انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 17/إعجاز القرآن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 17/إعجاز القرآن

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 5 - 1914



ننشر هنا فصلاً من فصول الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب للرافعي. وكل فصول الكتاب كالحلق المفرغة لا يدري أين طرفاها حسناً واتقاناً، وبودنا أن ننشر هذا الكتاب كله في البيان ولكن ماذا يفيد صاحبه من وراء ذلك، وماذا نبقى له ولكتابه إذن - قال الرافعي تحت عنوان: التحدي والمعارضة.

كان العرب قد بلغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة ومن دقة الحس البياني حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلاً واحداً باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق، وأنهم لأول دعوة من بلغائهم وفصائحهم مع تباعد ديارهم بعضهم عن بعض وتعاديهم واختلافهم في غير هذا الحس باختلاف قبائلهم ومعايشهم، لأن الكلام هو يدفعهم إلى المنافرة ويبعثهم على المفاخرة، وما كان الكلام صناعة قوم إلا أصبتهم معه كالجمل المؤلفة يرد بعضها بعضاً ويدور بعضها على بعض فيكون كل فرد منهم كأنه لفظ حي وكأن معنى حياته في الألفاظ. وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء ولم يظهر في أمة ظهوره في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام وفي جاهليتهم الثانية مع بعده حين استفحل أمر الفرق الإسلامية واستحر الجدال بينهم فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خواص، واقتحموا تلك الخصومات حتى يبس ما بين بعضهم إلى بعض وإن كان ليس بينهم إلا الدين والعقل.

فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغه لفظاً وأسلوباً ومعنى ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها وأن يحدث منها وكانت رأس أمره وقوام تدبيره إذ هي الأمة بصبغتها العقلية ومعناها النفسي وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فيما هي قوية به بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف والاضطراب شعوراً لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشك واليقين ومن طباع النفس التي جبلت عليها أنها متى خذلت وكان خذلانها من قبل ما تعده أكبر فخرها وأجمل صنعها وأعظم همها وأصابها الوهم في ذلك وضربها الخذلان باليأس فقلما تنفعها نافة بعد ذلك أو تجزئها قوة أخرى، وقلما تصنع شيئاً دون التراجع والاسترسال فيما انحدرت إليه. فمن ثم لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآن من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم ومن جهة الكلام الذي هو سيد عملهم بل تصدعوا عنه وهم أهل البسالة والبأس وهم مساعير الحروب ومغاويرها. وهم كالحصى عدداً وكثرة وليس لرسول الله إلا نفسه وإلا نفر قليل معه لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مقادتهم ونصرهم إلا بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم وكاثرهم وغلبهم على أنفسهم، فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة باجمعها، ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي وكأنه في نفسه قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها وهذا هو نفس الشعور الذي كان يشعر به كل مسلم في الجيوش التي انصبت على الأمم أول عهدهم بالفتوح حتى نصروا بالرعب وكأنما كانت أنفسهم تحارب قبل أجسامهم وتعد المراصد لعدوهم من نفسه وتسلبه مالا يسلبه إلا الموت وحده، فالعرب يريدون أن يموتوا فيحيوا ويريد أعداؤهم لآأ، يحيوا فيموتوا. وإلا فأين تقع تلك الشراذم العربية القليلة من جيوش الروم والفرس وهي فيها كالشامة في جلد البعير لو وقعت عليها ذبابة لكانت عسى أن تخفيها؟.

على أن من أعجب ما في أمر العرب أنهم كانوا يتخاذلون عن قتال النبي وجماعته على كثرة ما استنفرتهم قريش لحربه وما اعترضتهم في حجهم ومواسمهم، وعلى ما كانوا يعرفون من مغبة هذا الأمر وأنه ذاهب بطريقتهم لا محالة فلم يجمعوا كيدهم ولم يصدمونه بل استأنوا به ولبسوه على مره وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة وتركوا أسباباً كانت منهم قريبة. وليس في ذلك سبب وراء القرآن فإن كل آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعي وتخذلهم في أنفسهم فلا يحسون منها إلا تراجع الطبع وفتور العزيمة، ويكسر ذلك عليهم أمرهم فتقع الحرب في أنفسهم بديئاً بين الوهم واليقين، فإن نصبوها له بعد ذلك أقدموا عليها بنفوس مخذولة وعزائم واهية وأمور منتشرة وخواطر متقسمة وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حرب سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال من أقدم عليها مرة كان آية لنفسه وكان عبرة لغيره حتى ما يعتزم لهولها كرة أخرى فمن سكن بعدها فقد سكن.

