مجلة البيان للبرقوقي/العدد 19/تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 19/تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية
سعد زغلول باشا
ـ 2 ـ
بلغنا بالقارئ من ترجمة رجل مصر العظيم، سعد زغلول باشا، منطبق الأمة ومقولها، والمحامي عنها ومذودها إلي تلك الحفلة الكبرى التي أقامها المحامون لتكريمه على أثر انتخابه نائب قاض بمحكمة الاستئناف، وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام 1892 أي منذ اثنين وعشرين حولاً، وجئنا بالخطبة المؤثرة الرقيقة التي ألقاها المترجم به بين جماعة المحتفلين وفيها تلك الاعترافات البليغة التي فاض بها قلب من تلك القلوب الخفاقة النابضة وجاشت بها نفس من تلك النفوس العبقرية الفياضة، وإن للنفوس لعبقرية هي في أغلب الأحيان، أشد من عبقرية الأذهان، وما عبقرية النفوس إلا قوة الشعور بالواجب، والإيمان بالحق، ومنابذة الباطل، وهي الوحي الإلهي الذي يتنزل على النفوس الخصيبة، فيملؤها روحانية، ويرسل في نواحيها مادة الإحساس الشفاف، وإذا كانت القوة الإلهية لا تكثر في الإنسانية من عداد العبقريين عقولاً وأذهاناً، فما أقل خلقها للعبقريين نفوساً ووجداناً لأن القوة الإلهية تدأب في عملها، وتجد في إخراج قوالبها، على أنك لتهز إليك جذع الشجرة المثمرة، فلا تستطيب من متساقط ثمارها، ولا تستعذب من متناثر بواكرها إلا ثمرة أو ثمرتين، وأنت فتجد أنواع الزهر الذي لا رائحة له ولا عرف، أكثر بأضعاف من أنواع الأزاهر ذات الشذى والأريج إذ كانت لذة الجميل أن لا يكون شائعاً، ولا يروح فاشياً ذائعاً، ولعل أكبر الدلائل على العظمة الإلهية أن تخلق عظيماً واحداً، بين ألوف كلهم صغار، وإن تصور امرأة حسناء وسيمة، في أسرة كل نسائها قباح دميمات، وما أجمل مظهر الخير، وما أروع موقفه، إذا أكتنفه الشر من كل مكان.
كذاك كان نصيب سعد زغلول باشا من عبقرية الذهن، وكذلك كان قسطه من عبقرية النفس، وهما لم يجتمعا في قالب إنساني إلا أحدثا توازناً في جميع عواطفه، فإنك ترى أكثر العبقريين أذهاناً، أقرب إلى الحيوانية من غيرهم، وأشد إسفافاً إلى البهيمية من سواهم، ولو كان أمثال الفردده موسيه وبيرون ونابوليون، عبقريي النفوس، لما هام الأول بحب البغايا، ووصل الفاجرات، وما استرسل الثاني في هوى الغادات الفاتنات، ولا ركب الثالث رأسه، فطاح بملايين النفوس والمهجات.
ونحن اليوم عائدون فآخذون في ذلك التاريخ العظيم ونحن له أشد روحاً وأخف نشاطاً، لأنا نرى في خلاله دروس الحكمة تلقى من فم التاريخ، ونشهد في تضاعيفه مزايا العظمة تطل من الماضي إلى الحاضر، واثبة إلى المستقبل، فدافعة إلى الأبدية.
دخل المترجم به في سلك القضاء، بتلك الشخصية القوية التي ما أسند إليها عمل عظيم، إلا استكان لها، وتشكل بشكلها، واصطبغ بصبغتها، وتضاءل إزاء قوتها، وما كان أكبر الأعمال، وأرفع المناصب، إلا ليضيق بصاحب الشخصية القوية، وإن اتسع لألوف الناس، ورحب بعديد ضعاف النفوس واحترام النفس من أسمى العظمة النفسية، ونحن لشد ما نروح معجبين مكبرين، إذا وقفنا على رجل من عرض العامة، في قهوة أو منتدى، يستمسك برأيه، ويستند إلى حجته، لا ينزل عنهما ولا ينكص، وقد اجتمع الجلوس كلهم على نقيض رأيه، واتفقوا جميعاً على دحض حجته. بل إنك لتمتلئ إعجاباً وإكباراً لشأن الرجل العامي الحقير، يجيئك بكيس نقود فقدته، ويأبى أن يقبل منك على ما أحسن أجراً ولا عطاء، ويرفض أن ينال منك على ما صنع مكافأة ولا جزاء.
