انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/اعترافات ده موسيه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/اعترافات ده موسيه

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1913



الفصل الرابع

فلما رأى ديزينيه أن اليأس قد بلغ بي حتى عز الدواء، وتوارى الرجاء، وأنني بت لا أريد أن استمع لنصيحة الناصحين، أو أقبل على أحاديث اللائمين، وأني أصبحت لا أفارق حجرتي، همته حالي وأشغله أمري.

جاءني في ليلة مرسلاً على معارفه سيمياء الجد، وفي أسارير وجهه علائم الحزن، ثم جعل يحدثني عن خليلتي في لهجة المتهكم، وطفق يرمي النساء بكل نكراء سيئة، وأما أنا فتحاملت حتى استويت في سريري أسمع له وأرى.

وكانت ليلة مظلمة، تئن فيها الريح أنين المحتضر، والسماء رذاذاً يتناثر على زجاج النوافذ، تاركاً بين آن وآن سكوناً كسكون الموت، وكل شيء في الطبيعة محزون يتوجع، فالشجر يتمايل من ألم، مطرقة أعاليه من حزن، وأطيار الحقول انزوت في الدغل والوكن، وأقفز الشارع من الناس، وعاد جرحي يؤلمني.

بالأمس كانت لي خليلة، وكان لي صديق، فنفرت الخليلة وتولت وألزمني الصديق سرير الوجيعة والألم.

ولا أكاد أعلم ما خطر في نفسي، ولا أظن إلا أنني كنت في حلم مروع مخيف، وأني أغمضت عيني لأنهض في الغد سعيداً ناعم البال، مشرق الأمل، وبدت لي حياتي في تلك الساعة حلماً مضحكاً باطلاً، أشبه بأحلام الصبية الصغار، انكشف باطله، وبدا كذبه، وكان ديزينيه جالساً إزائي بجانب المصباح رزيناً ساكناً، تلوح على فمه ابتسامة لا تفارقه.

ذلكم ديزينيه، رجل كله قلب، على حين أن فيه جمود الصفاة الملساء وخشونة الصخرة الصماء، رجل بكرت في الحياة تجاربه، وغرب نهار مشاهده، على أن شمس حياته لا تزال في مشرقها، وأحفى مر الغداة شعر رأسه فبان أصلع قبل الأوان.

لقد عرف ديزينيه الحياة وبكاها في حينها، وجرت دموعه في همها، ولكنه اتخذ لحزنه درعاً من الصبر، وكان دهرياً، وكان يرتقب الموت.

وأنشأ يقول: أني أراك تذهب في الحب مذهب أهل الخيال والشعراء ومذهبك يمنعك من الرجوع إلى رشدك، ويقودك إلى هموم كثيرة ومتاعب.

إن الشعراء يمثلون الحب كما يمثل المصورون الجمال، كما يبتدع الموسيقيون أصوات الغناء، كما يختلقون الأنغام والألحان.

إن لهم أمزجة عصبية، وطبائع رقيقة شفافة، فهم لذلك يمثلون أطهر عناصر الحياة، ويرسمون في صنعة التصوير أفتن معالم الحسن، وأزهى صفحات الجمال، ويصدحون بأحلى نغم الطبيعة وأعذب نشائد الكون.

قالوا كان في أثينة ترب من الفتيات الحسان فرسمهن (بركستيل) جميعاً واحدة في أثر واحدة، فلما أتم تصوير مختلف حسنهن، وعلم من صورهن عيوبهن، مزج بديع الحسن برائع الجمال، وجعلها في صورة واحدة، كانت هي صورة الزهرة آلهة الجمال.

وأن أول رجل صنع آلة للموسيقى، وجعل لصنعة الغناء قواعد، ووضع للألحان قوانين، كان من قبل يستمع لخرير الجدول، وينصت لسجعات البلبل، وكذلك الشعراء، علماء الحياة، شهدوا غراماً طال وغراماً مضى، ورأوا حباً عاش وحباً قضى، وأحسوا في أعماق قلوبهم، وحرارة مشاعرهم السامية، أن عاطفة الهوى تثور في الفؤاد يوماً وتسكن، وتعلو في جنبات القلب حيناً وتهن، وترهف من طبيعة الإنسان تلك العناصر التي تحط من قدرها، وتنزل بها من كل مكان، ولذلك ابتدعوا هذه الأسماء الغريبة، التي تنتقل من عصر إلى عصر، وترتحل من زمان إلى زمان، وهي في أفواه الرجال، وعلى شفاه المحبين تلكم الأسماء: دافنيس وشلو، وهيرو ولاندر وبيرام وتسبا.