نزل القرآن على الوجه الذي بيناه فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أملوا أن يطلعوا عليه في آياته البينات كما يعتري الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علواً ونزولاً على حسب مالا بد منه من اختلاف المعاني وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها مما ينقسم إليه الخطاب ويتصرف القول فيه ومروا ينتظرون وهم معدون له التكذيب متربصون به حالة من تلك الأحوال فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام وديباجة كالسماء في استوائها لا وهي ولا صدع، وإذا عصمة قوية وجمرة متوقدة وأمر فوق الأمر وكلام يحارون فيه بدءاً وعاقبة.

وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب ثقة منهم بقوة الطبع ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة وهم مجبولون عليه فطرة ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم. فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه وسلك إلى ذلك طريقاً كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي. فإن حكمة هذا التحدي وذكره فيه إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد والفصحاء اللسن وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها - حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن مولد أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله وأنه غير معجز وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا الضعيف، ويا لله من سمو هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخية.

أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك فهي أن التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثل القرآن ثم بعشر سور مثله مغتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة وليس إلا النظم والأسلوب وهم أهل اللغة ولا تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور. . . ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفخ الرماد الهامد فقال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين فقطع لهم أنهم لن يفعلوا وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله ولا يقولها عربي في العرب أبداً، وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة وعرفوا أنها تنفي عنهم الدهر نفياً وتعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلما رأوا همهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة بذلوا له السيف كما يبذل المحرج آخر وسعة وأخطروا بأنفسهم وأموالهم وانصرفوا عن توهين حجته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا ساحر وشاعر ومجنون ورجل يكتب أساطير الأولين وإنما يعلمه بشر وأمثال ذلك مما أخذت به الحجة عليهم وكان إقراراً منهم بالعجز إذ جنحوا فيه إلى سياسة الطباع والعادات تلميحاً كما تقدم وتصريحاً كقولهم أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون وقولهم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وأمر العادة مما تخدع به النفس عن الحق لأنها أعراق ضاربة في القلوب ملتفة بالطبائع وخاصة في قوم كالعرب كان أمر الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سلف وكانت العادة عندهم ديناً حين لم يكن الدين الإعادة.

قال الجاحظ: بعث الله محمداً أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف وننصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة فكلما ازداد تحدياً لهم بها وتقريعاً لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستوراً وظهر منه ما كان خفياً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا قال فهاتوها مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض. فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستجابة لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفي على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات. ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة. ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ثم تحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة؟ وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه.

على أن التاريخ لا يخلو من أسماء قوم زعموا أنهم عارضوا القرآن فمنهم من ادعي النبوة وجعل ما يلقيه من ذلك قرآناً كيلا تكون صنعته بلا أداة. . . على أنه لا أتباع له من غير قومه ولا بشايعه من قومه إلا طائفة يستنقرون لأمره ويعطفون عليه جنبات الناس حتى يجمعوا له أخلاطاً وضروباً، وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصبية وحدبا من الطباع على الطباع فهم في غني عن نبوته وقرآنه وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة مقاربة لمن قارب صاحبهم ومباعدة لمن باعد وعسى أن يرد عليهم ذلك مغنماً أو ينقلهم من غيرهم أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة أو يكون لهم سبيل منه إلى التوئب إن صادفوا غرة وأصابوا مضطرباً إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة ويغر به الغرور ويقصد إليه بالسبب الواهي وبالحادث الضئيل وبكل طائفة من الرأي وبغية من الوهم وتستوي فيه الشمال واليمين وتتقدم فيه الرؤوس والأرجل مبادرة لا يدري أيهما حامل وأيهما محمول. . .