وما أروع الشخصية القوية في منصة القضاء، وما أشد جلال القاضي المهيب، إذا اجتمع جلاله بجلال مقعده، والتقت روعة شخصيته، بروعة سدته. وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين والجناة، حتى أنك لتلقى المتهم إزاء القاضي القوي الشخصية، مضطرباً مذهولاً حائراً مذعوراً، إذ يخيل إليه أمام تلك القوة الخفية - قوة الجاذبية بين القوي والضعيف إن قد انفتحت مغاليق نفسه، وانكشفت حيالها مجاهل ضميره وبدت أعماق سريرته، وأنه قد أصبح بين يدي القاضي، وكله ثغور تطل منها ذنوبه، وتشرف من خلالها جرائمه، حتى إذا بلغ منه تأثير تلك القوة السحرية كما يبلغ من المنوم تأثير مغناطيسية المنوم، أدلى إلى القاضي باعترافه وهو هادئ ساكن، وأشهده على جريمته، ليتخلص من ذلك التأثير الشخصي الذي يصدمه به القاضي ويهدم فيه كل عزيمة للإنكار، وكل إصرار على التنصل والتكذيب.
وكم من جرائم ما كان ليجدي في اكتشاف جناتها دقة التحقيق، وما كانت لتغني في الاهتداء إلى مرتكبيها شدة التحري والاستقصاء، وقوة البحث والاستهداء، ولا ذكاء الشرطة وحيلهم، ولا مهارة المحققين وخدعاتهم لو لم تقع في يد قاض قوي الشخصية، اهتدت قوة شخصيته إلى المجرم من الجلسة الأولى.
وبعد فإن صاحب الترجمة، كما قالت صحيفة إلا يجيب عنه منذ ثمانية أعوام، من فريق القضاة المصريين، الذين يعتقدون أن القانون لا يعاقب رغبة في الانتقام، ويرون أن من الواجب الأخذ بالرفق في تنفيذ القانون وذلك لأن العقاب لا يطهر المجرم، ولا يزيل عنه أقذار الجريمة، ولكنه على نقيض ذلك أشد إفساداً للمجرم من الجريمة نفسها ولا تظن أنت أن المجرم يصبح بعد العقاب نفس مرتكب الجرم، بل كأن غيره الذي احتمل العقاب على فعلته، وقاسي تبعة جريمته، وليس الانتقام إلا عدلاً وحشياً، وما كان القانون إلا عدلاً إنسانياً، ومن ثم فلا ينبغي أن يشوب العقاب القانوني شائبة من وحشية الانتقام، وإنما يجب أن تمازجه إنسانية العدل، ولا أظن القانون يعاقب اللصوص والقتلة، وغيرهم من الآثمين والجناة لينزع من قلوبهم تلك الأنانية الشديدة التي دفعتهم إلى الاعتداء على حقوق غيرهم ونفوسهم وأموالهم. وإيست جرائم السرقة والقتل وغيرهما. هي التي نفسها جعلت بين الناس قتلة ولصوصاً ومعتلين.
ولعل صرامة العقاب القضائي وشوائب الانتقام التي تشوبه وإمارات الترة البادية عليه هي التي تجعل من الأمور المستحيلات أن نصبح في مجتمع إنساني يعلن المجرم فيها عن جريمته. ويذيعها على أفراد جنسه. ويملي هو الجكم بعقابه وهو معتز متفاخر بأنه بذلك يوقر القانون الذي سنه بيده وأنه بعقاب نفسه ينقذ القوة المخولة له ونعني بها قوة المشرع. وسلطة واضع القانون. ولا يكون من ذلك العقاب الاختياري إلا أن المجرم يرفع نفسه ويعلو بها فوق جريمته ويمحو آثارها بصراحته وعظمته وسكوته.
