيش في مدينة ستوتاجرت، لا يشعر به إنسان، بل ترى برلين المتناهية في عبادته المبعدة في تأليهه قل ما تراه أو تسمع بخبره!.
ولم يرزق الله الشيخ العظيم بغير ابنة وحيدة هي الآن زوجة أحد الضباط، وقد أخذت عن أبيها علم الطيران وتعرف عن المناطيد شيئاً كثيراً، وقد كانت هي العزاء الوحيد للشيخ أيام خموله وزمان محنته.
ولا يزال الكونت زبلن يؤمل أن لا يموت قبل أن يكتشف على متن المنطاد جميع الأقاليم القريبة من القطب!.
سيرجون فرنش
لم يكن هذا الاسم قبل الحرب صغيراً فكبر بنشوبها، وما كان مغموراً فنبه بوقوعها بل لقد كان معروفاً مشهوراً في كل أنحاء العالم قاصيها ودانيها، إذا ذكر في مجلة جاء عرضاً في كتاب، ذكر الناس أنه ذلك الجندي الجليل العظيم، وأنه القائد الفذ النادرة الذي يقف على رأس قواد بريطانيا العظمى بأجمعهم وأنه أبدع قواد الخيالة في الغرب، ولعل المصريين يذكرون هذا الاسم الكبير في تاريخ السودان وحصار الخرطوم.
إن اسمه الكامل ولقبه هو فيلد مارشال سيرجون دنتون بنكستون فرنش. وإن كان لا يعرف بين جنوده إلا باسم جاكي فرنش وقد كانت أمواه البحر أول رغبة من رغائب صباه، وأول مركب في شبيبته، إذ كان أبوه من قباطنة الإنكليز، ولذلك لم يكن في هذا شيء من العجب، لأنه أراد أن يخرج على حذو أبيه، ومضى في البحرية قبل التحاقه بالجيش زهاء خمسة أعوام، تلميذاً يتدرب لرتبة الضابط.
ومن ثم ترى جنود البحرية وجنود الحربية إذا اجتمعوا يوماً في محفل أو ثكنة أو محضر وجاء ذكر هذا الرجل، ينطلقون في الخصام متنازعية بينهم متشاجرين عليه. متقاسمين له، فيقول جنود البحرية لإخوانهم جنود الحربية إن القائد فرنش نشأ أول أمره ملاحاً بيننا فيرد عليهم الآخرون نعم إنه مكث دهراً في البحرية ليرى سوء حالكم ويشهد عيوبكم، فلم يلبث أن تأففت نفسه منها فجاءنا وكان منه ما ترون اليوم!.
وكان وهو في الجندرية شاب، يقطع أكثر دهره مطالعاً سير ولنجتون ونابوليون وكلايف، ولم يلبث طويلاً حتى التحق بالفرقة التي جاءت السودان لإنقاذ الخرطوم. فأبلى هناك أعظم البلاء وأظهر أروع ضروب البسالة والإقدام، وقد كان غوردون الجندي القديس كما يسميه الإنكليزي محصوراً في الخرطوم، وكان فرنش قد رفع إذ ذاك إلى رتبة (الماجور) فأنفذه القائد ولسلى مع الحملة الهجانة لإنقاذ غوردون عن طريق الصحراء، فاندفع بفئته مخاطراً مخاطرة مستميتة وقاتل رجال المهدي قتالاً عنيفاً، حتى إذا دخلوا الخرطوم وجدوا غوردون قد قتل.
ثم كانت حرب البوير فتجلت عبقرية فرنش فيها بأجلى مظاهرها، ولعل أعظم شهادة نالها في حياته - والفخر ما شهدت به الأعداء - هي التي صرح بها دي ويت الزعيم البويري المشهور، فإن هذا الرجل بينا كان يمجد شجاعة الجنود الإنكليزية وينوه ببسالتهم كان ينتقص من مهارة ضباطهم، فلما ذكر اسم هذا البطل أمامه، غير في الحال لهجته، وقال نعم إنه هو القائد البويري الوحيد في جيوش الإنكليز!.
ولعل فرنش هو الرجل الفرد الذي ظفر في قتال البوير بالنجاح من الأول إلى الأخر، نزل الكاب في العاشر من شهر أكتوبر سنة 1899 وبرحها إلى وطنه في يونيو سنة 1902 يحمل لقب أكبر القواد الخيالة في العالم الحديث.
وليس هناك من ريب في أن إنقاذ مدينة كمبرلي، أعظم بلاد الماس في جنوب أفريقيا - كان إحدى مخاطرات فرنش ونادرة فعاله، فهو الذي اندفع بجنوده عدواً على متون الجياد، منقضاً على صفوف الأعداء، هاجماً في بهرة ذلك القتال المستحر.
وهو اليوم في فرنسا قائد الجيوش الإنكليزية يدافع ويناضل وهو في الثانية والستين أشد بأساً وهمة منه في الثلاثين.
ولقد كان هذا الرجل الكبير في كثير من حوادث حياته الحربية عرضة للموت أو هدفاً للأسر أو القتل، فمن ذلك أنه وقع يوماً وهو في حرب البوير في خطر شديد، تحت صيب من القنابل، وهاطل من الرصاص، وجو كثيف من الدخان، ولم تقدر عليه النجاة إلا بانبطاحه على أديم مركبة من مركبات السكة الحديدية، ولذلك لا غرو إذا كان فرنش معبوداً من جنوده جميعاً وقد حدث أحد الجند الذين حضروا حرب البوير معه فقال: إنه ليبدو هادئاً ساكناً في أشد المواطن اهتياجاً واضطراباً، لا يذهل به ولا يطير جنانه فيعرض الجند إلى المذبحة، بل إنه لينظر قبل أن يطفر وإذا طفر جعلنا نحن والويريون نطفر جميعاً، وهذا ولا ريب هو سر القيادة الظافرة الناجحة وكتب يوماً إلى زوجته من ميدان القتال ما كنت أظن أنني سأخرج من هذه الموقعة حياً.
وهم يدعونه بفرنش الصامت ويشبهون صمته وسكونه بسكون الماء يكون عميقاً، وقد قال يوماً لجندي من جنده قد حكم عليه بالحبس: إن فرنش العجوز لا ينبح ولكن. . . يعض!.