مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/ليالي الشباب
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/ليالي الشباب
هي قصيدة نثرية بليغة للشاعر الكاتب عبد الحليم حلمي المصري ضمنها كثيراً من المعاني الشعرية الرائقة، والفكر الفلسفية الجليلة المؤنقة، من كل ما يخفق له قلب الإنسان، وتصبو إليه أحرار الأذهان، في صفاء من اللغة واطراد من التعبير وجزالة من الأسلوب=قال حفظه الله.
أيها الشباب
بل أيتها الزهرة الذابلة في حديقة الأيام. والدمعة المسفوحة على جوانب الغرام، بل على ذلك الطلل الخالي، والأثر البالي، هذا هو الجسم الشاحب. وذلك هو العمر الذاهب.
أية جنة كنت يرتع منها المشوق في غفلة العيش وبله الحياة، بل أية كأس كنت يشربها الجامد فيسيل، والمعتدل فيميل، بل أية نضرة كست بها الطبيعة هذا الجلال المرسل والجمال اليتيم، وتوجت بها القدرة هذا الملك الذي هبط من الجنة يرفرف على رؤس لابسيك،
بل أيها الجواد المطلق في الميدان، بغير عنان كم ندم صاحبك. وذل راكبك، ولكن ما أصوب خطأك، وما أبلغ عثرتك، آه أيها السلطان القادر، والحاكم الجائر، يا عبوس المراحم، يا لذيذ المظالم،
كم غررت بفتى واطلعت عليه شمس الزهو من سماءك فتربع على عرش من نفسه قوائمه طالت على الأوهام وأركانه بنيت على الآثام، وبات يرسل النظر إلى هذا الكون نظرة الأسد أمام أكمته إلى مداب النمال. ويرى تمثاله في مرآة الشباب كأنه الهيكل المنيف قائم بقدميه على كتفي العالم، إذا مر به النسيم ليلاً ظنه من نفحات رضاه وإنه بعض أنفاسه العاطرات وإذا نفث القيظ شراره ظنه فحيح غضبه وإنه بعض أنفاسه المستعرات، يا مطية الغرور، ومسرح الشرور: كم ترقرقت قطرات الحسن في وجنات الملاح تحت أوراقك الوارفة الظلال، واشتبهت في مرآتك البنان بالشفاه في الحمرة والجمال، وتلألأت عنك أقمار الوجوه تحت ظلام الغدائر، وجاز فيك ابتسام العيون، في بكاء المحاجر، وهزت يمينك في القدود قواضب السيوف، وألقى حكمك حبال العشاق على غوارب الحتوف،
وكم عرضت الأيام على فتى صورك المزينة بالألوان المختلفة من روائع التقاسيم فلم تبق له علالة في النفس إلا أن تنتهي هذه الأعاجيب حتى يستريح من متاعب اللذائذ، فاللذة ضرب من ضروب الشقاء يزينها الفراغ بالقبول إني لا أذكر يوم بدأت تفيضك على الأيام ولكن أذكر يوم بدأت تمسحك عن جبيني، ولو كنت أعلم أنك مقدود عن منكبي لوثبت وثبة من الطفولة إلى الكهولة حتى أتعدى عهدك المحال أو لرقدت رقدة الصامت حتى تمر بي كما يمر الخيال،
أين منك ليلة على ضفاف النيل في مقاصير، سماؤها صبير، وأرضها وتير، إذا جازها السحر وهصرت الشجر، واختلطت صفعة الظلام، بدمعة المدام، وذكرت بين الورد والآس، قال أبي نواس:
ودار ندامي عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
حسبت بها صحبي وجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس
تدار علينا الكأس في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تديرها بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما زرّت عليه جيوبهم ... وللماء ما دارت عليه القلانس
سما إلى رشاش ذلك النذر يلفتني إلى خضوعه المنحدر، وسكونه المستمر فذكرتني عزة الشباب، آية فرعون في الكتاب،
وازدحم جمال الطبيعة على عيني وضاق الفضاء بهذا الحسن المتناثر على أرجاء الكون، وتطايرت أصوات السكينة المعجمة، فتبينت فيها نغي القدرة الفصيحة إلا شيئين، لفظٌ لا معنى له، ومعنى لا وجود له، هذا هو الوفاء، وذلك هو الحب.
نعم لا معنى للوفاء، مر هذا اللفظ على آدم، وتخلل ثناياه وولج مسامعه، ثم دار دورته في بروج رأسه فما كاد يصل إلى أحد من ذريته ولولا أني أنا أنا لقلت إني غادر، نعم. لا معنى للوفاء. الإنسان غادر، والحيوان غادر، والنبات غادر، بل والماء والهواء، والأرض والسماء، بل كل ما دار بالرأس وما تخلل الأذن، وما عرض على العين، فما أنبغ الغدر في إخضاع كل موجود: ما عسى يفهم الإنسان من المعنى الذي يتردد بين هذين الحرفين (ح. ب) ويضطرب بين ساحليهما.
يقول أناسٌ لو وصفت لنا الهوى ... فوالله ما أدري الهوى كيف يوصف ضعف في النفس، وخفة في الرأس، ونقص في الإرادة، واختلال في التكوين ولكن:
الحب صعبٌ فلا تعبث بصاحبه ... فربما قتلتك الحاء والباء
الإنسان قادر أمام كل شيءٍ عاجز أمام هذا اللفظ - الحب.
ما خرج من كنه الغيب روح إلى العالم المنظور إلا ورمي سهماً طائشاً لم يصب به هذا الغرض وغادر له كتاباً لم تأهل ألفاظه بمعانيه في وصف هذا اللفظ المعجم - الحب.
أي داءٍ هو راسخ في دم البشر، متسلسل مع الخليقة، وأيسر متغلغل في ضمير الكائنات.
الله يحب، والإنسان يحب، والحيوان يحب، بل كل شيء يحب، حتى الطبيعة تحب،
يخلص العبد فيحبه الله، ويكمل الجمال فيحبه الإنسان، ويصفو العيش فيحبه الحيوان، وتلطف الطبيعة فتحب أن يراها الشاعر، وتطير فيها الخواطر.
كم استوى على العرش سلطان، وسبح بحمده الخافقان، وجرت الأرزاق على يديه، وخشعت القدرة عن جانبيه، ودارس على أكتاف المقادير. وحمته العظمة أن يعترف بالعبودية إلى هذا الإله القدير، خلف العرش والإيوان، ونسي عزة التاج والصولجان، ووقف وقفة المذنب في كنائس روما وسط حلقة القديسين إلى الإله الصامت - أو وقفة الرشيد من قوله إذا صح:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... ونزلن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا إن سلطان الهوى ... وبه اعتصمن أعز من سلطاني
أمام عظموت هذا الجلال، وجبروت ذلك الرب.
الحب المتصرف في قلوب العباد.
يا مسيل الجوامد، يا مذل الجبابرة، يا مثل العروش، يا مريق الدماء في شؤون العيون، يا واصل الليل بالنهار، يا مجري الماء على النار،
كم ضعيف لا تقوي وجنتاه على حمل وردتيهما المكللتين بدمع العاشق السليب، ولا راحتاه على حلم النفحات العاطرة من أخلاط الطيب، كسوته مهابة فخشعت له الرؤوس الباذخة، وملأته قدرة فأرغمت له الأنوف الشامخة، وأنزلته منزل الأسرار في الجانب اليسار فحكم. وظلم. وانتقم. واعتصم.
وكم صبغت هذا الوجه بعصارة الورس، وأبدلتني مقاعد الحصباء من الدمقس:
وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضاً أرمي وأنت سليم
وكم أنطقت وجداني الصامت وأسمعت صبري الأصم.
وجعلت قلبي لساني، وعيني بياني، ونشرتني صفحة تكتب فيها أفواه العذل وتتلوها عيون الوشاه.
فلو أن قولاً يكلم الجسم قد بدا ... بجسمي من قول الرجال كلوم.
وكم سخرت بهذه النفس الحكيمة، وقمت بين أخوتك من عوائد الأخلاق وحكام القلوب تريها إنك العادة الواحدة التي تأمر في كل نفس، وتتحكم في كل قلب، ويستوي عندها الأمير والحقير، والصغير والكبير، تعاليت في ملكوتك وتنزهت في قدرتك.
ألست أنت ذاك
وأنت الذي كلفتني دلج السري ... وجون القطا بالرقمتين جئوم
تلك عقبى ظلمك أيها الحب. ظلمت الناس فظلموك. وبدلتهم فبدلك. وصرت معنى شائعاً في المخلوقات كل ذي حاجة عاشق وكل ذي نزوة محب.
لا ألوم ظليلك فالبادي أظلم ولكن لا أعذر هذا الناس الجاهل الذي جعل مهبطك في غير القلب وأسكنك في غير مأواك.
إن العاطفة التي تخضع النفوس الكبيرة لأحكام الجمال الإنساني ليست إلا عاطفة شريرة تعتري الجسم ولا تتصل بالروح.
وإلا فأين تشبب الخصيان بالظباء. وتغزل النساء بالنساء.
وقليل ما يطهر الحب إذا لم يجز أحد الروحين الواقفين على حد واحد من العفة النادرة.
الحي هو الذل مع الكمال، لا حب بلا عفة، ولا عفة لحيوان:
الحب جزء من أجزاء الروح بل الروح جزء منه فإنه هو الإيمان الكامل الذي لم يهتد إليه مخلوق، ولم تتعده المهابة والخشوع.
وأني لهذا الحيوان الذي نما عوده من هذه النطفة القذرة أن يرتفع إلى منازل الملائكة المطهرين فيقال أنه - أحب - إن أسلافنا المجانين الأبرار من القائلين:
وإني لأستحييك حتى كأنما ... على بظهر الغيب منك رقيب وأهابك إجلالاً وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها
وبتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلفنا الشوق من فرع إلى قدم
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم
وبيننا عفة بايعتها بيدي ... على الوفاء بها والرعي للذمم
ليتألم رفاتهم المستحيل مع الذر إذا عصفت به هذه السطور ولكنني أقف أمام آثار أهله الأعفاء وقفة الناسك بالمعبد يخلع بردة الذنوب عند عتبته حتى يخرج فيلبسها وقد يكون هؤلاء هم النادرون فهم أقرب منا إلى آدم وآدم أقرب البشر إلى الروح:
الحب ليس مسكنه القلب كما يقولون فالقلب مادة لا يتسع حجمها لهذا الفضاء الذي تسبح فيه الخيالات والحقائق وإنما مسكنه الروح الطائر المحلق في كل سماء ولكن أخطأ الناس.
ما هذا الخفقان المدفق بالاضطراب في جانبي؟ إنه شعاع تسلط من الروح على الجسم فلم يحسه إلا هذا العضو اللطيف. . . القلب.
لا أثر لك عندي أيها الحب إلا وقوفي خلال التاريخ أندب شبابي الضائع وهل أنا لا أعود من ذلك النبات الذي تنميه الأيام ويحصده الحمام.
لقد شمت بك أيها الحب قبل أن تشمت بي. فقدمت أنت قبلي بل هويت من السماء ومن حلقة الملائكة فسقطت على تلك الصخرة المتحجرة من عواطف الخلق فانتثرت كقطع الزجاج الراسبة في قاع النهر. منها المضيية التي أعراها الماء. ومنها المظلمة التي لبسها الطين.
وقفة في كل بقعة من الأرض بين هذه القبور العطرات - لا قبور الأموات - ولكن القبور المخطوطة فيكل شبر من الفضاء، والماء، والهواء، تلك مدافن غرام، ومصارع أقوام. إذا مر بها العاشق المعمود نشق أخلاط الطبيب المنبعثة من معانيها الدفينة الشائعة في نفس الزمن ورأي هذه الآية مكتوبة بدم القتلى الأبرياء (بالموت يكمل الغرام) وتذكر قول أخيه المجنون:
منازل لو مرت عليها جنازتي ... لقال الصدى يا حاملي انزلا بيا أفاق إلي قول هذا السالي:
إن رباً بدأ الحب بكم ... قادر يختم بالسلوى الغرام
دفن الحب وأهلوه معاً ... فعلى الحب وأهليه السلام
أجل مات الحب وما بقي إلا العواطف اللئيمة ومآرب الحياة الغادرة المحلاة بالرياء.
والحب من عبث الشباب.