ومنهم من تعاطى معارضة القرآن صناعة ظن أنه قادر عليها بضع لسانه منها حيث شاء، وهؤلاء وأولئك لا يتجاوزون في كل أرض دخلها الإسلام من بلاد العرب والعجم إلى اليوم عدد ما تراه من عانة ضئيلة تعرض لك من حمر الوحش فقي جانب البر الواسع ثم تغيب وتسقي الريح على آثارها. وسنعدهم لك عدا لتصدر في هذه الدعوى على روية وتحكم في تاريخ المعارضة عن بينة وتعلم القدر الذي بلغوه أو قيل أنهم يلغوه فإن حصر ذلك وبيانه على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به أو قيل أنهم بلغوه فإن حصر ذلك وبيانه على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به التاريخ من إعجاز القرآن، والحق يجمع عليه الناس كافة ثم يكابر فيه الواحد والاثنان والنفر والرهط فتكون مكابرتهم فيه وجهاً من الوجوه التي يثبت بها.

[1] فمن أولئك مسيلمة بن حبيب الكذاب تنبأ باليمامة في بني حنيفة علي عهد رسول الله بعد أن وفد عليه وأسلم وكان يصانع كب إنسان ويتألفه ولا يبالي أن يطلع أحد منه على قبيح لأنه إنما يتخذ النبوة سبباً إلى الملك حتى عرض على رسول الله أن يشركه في الأمر أو يجعله له من بعده وكتب إليه في سنة عشر للهجرة. أما بعد فإني قد شوركت في الأرض معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها. ولكن قريشاً قوم يعتدون، وكان من المسلمين رجل يقال له نهار الرجال قد هاجر إلى النبي وقرأ القرآن وفقه في الدين فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة وليشد من أمر المسلمين فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة إذ شهد أنه سمع محمداً يقول إن مسيلمة قد أشرك معه فصدقوه واستجابوا له وأمروه بمكاتبة النبي ووعدوه أن هو لم يقبل أن يعينون عليه، فكان الرجال لا يقول شيئاً إلا تابعه مسيلمة وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرف أحوال رسول الله ومعجزاته في العرب ليحكيه ويتشبه به وما قط عارضه في شيء إلا انقلبت الآية معه وأخزاه الله وفي تاريخ الطبري من ذلك أشياء لا حاجة لنا بها صحت أو لم تصح.

وقد زعم مسيلمة أن له قرآناً ينزل عليه من السماء ويأتيه به ملك يسمى رحمن. . . بيد أن قرآنه إنما كان فصولاً وجملاً بعضها مما يرسله وبعضها مما يترسل به في أمر أن عرض له وحادثة أن اتفقت ورأى إذا سئل فيه وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان لأنه كان يحسب النبوة ضرباً من الكهانة فيسجع كما يسجعون، وقد مضى العرب على أن يسمعوا للكهان ويطيعوا ووقر ذلك في أنفسهم واستناموا إليه ولم يجدوا كلام الكهان إلا سجعاً فكانت هذه بعض ما استدرجهم به مسيلمة وتأتي إلى أنفسهم منها.

ومن قرآنه الذي زعم قوله أخزاه الله: والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، أهالة وسمناً. . . لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه والباغي فناوؤره. وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المتذق فما لكم لا تمجعون. . . وقولنه: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل. . . وقال الجاحظ في الحيوان عند الفوز في الضفدع: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمتعين. . .

وكل كلامه على هذا النمط وأه سخيف لا ينهض ولا يتماسك بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه وما كان الرجل من السخف بحثث ترى ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه ولكن لذلك سبباً نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إلى موضعه الذي هو أملك به.

[2] ومنهم عبهلة بن كعب الذي يقال له الأسود العنسي يلقب ذو الخمار لأنه كان يقول يا تيني ذو خمار، وكان رجلاً فصيحاً معروفاً بالكهانة والسجع والخطابة والشعر والنسب وقد تنبأ على عهد النبي وخرج باليمن ولا يذكرون له قرآناً كان يزعم أن الوحي ينزل عليه وكان إذا ذهب مذهب التنبؤ كب ثم رفع رأسه وقال: يقول لي كيت وكيت يعني شيطانه، وهذا الأسود كان جباراً وقتل قبل وفاة رسول الله بيوم وليلة.

