انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/روايات البيان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/روايات البيان

ملاحظات: بتاريخ: 6 - 2 - 1913



الرواية الأولى

النبأ العجيب

في اليوم الرابع من شهر مارس عام 1867 وكنت إذ ذاك في الخامسة والعشرين كتبت في مذكرتي هذه الكلمة - وهي نتيجة اضطراب نفساني وحرب ذهنية:

يسير النظام الشمسي وسط عدة من أشباهه وأمثاله في هدوء وسكينة في رحب الفضاء وليس في أجرامه العظام ما هو دائب الدوران في خفوت وصمت فمن بين أضأل هذه الجسوم وأحقرها ذلك المزيج المركب من يابس وماء المسمى الأرض تلك التي ما زالت تجري ولم أكن ولن تزال وقد فنيت - سر دائم لا نعلم من أين جاء ولا أيان يذهب يدب على جلدتها جم عديد من ذرّ دقيق أحدها أنا - جون ميفيتي العاجز الضعيف أركب منها ظهر جماحة هوجاء. هيامة في الفضاء. لا نؤم قصداً ولا تضرب إلى غاية. غير أن نظام الأحوال مع ذلك يقتضي أن كل ما أملك من عقل ضعيف. وعلم نزر لطيف. يصرف في استجلاب أقراص من المعدن أشتري بها من المواد ما أشيد به من أركان جسدي ما لا تزال تهدمه الدهور. وأدعم بها فوق رأسي سقفاً يقيني القر والحرور. لذلك أصبحت وليس لي من عقلي فضلة أنفقها على جلائل ما يحفني من المسائل والأمور.

تلك الكلمات كتبتها في مذكرتي فكانت أنمّ شيء على ما رسخ في نفسي من الأفكار التي أبت طارئات الوجدان وسانحات الخاطر أن تؤثر فيها تأثيراً ما وأخيراً قبض الله عمي ميفيلي صاحب ضيعة جلنسارن وكان قد وزع تراثه على أقارب كثر فأصبت ما فيه فضل عن الكفاف وزيادة على الحاجة. وأصبت كذلك أرضاً يباباً جرداء على ساحل البحر شماليّ اسكوتلاندة. أحسب أن الشيخ ما أورثنيها إلا عن احتقار لي وانتقاص مني وكيف ولم تك رملة ملساء. لا شجر ولا ماء. فلعلها كانت من الشيخ مزحة ولكنها مزحة لا تورث السرور وكان رحمه الله كريه المزاح ذميم الدعابة. وكنت حتى ذاك الوقت أكتسب بالمحاماة ببلدة بأوسط أقاليم إنكلترا فرأيت أني قد صرت بحيث يمكنني الانصراف عن كل مقصد حقير إلى التماس أسرار الكائنات من ثنايا العلوم العالية. وأسرع بي إلى ترك تلك البقعة أني كدت أقتل رجلاً في عراك قام بيني وبينه فإني امرؤ ناريّ المزاج جدير أن أنسى إذ ملكني الغضب ما أوتيت من فرط الأيد والبطش ولم ترفع فيّ إلى القانون شكوى بذلك ولكن الصحافة أغرت بي نباحها. وواصلت صياحها. وجعلت لا أمر بأحد إلا رمقني شزراً. فلعنت البلد وأهلها وشخصت إلى ضيعتي الشمالية أبغي بها دعة وسلاماً وفراغاً أملؤه بالدرس والتأمل. وقد حملت معي إلى ذلك المثوى الجديد نخبة من أحدث الآلات والكتب العلمية إلى ما أحتاجه غير ذلك من المواد الكيماوية.

وكانت تلك الأرض التي نزلت مستدقاً طويلاً من الرمل تمتد مع شاطئ خليج مانسي ميلين في مقاطعة كانثيس وكان بهذه الرملة بناء قديم أغبر فأصلحته وجعلت إحدى غرفه معملاً وأخرى مجلساً وثالثة مرقداً وكان به ثلاث غرف غير هذه تركتها خاوية إلا واحدة أعطيتها للعجوز التي تخدمني ولم يكن لي جيران سوى أسرتين من صادة السمك. وكان أمام الدار الخليج ووراءها تلان دونهما تلال أشمّ وأسمى. وبين التلين شعب إذا جاءت الريح من قبل التلال عصفت فيه فكان لها بين حضنيه زفيف ورنة ثم هبت على ما دون نافذتي من الدوح فتناجت الأغصان وسواساً وهمساً.

وليعلم القارئ بعد أني رجل أسيء بالناس ظناً. وأضمر لهم ضغناً. مطوي الجوانح لهم على بغضاء. مثني الأضالع على شحناء. والحق أقول أن عندهم لي مثل ما عندي لهم يجزونني بالحقد حقداً. وبالصد صداً. فأنا أمقت منهم التدني والتحاقر. والتسفل والتصاغر. والاصطلاحات الكاذبة والاعتبارات الباطلة ويسوءهم مني صراحتي المتناهية وانتهاكي حرمة قوانينهم الاجتماعية وجزعي من كل ما فيه تضييق على النفس وحبس لعنان الشهوة واستباحتي كل حريم في اعتبارهم واستحلالي كل محظور وانتزاعي كل طوق وصدعي كل قيد وخروجي من كل أمر ونهي. وكذلك أصبحت في معتكفي هذا بين أسفاري وأخلاطي مليئاً أن أدع تيار الحياة الزاخر يمر بي جياشاً بما بحت لجه من سياسة واختراع وقيل وقال راكداً دونه بمثواي ذاك آجناً آسناً. ولكني سعيد بين ذلك رخيّ البالي. بل مالي أقول أني كنت آجناص آسناً وما آليت تحثاً وفحصاً وتحصيلاً وطلباً أديم الجد وأدمن الكد.

وكنت أنضو سحابة اليوم في تجاريبي العلمية ويا طالما كنت أٍسهو عن الغداء فإذا دعتني العجوز مادج للشاي ألفيت الطعام على المائدة برمته. وكنت أقرأ بالليل فلسفة باكون ودسكاتيز وشينوزا وكانت وسائر من تطلع في عوالم المجهول. ولقد وجدت أقوالهم جميعاً مجدبة عقيمة لا ثمرة لها ولا جني. ولا طائل تحتها ولا جدى. وجل بضاعتهم ألفاظ ضخمة وكلم طويلة يذكرك أحدهم طالب الهب يجس في سبيله كبد الأرض ويفضي إلى أعماق ضميرها ابتغاء الجوهر النفيس فلا يخرج إلا دوداً يغرّ به فيقول للناس هاكم ذهباً!

وكنت أثناء ذلك يعروني الضيق فأضرب في الفضاء أربعين ميلاً لا أنال أثناءها راحة ولا طعاماً. فإذا كنت فيبعض هذه الروحات أعسف السبل أشعث أغبر هزيلاً غير محلوق اللحية مشوّش الذوائب جرت الأمهات إلى سراة الطريق فاختطفن الصبية خشية مني عليهم وخرج الفلاحون طوائف يرمقونني عجباً وكنت معروفاً في طول تلك البقاع وعرضها بالسيد المجنون صاحب مانسي غير أني قلما كنت أجول تلك الجولات في نواحي الأرياف إنما كانت رياضتي على ساحلي أنعش النفس بالتبغ الأسود وأرشح بيني وبين المحيط أسباب الصلة والألفة.

