انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 2/نوابغ العالم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 2/نوابغ العالم

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 9 - 1911



ابن حمديس - جولد سميث

من بين أبواب البيان باب نوابغ العالم وتراجم عظماء الرجال من علماء وفلاسفة وأدباء وملوك وقواد - وقد رأينا أن نترجم في العدد الواحد: الذي يكون من نصيبه هذا الباب: اثنين من النوابغ نابغة عربياً ونابغة من غير العرب وهذان أعزكم الله نابغتان من نوابغ العالم الأول الشاعر الكبير أبو محمد عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمد يس الأزدي السرقوسي الصقلي (من صقلية) والثاني الكاتب الانكليزي الأكبر والشاعر الأشهر ألفر جولد سميث - ولقد يعلم قراء البيان أن طريقته في ترجمة النوابغ التطويل اللذ والإشباع غير الممل فلذلك سنفيض في ترجمة هذين النابغتين ونأتي على الغاية من كل ما يتعلق بهما ونبدأ بشاعرنا العربي الصقلي.

ابن حمديس

ترجمته إجمالاً - ترجمته بتفصيل - سرقوسة مسقط رأس الشاعر - صقلية في عصر ابن حمديس - وفوده إلى الأندلس - تشوقه صقلية - حب الوطن - المعتمد بن عباد - مدائح الشاعر في المعتمد - نكبة المعتمد - رثاء الشاعر له - سائر شعره في غيره - يحيى بن تميم بن المعز بن باديس وابنه أبو الحسن علي - المنصور بن الناصر بن علناس - شعر ابن حمديس - منزلته من الشعر

ترجمته إجمالاً - ولد ابن حمديس حوالي سنة 445 في سرقوسة إحدى مدائن صقلية (التي يسميها الإفرنج الآن سِسَلي والتي هي الآن إحدى الايات إيطاليا) ثم انتقل إلى الأندلس سنة 471 ومدح المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية حتى إذا نكب المعتمد نكبته المعروفة وتوفى باغمات رحل شاعرنا إلى إفريقية وامتدح يحيى بن تميم بن المعز بن باديس وابنه أبا الحسن علياً والمنصور بن الناصر بن علناس بن حماد بن يوسف بلكين بن زيرى ثم قضي في جزيرة ميورقة وقيل في بجاية سنة 527.

ترجمته بتفصيل - ولما كان القارئ الكريم قد يتشوق معرفة الأماكن والبلدان التي ولد فيها الشاعر وتنقل فيها وامتدح أصحابها وماذا كانت أحوالها أيام المترجم به رأينا أن نلم بها إلمامة تجعل القارئ على بصيره تامة بشؤن هذا الشاعر العظي صقلية في عصر ابن حمديس

أما سرقوسة التي ولد فيها الشاعر فهي فرضة بجرية شرقي جزيرة صقلية على 30 ميلاً من قطانية إلى جنوبي الجنوب الشرقي و 81 ميلاً عن مسيني إلى الجنوب الغربي وتسمى الآن سيراكوسا (وسيمر بك كلام وافٍ عنها في الرسالة الأولى من كتاب حضارة العرب في الأندلس) وقد جاء ذكرها في شعر لابن قلاقس الاسكندري المتوفي سنة 567 قال يصف سفينة سار بها إلى صقلية:

ثم استقلت بي على علاتها ... مجنونة سبحت على مجنون

هو جاء تقسم والرياح تقودها ... بالنون إما من طعام النون

حتى إذا ما البحر أبدته الصبا ... ذا وجنة بالموج ذات غضون

ألقت به النكباء راحة عائث ... قلبت ظهور مشاهد لبطون

وتكلفت سرقوسة بأماننا ... في ملجأ للخائفين أمين

وأما صقلية عموماً في عصر ابن حمد يس فقد جاء في الكامل لابن الأثير ما يأتي: كان الأمير على صقلية سنة ثمان وثمانين وثلثمائة أبا الفتوح يوسف ابن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين ولاه عليها العزيز العلوي صاحب مصر وأفريقية فأصابه في هذه السنة فالج فتعطل جانبه الأيسر وضعف الجانب الأيمن فاستناب ابنه جعفراً فبقي كذلك ضابطاً للبلاد حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة فخالف عليه أخوه علي وأعانه جمع من البربر والعبيد فأخرج إليه أخوه جعفر جنداً من المدينة (بلرم) فاقتتلوا سابع شعبان وقتل من البربر والعبيد خلق كثير وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيراً فقتله أخوه جعفر وعظم قتله على أبيه فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام وأمر جعفر حينئذ أن ينفي كل بربري بالجزيرة فنفوا إلى أفريقية وأمر بقتل العبيد فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل صقلية فقل العسكر بالجزيرة وطمع أهل الجزيرة في الأمراء فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل صقلية وأخرجوه وخلعوه وأرادوا قتله وذلك إنه ولي عليهم إنساناً صادرهم وأخذ الأعشار من غلاتهم واستخف بقوادهم وشيوخ البلد وقهر جعفراً واستطال عليهم فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة وأشرفوا على أخذه فخرج إليهم أبوه يوسف في محفة وكانوا له محبين فلطف بهم ورفق فبكوا رحمة له من مرضه وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم وطلبوا أن يستعمل ابنه أحمد المعروف بالأكحل ففعل ذلك وخاف يوسف على ابنه جعفر منهم فسيره في مركب إلى مصر وسار أبوه يوسف بعده ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفاً وكان ليوسف من الدواب ثلاثة آلاف حجرة (لعلها حجرا قال في اللسان الحجر بدون هاء الفرس الأنثى خاصة جعلوها كالمحرمة الرحم إلا على حصان كريم وإنما كانت بدون هاء لأنه اسم لا يشركها فيه المذكر) سوى البغال وغيرها ومات بمصر وليس له إلا دابة واحدة ولما ولى الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد وجمع المقاتلة وبث سراياه في بلاد الكفرة وجنوب إيطاليا فكانوا يغنمون ويسبون وأطاعه جميع قلاع صقلية التي للمسلمين وكان للأكحل ابن اسمه جعفر كان يستنيبه إذا سافر فخالف سيرة أبيه ثم إن الأكحل جمع أهل صقلية وقال أحب أن أشليكم على الأفريقيين وأهجم بكم عليهم لطردهم (يقال شل الإبل يشلها فانشلت طردها ومن المجاز يشل الصبح الظلام) فقد شاركوكم في بلادكم والرأي أخراجهم فقالوا صاهرناهم وصرنا شيئاً واحداً فصرفهم ثم أرسل إلى الأفريقيين فقال لهم مثل ذلك فأجابوه إلى ما أراد فجمعهم حوله فكان يحمي أملاكهم ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية فسار من أهل صقلية جماعة إلى المعز بن باديس وشكوا إليه ما حل بهم وقالوا نحب أن نكون في طاعتك وإلا سلمنا البلاد إلى الروم وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة فسير معهم ولده عبد الله في عسكر فدخل المدينة (بلرم) وحصر الأكحل في الخالصة (أنظر الرسالة الأولى من حضارة العرب في الأندلس) ثم اختلف أهل صقلية وأراد بعضهم نصرة الأكحل فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض وقالوا أدخلتم غيركم عليكم والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير فعزموا على حرب عسكر المعز فاجتمعوا وزحفوا إليهم فاقتتلوا فانهزم عسكر المعز وقتل منهم ثمانمائة رجل ورجعوا في المراكب إلى أفريقية وولي أهل الجزيرة عليهم حسنا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت أحوالهم واستولى الأراذل وانفرد كل أنسان ببلد وأخرجوا الصمصام (حسبهم الله) فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمأزر وطرابنش وغيرهما وانفرد القائد علي بن نعمة المعروف بابن الحواس بقصريانة وجرجنت وغيرهما وانفرد ابن الثمنة بمدينة سرقوسة وقطانية وتزوج باخت ابن الحواس ثم إنه جرى بينها وبين زوجها كلام أغلظ كل منهما لصاحبه وهو سكران (ما شاء الله) فأمر ابن الثمنة بفصدها في عضديها وتركها لتموت فسمع ولده إبراهيم فحضر وأحضر الأطباء وعالجها إلى أن عادت قوتها ولما أصبح أبوه ندم واعتذر إليها بالسكر فأظهرت قوبل عذره ثم أنها طلبت منه بعد مدة أن تزور أخاها فإذن لها وسير معها التحف والهدايا فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها فحلف أنه لا يعيدها إليه فأرسل ابن الثمنة يطلبها فلم يردها إليه فجمع ابن الثمنة عسكره وكان قد استولى على أكثر الجزيرة وخطب له بالمدينة (بلرم قصبة صقلية) وسار وحصر ابن الحواس بقصريانة فخرج إليه فقاتله فانهزم ابن الثمنة وتبعه إلى قرب مدينة قطانية وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت سولت له نفسه الانتصار بالإفرنج لما يريده الله تعالى فسار إلى مدينة مالطة (جزيرة مالطة) وهي بيد الإفرنج قد ملكوها لما خرج بردويل الفرنجي (بغدوين الرابع ملك بلاد فلاندر) سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة واستونها الفرنج إلى الآن وكان ملكها حينئذ رجار (روجر النورمندي) فوصل إليهم ابن الثمنة وقال أنا أملككم الجزيرة (حسبه الله) فقالوا إن فيها جنداً كثيراً ولا طاقة لنا بهم فقال أنهم مختلفون وأكثرهم يسمع قولي ولا يخالفون أمري فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة فلم يلقوا من يدافعهم فاستولوا على ما مروا به في طريقهم وقصد بهم إلى قصريانة فحصروها فخرج إليهم ابن الحواس فقاتلهم فهزمه الفرنج فرجع إلى الحصن فرحلوا عنه وساروا في الجزيرة واستولوا على مواضع كثيرة وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس وذكروا له ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف وغلبة الفرنج على كثير منها فعمر أسطولاً كبيراً وشحنه بالرجال والعدد وكان الزمان شتاء فساروا إلى قوصرة جزيرة صغيرة بالبحر المتوسط تابعة لإيطاليا تبعد عن شواطئ أفريقية بنحو ستين كيلو متراً تسمى الآن عند الإفرنج وقديماً ومنه أسمها عند العرب فهاج عليهم البحر فغرق أكثرهم ولم ينج إلا القليل وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز وقوى عليه العرب حتى أخذوا البلاد منه فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة لا يمنعهم أحد واشتغل صاحب أفريقية بما دهمه من العرب ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وولى أبنه تميماً فبعث أيضاً أسطولاً وعسكراً إلى الجزيرة وقدم عليه ولديه أيوب وعلياً فوصلوا إلى صقلية فنزل أيوب والعسكر المدينة ونزل عليٌّ جرجنت ثم انتقل أيوب إلى جرجنت وأقام فيها فأحبه أهلها فحسده ابن الحواس فكتب إليهم ليخرجوه فلم يفعلوا فسار إليه في عسكره وقاتله فشد أهل جرجنت من أيوب وقاتلوا معه فبينما ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله فملك العسكر عليهم أيوب ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد تميم فتنة أدت إلى القتال ثم زاد الشر بينهم فاجتمع أيوب وعليٌّ أخوه ورجعا في الأسطول إلى أفريقية سنة أحدى وستين وصحبهم جماعة من أعيان صقلية والأسطولية ولم يبق للفرنج ممانع فاستولوا على الجزيرة ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت فحصرهما الفرنج وضيقوا على المسلمين بهما فضاق الأمر على أهلها حتى أكاوا الميتة ولم يبق عندهم ما يأكلونه فأما أهل جرجنت فسلموها إلى الفرنج وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم فتسلمها الفرنج سنة أربع وثمانين وأربعمائة وملك رجار جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين ولم يترك لأحد من أهلها حماماً ولا دكاناً ولا طاحونا ومات رجار بعد ذلك قبل التسعين والأربعمائة وملك بعده ولده رجار فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئاً منه وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده وأكرم المسلمين وقربهم ومنه عنهم الفرنج فأحبوه انتهى (وهذا روجر النور مندى هو الذي ألف له الشريف الإدريسي كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق أو في أخبار الآفاق)