ذلك هو المجرم الذي يطلبه صالح الجمعية البشرية. وتريده القوانين الإنسانية شعاره لا أخضع في عظيم الأمور وحقيرها إلا إلى القانون الذي وضعته أنا بيدي.
والمترجم به كذلك في طليعة المصريين الحربيين. كما شهدت له بذلك صحيفة الغازات الفرنسية منذ ثمان سنين أيضاً. يرى أن المحافظة لا تلائم سنن التطور، ولا تسير بالجماعات في طريق الرقي، وإنما تقف بها في مكان واحد على حين أن الحياة تجري كل يوم إلى طور جديد، ولا ترى عقيدة المحافظة على القديم إلا ضعيفة الحجة، حقيرة الرأي، لأنها تقبض بيدها على حقيقة واحدة. ولا تريد أن تفتح عينها لترى حقيقة أخرى خيراً منها وأفضل أثراً. ولذلك تجد عقيدة المحافظة أبداً معتذرة. محتجة بالظروف والضرورات. وعندها أن التغيير معناه الإفساد. وإن التجديد مرادفه التبديد. ولكنك ترى مذهب الحرية أبداً على الحق. منتصراً فائزاً. يقاتل وهو موقن بالنصر والفوز. ومذهب المحافظة يستند إلى أن للإنسان حدوداً مقررة. ويحج مذهب التجديد إلى أن ليس هناك أثر لحدود الإنسان. والمذهب الأول يقوم على الظروف ولكنك تجد المذهب الثاني يقوم على القوة. ذاك يطلب الراحة والسكون وهذا لا يريد إلا العمل والحركة. ذاك سلبي وهذا إيجابي. والمذهب الأول يعتمد في جميع حياته على ذاكرته وماضيه. وأما المذهب الثاني فيركن إلى عقله وحاضره.
وإليك ما قالته عن صاحب الترجمة جريدة النيمس الكبرى في عام 1906 هو من شيعة المرحوم محمد عبد الذين امتازوا بالارتقاء والتهذيب وهم الذين سمام اللورد كرومر فريق الجيروند في النهضة الوطنية المصرية وهو مصري عريق في وطنيته. أجمع الناس على إكرامه والإعجاب به. لما اشتهر عنه من الاستقامة والاستقلال.
ونحن نقول إن شيعة المرحوم الأستاذ محمد عبده ما نبغت من الأزهر، وذكت في ربوعه. إلا لأنها كانت من أصحاب العقول القوية بفطرتها. والأرواح الخصيبة بطبيعتها. ولا تجد من طلاب الأزهر نابغة ولا عبقرياً. إلا وكان أول أمره ذا عقل قابل. وذكاء فطري. وروح وثابة ناهضة. لأن الأنبات الإنسانية الضعيفة. والعقول المظلمة. والأدمغة المعتمة. لا تدكو ولا تطيب في تلك التربة الأزهرية القوية. ولا تتفق مع جوها. ولا تنمو تحت قبها. بل إنها لتزداد كلما بقيت ضعفاً وتأوداً. وكلما سقيت من سقى ذلك المعهد. ورويت من ريه، أسرعت إلى لاذبول والاضمحلال. أما الذين يعيشون في جو الأزهر من الأقوياء طبائع وأذهاناً وأرواحاً. فلا ينون في ذلك المعهد يزدادون قوة على قوتهم. وذكاء على ذكاءهم. لأن الأزهر يخدم النبوغ وإن لم يكن فيه من هذا النبوغ مادته. وينضج الذكاء الفطري. حتى يكون منه العقل الجبار. والذهن العبقري. وإن لم يكن يعمل إيجاد هذا الذكاء والأزهر لا يفيد إلا أهل الاستعداد. ولا يصلح إلا للقابلين للنبوغ والرقي.