[3] وطليحة بن خويلد الأسدي وكان من أشجع العرب يعد بألف فارس، قدم على النبي في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ثم لما رجعوا تنبأ طليحة وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله وكان يزعم أن ذا النون يأتيه بالوحي (وقيل بل جبريل) ولكنه لم يدع لنفسه قرآناً لأن قومه من الفصحاء ولم يتابعوه إلا عصبية وطلباً لأمر يحسبونه كائناً في العرب من غلبة بعضهم على جماعتهم وإنما كانت له كلمات يزعم أنها أنزلت عليه ولم نظفر منها بغير هذه الكلمة رأيناها في معجم البلدان لياقوت وهي قوله: إن الله لا يصنع بتعفير وجوكم وقيح أدباركم شيئاً فاذكروا الله قياماً فإن الرغوة فوق الصريح. . . وقد بعث أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد لقتاله وكان مع طليحة عيينه بن حصن في سبعمائة من بني فزازة فلما التقى الجمعان تزمل طليحة في كساء له ينتظر بزعمه الوحي وطال ذلك منه وألح المسلمون على أصحابه بالسيف فقاله له عيينة هل أتاك بعد؟ قال طليحة من تحت الكساء لا والله ما جاء بعد فأعاد إليه مرتين كل ذلك يقول لا. فقال عيينة: لقد تركت أحوج ما كنت إليه. فقال طليحة قاتلوا عن أحسابكم فأما دين قلادين ثم انهزم ولحق بنواحي الشام وأسلم بعد ذلك وكان له في واقعة القادسية بلاء حسن.

[4] وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية لو كانت في بني تغلب (وهم أخوالها) راسخة في النصرانية قد علمت من علمهم وتنبأت فيهم بعد وفاة رسول الله في خلافة أبي بكر فاستجاب لها بعضهم وترك التنصر ومالأها جماعة من رؤساء القبائل وكانت تقول لهم: إنما أنا امرأة من بني يربوع وإن كان ملك فالملك ملككم. قد خرجت بهم تريد غزو أبي بكر رضي الله عنه ومرت تقاتل بعض القبائل وتوادع بعضها وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدت شوكة أهل اليمامة فتهدت له يجمعها وخافها مسيلمة ثم اجتمعا وعرض أهلها أن يتزوجها ليأكل بقومه وقومها العرب فأجابت وانصرفت إلى قومها فقالوا ما عندك؟ قالت كل على الحق فاتبعته فتزوجته. . . ولم تدع قرآناً وإنما كانت تزعم أنه يوحى إليها بما تأمر وتسجع في ذلك سجعاً كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، وداقوا دفيف الحمامة، فإنها عزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة وفي رواية صاحب الأغاني أنه كان فيما أدعت أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتقون لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشاً قوم يبغون. وهي كلمة مسيلمة وقد مرت آنفاً.

ثم أسلمت هذه المرأة بعد وحسن إسلامها وما كانت نبوتها إلا زفافاً على مسيلمة. .

[5] والنضر بن الحارث، وهذا ومن يجيء بعده لم يدعوا النبوة ولا الوحي ولكنهم زعموا أنهم يعارضون القرآن فلفق النضر هذا شيئاً من أخبار الفرس وملوك العجم ومخرق بذلك لأنه جاء بأخيار يجهلها العرب. . . ولم يحفل أحد من المؤرخين ولا الأدباء بهذا الرجل لحماقته فيما زعم وإنما ذكرناه نحن إذ كنا لا نرى الباقين أعقل منه. . .

[6] وابن المقفع الكاتب البليغ المشهور وزعموا أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره وهذا عندنا إنما هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحدة من أن كتاب الدرة اليتيمة لابن المقفع هو في معارضة القرآن فكأن الكذب لا يدفع إلا بالكذب وإذا قال هؤلاء أن الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوته وفصاحته وأنه في ذلك من وزن القرآن وطبقته وابن المقفع هو ما هو في هذا الأمر. قال أولئك بل عارض ومزق واستحيا لنفسه. . .

أما نحن فنقول إن الروايتين مكذوبتان جميعاً وإن ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة لا لشيء من الأشياء إلا أنه من أبلغ الناس، وإذا قيل لك أن فلاناً يزعم إمكان المعارضة ويحتج لذلك وينازع فيه فاعلم أن فلاناً هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين إما جاهل يصدق في نفسه وإما عالم يكذب على الناس ولن يكون فلان ثالث ثلاثة.

وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت بعده وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه. ثم كان ابن المقفع متهماً عند الناس في دينه فدفع بعض ذلك إلى بعض وتهيأت النسبة من الجملة.

ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب وكان متهماً بها لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة لا لأنه زنديق ولكن لأنه بليغ يصلح دليلاً للزنادقة.

وزعم هؤلاء الملحدة أيضاً أن حكم قاموس وشمكير وقصصه هي من بعض المعارضة للقرآن فكأنهم يحسبون أن كل ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار فتلك سبيله، وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا ومثل قولهم إن القصائد السبع المسماة بالمعلقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها. .؟.