وإذ علمت هذا تعلم أن ابن حمد يس إنما رحل من صقلية بعد أن تملك معظمها رجار النورمندي وكان وقت اغترابه عن بلده في سن الحداثة فإنه كان حوالي الخامسة والعشرين فلا جرم بعد ذلك إنا نسمع من الشاعر الشاب هذه الأبيات المبكية من قصيدة يتشوق بها صقلية:

ذكرت صقلية والهوى ... يجدد للنفس تذكارها

فإن كنت أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها

ولولا ملوحة ماء البكاء ... حسبت دموعي أنهارها

نعم فالاستهتار بالوطن والحنين إليه أمر فطري وخلق كريم ينم عن كرم أصل ولطف في الطبيعة ولله أبو الحسن علي بن الرومي حين يقول في هذا المعنى

ولي وطن آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا

فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد لولاه غودرت هالكا

وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهموا ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

وحين يقول أيضاً:

وإذا تمثل في الضمير وجدته ... وعليه أفنان الشباب تميد

وقد قالوا أن الأم بيت قالته العرب قول القائل:

لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكل بلاد أنت ساكنها ... أهلاً بأهل وجيرانا بجيران

وربما يقصد صاحب هذين البيتين إلى الحث على الاغتراب في سبيل المجد والرفعة أو الاسترزاق والنجعة وهذا معنى آخر قد قال فيه شعراؤنا كثيراً ومن أحسن ما قيل فيه قول أبي تمام:

وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

ولما وفد ابن حمد يس إلى الأندلس قصد المعتمد بن عباد واختص به وقصر مدائحه عليه وهذا المعتمد بن عباد له حديث طريف لشاعرنا فيه شأن فلا جرم إنا ذاكرون لقراء البيان طرفاً من ذلك (للكلام بقية).