فلا عجب بعد ذلك أن ترى الأزهر مقلاً من إخراج الثمار الطيبة الصالحة: على كثرة عديد طلابه: وألوف الدارسين فيه. وإذا ما أخرج الأزهر يوماً عبقرياً واحداً: فلا تظن أن المدارس كلها مستطيعة أن تخرج آخر على شكله وغراره. وهل كانت مدارسنا وغير مدارسنا قادرة على أن تخرج رجلاً على نحو الأستاذ الإمام ومثاله. وأنت إذا رجعت إلى الأزهر وأطلعت إلى إحصائيات طلابه لألقيت عدد ما يذبل بين جدرانه. ويذوي بين حيطانه يربي على الفئات. ويسمو على الألوف. ثم إذا أنت نظرت إلى عدد النوابغ من خريجيه والعبقريين من طلبته: لما وجدتهم إلا نفراً قليلاً.
هذا ولا غرو أن يسمى اللورد كرومر شيعة الأستاذ الإمام بفريق الجير وندفي النهضة المصرية إذ كان الجير وندهم حزب طلاب الإصلاح في إبان الثورة الفرنسية. وهم المعتدلون الذين كانوا يريدون إصلاحاً لا يلطخه دم: ولا يشوبه قتل ولا جرم، وهم العقلاء من دعاة الملكية الدستورية. لم يطلبوا أن يطاح برأس ذلك الملك المخلص الضعيف: ولا أن تدق عنق تلك الملكة الغر الطائشة. وإنما يريدون حق كل فرد عند الحكومة. دون أن يستغدوا عليها قوة ذلك الفرد. ولولا الجبليون المتطرفون، ولولا المجازر التي أقاموها: والدماء التي سفحوها. والنفوس التي أسالوها: لما كان للثورة الفرنسية ذلك الاسم المرعب: والتاريخ المخوف الرهيب. ولا تجد الثورة إلا لتشبه الداعي إليها في كل أطواره وحالاته. فليست الثورة الفرنسية إلا لتحكي جان جاك روسو في كل أحواله الطبيعية. ومزاجه الثوري: وعواطفه الحارة المضطرمة: والداعون إلى الثورة يبدأون بطلب حق مهضوم. وينتهون بأن يصبحوا لحقوق غير حقهم هاضمين. وهل ترى روبسبير ومورات ودانتون كانوا يقتلون ويذبحون إلا لأنهم يريدون أن يستخلصوا حق الشعب من الأرسقتراطية والكهنوت. لا ليردوه للشعب ويعيدوه. بل ليستفردوا هم به وحدهم، ولعل الشعب في الثورة وتحت الجمهورية الأولى. كان أسوأ حالاً منه تحت الملكية. فلما جن روبسبير بالسلطان. وأذهلت لبه مشاهد الدماء. وذهبت بعقله روعة الجلوتين أراد الشعب على دين جديد ينسخ به الدين القديم. وأسمى دينه ذاك عبادة المخلوق الأعلى وما كان المخلوق الأعلى في هذه العبادة إلا روبسبير نفسه، فهل كان هذا من حقوق الشعب المهضومة؟.
ولذلك لا تجد طلاب الثورة في أكثر الأحايين إلا طلاب المآرب وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب. فإن الثورة جادلتهم. ولا ريب كذلك.
والمترجم به في صف أولئك العبقريين كبار النفوس المنضوين تحت ذلك اللواء الذي حمله في طليعتهم جون ملتون. الشاعر الإنجليزي الخالد. وهو أعطني حرية القول. وحرية التفكير. وحرية الضمير. ولا تعطني قبل ذلك شيئاً وإنك لتسمع من كل فم. وتلقي علي كل شفة. اسم صاحب الترجمة مقروناً بتلك الصفة العظمى. والسجية الكبرى ونعني بها حرية الرأي. وصراحة القول والمبدأ. يرى الطبيعة التي فطره الله عليها شرعاً إلهياً مقدساً ينبغي أن لا يغير فيه الناس ويبدلوا. ولا يمحوا فيه ويثبتوا. وما كان الرجل العظيم إلا ليدلي برأيه أمام العالم كله: وإن اجتمعت أمته وأمم الأرض جميعاً على مخالفته في ذلك الرأي. وأنت فلا تسمع لأولئك الذين يقولون إن صوت