[7] وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي وكان رجلاً غلبت عليه شقوة الكلام فبسط لسانه في مناقضة الشريعة وذهب يزعم ويفتري، وليس أدل على جهله وفساد قياسه وأنه يمضي في قضية لا برهان له بها - من قوله في كتاب (الفريد): أن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي () فلم تقدر العرب على معارضته فيقال لهم أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة. . . مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل عل صدق بطليموس أواقليدس أن اقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوته تثبت؟ فأعجب لهذا الجهل الذي يكون قياساً من أقيسة العلم. . . وأعجب (للكلام) الذي يقال فيه: إن هذا كتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب، ولما كانا كذلك فأحدهما مثل الآخر، ولما كان أحدهما معجزاً لا محالة وما يثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني وما دمنا نعرف أن صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوة فنبوة صاحب الأول لا تثبت. . . لعمري أن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الأطباء قط. وإلا فأين كتاب من كتاب وأين وضع من وضع وأين قوم من قوم وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولا طرد ذلك القياس كله على ما وصفه كما يطرد القياس عينه في قولنا أن كل حمار يتنفس وابن الراوندي يتنفس فأين الراوندي يكون ماذا. . .؟.

ولو أن مثل هذه السخافة تسمي علماً تقوم به الحجة فيما يحتج له ويبطل به البرهان فيما يحتج عليه لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولا حق معروف ولا شيء يسمى، ولكان هذا اللسان المتكلم قد عبدته أمم كثيرة لأن فيه قوة من قوى الخلق ولأنك لا تجد سخيفاً من سخفاء المتكلمين الذين يعتدون مثل ذلك علماً كابن الراوندي مثلاً إلا وجدته قد أمعن في سخفه فلا تدري أجعل آلهة هواه أم جعل آلهة في فمه.

وقد قيل إن هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سماه (التاج) ولم تقف على شيء منه في كتاب من الكتب مع أن أبا الفداء نقل في تاريخه أن العلماء. قد أجابوا عن كل ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من (كفرياته) وبينوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة. والذي نظنه أن كتاب ابن الراوندي إنما هو في الاعتراض على القرآن ومعارضته.

متعثراً يسقط بعضه في جهة وينهض بعضه في جهة ويستقيم من ناحية ويلتوى من ناحية وأنه عسى أن لا يكون في اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى وفساد المذهب الكتابي وضعف الطريقة البيانية شر من هذا كله وما أسلوب الرجل إلا من هذا كله.

على أن المعري رحمه الله قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي فقال: وأجمع ملحد ومهتدي، وناكب عن الحجة ومقتدي، إن هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالأرجاز، ما حذى على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ماهو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا كل خطابة العرب، ولأسجع الكهنة ذوي الأرب، وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق.

ولا يعقل أن يكون الرجل قد أسر في نفسه غير ما أبدى من هذا القول ولم يضطره شيء إليه ولا أعجله أمر عن نفسه ولا كان خلو رسالته منه تضييعاً ولا ضعفاً، وما نشك في أنه كان يستسر بهنات مما يضعف اعتقاده ولكن أمر القرآن أمر على حدة فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة.

(وبعد) فهذا الذي وقفناك عليه هو كل ما صدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة، أما إن القرآن الكريم لا يعارض بمثل فصاحته وبمثل ما احتواه ولو اجتمعت الأنس بما يعرفونه وأمدهم الجن بمالا يعرفون وكان بعضهم لبعض ظهيراً فهو ما نبسطه فيما يلي، وذلك هو الحق الذي لا جمجمة فيه ولا يستعجم على كل بليغ له بصر بمذاهب العرب في لغتها وحكمة مذاهبها في أساليب هذه اللغة وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه وكان يجري من هذه اللغة وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه وكان يجري من هذه الصناعة البيانية على أصل ويرجع فيها إلى طبع.

وإن شعور أبلغ الناس بضعفه عن أسلوب القرآن ليكون على مقدار شعوره من نفسه بقوة الطبع واستقاضة المادة وتمكنه من فنون القول وتقدمه في مذاهب البيان فكلما تناهى في علمه تناهي كذلك في علمه بالعجز، وما أهل الأرض جميعاً في ذلك إلا كنفس واحدة ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم.