انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/نوابغ العالم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/نوابغ العالم

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1913



فردريك الأكبر

بقلم كبير كتاب الانجليز ومؤرخيهم اللورد ماكولي

تعريب عباس حافظ

وأكثر ما اقتني من خيرة الكتب وأعيان المؤلفات، هو ما صاغه الكرام الكاتبون من الفرنسيين، وما وضعه كتاب ذلك البلد الأمين، فلا عجب أن رأينا إعجابه بهم غير محدود، واستحسانه محاسن ما أنشأوا، وبدائع ما خطوا، متناهياً مترامياً.

واستحثته شيمة الطمع والشوق التي فيه على أن يقلد ما أعجبه، ويحاول نسج ما قد حبكوا، وأحب الأماني إلى قلبه وأنداها على فؤاده أن يروح معدوداً بين سادة أهل الشعر في فرنسا، ورؤوس أهل البيان والفصاحة فيها.

وطفق ينثر وينظم بجد وصبر للنثر والنظم، كأنه أديب متضور، ولكن الطبيعة التي أتمت عليه مواهب القائد والمنظم أمسكت عنه تلك النعم الأكبر شرفاً، الأسمى مكاناً، الأندر وجوداً، التي تجدّ الصنعة الكتابية سدى لتخرج مثلها بياناً يبقى على الدهر، وحلاوة يطيب بها فم لزمان، ولحناً خالداً في مسمع الأيام.

ولو كان منح خيالاً أرق، وذكاءً أنضج مما يظهر، وخاطراً أخصب مما يبدو، لظل مع ذلك رهين نقص كبير يمنعه إلى الأبد أينال مكانة عالية بين الكتاب والأدباء.

لم يأخذ من أية لغة بزمامها، ولا راضت له مطيتها، ولا ذلت له أعنتها، ولم يكن له من خواطره ما يستطيع به أن ينهر غلمانه ويزجر خدمه ويأمر رؤساء كتائبه، ولم يُعن بالقواعد ولا اهتم بالنحو، بل ساءت مخارج ألفاظه ونبرات نطقه.

وكان يشق عليه أن يفهم أوضح المعاني الشعرية في الأدب الألماني، أو يستخرج مرامي أسلس بيوت الشعر، أو يفقه أريض معاني القريض.

وقرئت عليه يوماً ترجمة (افيجيني) للشاعر راسين، فأمسك الأصل الفرنسي في يده، ولكنه اضطر أن يعترف أنه لم يستطع أن يفهم الترجمة حتى وإن راجع الأصل.

على أنه وإن كان ترك لسان بلده وأعرض عن لغة موطنه، وأقبل على اللغة الفرنسية، ووضع لديها كل اهتمامه، فلم يفضل نصيبه منها على مرتبة الأجنب عنها، وما طال حظه على علم الدخيل فيها. لزمه أن يكون في ناديه أدباء باريس وكتابها، ويخطر في جنابه أعيان الآداب وأعلامها، ويمرح في ندوته فحولها وساداتها، ينبهونه إلى ضعف التأليف الفاشي في كتاباته، والأبيات المتهدمة والقوافي العاثرة والأناشيد الضالة الخاطئة، التي تحيرت في نظيمه، وغلبت في قريضه.

ولو كانت له روح شعرية - وكان منها عاطلاً جد العطل_لمنعته حاجته إلى اللغات وضعفه أن يكون شاعراً فحلاً يروح الناس بأشعاره ويغدون.

ولا نذكر أن فريدة من فرائد الخيال أو عقيلة من عقائله لم يكتبها كاتبها إلا بلغة حفظها ووعي دخيلتها أو تكلم بها في سهولة تامة وبيان نطق قبل أن يعلم مبانيها ويعرف أسرارها ومناحيها.

لقد نظم بعض نوابغ الرومان وسادة كتابهم أشعاراً وقصائد باليونانية، فكم من تلك القصائد يستحق الخلود والبقاء؟ وعمل أهل المواهب السامية والألباب الكبيرة في العصور الحديثة أشعاراً لاتينية، ولكن ليس في تلك القصائد والأشعار، حتى ولا في تلك التي نسج (ملتون) بردتها، ووشى حواشيها، ما يصح أن يعد في المرتبة الأولى من الصنعة، أو يكون في رأس الطبقة الثانية وطليعتها.

فلا غرابة إذن إن لم نجد في أبيات فردريك وقصائده الفرنسية ما يعلو على شعر (نيوديجيت) طبقة ومظهراً، أو يفوق نصيب أي امرئ أوتي صنعة وكفاءة لا بأس بهما.

ولعل أحسن مقطعاته وأبدع أبياته، تعادل أسوأ ما نظم (دورلى) وجمع في منتخباته.

ما في التاريخ فكان نجاحه أبهر، وخيبته أقل، ونحن لا نكاد نجد في أي مكان من مذكراته الضخمة، خاطراً بعيد الغور، أو نقع على فكر رائع، ورأي ثاقب، أو نلقي وصفاً حياً وتصويراً خفاقاً مترقرقاً تتحير الحياة في أثنائه وتجري الروح في خلاله.

على أن الكتاب ممتاز بوضوحه وإيجازه، ومعانيه، ولهجة صدق وسذاجة هي أروع ما تشهد في رجل جلس إلى دواته يقص أفعالاً جسيمة قضاها ويروي للناس أحاديث أعماله العظيمة.

وجملة القول ليس فيما جرى به قلمه أجمل من رسائله أو أظهر حسناً لا سيما تلك التي أنشأها بجد لم يوشها بشعر ولا زركش حفا فيها بقريض.

ولا غرو أن رأيت شاباً حدثاً تفرد للأدب وتفرغ، وقصر اطلاعه على الأدب الفرنسي وسكن إليه وحده أن ينظر إلى نبوغ (فولتير) نظر الموقر المتعبد، بل ليس من العدل أن يلام على عاطفته أو يؤنب على حبه.

يقول كالدرون في إحدى (كوميدياته) الفاتنات إن رجلاً لم يشهد الشمس ووضحها، لا يلام إذا حسب أن القمر لا يداني فخره فخر، ولا يبز ضياء ضياءه، بل أن امرءاً لم ير الشمس ولا القمر لا يعذل أن تحدث بضوء نجمة الصبح ونورها الذي لا يبرزه نور.

ولو استطاع فردريك أن يقرأ هوميروس وملتون أو فرجيل وتاسو، لعلم أن إعجابه بالهنريات دليل على فساد ذوقه وجهله الأكبر بخالص الصناعة الشعرية وبهرجها، وحسنها وزيفها.

ولو اطلع شكسبير وسوفو كليس لترقبنا منه في رواية (زير) حكماً عدلاً ومقدراً منصفاً.

ولو أمكنه أن يدرس تاريخ (ثيوسيديد) و (تاسيتاس)، لعلم أن للفصاحة تلعات، وللبيان رامات وذروات، تقصر دونها مقدرة صاحب تاريخ (حياة شارل الثاني عشر) وتعز عليه وتطول.

ولكن خير ما قرأ م شعر حماسي ووعى من مآس موجعة فاجعات وتاريخ عليه غلالة الحسن وروعة الجمال هو ما خطه يراع فولتير.

ولقد شغفت الأمير الشاب حباً تلك المآثر، وتيمته المحاسن وكاد يروح لها عابداً.

ولم تكن آراء فولتير في الدين ومسائله الفلسفية قد نشرت للناس بعد وبسطت للجمهور.

فلما نفي من وطنه وأنشب على الكنيسة حرباً قلمية صرح بها للناس وأذاع. ولما كان فردريك يسكن رينسبورغ كان فولتير لا يزال في حاشية الملك وبطانته. ولئن لم يستطع أن يمنع روحه الفياضة ويعصي هوى ذكائه، وينشر بعد ما يخرجه من فرسايل ويطرده من جناب مليكه، فقد نشر شيئاً قليلاً لا يجد فيه لذة رجل ديني أخذ عن (جروتياس) و (تلستون).

وتري التقوى المسيحية تتمثل في هنرياته وتتجلى في روايتي (زير) و (ألزير) بأرق مظاهرها وخير أنواعها ولقد تنزل بعد سنين من الزمان الذي نحن في صدده أحد الباباوات فقبل إهداء روايته في (محمد).

وعواطف ذلك الشاعر الحقيقية ومراميه لتبدو لذي العين البصيرة والنظر الحديد من خلال ذلك القناع الذي تقنع به والخمار الذي أرسله عليها، والحجاب الذي ضربه لها، ولم يفت على فردريك فهمها، إذ كان يرى رأيه ويذهب مذهبه وكانت شيمته المواربة والنفاق. (يتلى)