الشعب هو من صوت الله فعله في أكثر الأحايين من صوت الشيطان وضرورة الحكومة الخارجية للإنسان لا تكون إلا على نقيض نسبة القوة التي يستعين بها الإنسان على حكومة نفسه فإذا استكملت الثانية واستجمعت، قلت الحاجة إلى الأولى ونقصت. ونمن ثم كلما ازدادت الفضيلة بضروبها وفروعها. ازدادت الحرية وعمت. والرجل الذي يقذف بأغراض الناس وآرائهم ويعمل بإرادته لا بإراداتهم. ويفكر بذهنه لا بأذهانهم. ليس إلا رجلاً تنزلت الآلهة على قلبه وصفت مشاعره من شوائب الحيوانية، وتنزهت عواطفه عن نقائص البشرية، وترى الرجل العظيم يجهر عالي الصوت برأيه في يومه، فإذا جاء عليه الغد، أعلن رأى غده في مثل جهارة صوته، ورفعة روحه، حتى وإن نقض رأى الغد رأي أخيه الأمس. لا يحفل بأن لا يفهم الناس من أمره شيئاً، وهل فهمت الإنسانية كلها في جميع أجيالها فيثاغورس وسقراط ولوثر، وغاليليه ونيوتون، وكل من على شاكلتهم من كل ذي روح نقية حكيمة ركبها الله في جسم ودم. والعظمة أخلق بأن لا تطلب الوضوح للناس. وأحرى بأن تدق على أنظار صغار الناس. وتغيب عن إفهام عاديي الرجال.
وكل ما ترى من عظمة العظماء. ونبل أرواحهم. وصراحة أفكارهم. وحرية ضمائرهم. ربيب العزلة. ووليد الابتعاد عن غمار الجماعات. إذ كان المجتمع في كل مكان يعمل على قتل رجولة كل فرد من أفراده. وما المجتمع إلا شركة مساهمة يدفع لها كل عضو من أعضائها حريته وفكره ثمناً لسهمه. ولا ينال من أرباح هذا السهم إلا خبزه وطعامه وأمانه. ولذلك كان عظماء العالم ومفكروه وقادته وعبقريوه هم الذين نشؤوا بعيدين عن المجتمع.
خارجين على قوانين هذه الشركة الغابنة رافضين أرباحها وسهامها. عاملين على إفلاسها. وإصلاح موادها وبنودها. وإن أكبر مزايا المفكرين والعظماء. أمثال سقراط وأفلاطون وسبنسر، إنهم لم يعتدوا بالجماهير ولا أكثر الآراء الناس. ولا بالعادات والقوانين التي يعيش عليها الجماعات. وإنما جاؤوا بآرائهم على نقيضها. وأتوا بأفكارهم هادمة لأفكارها. (للكلام بقية).
أحمد محمود باشا
عضو الجمعية التشريعية عن دائرة شبرا خيت
نأخذ الآن في عرض ترجمة رجل ذكي الفؤاد، شديد العارضة. كان لفعل الوراثة في تكوين ذكائه. وتغذية نبوغه. أكبر الأثر وأعظم الأسباب فهو يحيا بيننا بتلك الفطرة القوية. التي انطبعت فوق أديم روحه من اثر فطرة أبيه. فتجلت في صورته المصغرة كل محاسن الصورة المكبرة. وكل دلائلهما وكل تقاطيعهما وما كان الذكاء الموروث إلا أشد في طبيعته من الذكاء البكر وأقوى في نوعه من الذكاء المحدث والمكتسب. لأنه يزداد قوة من جراء التلقيح. ويسمو في حسنه، ويصفو في جوهره، ويشتد في نضوجه، من فعل الانتقال. والذكاء الفطري الموروث هو أكبر أنواع الثروة، وأصلح ضروب المواريث، لأنه الأساس المتين المتماسك، الذي ينهض عليه نبوغ صاحبه، وتفوقه، وشخصيته.
هذا لأن المترجم به غصن من أغصان تلك الدوحة الفينانة اليانعة، التي أخرجت لهذا البلد أحسن ثماره وأنتجت للقطر أذكى بنيه، وأنبغ أهليه، فهو ابن المرحوم أحمد محمود الكبير، رجل كان كله ذكاء يتوقد، وبديهة تستعل وروحاً عظيمة تحترق، لا تستعين بذخيرة العلوم، ووفرة الفنون على إطفاء جذوتها، وإخماد نارها.