وأنت إن أردت أن تبحث في حياتنا الدنيا عن هوى أبدي مطلق كنت كالباحث في بيوت البغايا عن حسان كالزهر فاتنات، أو المتطلب من البلبل أن يغني مقطعات (بتهوفن) ويصدح بأناشيده المستعذبات.

لا كمال في الدنيا، وإن اعتقاد ذلك انتصار للذكاء الإنساني، ومجد للعقل الآدمي، وما تطلب الكمال إلا شر الجنون، وما رغبه إلا أخطر الحمق.

افتح نافذتك وانظر هل ترى بعينك اللانهاية، ألا تشعر بأن السموات لا حدود لها ولا أطراف، وهل يحدثك بذلك قلبك، وهل أنت للانهاية مدرك؟ إنك تذهب في أمر لا نهاية له، أنت المولود بالأمس والميت غداً.

والناس من روعة الكون في جنون، ومن روعة الكون نشأ الدين، بل أن رغبة امتلاك اللانهاية هي التي جعلت (كاتو) ينحر رقبته، وهي التي حرضت المسيحيين على تسليم أنفسهم إلى الأسد تنهشهم، وهي التي ألقت البروتستانت إلى الكاثوليك يسومونهم سوء العذاب.

كل شعوب الأرض تمد للكون أكفها وتثب له وثبتها، والأحمق يريد أن يمتلك السماء، وأما العاقل فيعجب بها، ويجلو عينه في كبدها، ويركع من رهب لها، ولا يفكر في طلبها.

الكمال أيها الصديق، لم يخلق لنا نحن الناس، فلا ينبغي أن نطلبه في شيء، أو نبحث عنه في حب أو جمال أو سعادة أو فضيلة، بل حسبنا أننا نحب الكمال لنكون ما استطعنا قوماً أخياراً حساناً سعداء.

هب لديك في حجرتك صورة لرفائيل، ترى فيها كمال الصنعة ودقة التصوير، وجئت تتطلع إليها ليلة الأمس فاكتشفت فيها عيباً كبيراً كأن رأيت مثلاً عضواً مكسوراً أو عضلاً ناتئاً دون طبيعته، إذن لشد ما يروح حزنك، ويا عظم ما يكون أسفك، على أن نفسك لا تسول لك أن ترمي في النار بصورتك، بل تقول أن الصورة ليست كاملة في صنعة التصوير، ولكن هناك رسوماً وصوراً غيرها تستحق الاستحسان والإعجاب.

وهناك نساء يأبى عليهن كرم طباعهن، وتمنعهن صداقة قلوبهن أن يكون لهن عاشقان في وقت معاً، وأنت كان عهدك بخليلتك منهن ولا لوم في الحقيقة عليم ولا عتب، ثم بدا لك أنها تخدعك وتغرر بك، فهل يؤدي بك ذلك إلى احتقارها والإساءة إليها، واعتقادك أنها تستحق كراهيتك ونقمتك.

ألا هبها كانت تهواك دون سواك فما أبعد ما بين حبها وبين الكمال، حب إنساني تافه، يتبع سنة نفاق العالم وأخاديعه.

وأذكر أنها كانت متاعاً لرجل أو رجال قبلك، وستكون من بعدك في حوزة رجال آخرين، وأن الذي يرمي بك في أحضان الأسى، تطلبك الكمال في خليلتك، فلما رابك من أمرها ما رابك، أنزلتها عن مكانها الأول من فؤادك، ولو علمت أن رأيك في الكمال رأي إنساني حقير، لرأيت أنها ليست إلا درجة واحدة من ذلك السلم الكبير الذي أفسده النقص الإنساني.

ألست ترى أن خليلتك كان لها من قبل عشاق وأحباب، وسيكون لها من بعد متحببون وأصحاب، وأنت لا ريب تقول أن معرفة هذه الحقيقة لا تهمك ما دامت تصبو إليك ولا تصبو إلى سواك، وأنا فأقول لك، إذا علمت أنه كان لها عشاق كُثر فماذا يهمك إذا كان ذلك أمس أو قبل هذا العهد بعامين، بل ماذا يهمك أن تعلم أنها في غد أو بعد غد أو بعد أحوال، نازعة إلى أصحاب أغرار، وإذا كانت اليوم تهواك غير منهومة العين بالهوى، فماذا يهمك أن تعرض عنك بعد ليلة أو بعد سنين.

ألست رجلاً، ألا ترى أوراق الشجر تسقط عن غصونه، والغثاء يفترق عن أفنانه، ألا ترى الشمس تشرق ثم تغرب وتطلع على الناس بوضحها فتزاور إلى طَفَلها، ألا تسمع صوت ساعة الحياة الراحلة في كل دقة من دقات قلبك، إذن فهل ترى ثمة من فرق بين حب يأفل في ساعة وحب يدور دورته في عام.

إنك تصف بالوفاء المرأة التي تصدق عامين في حبك، كأن لديك (تقويماً) أعددته لتحديد الوقت الذي تجف فيه قبلات الرجال من ثغور النساء، وتزول فيه لثمات الفتيان من شفاه الحسان، أنت لا تفرق بين المرأة التي تهب نفسها من أجل المال، وتلك التي تهبها من أجل الشهوة والإلتذاذ، وبين تلك التي تهبها من أجل العزة والإعتزاز، وتلك التي تهب الروح من أجل الحب المُصَرّد والتضحية الخالصة، وإن من بين النساء اللائي اشتريت، من دفعت إليهن ثمناً أغلى من أترابهن، ومن اللاتي التمست في هواهن لذة حواسك، وطلبت في عشقهن مسرة مشاعرك، من خلصت إليهن، وسكنت أكثر من سكونك لغيرهن، وكذلك ظهرت للواتي تعشقت لأجل الترف وروعة المظهر، في أبهة وحسن مقتبل ما ظهرت بهما لدى أية امرأة أخرى، وفي العشيقات اللاتي صادقت وأحببت من وهبتها ثلث قلبك، وأخرى ربعه وثالثة ألزمتها النصف من فؤادك، وذلك على قدر أنصبتهن من الأدب والأخلاق والأسامي والمولد والجمال والسجية وتبعاً لظروف الأحوال والساعة التي أنت فيها والشراب الذي أنت معاقر والمشمولة التي أنت حاسيها.

أي أوكتاف، أنت لدى النساء العزيز المحبب والعشيق المرحب، لأنك ما تزال بعد الفتى الشاب والغيساني الصب، وأنت ذو الكبد الحَرَّى والقلب الخفاق. لك الوجه المستدير والصفحة المشرقة الجميلة، والشعر المنظم المهذب، ولكنك يا صاحبي لا تعلم ما المرأة؟

إن الطبيعة قبل كل شيء تريد من المخلوقات نتاجها ذلك لأن الحياة الدنيا تخاف الموت في كل مكان من قلال شم الجبال إلى قيعان الأوقيانوس، ولكي يحفظ الله ما أبدع ويخلد ما صنع شرع تلك الشرعة الخالدة، أن أكبر لذاذات الحيوان في نسلها، وأمتع نعيمها في ولدها، وأحفل هناءها في ذراريها.

إن الذكر من النخل يؤخذ منه غبار شماريخه الكثيرة التوليد فتلقح به أنثاه، فيهتز من حب، ويتمايل من طرب، في رياح الهاجرة وأهوية الظهيرة، والوعل يصوت للسفاد ويُهتاج فيبقر بطن الأنثى إذا تمنعت عن سفاده، والورقاء تنتفض تحت جناحي صاحبها، كما يرجف العاشق الصب وتنتفض العاشقة الوالهة والرجل يأخذ زوجه بين ذراعه فيمشي بها في بهرة الطبيعة القادرة فيحس بذلك السنا المتألق المقدس الذي بعثته صبابته، يثب في نواحي قلبه ويطفر في حنايا ضلوعه.

رويداً أيها الصديق، إذا ضممت ذراعيك العاريتين غادة حسناء المتجرَّد عذبة الميسم، ورأيت لذتك تهجم عليك بالدموع وشهوتك تستبكي عينيك وألفيت شفتيك تدميان بأقسام الحب الأبدي وعهود الهوى الخالد ووجدت اللانهاية قد هبطت من مكانها العلي إلى فؤادك فلا تخف أن تسلم نفسك وتخلص بروحك، ولكن حذار أن تخلط بين الخمرة والنشوة أو تمزج الصهباء بالثمل أو تعتقد أن الكأس التي تحسو منها مطهرة كجمامها، ولا تعجب لها أن تراها في المساء فارغة محطمة، بحسبك أنها امرأة، إنها آنية سريعة التحطيم، صنعها من تراب الأرض خزاف.

واحمد الله الذي أراك السموات، ولا تظنك عصفوراً لأنك تنتفض وترتجف، فأن الأطيار نفسها لا تستطيع أن تجوز السحب أو تعبر الغمائم لأن في السموات العُلى أفقاً يعز فيه الهواء، وأن القنبرة تصعد في الأجواء صادحة شادية في غيم الصبح وضباب السحر فتسقط على الأرض ميتة، خذ من الحب قدر ما يأخذ من الخمرة الرجل المعتدل، ولا تعدُ في الدنيا سكيراً، ولا تغدُ في الحب مدمناً، فإن كانت خليلتك صادقة العهد مطمئنة الهوى فأحبها لصدق عهدها واطمئنان هواها. فإن لم تكن كذلك وراحت لعوباً واغتدت حسناء تياهة، فأحبها للعبها وتيهها، وإن كانت رشيقة المتقبل وخفيفة الروح فأحبها لخفتها ورشاقتها فإن لم تكن لا هذا ولا ذاك وكانت تحبك فأحبها لحبها، ولا تغضب ولا تسخط ولا تقل أنا قاتل نفسي لأن لي مزاحماً ينفس عليّ حبي ويستخلص مني خليلتي، وتقول أنها تخادعني نازعة إلى هوى غيري، وتعذبك عزتك ويجرحك إباؤك ولكن ما بالك لا تقول أنه المخدوع بي فتمسك بذلك عليك عزتك.

لا تقل أريد أن يكون كل الحب لي، قاصيه ومبعده، فإنك رجل والرجال هواء لا يقيمون على حال، وإنك لا بد زائد على قولك - ما أمكن _.

خذ المان كما يقبل والريح كما تسفر، والمرأة كما تكون، واعلم أن الاسبانيوليات، سيدات النساء، صادقات الحب وفياته، طيبات القلب مدلهاته، ولكن يحملن طوال المناكب أوفياء الشطاط، والانجليزيات ساميات عاليات، ساكنات رزينات ولكنهن باردات الدم متكلفات، والألمانيات رقيقات خفيفات على أن في أخلاقهن مللاً وفي طبعهن سآمة، وللفرنسيات رشاقة متناهية وحسن مظهر وجري إلى شهوة ولكنهن أكذب من سراب.

لا تتهم النساء ولا ترمهن بعيوبهن، فنحن الرجال شوَّهنا ما أبدعت الطبيعة، وأسأنا ما أحسنت وابتذلنا ما صانت.

إن الطبيعة التي تعمل لكل شيء وتدبر، خلقت الفتاة العذراء لتكون معشوقة محبوبة، على أنها لا تكاد تحمل حملها وتضع طفلها حتى يسقط فرع لها وذؤابة ويشوه ذلك الخصر الأهيف ويبدو في جسمها الناعم آثار القروح وذلك لأن المرأة خلقت لتكون أماً ولتروح والدة!

وأن الرجل ليتولى عنها إذ ذاك ويعرض، نافراً من جمال ضائع، مشمئزاً من حسن مفقود، هذا وطفله متشبث به في بكاء ودموع.

تلكم الأسرة، ذلكم القانون الإنساني، والشرعة الآدمية، فكل من تنحى وحاد فهو وحشي مسيخ.

وفضيلة الريفيين أن نساءهم آلات للولادة والرضاع، وأنهم آلات للعمل والكدح، ليس لهن ضفائر مصطنعة ولا ذوائب مستعارة ولا لبان الأبكار، ولكن ليس على حبهن برص أو جذام.

آخذون في ود صادق، وحب فطري ساذج، فلا يعلمون أن هناك عالماً جديداً اهتدينا إليه يسمى أمريكا، استعاضت نساؤهم عن رقة العاطفة وحدَّة المزاج، صحة الأبدان وسلامة الجسوم.

لا ناعمات الأكف بل خشنات. لابضات الراح بل شثنات على أن ليس لقلوبهن خشونة أكفهن.

إن المدينة تعمل على عكس الطبيعة فإن العذراء المخلوقة لتجري مع الشمس. ولتعجب بالمتصارعين. ولتختار وتحب، نلزمها الدار فلا تخرج، ونحبسها في عقر البيت فلا تظهر، على حين أنها تخفي قصة غرام تحت نوطها.

الله لجمالها، لشد ما تعود صفراء عاطلة أما مرآتها، وواهاً لها تُذبل في سكون الليل جمالاً يختنق. وتُذوي تحت أنفاس الظلام حسناً يعوزه الهواء.

ثم نخرجها فجأة من مضربها جاهلة كل شيء لم تحب أحداً وتطلب الجميع، فتقع على عجوز تعلمها دروسها وتلقي عليها تعاليمها، ويأتي إليها فاسق فيهمس في أذنها بكلمة سوء فتنقاد إليه، إلى سرير رجل لا تعرفه

أكفهن.

إن المدينة تعمل على عكس الطبيعة فإن العذراء المخلوقة لتجري مع الشمس. ولتعجب بالمتصارعين. ولتختار وتحب، نلزمها الدار فلا تخرج، ونحبسها في عقر البيت فلا تظهر، على حين أنها تخفي قصة غرام تحت نوطها.

الله لجمالها، لشد ما تعود صفراء عاطلة أما مرآتها، وواهاً لها تُذبل في سكون الليل جمالاً يختنق. وتُذوي تحت أنفاس الظلام حسناً يعوزه الهواء.

ثم نخرجها فجأة من مضربها جاهلة كل شيء لم تحب أحداً وتطلب الجميع، فتقع على عجوز تعلمها دروسها وتلقي عليها تعاليمها، ويأتي إليها فاسق فيهمس في أذنها بكلمة سوء فتنقاد إليه، إلى سرير رجل لا تعرفه يسرقها عذريتها، ويهتك حجابها.

ذلكم زواج المدنية، وتلكم العيلة المتحضرة، وانظر الآن إلى تلك الفتاة البائسة التي تزوجت فأصبحت حاملاً، وانظر إى شعرها المتساقط وخصرها المتثاقل، فقدت حسن العاشقات ولم تعشق، وضيعت فتنة المحبين ولم تحب.

حملت ثم وضعت وهي تسائل لمَ الحمل وعلام الوضع؟

ويجيبونها: أنت اليوم أم.

وتقول كلا، ما أنا بأم، ادفعوا بالرضيع إلى مرضِعة ترضعه، فليس في حلمتيّ من لبن.

ويجيبها زوجها أنها على حق، فلعل وليده يأبى أن يرضع من ثدي والدته.

ويروح أهلها ويغدون، يزينونها ويجملونها، ويضعون الغلائل الرقاق فوق سريرها الغارق بالدماء ويُعنون بالنفساء، ويتعهدونها بالدواء، حتى تتماثل إلى الشفاء، ولا يمر شهر حتى تراها في (التويلري) أو في المرقص أو في دار (الأوبرا)، وطفلها عند المرضع، وزوجها في أحضان المومس والبغيّ ويتلقاها عشرة فتيان شباب، ينفخون بكلم الحب في أذنيها، ويرسلون عبارات الهوى إليها، ويكلمونها عن الإخلاص والعاطفة والعناق الخالد، ويوحون إليها بكل ما يسكن ربع قلبها وينزل في ناحية من فؤادها.

فتتخذ لها منهم عشيقاً، تضمه إلى نهديها، وتلقيه فوق كاعبيها، وتمكنه من عفافها فيبدده، وتسلم إليه صونها فيبتذله، وتعود إلى دارها بخزيها، وتنقلب إلى زوجها بعاره وعارها.

ثم تنزوي في الدار مهجورة منتبذة، تبكي الليل، وترى أن جفنيها عادا قريحين من طول ما بكت، فتنزع إلى فتى آخر ترود في عشقه عزاءها، وتطلب في حبه سلوتها، ثم تفقده فلا تني تبحث عن عزاء في غيره حتى يبلغ عشاقها الثلاثين أو يزيدون.

وتعيش بعدهم جريحة قريحة، لا حب ولا رقة ولا جمال ولا غم ولا نفور، فرُب ليلة تلتقي فيها بشاب من الأحداث، له شعر فاحم وعين يطل من بين جفنيها الحب والعطف والحنان، وقلب بعلالات الآمال خفاق، وعلائل الرجاء نبّاض، فتذكر شبيبة لها ضاعت، وآلاماً تكبدت، ولوعة ذاقت، فتفيض عليه من دروس حياتها وعبر شبابها وتنصح له ألا يحب أبداً.

ذلك مثل المرأة التي أخرجنا، هؤلاء خليلاتنا وضجعائنا، ولكن على رسلك، بحسبك أنهن نساء، وفيهن للذة سوانح وللنعيم فيهن فرص.

فإن كان فيك صلابة وكنت حقاً رجلاً فاسمع نصيحتي إليك، ألق بنفسك في غمار العالم، واقذف بها دون خشية في لججه وعواصفه، واتخذ حبائب لك، خليلات وراقصات، وحضريات ومركيزات، وكن ثبتاً ومتحولاً، وفياً وغادراً، حزيناً ومفراحاً، مخدوعاً أو محترماً، واعلم أنه لا يهمك شيء ما أحببنك الساعة التي أنت فيها.

وإن كنت امرأ وسطاً عادياً فرأي لك أن تتمهل في ريبك زماماً حتى يستقر، ولا تعتد بشيء تظنه في عشيقتك.

وإن كنت رجلاً ضعيفاً تنزع إلى إسار المرأة وتنزل على سلطانها وتريد أن تنبت حيث ترى أية قطعة من الأرض. فاجعل لنفسك درعاً يقيك، وحرزاً يحميك، فإنك أن تُترك لطبيعتك الضعيفة الناحلة لن تنمو ولن تذكو ل تعود هشيماً كالإنبات الباطلة فلا زهر ولا ثمر، وتنتقل عصارة حياتك ونخوتها إلى شجرة غريبة، وتغدو أعمالك صفراء كأوراق السرو والصفصاف، لاريَّ لك إلا من دموعك ولا غذاء لك إلا من قلبك.

ولكنك إن كنت ذا طبيعة سامية تهيم في الخيال وتطير تريد تحقيق أحلامك فأقول لك بكل صراحة - الحب غير موجود _.

وهبني قلت لك أحب، أفليس الحب أن تهب الروح والجسم وإن شئت فقل تجعل من مخلوقين اثنين مخلوقاً واحداً، أليس الحب أن تمشي تحت ذُكاء، في الهواء المطلق الساجي، بين السنابل والمراعي، وألاعواد والمرج بجسم ذي أربع أذرع ورأسين وقلبين اثنين!

الحب هو الأيمان، هودين السعادة الأرضية، هو مثلث من النور استقر في سماء هذا المعبد الذي نسميه العالم!

وأن تحب هو أن تمشي كيف تشاء في ذلك المعبد، يخطر إلى جانبك مخلوق يعلم لمَ تستوقفك الخطرة، وتستملك الكلمة، وتستلفتك الزهرة، لترفع رأسك إلى ذلك المثلث السماوي.

إنفاذ المواهب السامية في وجودها حسنة كبرى. ولذلك كانت العبقرية نعمة محمودة، وأن تضم إلى موهبة وتجمع إلى قلب قلباً وإلى ذكاء ذكاء سعادة أسمى ونعيم أمتع، ولكن الله لم يكثر لنا منها، ولذلك كان الحب خيراً من العبقرية وأغلى قدراً وأعز شأناً.

ولكن رويدك، أهذا الحب لدى نسائنا؟ كلا. فليس الحب لديهن إلا أن يخرجن مختمرات، ويكتبن مبهمات مُلغزات، ويخطرن مائسات، ويمشين على أطراف أصابعهن متهاديات، ويُبكين ويُضحكن ويظهرن للرجال بأعين مراض، ولحاظ فاترات، ويرسلن عفيفة التنهدات من أزار مصَنَّع مُرجَّل.

الحب لديهن أن يذللن مزاحماً، أو يخدعن زوجاً، أو يهجرن حبيباً، أو يعرضن عن العشاق.

الحب لدى نسائنا هو التلهي بالكذب، تلهي الصبية بالاستخفاء في اللعب.

قلوب فاجرة، ونزعة إلى شهوة أين منها شهوة الرومان إلى أعياد برياب، واستخفاف بالشر كاستخفاف بالخير، ورواية هزلية ثقيلة الروح يتهامس الجميع فيها ويرمين بالنظرات، كل شيء فيها صغير بهيج، وكل شيء فيها شنيع، كمثل لعبات الخزف التي نجلبها من أرض الصين، سخرية بالجميل والدميم، وأزراء بالرائع والمروع والطيب والخبيث والطاهر والكدر، ظل ولا عرض، وهيكل لكل ما خلق الله. . .