وأي خلّ آنس من البحر الأفيح الخفّاق؟ أي حالة من أحوال النفس لا يوجد لها في طبيعة البحر شكل وشبيه؟ فما من أحد قد رنّح المراح عطفيه. وأوقد السرور عينيه. إلا سامع في زجل موجه المصطفق. وناظر في لمع آذيّه المؤتلق. ما يزيد سروره. ويرفد حبوره. حتى إذا أربد لجه. وأغبر ثبجه واكفهرت حواشيه واقشعرت نواحيه. وانتطحت أوعاله احتراباً. وتزآءرت آساده غضاباً. فناحت فوقها رياح عواصف. وزمجرت لها رعود قواصف. حينئذ يرى المحنق المغتاظ نهب أحزانه وأشجانه. وفريسة أحقاده وأضغانه. الذي أكلت قلبه الإحن. وصهرت كبده المحن. أن بفؤاد الطبيعى لحزناً كالذي بفؤاده. وأن بذهن الطبيعة من سود الخواطر ما يجعل لها مثل ظلمة ذهنه وسواده. وإذا كان في الصحو رأيت الخليج كمرآة القين مصقول الجوانب أو كصرح ممرد من قوارير أو كأنه صحيفة من اللجين إلا هناة على متنه سوداء كأنها خط لام أو امتداد طول مارد جعل صدر المحيط فراشه وكان هذا أعلى الصخور المخوفة المعروفة لدى السماكين بصخور مانسي فإذا هبت الريح شرقية حطمت على تلك الجلامد رؤس الأمواج محدثة أشد من ضجيج الرواعد وأدوى. وتطاير الدفّاع حق لطم جبين داري ونال نواصي التلال المجاورة. وكان الخليج رائع المنظر متين الساحل لكنه عرضة لهبات الشمال والصبا مرهوب لصخور مانسي فكان يتحاماه الكثير من السماكين مهابة واستيحاشاً وكان يرفرف على أرجائه روح شعري ومعنى غرابة. تجلوهما الوحشة والوحدة وكم يوم من الصحو صافي الأديم طويت غلالته راقداً في زورقي انظر السمك الكبار في ضمير الماء كأنها خيالات الشياطين ولقد سمعت في بعض وقفاتي بالشاطئ وقد سجا الليل صيحة من جوف المحيط فكأنها لحزنها وشجاها جاءت من فؤاد ثاكل ولهى. .

في هذه البقعة العجيبة خلفي التلال الأبدية وأمامي الأمواه الأبدية أمضيت عامين بحثاً ودرساً بمعزل عن الناس لا يكدر صفو عيشتي رجل ولا مرأة وكان عندي عجوز خادمة فما زلت آخذها بالسكوت وأروضها على الصمت حتى لكان يمر بها الشهر فالشهر فلا تكاد تحرك بحرف لسانها. وكذلك قضيت أيامي بذاك الديدن حتى كدت أنسى أنني من فصيلة الإنسان وحتى أصبحت إنما أعيش مع من أقرأ كلامهم من الموتى. فإنني لكذلك إذ حدث ما صرف عنان حياتي عن هذه السبيل القفرة والخطة الصامتة.

جاء في شهر يونيه ثلاثة أيام ريّحة أعقبها يوم ناعم الأنفاس رقيق الحواشي كان ماؤه أخرس الريح وأجم الهواء. ثم غربت الشمس وراء صف من سحاب صهب وتوشح صدر المحيط قطعاً من الشفق حمراء. وكان ما تركه المد على أديم الساحل من ثغب وغدران يحمر كأنه مجاجات الدم المهراق فكأن مارداً جريحاً قد خاض مكدوداً هذه الأماكن فوسمها بآيات جراحه النجل وطعناته الجوفاء ولما اعتكر الليل وتكاثف الغيهب حشدت بالأفق الشرقي سحاب كانت قبل مفترقة فصارت عارضاً ركاماً يؤذن بالشر والبلاء وفي الساعة التاسعة صعد من البحر أنين ضعيف كأن موجعاً دنفاً أحس معاودة الألم فجزع وارتاع. وفي الساعة الحادية عشرة أعصاراً. فلما نصف الليل كان تحت أرواق الظلام زوبعة كأفظع مامزق أديم الجو وزلزل جوانب الفضاء ثم ذهبت إلى المرقد والبحر يحصب زجاج نوافذي بإجذام عشب الماء والحصا. والريح تعول. في كله هبة روح حائر. ولكني ما درجت في أثناء الفراش حتى عاد ضجيج العناصر في أذني غناء منيما ولا جرم فلقد كنت من شاهقة جدراني في أحرز حرز وأحصن حصن ومعقل يهزأ بصولة الماء وسطوة النكباء على حد سواء. فأما ما ينوب الخلق خارج داري فذاك ما لا أحفل ولا أبالي. ولا يقع في نفسي ولا يخطر ببالي. وكذلك كانت جفوة العجوز مادج وقسوتها. فلما كانت الساعة الثالثة صباحاً ما راعني إلا قرع على بابي شديد متوال نفر عني أسراب الكرى وصيحات ملء فم العجوز فوثبت من مضجعي وسألتها بغلظة ما الخبر؟

فصاحت: مولاي مولاي! انزل مسرعاً يا رجل أسرع نازلاً! فلقد والله صدمت الصخور مركباً وإن أهله ليندبون ويستغيثون وأخشى أن يغرقوا فاعجل إليهم سيدي بمدد من عندك وادركهم بغياث من لدنك!.

اخرسي أيتها الورهاء! لا حياك الله ولا حرسك! ماذا يعنيك لو ينجو القوم أو يهلكون. انقلبي إلى فراشك ودعيني وشأني ثم تغطيت أمتري النوم ثانياً. وأنا أقول لنفسي لقد تجرع هؤلاء الثوم نصف غصص الموت وكابدوا نصف أهواله فإذا هم أنقذوا فإنما هي سنين قلائق ثم يجرعهم الدهر تلك الغصص ويريهم القضاء هذه الأهوال ثانياً. فأما وقد عانوا ارتقاب الموت الذي هو أشد ما في الأمر وأصعبه - وتوقع المكروه آلم من وقوعه - فأولى لهم والله أن يقطعوا بقية هذا المجاز ثم يستريحوا. قلت هذا وشرعت أمتري النوم. ولكني وجدت بسماء نفسي من عاصفات الهواجس أشد مما بسماء الله ذات البروج فجعلت أتقلب وأتململ وقد أنبت الأرق ضوك القتاد تحت جبيني وأوقد السهد جمر الغضا. فنبا الوساد وأقضّ المضجع ثم سمعت ضجيجاً غامضاً بين صياح الزوبعة فعلمت أنه صوت بندقية المستغيث فثرت بدافع من النفس لا مرد لسلطانه فلبست ثيابي وأشعلت متبغي ثم خرجت إلى الشاطئ.

وكان الظلام حالكاً وقد عنفت الريح حتى لأصدمها بكتفي وأزحمها بمنكبي وهي تجمش وجهي بحاصبها وقد علق من متبغي بأذيالها الشرر والرماد لمّا يخبو وأوشك. ثم انحدرت إلى حيث الموج العظيم ينهمر هدراً مزمجراً وأظللت ناظري بيدي أتقي طامح الدفاع الملح فنظرت من تحتها إلى اليمّ فلم أكد أستبين شيئاً غير أنه خيل إليَّ أن أصواتاً مهمة وصيحات غير مبينة تأتي من اليم على جناح الريح. ثم شب نور أزرق أضاء الخليج والساحل. وكانوا يوقدون بالمركب ضوءاً آية على الخطر فنظرت فإذا السفينة مقلوبة بين الصخور على جنبها حتى لأبصرت كل ما بها من الألواح. وكانت كبيرة ذات شراعين أجنبية تنزل من الشاطئ على مائتي ذراع أو نحوها. ووراء السفينة كانت الأمواج تواتر من كبد الظلماء جياشة دافقة لا تستريح ولا تنتهي على أعرافها خصل بيض من الزبد وكلما دنت من الأضواء الزرق موجة خلتها تزداد قوة وحجماً وبطشاً وجمحاً ودفعة وانصلاتاً وطمحاً. ولها أثناء ذلك صرير وزئير. وشقشقة وهدير. ثم تثب على فريستها. ورأيت عشرة أو اثني عشر ملاحاً قد ملكهم الروع فلاذوا بالشراع حتى إذا النور من مركبهم إذا عني لووا إليّ السوالف استشرافاً. ومدوا الأبصار استعطافاً. وأتلعوا الأجيادا تشوّفاً. ثم أعقب ذلك في نفسي شعور آخر وهو مقتي منهم ذلك الجبن وإنكاري ذلك الجزع والهلاع - كيف يحجمون عن تلك العقبة التي ما برح يجتازها من خلق الله كل ذي بهاء وجمال. وشرف وجلال. وكان بينهم رجل أعجبت بجلده وثباته. وهو طوال سبط القوام قد قام بمعزل عن القوم يقيم أود قامته ويعدل ميزان جسمه على ذاك المركب المترجح المتمايل كأنما يترفع عن التشبث بالحبال أنفة وكبرياء وكانت يداه معقودتين وراء ظهره ورأسه على صدره منكساً بيد أنه كان يلمح في وقفته هذه الدالة على الأسى معنى من الشمم والعزة والعزم والقوة يدل على أنه ليس ممن يخلد إلى اليأس ويذل للخطوب. أجل لقد علمت من سرعة كرّه الطرف أحياناً وبثه اللحظات حوليه أنه يتلمس مسارب النجاة في مجاهل هذا الخطر المحدق. ومنافذ الحياة في حجب ذلك الحمام المغلق. وبوارق الرجاء في دجنات ذلك اليأس المطبق. وإنه وإن أكثر رجع البصر إلى حيث يرى من دون مزبدات اليّم شخصي على الساحل قائماً فلقد كان والله في إبائه ما منعه أن يستغيثني بأية صورة. ولكنما بقي ثابتاً مكانه صامتاً مظلماً مستبهماً مطرقاً إلى اليمّ صابراً متجملاً يرقب من المقدور كلما جاء به.

وهنا آذن المشكل أن يحل نفسه. فبينا أنا كذلك إذا موجة عظمى تشرف على سائر الموج وتحدو به حداء السائق بالقطيع فغمرت المركب فانحطم شراعه الأمامي وطاح من كان متمسكاً به كما طاح الجراد زهته ريح طاغية. ثم أخذ المركب ينصدع شطرين حيث متون الصخور تحز في مؤخره. فهرع الرجل الطوال المنفرد فاجتاز عرض المركب إلى شيء أبيض فأمسكه وكنت قد رأيت ذلك الشيء من قبل ولم أستبن ما هو؟ فلما رفعه أصابه الضوء فإذا امرأة قد وشحت جلدة مما يتقى به الغرق فحملها إلى جانب السفينة وخلته يحدثها دقيقة أو نحوها كأنما يبين لها استحالة بقائها بالمركب. فكان جوابها من أعجب ما رأيت. وذلك أنها رفعت كفها متعمدة فلطمته على وجهه. فأسكتته اللطمة ولكنه عاود القول ورأيت من حركات يديه أنه يريها ماذا يجب عليها أن تفعل إذا احتواها الماء فانزوت عنه ولكنه أمسكها بين ذراعيه ورأيته يحنو عليها كأنه يقبل جبينها فإنهما لعلى هذا إذا بموجة عظيمة تقبل حتى صافحت عطف المركب فتقدم الرجل فوضع المرأة على غارب الموجة مترفقاً كما تستودع الأم الرؤم المهد طفلها. ورأيت حلتها البيضاء ترفل على بيضاء الزبد ثم أقبل الضوء يتطامن إلى أن غابت الشفينة وراكبها الفرد في ملحود من اليتم.

فلما رأيت هذه الأحوال تغلبت على فلسفتي عواطفي ودفعني إلى العمل دافع لا يرد فنضوت عني جمودي نضو الثوب يخلعه صاحبه حين يشاء ثم يلبسه بعد ذلك متى شاء وأسرعت إلى قاربي وكان ضعيفاً كليلاً واهياً ولكن هل مانعي من الفعل الجميل والعمل الجليل ذلك؟ وهل كنت وأنا الذي طالما حن إلى الموت واشتاق القبر لأخاف الهول أو أخشى الخطر؟ فعمدت إلى قاربي فجررته إلى الماء بقوة ذي جنة ووثبت فيه وفي الدقيقة الأولى خامرني الشك أفي طاقة القارب البقاء على ذلك اللج الثائر يغلي فوقه الزبد أم ليس في طاقته؟ ولكنها لم تك إلا بضع تجذيفات حتى خرجت من تلك الغمرة قد نصف الماء قاربي وأنه برغم ذلك لطاف تخفضه لجة وترفعه لجة يعلو من هذه رأس هضبة شماء، وينزل من تلك قعر حفرة وهداء وتارة.

إذا ما انكفى في هبوة الماء خلته ... تلفع في أثناء برد محبر

وكنت أسمع من ورائي مسافة ولولة عجوزي مادج التي عدتني مع الموتى وما زلت أزجي الزورق في مهمه من الماء خوّار الجانبين منهال الجالين إلى أن حبتني إحدى الأمواج المرأة البيضاء فأشرفت فاحتملتها إلى قاربي وإنها لتكف بالماء وما كان بي إلى تزجية الزورق نحو الساحل حاجة إذ أقبلت إذ ذاك موجة فأهدته إلى البر في طفرة فوضعت القارب بمأمن ثم حملت المرأة إلى داري خلفي العجوز تزف أحسن التهنئة وأجزل الثناء.

وكنت إذا أحمل المرأة أسمع لفؤادها نبضاً فاتراً فعلمت أنها حية ثم ذكرت أنها ستكون في عيني منظراً غير محبوب (وكنت أبغض الناس طراً ولا أطيق رؤيتهم) وكانت العجوز قد أوقدت ناراً فطرحت المرأة قربها وكأني لقلة الرحمة أطرح حملاً من الحطب ولم ألتفت قط نحوها لأرى جميلة هي أم قبيحة وكيف أنا من قبض طرفه دون النساء منذ أعوام غير أني بعد ما ذهبت إلى المرقد واحتواني الفراش سمعت العجوز تتمثل وهي تدلك أوصالها قائلة:

إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان فعلمت أن المرأة فتية السنّ حسناء.

وأسفر الصبح غب هذه الزوبعة مؤتلق الغرة وضاح الجبين فخرجت أسير والشاطئ وكان قلب البحر يخفق وموجه يصارع الجلاميد ويجالدها ونظرت أطلب للقارب أثراً فلم أجد ولكنني رأيت طائرين من بنات الماء ترفرفان على مهلك السفينة كأنما تبصران تحت جلدة الماء ما غاب عن سائر الأبصار وطوراً تتصايحان كأنما تتحادثان عما تريان.

ولما عدت من جولتي رأيت المرأة بالباب فما وقعت عيني عليها حتى وددت أني لم أنجها إذ بوجودها في منزلي انقضى عهد عزلتي وانقرض ملك خلوتي وكانت حديثة غضة السن - لا تجاوز التاسعة عشرة شديدة بياض الوجه صهباء الضفائر زرقاء العينين ملتهبة الألحاظ دريّة الثغر وضاحة الثنايا. وكانت لفرط رقتها وبياضها وضيائها يخيل إليك أنه شبح لا جسد وأنها طيف الخيال لذاك الزبد الأبيض الذي منه أخذتها فلما دنوت منها أومأت إليّ بيديها إيماءة الطفل الصغير كأنها تشكر إليّ نعمتي عليها. وكانت قد لبست حللاً من ثياب العجوز لكن على صورة عجيبة مستغربة تسر الناظرين. ثم دنت مني فمدت يديها كما يفعل الطفل تقصد بذلك الشكر لي ولكنني أومأت لها أن تبعد عني فبعدت ومضيت قدماً. عند ذلك صاحت كالمتوجعة واغرورقت عيناها ولكنها تلت أثري حتى دخلت معي غرفة الجلوس وأخذت ترقبني متأملة.

وسألتها فجأة من أي البلاد المرأة؟

فتبسمت صامتة وهزّت رأسها.

قلت: إفرنسية أم نمساوية أو أندلسية أم ماذا؟ فلم ترد على أن هزت رأسها ثم رطنت طويلاً بلسان لم أفقه منه حرفاً واحداً.

ولما فرغت من الإفطار وفقني الله إلى معرفة جنسها وذلك أني بينما أعيد الكرة على الساحل نظرت بالصخور التي انحطمت عليها السفينة خشبة قد نشبت في بعض ثلمها فامتطيت الزورق نحوها ثم عدت بها إلى الشاطئ فإذا مكتوب عليها بحروف بديعة غريبة أرشانجيل فقلت في نفسي وأنا عائد إلى الدار وهكذا هذه الغادة البيضاء روسية خليقة أن تكن من رعايا القيصر الأبيض وسكان البحر الأبيض! ثم عجبت أن من كان مثلها رقة ونعمة يذرع أجواز المحيط ويطوي مراحل الماء في ذلك الوعاء الواهي الضئيل ولما دخلت الدار نطقت أمامها بكلمة أرشانجيل على عدة صور من اللفظ فلم تفقه له معنى.

وبقيت في خلوتي بين البحث والدرس حتى الظهيرة فلما قمت للغذاء ألفيتها عند المائدة تخيط خروقاً في ثيابها وكانت جفت فساءني حضورها ولكني ما كنت لأردها إلى الساحل القفر الموحش تموت فريسة الجوع والبرد ثم أنها نظرت إليّ فأومأت أولاً نحو مهلك السفينة من اليم ثم إلى شخصها ثم رفعت إصبعاً واحدة فعلمت أنها تسألني ألم ينج من الغرق غيرها فأومأت لها برأسي نعم عند ذلك وثبت من الكرسي وأرسلت صيحة جذل ثم رفعت ما كانت تخيط فوق رأسها وانبرت وهي ترجح الثوب من جهة إلى أخرى ترقص كأنما هي ريشة في مهب الريح تجوب أنحاء الغرفة ثم خرجت إلى الضح تراقص الشعاع بأقلق من الشعاع وأمرح وجعلت وهي ترقص تشدو بلحن فيه حزن ورقة ينم على فرط السرور والطرب فناديتها ويلك أيتها الشيطانية ادخلي وكفى! ولكنها أبت إلا تماديا ثم أنها هرعت إلي بغتة واختطفت يدي وإني لعلى غرة فأوسعتها لئماً ولما كنا على الخوان بصرت بقلم فتناولته وكتبت على ورقة سوفي راموسني ثم أومأت إلى شخصها كما لو كانت تقول هذا اسمي وردت إلى القلم وهي تحسب أني سأصنع صنيعها ولكني أغمدته في جيبي آية على أني لا أريد أن تمتد بيني وبينها صلة من حديث أو غيره.

وجعلت بعد ذلك لا آلو أسفاً على ما أتيت من الخطأ المبين بإنقاذي تلك المرأة ومالي ومالها وأين تقع مني أو أقع منها وماذا عليَّ أن تموت أو تبقى؟ وما أنا والله بالفتى الغزل ذي الصبوة فآتي مثل هاتيك الفعال أو لم يكفني وجود العجوز في بيتي حتى أشفعها بهذه المرأة بيد أن العجوز هرمة شمطاء. سمجة شوهاء. لا أربة فيها لشهوان. ولا معشق لولهان. وهذه حديثة ناعمة صاغها الله من طينة الحسن ومائه. وصقلها بسنا الجمال ولألائه. وجعلها ملهى عن الجد ومشغلة عن العمل فأين أرسلها وماذا أصنع بها؟ وأما لو استعنت رجال الشرطة لأقبلوا عليَّ بجمعهم ينظرون في أوراقي ويفحصون أشيائي ويملأون فراغ الدار لغطاً وهذراً وما أبشع والله ذاك وما أشده. ولأهون عليَّ منه احتمال المرأة.

وليت هذا كان آخر البلية فلم يردفها النحس بأخرى. ويا الله ما أغرى هذا الخلق بهارب منهم وما الهجهم بعارف عنهم وما أملأ كل بقعة بهذا الناس الذي منه أفرّ وعنه أذهب فلما أرنقت شمس الأصيل ونفضت على أكناف الرمل ورسا علا صفرته بصفرة وأشعلت جنبات البحر ناراً خرجت أسعى على الساحل في يدي كتابي حتى أتيت دعصاً من الرمل فافترشته وأخذت أقرأ فإني لكذلك إذ لاح ظل حال بيني وبين الشفق فالتفت فإذا رجل طوال شديد الأسر مدمج المفاصل قد وقف لا يشعر بي وإنما يتوجه بجمعه إلى الخليج يرعى الصخور الناتئة بصدر الماء كاسف البال واجما وكان أسمر اللون أسود الشعر قصير القامة كث اللحية أشمّ المعطس مرعث الأذنين على محياه سيما البداوة الهمجية وملامح الشرف والنبل. وكان عليه قطيفة زرقاء وقميص أحمر ونعلان تضربان إلى شطري فخذيه فعرفت في الحال أنه الرجل الذي رأيته أمس على ظهر القارب الغريق.

فصحت بصوت ملؤه الكمد يا هذا أو قد نجاك الله ووطئت الشاطيء مسلماً؟.

فقال بالانكليزية نعم غير أني ما حاولت أن أنجو ولا كان ذاك من صنعي. ولكنها الأمواج رمت بي الساحل. فيا ليتها ما صنعت ويا ليتني. ولوددت والذي خلقك لو أن المحيط غيبني في جوفه وكتمني في ضميره! وكان يرتضخ لكنة أجنبية فيها لذة للأذن وحلاوة في النفس وقال لقد انتاشني رجلان من صادة الأسماك ينزلان تلك الناحية فعنيا بي بيد أني لا أكاد أشكرهما على ذلك. .

قلت يا سبحان الله! هذا رجل من فصيلتك وقبيلتك. ولماذا آثرت الغرق على النجاة يا هذا؟.

فقال ومد ذراعيه بهيئة الواجد الملتاع اليائس لأني فقدت هنالك كنزي الثمين وعلقي النفيس. هنالك حيث اليمّ ضاحك الثغر وضّاء الجبين تثوى منية النفس وقوت الفؤاد منه في حشا خائن غدّار. لا رعى عنده لحرمة ولا جوار. ولا ذمة ولا ذمار. قلت له ما برح الناس يفقدون الأهل والخلان فلا يصنعون صنعك وما في ذاك من ثمرة. فهوّن عليك ولا تذهبن نفسك شعاعاً. ولتعلم بعد أن ما تطأه الآن من أرضى وأسرع ما تكون مضياً من هنا أدناك إلى السلامة وأولى لك. ففي واحدة منكما كفاية.

فصاح واحدة منا؟.

قلت أجل إن استطعت أن تريحني منها فافعل أعدها منك منة غراء.

فنظر إلى هنيهة كأنه لا يفهم مرادي ثم صاح صيحة شديدة وانطلق يعدو والريح في أعقابه حسرى كليلة يؤم منزلي فلا والله ما رأت عيني منذ خلقني الله رجلاً يغدو عدوه واندفعت في أثره مغضباً لهجومه علي مثواي واستباحته حمى حراماً ما وطئته قط قدم غريبة فلم أشق له غباراً. ورأيته بعيني يلج الباب وكان مفتوحا ثم سمعت صرخة ولما دنوت صافح أذني صوت رجل حثيث اللسان مخفوض القول ثم دخلت الدار فإذا الغادة سوفي راموسيني جاثية في زاوية من المكان منقبضة من الرعب قد التقى على صحيفة وجهها صورة البغض بسيما الغضب وإذا الرجل وعيناه مشبوبتان تضطرمان. وذراعاه ممدودتان ترعشان. يهضب لسانه بألفاظ الاستعطاف هضبا. وتسكب شفتاه كلم الاستغفار سكباً. فلما رآني دخلت دنا منها خطوة فتقهقرت خطوات وصاحت صيحة الشاة ساورها الذئب.

فجذبته إليّ عنها قائلاً مهلا! ماذا تفعل وماذا تريد؟ أحسبت هذا قارعة الطريق أم نزلا أم حانة؟.

عفواً سيدي وغفرانا. هذه المرأة زوجي وكنت أخالها غرقت. مولاي أثابك الله فقد رددت علي نفسي.

فقلت في غلطة ومن أنت؟.

قال رجل من أرشانجيل. رجل روسي.

قلت له ما اسمك؟

قال أورجانيف.

قلت أورجانيف. وهذه سوفي راموسيني. ما هي زوجتك. أما معها خاتم منك؟.

قال ونظر إلى السماء نحن زوج وزوجة بشهادة الله ذي العزة والجلال ما زوجنا قيس ولا شهد عقدنا مطران. بل زوجتنا العناية الأزلية بمشهد من الملائكة الأبرار.

وبينما هو يتكلم طفرت الفتاة حتى صارت خلفي وشدت يديها على يدي تضغطها كالمستغيثة.

وقال الرجل ماضيا في قوله أعطني زوجتي يا مولاي كي أحملها إلى موطني قلت له بشدة التفت يا هذا! أنا لا يهنأني بقاء هذه الفتاة عندي وإني والله فيها لزاهد ولو وددت أني ما نظرتها قط ولو أنها هلكت ليلة العاصفة ما ساءني. فأما إعطاؤك إياها مع ما أرى من بغضها إياك وخوفها منك فهذا ما لست فاعلا أبد الدهر فامنحنا هداك الله كتفيك ودعني وشأني. ولعلك لا تريني وجهك هذا قط فقال بصوت أبحّ أولست معطيني الغادة؟.

لا أفعل ذلك حتى أراك ميتاً.

قال وأربد وجهه هبني أخذتها برغمك.

عند ذلك احتدم الدم في عروقي وفار تنّور غيظي فاختطفت عصا من جانب المصلى ثم قلت بصوت شديد منخفض امض من هنا مسرعا وإلا صببتها على أم رأسك.

فنظر إليّ خائر العزيمة هنيهة ثم ترك الدار وعاد بعد لحظة فوقف بالباب يرمقنا ثم قال انظر ماذا تصنع وأعلم أن الغادة غادتي ولا بد لي منها. ولعله إذا بلغ الأمر المقارعة كان الروسي كفء الانكليزي.

فصمت قائلا سنرى! ثم وثبت ولكنه مضى ونظرت شخصه الطويل ينغل في حشا الظلماء.

وسلس عنان الدهر لي ولان جانبه مدة شهر أو زهاءه إذ اطرّد بنا نهر الحياة وانسجم مجراه فلا عثرة ولا عقبة ولا كدر ولا قذى وكانت الغادة ربما ولجت عليّ باب معملي أثناء شغلي فجلست عنده ترنو إليَّ بنجلاويها فأضجرني في أول الأمر ذلك حتى إذا لم أرَ منها أدنى ما يشوش عليّ أو يلهبني اتسع لها فناء صدري. وانفسح لها نطاق صبري. وشجعها ذلك فانبسطت واستأنست وجعلت تدنو على توالي الأيام مني رويداً رويداً حتى آل بها الأمر إلى الجلوس بجانبي ما زاولت العمل ثم جعلت في مقامها الجديد هذا تؤدي إليّ وهي كأصمت ما تكون جملة منافع كأما كها أقلامي وقواريري وأنابيبي ومناولتي كل ما أبتغيه في أتم نشاط وخفة. وكذلك بفضل إنكاري آدميتها وعديها آلة من الآلات الصامتة آل بي الأمر إلى أن صرت أفقدها إذا هي غابت واجدا لها نوعاً من الوحشة. وليعلم القاريء أن من عادتي إذا كنت في عملي أن أكلم نفسي جهاراً أستعين بها على تثبيت نتائجي في ذهني فلعل الفتاة كانت قوية الحافظة قفلة لأنها كانت تعيد ما تسمع مني من الألفاظ دون أن تعرف ولا مشاحة شيئاً من معانيها وطالما ألهاني منها أمطارها العجوز صوبا من المعادلات الكيماوية والرموز الجبرية وضحكها من العجوز إذ تهز رأسها وكأنما ترى لفظ الفتاة شتما موجهاً لها بالروسية.

وكانت إذا خرجت من باب البيت لم تتجاوز أذرعاً قلائل ولا تعدو عتبة الدار إلا وقد أشرفت من كل نافذة لتتثبت من خلو الجوار فدلني فعلها ذاك على أنها تتوجس أن يكون الرجل الطويل لا يزال كامناً لها في بعض تلك الجهات وتخشى أن يختلس غرتها فيحتملها ويذهب. ومن عجيب ما صنعت أنها كانت عثرت على مسدس لي كنت قد فقدته فأقبلت عليه تمسحه وتجلوه وتزينه وعلقته قرب الباب إلى جانبه جعبة ملئت بندقا. فكلما رأتني خاجا ألحت عليَّ أن آخذه. وكانت لا تزال تغلق الباب أثناء غيابي وكانت لولا خوفها باهنأ عيش وأغبط حال قد قسمت مجهودها بيني وبين العجوز أن لم تعني ساعدتها وكانت تنجّز أعمال البيت بفطنة أسرع من اللمح وراحة أخف من الريح.

ولم يمض إلا قليل حتى وجدت لها في تخوفها عذرا. وأن هذا الرجل الغريب ما زال يكمن في جوار الدار. وذلك أني أرقت ذات ليلة فقمت إلى النافذة أشرف منها على أفنية البيت وكان الجو مضباً فلم أكد أبصر سوى حافة البحر ومؤخر قاربي على شاطئه. حتى إذا اعتاد طرفي الظلمة آنست بالرمل شبحاً آخر حيال بابي ولم أك رأيته بالأمس وبينما أطل من النافذة أنعم النظر لأستبين ماذا كان ذلك الشبح انحسرت عن صفحة القمر سحابة عظيمة وتساقط النور أبيض صافياً غضّاً رطيباً على أديم الماء الساكن الأرجاء الصامت النواحي وعلى سواحل القفرة الموحشة. وحينئذ علمت من ذاك الكامن عند بابي وهل كان إلا الروسي؟ لقد كان قاعداً كأنه ضفدع جسيم. قد عقد رجليه تحته جلسة المغولي وعقد طرفه بالنافذة التي قام دونها الفتاة والعجوز وكان نور القمر يهبط على وجهه فرأيت مرة أخرى شرف تلك الصورة ونبل هذه الخلقة ورأيت ناظري الصقر يلتهبان فوق عرنين أشمّ ورأيت غضن الهم محفوراً في أديم ذاك الجبين الأغرّ فقلت في نفسي يا لك من أحمق عاجز الرأي! أفبعد أن رأيتك تلاقي الموت وجهاً لوجه أسكن ما تكون أوصالاً. وأهدأ ما تكون بالاً. أراك قد سبت حجاك. وسلبت نهاك. فتاة شختة عجفاء. نحيلة صفراء. تفرّ منك فرار الصحيحة من الجرباء. ضلة لك ما أحيدك عن السداد. وأبعدك من الرشاد. لقد كان لك لو شئت مندوحة عن هذه المهزولة في ذوات البيوتات والأحساب ممن هن أعرق نسباً. وأبرع أدباً. وأرشق قدّاً. وأقرب ودّاً. وأبهى جمالاً. وأسبى دلالاً. ولكنك تأبى إلا هياماً بتلك الصبية ولجاجاً. وتمادياً في حبها وإلهاجاً. وهي لا تجزيك إلا الصد. ولا تهديك غير سوء الرد. كلما دنوت منها إصبعاً ندّت عنك ميلا. أو وصلتها لحظة هجرتك دهراً طويلاً. ثم عدت إلى مضجعي وأنا أضحك سخراً من أمر هذا السفيه. ولم أخشه وكيف وقد كنت من جدران بيتي وأبوابه بأمنع معقل وأحرز حصن فسواء عليّ قضى ذلك الرجل ليلته على عتبة داري أو ببلاد الصين ما دام سيذهب مع الظلماء. وقد كان ذلك فلما خرجت الغداة إلى ذرا بيتي لم أجد له أثراً.

ولم يمض إلا قليل حتى رأيته ثانياً وذلك أني ركبت اليمّ مرة وكان بي دوار سببه أولاً إدامة الأكباب على الورق وثانياً شمي عقاقير خبيثة الرائحة يفغم ذفرها الخياشم فزجيت الزورق على الشاطئ بضعة أميال ثم أصابتني غلة فحسبت مطية الماء عند مصب جدول ونزلت إلى الساحل لأرد وكان ذلك الجدول يشتق أرضي ولكن مصبه في أرض أخرى. فوردت حتى إذا هممت أن أصدر وجدتني أمام الروسي وجهاً لوجه وقد استبحت من حماه مثل ما استباح سالفاً من حماي فعراني الخجل وقطن إليها، قال لي في وقار وجد عندي لك حديث قصير.

فقلت ونظرت إلى ساعتي إذن فلتسرع فليس في وقتي للهراء مجال.

فقال مغضباً الهراء! ما أعجب أحوالكم معشر الاسكوتلانديين إن لكم لظواهر فظة تحتها قلوب رقيقة. وأنت من القوم ففيك ولا شك مع هذه القسوة والشدة لين وهوادة.

قلت باسم الشيطان إلا ما قلت قولك وخليتني وشأني فلقد والله سئمت رؤيتك فصاح قائلاً أوقد أبى الله أن ألين من قلبك القاسي وأذيب من حصاة فؤادك أنظر ثم استخرج من جيبه صليباً هذا. إنهُ ربما خالفت ملتك عقيدتي. وباين مذهبك نحلتي. ولكنه يجمعنا عواطف وآراء مشتركة إذا نظرنا هذا.

فأجبته لست من قولك على ثقة.

فنظر إليك متفكرا ثم قال ما أعجب والله شأنك وأني لي بأن أفهمك فأنت لا تزال حائلاً بيني وبين سوفي فاعلم يا رعاك الله أنك لتحرجن موقفك ولتخطرن دمك فانتبه إلى ذاك قبل أن يتفاقم الخطب ويبلغ السيل الزبى. ومن لي يبلغك ماذا خضت في سبيل تلك الغادة من الهول وماذا ركبت من أجلها من الخطر أشق غمار البحار. وأجوب. أقطار القفار، وأقذف فحمة الليل بجمرة النهار. معرضاً في خلال ذلك جسمي للدمار ونفسي للبوار. فأين أنت مما قد اجتزت من العقبات. وخضت من القحم والهلكات يا من لو شئت سللت روحه على ظبة مديتي. واختلست حياته على غرار صفيحتي. ولكن أبى لي الله والتقي أن أفعل ذلك!.

أولى لك أن تعود إلى موطنك من أن تكمن بهذا الساحل لتكدر صفائي. حتى إذا تثبت من ذهابك أسلمت الفتاة إلى دار السفارة الروسية. فأما قبل ذلك فإنا جار الفتاة منك وملاذها وموئلها أقيها المكروه بطارفي وتلادي ولا أدخر سبيل صونها نفسي. وليس في قدرتك ولو عزز جانبك ألف من أهل جلدتك أن تغلبني عليها قال وماذا تريد بمنعها مني؟ أفتحسب أني كنت نائلها قط بأذى. أصلحك الله إني ما بخلت بروحي في سبيل وقايتها. فماذا فعلك هذا؟.

قلت هو حق المستجير على جاره.

قال وتأجج الغضب في نظراته ودلف إلى مشعانّ الرأس ممدود الذراعين مقبوض اليدين وأما وربك لو أنه رابني منك في شأنها ربية وإنك تضمن بها لأمر غير صالح إذاً والله قلبك من حشاك بأظفاري وكأن مجرد توهمه ذلك الوهم قد أطار عقله حتى انقلبت سحنته وراحت كفاه بين قبض وبسط راجفتين تجفان. فخلت والله أنه سيأخذ بكظمي.

لذلك صحت به مكانك وقلت ويدي على المسدس مسني بإصبع منك أفرق بين روحك وجسدك!.

فوضع يده في جيبه هنيهة فحسبت أن يستخرج سلاحاً ولكنه ما لبث أن أخرجها بيضاء من غير سوء اللهم إلا من تبغة أشعلها وأقبل يشرب أنفاسها ولعله كان يرى هذه خير كابح لجماح شره.

وقال بصوت أرق ولهجة ألين لقد خبرتك أن اسمي أوجانيف وإني من أهل فنلاندة ولكني وزعت عمري بين أنحاء الأرض طراً. ولقد خلقني الله قلقاً متوقداً لوذعياً يكاد يسرب في الخرت وينغل في مجاري السموم لا طاقة لي بالسكون ولا قدرة لي على الدعة بنفس متفشية لا يكاد يسعها عرض الفضاء. وتكاد تضيق بها رقعة الأرض وأديم السماء.

ليس يخلى مني مكان مكانا ... أنا شيء خصوصه كالعموم

أنا طيف الخيال يطرق أهل ال ... أرض من بين ظاعن ومقيم

فلما ورثت مركب أبي لم أدع مرفأ ما بين أرشانجيل وأستراليا إلا وقد طرقته. وكان لي على غلطتي وخشونتي وجفاء طبعي مهجة لا تزال تحن إلى حبيبة لي بديار قومي وكبد إليها نزاعة فلما كنت في بعض أسفاري ازدلف إليها غلام مصقول العارضين أمرد ناعم البنان معسول اللسان. طين بما يستهوى قلوب الغانيات. ويطبي أهواء الفتيات. من حلو الكلم ولطيف الإشارات. فسلبني هذا الغلام بحيلته ودهائه الغادة التي ألقيت عندها مراسي الأمل ونطت بها أسباب الهوى والتي أرعيتها بارض الحب وأمطرتها وسمى المدامع. والتي لم تك لتضن عليّ بالحب أو تجزيني بالود كرهاً. فلما أبت من رحلتي خبرت غادتي وفلذة كبدي ستتزوج من ذاك الغلام الغض الأهاب. البض الشباب. وأن الزوج قد ذهبا إلى الكنيسة. ولتعلم يا سيدي أني في حال كهذه يذهب رشدي فآنى من الأمر ما لا أكاد أعرف أقول فلما بلغني ذلك النبأ نزلت الشاطيء بالنوتية وكانوا رهطاً أولى بأس ونجدة كلهم كالحسام عضب المضارب ماضي الغرارين لم يؤت من نبوة ولا كلال فعمدنا إلى الكنيسة فدخلناها وإذا الزوج واقفان حيال المطران قد كاد يعقد لهما ولما يفعل. فاندفعت بينهما فطوقتها ذراعي وأثخن رجالي الضرب في الفتى وسائر القوم واحتملتها حتى أتيت ورهطي المركب فأقلعنا بها نمخر العباب إلى أن رأينا ذوائب المنار تذوب في قصوى الفضاء. وبوأت الغادة غرفتي وخولتها أسباب الراحة طراً وأخذت مضجعي بين النوتية وأنا أرجو أن يلين الله يوماً ما عليَّ قلبها ويجذب إليَّ عطفها. ويمنحني عطفها. فترضى أن أعقد عليها في فرنسا أو ألمانيا مثلاً وكذلك ما برحت تتقاذفنا البحار. وتتهادانا الغمار. وتطوح بنا كفّ التيار، حتى رأينا الرأس الشمالي يموت على مهاد الأفق وتلحد له الأمواج في ضميرها جدثاً. ثم تقصينا ساحل النرويج وهي لا تزال مصرة على الصد لاجة في النفور لا تغفر لي تفر بقي بينها وبين عاشقها وأخيراً رمانا الله بتلك العاصفة التي ألوت بمركبي وآمالي وحرمتني حتى النظر إلى الغادة التي ركبت في حبها من الهول ما ركبت. فعسى الله ينزل على قلبها بعد كل ذلك حبي ويلهمها رقة لي ورحمة. ثم رنا إليَّ طويلاً وقال وإني يا سيدي أتوسم فيك أخاً حنكة وابن تجارب قد حلب أشطر الدهر وأطال على الأمور توقافاً. أفليس في فراسنك أنها ربما نسيت بي حبيبها ذاك واجدة فيَّ بدلاً؟.

قلت وزويت عنه وجهي قد والله سئمت حديثك. فأما إذ سألتني رأيي فرأيي أنك معتوه أحمق. وإنك إن كنت تؤنس من نفسك أن حبك هذا خطب لا يلبث أن يهون ومصاب لا ينشب أن يخف فيزول فعلل نفسك حتى يكون ذلك بكل ما استطعت فأما إن كان داء عياء وضربة لازب فليس أجمل والله بك من أن تنتحر فتستريح.

ما قضى الله للجهول بستر ... يتلافاه مثل حتف قاض

وهذا ما عندي والسلام.

ثم هرعت إلى زورقي فركبته لا ألتفت إلى الرجل غير أني ما لبثت أن سمعته يقول لقد حدثتك بادئة نبأي فأما الخاتمة فلسوف تعلمنها يوماً ما.

فلم أجبه وإنما زجيت القارب والتفت بعد برهة فإذا هو ما زال واقفاً على الشاطىء يتبعني نظرة ولهى طويلة. ثم التفت ثانية فإذا هو قد مضى.

واطمأن جانب العيش لي بعد هذا الحادث وركدت نواحيه فلا عثرة ولا عقبة. وجعلت آمل أن يكون الرجل قد رحل عن جواري فيدلني على كذب آمالي آثار أقدامه في الرمل ولا سيما كثيب من رماد التبغ على كثيب قبالة النوافذ من غرفة الفتاة فعلمت أن الرجل ما برح لنا كامناً. وبقيت منزلة الفتاة مني على عهدها لم تقربها زلفي ولم يقصها جفاء. وكانت العجوز في باديء الأمر قد نالها شيء من الغيرة مخافة أن تغصبها الفتاة بعض نفوذها البيتي حتى إذا رأت إعراضي عن الغادة وانقباضي زالت عنها الوحشة وعلودها الأنس والراحة ووجدت في بقاء الفتاة ربحاً لا خسارة إذ أصبحت لها عوناً على عملها وظهيراً.

وها قد أشرفت على نهاية هذا القصص الذي ما كنت لولا لذة أجدها في تدويني لأدونهُ. وكانت خاتمة هذين البشرين من الفجاءة والعجب كالفاتحة وإنما هو حادث ليلة فذة خلصني من شرهما وأطلقني من أذاهما وأفردني بأسفاري ومباحثي مثلما كنت قبل طروئهما. وهاك بيان الحديث.

خرجت إلى الشاطيء ذات مساء نضو مذاكرة طليح بحث وتنقيب لأروّح عن النفس وأريح مكدود الخاطر فما برزت من باب الدار حتى لفت ناظري مشهد الخليج وهيئة الماء. وكان بأكمل حال من الركود تحسبه صحيفة من البلور جامدة الأنحاء يابسة الأرجاء فما به حبك ولا تكسر. ولكن الهواء كان مع ذلك مفعم بذاك الصوت الذي وصفته آنفاً وهو صوت كأن أصداء من طواهم البحر في أحشائه ترسل أنينه تنذر به إخوانهم الأحياء شرّ يوم عصيب. وكانت نساء الصيادين يعرفن ذلك الصوت ويمددن ألحاظاً لهفى سراعاً نحو القوارب التي لا تزال باليم. فلما سمعت ذاك الصوت دخلت الدار ونظرت في مقياس الحرارة فإذا هو عند 29 تحت الصفر. حينئذ علمت أنا بعرض ليلة مرهوبة نكراء.

وكان القر في سفح الجبل قارساً لذاعاً على حين قد عمم الأصيل ذؤابته بمعصفرات الوشى اليماني وأسال على جبينه نضاراً. ولم يك على صفحة السماء من السحاب إلا بدد عباديد. ولكن أنين اليم ما برح يشتد ويتزايد. ثم لمحت من جانب الشرق قارباً يضرب إلى قرية ويك فكأن ربه قرأ آية الجو كما قرأتها ووراء القارب كان ينتشر ضباب قد طوى خط الأفق. قلت في نفسي ما أجدرني الساعة بالعودة وإلا ثارت الريح ولما يحوني البيت.

فلما صرت على نصف ميل من المنزل وقفت بغتت أنصت. وكنت لطول ما اعتادت أذني وألف مسمعي أصوات الطبيعة من زفيف النسيم إلى هدير الماء أسرع الناس أذناً إلى إنكار ما يجئ بين هذه الأصوات من غريب الأجراس ولو كان من أقصى مدى. فوقفت وكلي آذان تسمع وإذا بالصوت المنكر قد علا ثانية وكان صيحة رفيعة مديدة حادة تنم عن أوجع الحزن وآلم اليأس لها بأنحاء الرمل رنة ومن جانب الجبل رجع صدى - يالها صرخة حائر مستجير. وكانت تصدر من ناحية منزلي فاندفعت نحو الدار أنهب الأرض نهباً وقد لاحت الحقيقة لخاطري في ضباب من اللبس. وكان على ربع ميل من الدار ربوة يشرف منها على جميع أرجاء البقعة. فلما فرعت هامة تلك الربوة وقفت هنيهة أنظر فإذا كل شيء على ما تركته عليه. فإني لكذلك إذ عادت الصيحة أشد ما كانت وما هو إلا كخطف البرق حتى برز من جوف الدار شخص الروسي يحمل على عاتقه الغادة البيضا. لم تمنعهشدة العجلة أن يرفق بها كل الرفق وإنها لتمزق أوداجها صياحاً وتكد أوصالها ابتغاء الخلاص جهاداً وعلى أثرهما العجوز تدب ظلماء ترسف في قيد الكلال والونى وجلّ مجهودها صراخ متوال كاللبوة الهرمة قلم الكبر أظفارها وفضّ لزمان أنيابها فليس بها إلا عولة لا يعينها بطش أو زأرة لا تؤيدها سطوة. ورأيت الرجل يعمد نحو القارب فنبع في صدري أمل مبادر رجوت معه أن أدرك الرجل قبل فراره فاحتثث قدميّ إلى الشاطيء فدرّتا بشو بوب من السير وألقمت فم المسدس وأنا أعدو بندقة يكمن في لبها الموت الزؤام وتلوذ بحقوبها حشاشة أملي وآخر رمق من رجائي.

ولكني تأخرت ةاستعجل القدر. فلما بلغت الشاطئ كان الرجل قد أوضع في الماء مائة وعشرين ذراعاً قد راش بمجذافيه قادمتي القارب لكل هبة من المجذاف طفرة من الزورق كما طفر في حيزوم الجبان فؤاده

فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح

جون من العقبان ببتدر الدجى ... يهوى بصوت واصطفاق جناح

فصرخت صرخة خائب حنق ورحت أقبل على الرمل وأدبر كالذي خولط في لبه والتفت الروسي فرآني على هذه الحال فقام فحيّاني بأطراف بنانه تحية والله ما شفّت عن شماتة ولا سخرية ولكنها عنوان قلب ضمّن الإخلاص وطوى على الإجلال والشكر. ثم اطمأن في مجلسه وحث أجنحة القارب فطار بأشباه الأربع الرياح حتى قبضته المسافة وقد توارت الشمس بالحجاب ومد الشفق بنانة مخضوبة توميء إلى حيث خبأت يد الطفل لؤلؤة النهار.

ومالي أجول في أنحاء تلك الرملة وأدور. وما لصدري يجيش بنار الكرب ويفوز. أمن شغف بالفتاة فعلت ذاك؟ كلا! وليس مثلي من أضناه حب الحسان. وأبلاه صد الغوان.

ولم يلهني دار ولا رسم منزل ... ولم يتطربني بنان مخضب

ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب

ولا السانحات البارحات عشية ... أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب

كلا والله لم تكن المصيبة في معشوقة لي ولا وقع السهم في كبدي وإنما كانت في عرضي وثلمت جانب شرفي ومجدي. وطامنت عنقي وذلّلت أنفي. وكلما ذكرت أني عييت بحفظ جارتي من العدو الموائب. وعرضتها للطواريء والنوائب. عيل صبري وراح عرض اليمّ أضيق في عيني من كفة حابل.

وهبّ من جانب البحر تلك الليلة ريح هوجاء فأرغت الأمواج بالشاطيء وجرجرت كأنما تود لو انتسفته فعادت به إلى العباب فكان ثمت ملاءمة بين فوران اليم وفوران صدري وبين غليان الماء وغليان ذهني وأبليت شباب الليل جيئة وذهاباً بين هجمات طلائع الأمواج. وحذار الصواعق من متأجج الجنبات وهّاج

وسماء عليَّ أوكفت القط ... وأطارت كراي بالأرزام

وعصفات زعزع نكباء تعتسف دوّ الفضاء. ونمزق جلدة الماء. وتكاد تختطف الرداء.

وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالمصائب

أقول وأبليت بين هذه الأهوال شباب الليل حتى شابت ذوائب الظلماء. وجرّد الفلق على هامة الغسق أسياف أنوار وأضواء. واستراح الماء والهواء. وأخذ أعين الكواكب الأغفاء. ولا راحة لي ولا هدوء وأين الراحة ممن راح بين قلب هائم. ونفس دائم. وشجو دخيل. وحرقة وغليل. قلت في نفسي أولا يرجع الله هذا الروسي إلى هنا؟ أما والله لو عاد!.

وقد عاد وحانت مني التفاتة إلى اليمين فإذا على بعد مني جرم طويل أسمر قد قذفته كف الموج الخرقاء على الشاطيء فتأملته فإذا هو قاربي قد عنف به البحر ورضه التيار. وعلى مسافة منه شيء مبهم الهيئة مشكل الشكل يجيء ويذهب في وشل بحافة الماء قد اختلط بعشب البحر وحصبائه فعرفت فيه لأول وهلة الرجل الروسي مكبوباً على حُرّ أوجهه جسداً بلا روح فخضت إليه ذلك الضحضاح فسحبته إلى اليابس ثم قلبته فإذا هي تحته قد التفت حولها ذراعاه الهامدتان وحالت جثته بينها وبين الزوبعة التي كانت تثور بالفضاء وكأنما ليس في طاقة البحر العنيف أن يسلبه تلك الفتاة وإن سلبه روحه. وكان فيهما أمارات تدلني على أن هذه الصبية الطائشة الرأي قد علمتها أهوال تلك الليلة المهيبة أن تفهم الفضل في أهله وتفطن إلى المروءة في أربابها وتستشف القشر الخشن عن اللباب الدمث والظاهر الوعر عن الباطن السهل. وأن تميز الصادق من الخلّب والحق من الغرور والزلال من السراب. وأن تعرف قدر ذلك القلب الكبير الذي وقاها في الروع بمهجته. وذاك الساعد السلط الذي حماها في الكريهة بصولته. وإلا فما معنى توسد رأسها اللطيف مهاد صدره الرحب والتفاف فرعها الأصهب بلحيته المنسدلة؟ وما معنى ضياء تلك الابتسامة المتألقة في صحيفة وجهه - يضحك في أثنائها فم النصر - التي لم يك في طاقة الموت أن يطفي رونقها ويخمد سناها؟ رحم الله مصرعه لقد كان الموت والله له أمتع من الحياة وأشرق جانباً وأبرد ظلاً وأصفى هواء. وأخضل الله ترابه لقد كانت حياته موتاً وكان موته حياة.

وجاءت العجوز فلحدنا لهما على سيف البحر الشمالي وواريناهما فهما الآن رهنا حفرة بذلك المكان المقفر الجذب والبقعة الحزينة الصماء. وكم أمور ستحدث حولهما بهذا الكون وكم شؤون ستجري فمن دول تهدم ودول تشاد. وعاد تزول وتجيء عاد وأجداث تبيده وأجداث تباد. وهما بمعزل عن كل ذلك لا ينظران ولا يسمعان. ولا يعبآن ولا يحفلان. ولكنهما ملتزمان محتضنان. بتلك القفرة تحت ذلك الموج المرنان. وكم خيل إليَّ إن روحيهما قد لبسا صورة الطير وأنهما ليرفران بين بنات الماء على صدر المحيط. وطالما خيل إليّ أني أسمع أنين صداهما بين تحنان البحر وعويل الرياح هاك قبرهما على الساحل الموحش لا نصب فوقه ولا تمثال ولكن العجوز ما برحت تكسوه حلل الزهر والريحان. وشفوف النور والأقحوان. فكلما مررت بذاك الضريح تذكرت ذينك الذين اغتربا عن الديار والأوطان ليلاقيا المنون بدار الغربة على قدر فعجت على تلك العظام البالية متمثلاً

ولا علم لي من أي جنبيّ مصرعي ... وفي أيما أرض يخط لجانبي