ولا يزال عارفو ذلك الرجل الكبير من الأحياء يشهدون بقوة ذكائه، وفي الموتى ألوف يعترفون بحدة عارضته، وناهيكم بشهادة الأستاذ المرحوم محمد عبده فقد قال يوماً، وكنا نعوده، بعد أن ذكر أحمد محمود وأسف لوفاته (لقد كان أذكى رجل مصري رأيته من غير الدارسين).
والمترجم به يستمد كل طبائعه ومزاياه، من تلك العصارة القوية، التي اغتذى منها سعد وفتحي، والتي لا تخرج من فروع تلك الدوحة المباركة، إلا الذكي والألمعي والقوي ذهناً وروحاً، إذ كانت والدة أحمد محمود الكبير، أخت والدة سعد باشا وأخيه الفقيد العظيم، وللاختان ثلاث أخوات كلهن منجبات، يتخلل دماءهن عنصر ذلك الذكاء الفطري الخالص، الذي لم تشبه أدني شائبة من الضعف الشائع في نسل أهل المدن، ذاك لأن الذكاء القروي هو ذكاء الطبيعة النقي، يعيش في أحضانها، ويدرج في حجرها، ومن ثم ترى له جلالها، وتشهد فيه قوتها، يأخذ من نقاء هوائها نقاءها ومن رقة نسائمها رقته.
ولد صاحب الترجمة عام 1870 في الرحمانية وتوفي والده المرحوم أحمد محمود عام 1904 وهو ابن علي محمود بن الحاج علي محمود الملقب بسلطان ترك. أعطاه هذا اللقب نابوليون الأول، يوم جاء إلى مصر بخيله ورجله، وتنتمي هذه الأسرة العظيمة إلى قبيلة اللحامدة، المقيمة في صفرة والجديدة.
فلما شب المترجم به عن الطوق، دفع إلى مكتب البلد فلبث فيه أياماً. يقرأ القرآن. ويتعلم مبادئ الكتابة والقراءة. ثم دخل مدرسة للفرير. برمل الإسكندرية. فقضى بها أربع سنين. انتقل بعدها إلى مدرسة الفرير الأخرى. وكانت في نفس الإسكندرية. وجاء القاهرة بعد ذلك فالتق بمدرسة المعلمين التوفيقية. ومكث يتلقى العلم بها حتى السنة الثالثة التجهيزية. وبذلك أخذ قسطاً غير صغير من برامج المدارس. ونال حظاً غير قليل من مختلف العلوم. إذا اجتمع إلى ذكائه القوي بطبيعته. كان منه ثروة كبرى للذهن. لأن الذكاء يستطيع أن يجعل من مبادئ العلوم كل أجزائها وأصولها وفروعها، ولا تجد العلم يستطيع. وأن زادا أو كبر - أن يخلق من الذكاء شيئاً.
ولم يلبث أن خرج إلى الحياة العملية، وذلك شأن الأذكياء منذ نشأتهم، فاختير في حياة والده، عضواً في مجلس المديرية تسع سنين، ثم انتخب عضواً كذلك في لجان الشياخات وتأديب العمد تسع سنين مثلها، ثم جعل عمدة على بلده، ولما كانت سنة 1901 أنعم عليه سمو الجناب العالي بالرتبة الثالثة مع لقب بك، ثم أنعم عليه بعد سنتين بالرتبة الثانية، وفي سنة 1904 برتبة المتمايز، وقد نال في العام المنصرم من سمو أمير البلاد رتبة المير ميران، وظفر في الانتخاب لعضوية الجمعية التشريعية عن دائرة شبرا خيت.
والمترجم به فوق ذلك من نوابغ الزراعيين، فقد زاد ثروة أبيه الطائلة نيفاً وسبعمائة فدان، وتلك لعمري أسوة حسنة، يجب أن يضعها المصريون قبالة أعينهم، لأن للزراعة في هذا البلد الخصيب أكبر قسط من حياتنا، تقوم عليها كل مصادر الثروة، ويتوقف عليها مجموع كيان الأمة، ولذلك كان العامل على تنميتها وتحسينها، وحمايتها من أيدي الأجانب، أفرادهم وشركاتهم هو العامل على بقائنا، وتقوية مكانتنا وتحسين أحوالنا.
هذا وإن الزراعة مهنة طبيعية، نشأت مع الإنسان الأول، وتطورت بتطوره، وتقدمت بتقدمه، بدأت قبل الصناعة والتجارة، والسياسة والفلسفة والكتابة والعلوم والآداب، بل إن هذه جميعاً تنهض فوق الزراعة وعليها تعتمد، ومنها تغتذي، وبها تستقيم.
بل للزراع أن يفخر على التاجر، ويطول على الصانع، والعامل والمخترع، لأنه يأخذ من تقسيم العمل أكبر الأقسام، إذ هو المثمر والناس بعد مستغلون، وإن من عمل يده، وجهد قواه، تنال الإنسانية طعامها، وكساءها، وكنها، والناس وإن كانوا لا يحبون الشاق من الأعمال، ويكرهون منها المرهق المعنت، إلا أنهم يشعرون من صميم أفئدتهم باحترام الحرث والغرس. وحب الزرع والحصيد. ويعدونها المهنة الطبيعية والحرفة الفطرية لنوعهم. ويعتقدون أن الذين لا يشتغلون منهم بالزراعة، إنما أعفتهم الظروف منها: فجعلتهم ينيبون عنهم في القيام بسهمهم منها أيدي غيرهم. وقوى طبقة منهم.
وحسب الفلاح إن الجيولوجيا منذ شباب العالم، في خدمته، وإن الكيمياء الطبيعية، منذ أول الخليقة في معونته، خدامه النهر والجدول. والحشرات النافعة تأكل الحشرات القاتلة. ومواليه الجو وتغيراته. والسماء وأمطارها. والأرض وأسمادها. والتربة وأملاحها.
والفلاح محسن خالد، يحفر على الطريق بئراً، ويشيد بجانبه سقفاً، ويزرع الشجر وارفة ظلاله، ويقيم عرشاًَ من ورق الأعناب، ومظلات ناضرة من الريحان واللبلاب، فإن لم يستطع، وضع على الثنية حجراً، يعتقده الضال، ويجلس عنده المتعب والكال، ينشئ بذلك ثروة كبرى، يذهب وهي باقية، جليلة النفع نقريته. عظيمة الفائدة لبني بلدته.
ولأخلاق الفلاح وآدابه، بساطة مظهره وثيابه، تنبوبه باحات القصور، ولا تنبوبه باحات الطبيعة، والفلاح أروع أيكون في ساحة حقله، دائباً وراء محراثه، مقتلعاً ضعيف أعواده. والطبيعة لا تميل إلى الزخارف، ولا تعرف الزينات، ولذلك تشرق في كوخ الفلاح، وتتزاور عن قصر الأمير، لأنها لاتجد في الثاني إلا تقاليد لعملها، وقوالب صناعية على مثال قوالبها، ولا ترى في الأول إلا مصنوعاتها، كيوم خرجت من يدها.
والمترجم به روح رقراقة شفافة، تبدو رقته في حديثه إذا حدث، وفوق معارفه إذا تبسم وفي تضاعيف تحيته إذا حيا، كل شيء في آدابه، وأخلاقه يجري مع طبيعته، يضع في كل أفعاله وحركاته وأقواله قطعة من روحه، ولذلك تجد فيها تلك الحرارة النفسية، التي تشعل روح مخاطبه وتبعثها، تجري على لسانه، وفي قوله، وإذا جلست إليه، لم تلبث أن تترك كل الآداب المصطنعة. والتكاليف المحلولة، لأنك تشعر بأنك غير مستطيع بها أن تظهر على الرقة الطبيعية، والوداعة الخالصة السحرية التي يهجم عليك بهما.
وصاحب الترجمة مفراح يلقاك بوجه مستبشر، وابتسامة لطيفة. ودعابة جميلة. يتخلل أحاديثه مزحة حلوة. وفكاهة عذبة. يحوطها بلمعة من ذكائه. والدعابة الجميلة هي أبداً من خصائص الأذكياء. لأنهم لا يستطيعون أن يلقوا القول خلوا من آثارهم توقدهم. ويريدونك على أن لا تسمع منهم إلا صوت ذكائهم.