مبسوط السرخسي - الجزء الرابع2
[ 111 ]
تعدل عندكم النسخ ثم هذا سفر لاقامة الفرض فلا يشترط فيه المحرم كسفر الهجرة فان التى أسلمت في دار الحرب لها أن تهاجر إلى دار الاسلام بغير محرم وهذا لان شرائط اقامة الفرض ما يكون في وسع المرء عادة ولا ولاية لها على المحرم في احرامه ولا يجب على المحرم الخروج معها وليس عليها أن تتزوج لاجل هذا الخروج بالاتفاق فعرفنا أن المحرم ليس بشرط الا أن عليها أن تتحرز عن الفتنة وفي ختلاطها بالرجال فتنة وهى تستوحش بالوحدة فتخرج مع رفقة نسوة ثقات لتسأنس بهن ولا تحتاج إلى مخالطة الرجال وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام ولياليها الا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها فقام رجل فقال انى أريد الخروج في غزوة كذا وان امرأتي تريد الحج فماذا أصنع فقال ﷺ أخرج معها لا تفارقها ففى هذا دليل على أنهم فهموا من السفر الذى ذكره سفر الحج حتى قال السائل ما قال وفى أمر رسول الله ﷺ الزوج بأن يترك الغزو ويخرج معها دليل على انه ليس لها أن تخرج الا مع زوج أو محرم والمعني في ذلك أنها تنشئ سفرا عن اختيار فلا يحل لها ذلك الا مع زوج أو محرم كسائر الاسفار بخلاف المهاجرة فانها لا تنشئ سفرا ولكنها تقصد النجاة. ألا ترى أنه لو وصلت إلى جيش من المسلمين في دار الحرب حتى صارت آمنة لم يكن لها أن تسافر بعد ذلك من غير محرم ولانها مضطرة هناك لخوفها على نفسها. ألا ترى أن العدة هناك لا تمنعها من الخروج وهنا لو كانت معتدة لم يكن لها أن تخرج للحج وتأثير فقد المحرم في المنع السفر كتأثير العدة فإذا منعت من الخروج لسفر الحج بسبب العدة فكذلك بسبب فقد المحرم وهذا لان المرأة عرضة للفتنة وباجتماع النساء تزداد الفتنة ولا ترتفع انما ترتفع بحافظ يحفظها ولا يطمع فيها وذلك المحرم وتفسيره من لا يحل له نكاحها على التأييد بسبب قرابة أو رضاع أو مصاهرة. ألا ترى أنه يجوز له أن يخلو بها لانه لا يطمع فيها إذا علم أنه محرمة عليه أبدا فكذلك يسافر بها (قال) ويستوى أن يكون المحرم حرا أو مملوكا مسلما أو كافرا لان كل ذى دين يقوم بحفظ محارمه الا أن يكون مجوسيا فحينئذ لا تخرج معه لانه يعتقد اباحتها له فلا ينقطع طمعه عنها فلهذا لا تسافر معه ولا يخلو بها إذا عرفنا هذا فنقول إذا لم تجد المحرم وقد أحرمت بحجة الاسلام فهى ممنوعة من الخروج شرعا فصارت كالمحصر تبعث بالهدى فتتحلل به وان كانت ذات زوج وأرادت
[ 112 ] أن تخرج لحجة الاسلام مع المحرم فليس للزوج أن يمنعها من الخروج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى له أن يمنعها من الخروج لانها صارت كالمملوكة له بعقد النكاح وثبت له حق الاستمتاع بها فهى بهذا الخروج تحول بين الزوج وبين حقه أو تلزمه مشقة السفر فكان له أن يمنعها من ذلك كما يمنعها من الخروج لزيارة الاقارب وكما يمنعها من الخروج لحجة التطوع لكنا نقول فرض الحج يتوجه عليها باستجماع الشرائط فكان ذلك مستثنى من حق الزوج وبسبب عقد النكاح لا يثبت عليها للزوج ولاية المنع من أداء الفرائض ألا ترى أنه لا يمنعها من صيام شهر رمضان والمولى لا يمنع مملوكه من أداء الصلاة لان ذلك مستثنى من حقه فهذا مثله بخلاف ما إذا لم تجد محرما فان هناك الفرض لم يتوجه عليها لانعدام شرائطه حتى لو كانت لا تحتاج إلى سفر بان كان بينها وبين مكة دون مسيرة ثلاثة أيام فليس للزوج أنه يمنعها وان لم تجد محرما لان اشتراط المحرم للسفر لا لما دونه وأما حج التطوع فالخروج لاجله لم يصر مستثنى من حق الزوج لان ذلك ليس بفرض عليها فإذا أحرمت بحجة التطوع كان للزوج أن يمنعها ويحللها الا أن هنا لا يتأخر تحليله اياها إلى ذبح الهدى ولكن يحللها من ساعته وعليها هدى لتعجيل الاحلال وعمرة وحجة لصحة شروعها في الحج بخلاف حجة الاسلام لان هناك لا تتحلل الا بالهدى لان هناك لا حق للزوج في منعها لو وجدت محرما وانما تعذر عليها الخروج لفقد المحرم فلا تتحل الا بالهدى وهنا تعذر الخروج لحق الزوج وكما لا يكون لها أن تبطل حق الزوج لا يكون لها أن تؤخر حق الزوج فكان له أن يحللها من ساعته وتحليله لها أن ينهاها ويصنع بها أدنى ما يحرم عليها في الاحرام من قص ظفر ونحوه ولا يكون التحليل بالنهي ولا بقوله حللتك لان عقد الاحرام قد صح فلا يصح الخروج الا بارتكاب محظوره وذلك لا يحصل بقوله حللتك وهو نظير الصوم إذا صح الشروع فيه لا يصير خارجا الا بارتكاب محظوره حتى أن الزوج لونهاها عن صوم التطوع لا تصير خارجة عن الصوم بمجرد نهيه وكذلك المملوك يهل بغير اذن مولاه فللمولى أن يحلله لقيام حقه في خمدته ومنافعه والمملوك في هذا كالزوجة في حجة التطوع على مابينا (قال) والمحصر بالحج إذا بعث بهديين حل بأولهما لانه ما لزمه للتحلل الا هدى واحد والاول منهما معين لاداء الفرض والثاني يكون تطوعا والاحلال لا يتوقف على هدى التطوع (قال) وان حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم لا حلاله لانه حل قبل أوانه كما قال الله تعالى ولا تحلقوا
[ 113 ] رؤسكم حتى يبلغ الهدى محله ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه لان ذبح الهدى متعين للتحلل فلا يحل بغيره كطواف الزيارة لما كان متعينا للاحلال به في حق النساء لا يحصل الاحلال بغيره (قال) وان كان المحصر معسرا لم يحل أبدا الا بدم الان الدم متعين لاحلاله بالنص كما أن طواف الزيارة متعين لاحلاله في حق النساء فكما لا يحصل الاحلال بغيره هناك فكذلك هذا وكان عطاء رحمه الله تعالى يقول إذا عجز عن الهدى نظر إلى قيمة الهدى فجعل ذلك طعاما يطعم به المساكين كل مسكين نصف صاع أو يصوم مكان طعام كل مسكين يوما فيتحلل به بمنزلة الهدى في جزاء الصيد قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الامالى وهذا أحب إلى وللشافعي رحمه الله تعالى فيه قولان أحدهما هكذا والثانى أنه إذا عجز عن الهدي صام مكانه عشرة أيام على قياس هدي المتعة لكنا نقول هذا كله قياس المنصوص على المنصوص ولا يجوز ذلك بل المرجع في كل موضع إلى ما وقع التنصيص عليه ولا يجوز العدول عنه إلى غيره (قال) وكل شئ صنعه المحصر قبل أن يحل فهو بمنزلة المحرم الذى ليس بمحصر وكذلك ان ذبح عن المحصر هديه في غير الحرم فانه يبقى حراما على حاله حتى يبعث بهدى فيذبح عنه في الحرم وان كان قد حل قبل ذلك فعليه دم لا حلاله سواء كان عالما به أو لم يكن عالم (قال) ويجزئه في هدى الاحصار الجذع العظيم من الضأن والثني من غيرها لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال ما ستيسر من الهدى شاة وعن جابر رضى عنه قال أشرك رسول الله ﷺ كل سبعة من الصحابة في بدنة عام الحديبية فتبين بهذا أن الواجب هنا ما يجزى في الضحايا والذى يجزي في الضحايا ما سمينا فكذا هنا وان سرق الهدي بعد ما ذبح عنه فليس عليه شئ لانه بلغ محله فان أكل منه الذى ذبحه بعد ما ذبح فهو ضامن لقيمة ما أكل يتصدق به عن المحصر لان النبي ﷺ قال للمبعوث على يده لا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا ولانه قد لزمه التصدق بجميع اللحم عن المحصر فإذا أكل منه شيئا كان ضامنا بدله وحكم البدل حكم المبدل فعليه أن يتصدق ببدله عن المحصر أيضا (قال) وان قدم مكة قارنا فطاف وسعى لعمرته وحجته ثم خرج إلى بعض الآفاق قبل أن يقف بعرفة فأحصر فانه يبعث بالهدي ويحل به وعليه حجة وعمرة مكان حجته وليس عليه عمرة مكان عمرته لانه فرغ من عمرته حين طاف لها وسعى وانما بقى عليه للعمرة الحلق أو التقصير فلهذا لا يبعث بهدى لاجل
[ 114 ] العمرة وانما يبعث بالهدى للتحلل عن احرام الحج فان قيل أليس انه طاف وسعى لحجته فينبغي أن يكفيه ذلك للتحلل كما في فائت الحج قلنا ما أتى به من الطواف لم يكن واجبا بل كان ذلك طواف التحية ولا يجوز أن يتحلل بمثله فلهذا يبعث بالهدى للتحلل من الاحرام للحج ولهذا كان عليه قضاء عمرة لان ذلك الطواف والسعى صار وجوده كعدمه في حكم الاحصار فعليه عمرة وحجة وعليه دم لتقصيره في غير الحرم وهذا الدم انما يلزمه عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان عندهما الحلق للعمرة يتوقت بالحرم خلافا لابي يوسف رحمه الله تعالى وقد بينا هذا (قال) فإذا وقف بعرفة ثم أحصر لم يكن محصرا لان معنى قوله تعالى فان أحصرتم أي منعتم عن اتمام الحج والعمرة وقال ﷺ من وقف بعرفه فقد تم حجه فانما منع هذا بعد الاتمام فلهذا لا يكون محصرا ولان حكم الاحصار انما يثبت عند خوف الفوت وبعد الوقوف بعرفة لا يخاف الفوت فلا يكون محصرا ولكنه يبقى محرما إلى أن يصل إلى البيت فيطوف طواف الزيارة وطواف الصدر ويحلق أو يقصر وعليه دم لترك الوقوف بمزدلفة ولرمى الجمار دم ولتأخير الطواف دم ولتأخير الحلق دم عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ليس عليه لتأخير الحلق والطواف شئ وقد تقدم بيان هذه الفصول فان قيل أليس انكم قلتم إذا ازدادت عليه مدة الاحرام يثبت حكم الاحصار في حقه وقد ازدادت مدة الاحرام هنا فلما ذا لا يثبت حكم الاحصار في حقه قلنا لا كذلك فانه يتمكن من التحلل بالحلق الا من النساء وان كان يلزمه بعض الدماء فلا يتحقق العذر الموجب للتحلل هنا (قال) وإذا قدم مكة فاحصر بها لم يكن محصرا وذكر على بن الجعد عن أبى يوسف رحمهم الله تعالى قال سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن المحرم يحصر في الحرم فقال لا يكون محصرا فقلت أليس أن النبي ﷺ أحصر بالحديبية وهي من الحرم فقال ان مكة يومئذ كانت دار الحرب فأما اليوم فهى دار الاسلام فلا يتحقق الاحصار فيها قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وانما أنا أقول إذا غلب العدو على مكة حتى حالوا بينه وبين البيت فهو محصر والاصح أن يقول إذا كان محرما بالحج فان منع من الوقوف وطواف الزيارة جميعا فهو محصر وان لم يمنع من أحدهما لا يكون محصرا لانه ان لم يكن ممنوعا من الطواف يمكنه أن يصبر حتى يفوته الحج فيتحلل بالطواف والسعى وان لم يكن ممنوعا من الوقوف يمكنه أن يقف بعرفة ليتم حجه وان كان
[ 115 ] ممنوعا منهما فقد تعذر عليه الاتمام والتحلل بالطواف فيكون محصرا كما لو أحصر في الحل (قال) رجل أهل بعمرتين معا فسار إلى مكة ليقضيهما ثم أحصر قال يبعث بالهدى لواحد والاصل في هذه المسألة أن نقول من أحرم بعمرتين معا أو بحجتين معا انعقد احرامه بهما في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد والشافعي رحمهما الله تعالى ينعقد احرامه بأحدهما لان الاحرام غير مقصود لعينه بل لاداء الافعال به ولا يتصور اداء حجتين في سنة واحدة ولا اداء عمرتين في وقت واحد والعقد إذا خلا عن مقصوده لا يكون منعقدا أصلا فإذا خلا أحد العقدين هنا عما هو مقصود لم ينعقد الاحرام الا بأحدهما وقاسا بالصوم والصلاة فان من شرع في صومين في يوم واحد أو في صلاتين بتكبيرة واحدة لا يصير شارعا الا في أحدهما وهذا على أصل الشافعي رحمه الله تعالى واضح لان عنده الاحرام من الاركان ولهذا لا ينعقد الاحرام بالحج في غير أشهر الحج عنده وعند محمد رحمه الله تعالى وان كان الاحرام من الشرائط ففي بعض الاحكام جعل من الاركان. ألا ترى أن فائت الحج ليس له أن يستديم الاحرام إلى أن يؤدى الحج به في السنة القابلة ولو كان من الشرائط لكان له ذلك كما في الطهارة للصلاة فإذا كان من الاركان فهو بمنزلة سائر الاعمال لا يتصور اجتماع المثنى منه في وقت واحد كالوقوف لحجتين والطواف لعمرتين وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا لا تنافي بين العقدين بدليل انه يثبت أحدهما وهما متساويان والاصل أنه إذا كان منافاة بين العقدين المتساويين أن لا يثبت أحدهما كنكاح الاختين معا وإذا ثبت أنه لا منافاة انعقد الاحرام ثم أداء الافعال لا يتصل بالاحرام والتنافي بينهما في أداء الافعال وإذا كان أداء الافعال لا يتصل بالاحرام لا يمنع انعقاد الاحرام بهما بخلاف الصوم والصلاة فالشروع هناك من الاداء ويتصل به الاداء والوقت معيار الصوم فلا يتصور أداء الصومين في وقت واحد ثم الاحرام سبب لالتزام الاداء من غير أن يتصل به الاداء فيكون بمنزلة النذر والنذر بالعمرتين صحيح وقد بينا فيما سبق ان الاحرام من جملة الشرائط ابتداء وان أعطى له حكم الاركان انتهاء فكان بمنزلة الطهارة فلا تتحقق المنافاة فيه كمن تطهر لاداء الصلاتين إذا عرفنا هذا فنقول عند أبى يوسف رحمه الله تعالى من عقد احرامه بهما يصير رافضا لاحدهما لانه كما فرغ من الاحرام جاء أوان اداء الاعمال والمنافاة متحققة فيصير رافضا لاحدهما وعليه دم لرفضها ويمضى في الآخر فان كان احرم بعمرتين فعليه
[ 116 ] قضاء العمرة التى رفضها وان كان احرامه بحجتين فعليه قضاء عمرة وحجة لرفض أحدهما وعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى لا يصير رافضا لاحدهما ما لم يشتغل بالعمل للآخر ففي ظاهر الرواية كما يسير إلى مكة لاداء الاعمال يصير رافضا لاحدهما وفى الرواية الاخرى ما لم يأخذ في الطواف لا يصير رافضا لاحدهما لانه لما لم يتناف الا حرامان ابتداء لا يتنافيان بقاء بل البقاء أسهل من الابتداء وانما المنافاة في الاعمال فما لم يشتغل بعمل أحدهما لا يصير رافضا للاخر وفائدة هذا الاختلاف انما تظهر فيما إذا أحصر قبل أن يسير إلى مكة فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى يبعث بهديين للتحلل لانه محرم باحرامين وعند أبى يوسف رحمه الله تعالى يبعث بهدى واحد لانه صار رافضا لاحدهما فانما أحصر وهو حرام باحرام واحد وعند محمد رحمه الله تعالى لم ينعقد الا احرام واحد فلا يبعث الا بهدى واحد وان كان سار إلى مكة ثم أحصر فانما يبعث بهدى واحد لانه صار رافضا لاحدهما حى سار في عمل الآخر فعليه دم للرفض ودم آخر للتحلل فاما حكم القضاء فان كان أهل بعمرتين فعليه قضاء عمرتين وان كان أهل بحجتين فعليه قضاء حجتين وعمرتين (قال) رجل أهل بشئ واحد لا ينوى حجة ولا عمرة ينعقد احرامه مع الابهام لما روى أن عليا وأبا موسى رضى الله عنهما لما قدما من اليمن قال لهما رسول الله ﷺ بم أهللتما قالا أهللنا باهلال كاهلال رسول الله ﷺ فقد صحح رسول الله ﷺ احرامهما مع الابهام وقد بينا أن الاحرام بمنزلة الشرط للنسك ابتداء والابهام فيه لا يمنع صحته كالطهارة للصلاة وبعد ما انعقد الاحرام مبهما فللخروج منه طريقان شرعا إما الحج أو أعمال العمرة فيتخير بينهما ان شاء خرج عنه بأعمال العمرة وان شاء بأعمال الحج وكان تعيينه في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء فان أحصر قبل أن يعين شيئا فعليه أن يبعث بهدى واحد لانه محرم باحرام واحد فالتحلل عن احرام واحد وعليه قضاء عمرة استحسانا وفى القياس عليه قضاء حجة وعمرة لان احرامه ان كان للحج فعليه قضاء حجة وعمرة والاخذ بالاحتياط في قضاء العبادات واجب ولكنه استحسن فقال المتيقن به يصير دينا في ذمته فقط والمتيقن العمرة ولما كان متمكنا من الخروج عن عهدة هذا الاحرام قبل الاحصار بأداء العمرة فكذلك بعد الحصار يتمكن من الخروج عن هذه العهدة بأداء العمرة (قال) وان لم يحصر فهو على خياره ما لم يطف بالبيت فان طاف بالبيت قبل ان ينوى شيئا فهى عمرة لان طواف
[ 117 ] العمرة واجب والتحية في الحج ليس بواجب فلا تتحقق المعارضة بين الواجب وبين ما ليس بواجب فلهذا جعلنا طوافه للعمرة ويحصل التعيين به (قال) وكذلك إذا جامع قبل التعيين فعليه دم الجماع والمضى في أعمال العمرة وقضاء عمرة لانه لا يلزمه الا المتيقن به إذا آل الامر إلى ان يصير دينا والمتيقن هو العمرة فلهذا تعين احرامه للعمرة ولانه لو تعين للحج وقد أفسدها بالجماع في هذه السنة فيفوته الحج بصفة الصحة أصلا في هذه السنة وإذا تعين للعمرة لا يفوته شئ فلهذا تعين احرامه للعمرة (قال) ولو أهل بشئ واحد كما بينا وسمى ثم نسيه وأحصر بعث بهدى واحد لما بينا انه محرم باحرام واحد (قال) وإذا تحلل بالهدى فعليه عمرة وحجة وهذا احتياط وأخذ بالثقة لجواز ان يكون حين أحرم نوى الحج فيلزمه قضاء عمرة وحجة بخلاف الاول فان هناك يتيقن انه لم ينو الحج عند احرامه ووجوب القضاء عليه باعتبار نية الحج فإذا تيقن هناك انه لم ينو الحج لا يكون للامر بالاحتياط معنى وهنا هو غير متيقن فمن الجائز انه حين أحرم نوى الحج فكان هذا أوان الاخذ بالاحتياط فلهذا يحتاط ويقضى عمرة وحجة والفرق بين ما إذا لم يعين في الابتداء وبين ما إذا عين ثم نسى ظاهر في المسائل الا ترى ان من أعتق احدى أمتيه بغير عينها لا يجب عليه ان يجتنبهما وبمثله لو أعتق احداهما بعينها ثم نسى فعليه ان يجتنبهما الا الا ان يتذكر وكذا ان لم يحصر في هذا الفصل ولكنه وصل إلى البيت فعليه أن يؤدى عمرة وحجة ويلزمه ما يلزم القارن لانه يحتمل انه نوى احرام الحج ويحتمل انه نوى احرام العمرة فيجمع بينهما أخذا بالاحتياط في العبادة الا ترى ان من نسى صلاة من صلاة اليوم والليلة لا يعرفها يلزمه قضاء صلاة يوم وليلة استحسانا فكذلك هنا (قال) ولو جامع قبل ان يصل إلى البيت فعليه هدى واحد للجماع لانه يتقين انه محرم باحرام واحد ولكن عليه اتمام عمرة وحجة لان الفاسد معتبر بالصحيح فكما ان قبل الافساد عليه عمرة وحجة فكذلك بعد الافساد عليه المضى في عمرة وحجة لانه لا يخرج من الاحرام بالافساد قبل أداء الاعمال والفاسد معتبر بالصحيح وليس عليه دم القران لان دم القران انما يلزمه عند صحة النسكين (قال) ولو جامع بعد ما نوى ان يجعلها عمرة وحجة ولبي بهما فعليه دمان لانه يتيقن بعد ما لبى بهما انه محرم باحرامين بطريقة اضافة أحد الاحرامين إلى الآخر فعليه دمان للجماع وحكمه في القضاء مثل الاول كما بينا (قال) ولو أهل بشيئين ثم نسيهما فاحصر بعث بهديين لانه متيقن انه محرم باحرامين فإذا تحلل بهديين كان عليه عمرتان
[ 118 ] وحجة استحسانا وفى القياس عليه حجتان وعمرتان لان من الجائز انه نوى عند احرامه حجتين فعليه قضاء عمرتين وحجتين احتياطا ولكنه استحسن فقال فعل المسلم محمول على الصحة ما أمكن وعلى ما هو الافضل فلا يحمل على الفساد الا بعد تعذر حمله على الصحة فلو جعلنا احرامه بحجة وعمرة كان فيه حمل أمره على الصحة وعلى ما هو الافضل وهو القران ولو جعلنا احرامه بحجتين كان فيه حمل أمره على الفساد لانه يتعذر عليه الجمع بينهما أداء فلهذا جعلناه كالمحرم بالحج والعمرة فإذا تحلل بهديين كان عليه عمرتان وحجة بمنزلة القارن وان لم يحصر ووصل إلى البيت فكذلك الجواب يجعل احرامه عمرة وحجة كما يعمل القارن استحسانا وكان القياس أن يقضى عمرته وحجته مع الناس وعليه دم القران وعليه دم آخر وحجة وعمرة لان من الجائز أنه كان أحرم بحجتين فعليه دم لرفض احداهما وقضاء حجة وعمرة ومن الجائز أنه أحرم بعمرة وحجة فعليه دم القران فقلنا إنه يحتاط من كل جانب فيقضى عمرته وحجته مع الناس وعليه دم القران لاحتمال أحد الجانبين ثم عليه دم وقضاء عمرة وحجة لاحتمال الجانب الآخر وان كان قد أهل بعمرتين فقد أتى باعمال احداهما وقضى الاخرى مع قضاء الحج فيصير خارجا مما عليه بيقين هذا هو القياس ولكنه استحسن فجعله قارنا حملا لامره على الصحة وعلى ما يفعله الناس ثم عليه دم وقضاء عمرة وحجة وكذلك لو جامع فيهما وهو بمنزلة القارن إذا جامع استحسانا لان الفاسد معتبر بالصحيح والله أعلم بالصواب باب الجماع (قال) وإذا جامع الرجل امرأته وهما مهلان بالحج قبل أن يقفا بعرفة فعلى كل واحد منهما شاة ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل هكذا روى عن النبي ﷺ أنه سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج قال بريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل وهكذا روى عن الصحابة عمر وعلى وابن مسعود رضى الله عنهم ولكنهم قالوا إذا رجعا للقضاء يفترقان معناه ان يأخذ كل واحد منهما في طريق غير طريق صاحبه ومالك رحمه الله تعالى أخذ بظاهر هذا اللفظ فقال كما خرجا من بيتهما فعليهما أن يفترقا ولكن هذا بعيد من الفقه فان له أن يواقعها ما لم يحرما والافتراق للتحرز عن المواقعة
[ 119 ] فلا معنى للامر بالافتراق في وقت تحل المواقعة بينهما فيه وزفر رحمه الله تعالى يقول يفترقان من وقت الاحرام لان الافتراق نسك بقول الصحابة رضى الله عنهم وأوان أدار ما هو نسك بعد الاحرام وهذا ليس بقوى فان الافتراق ليس بنسك في الاداء فلا يكون نسكا في القضاء لان القضاء بصفة الاداء وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا قربا من الموضع الذى جامعها فيه يفترقان لانهما لا يأمنان إذا وصلا إلى ذلك الموضع أن تهيج بهما الشهوة فيواقعها فيفترقان للتحرز عن هذا وهذا ليس بصحيح أيضا لانه انما واقعها في السنة الاولى بسبب النكاح القائم بينهما فلو وجب الافتراق انما يجب عن النكاح وأحد لا يأمر بهذا ثم إذا بلغا إلى ذلك الموضع فتأملا فيما لحقهما من المشقة بسبب لذة يسيرة ازدادا ندما وتحرزا عن ذلك ثانيا لكيلا يصيبهما الآن مثل ما أصابهما في المرة الاولى ولكنا نقول مراد الصحابة رضى الله عنهم انهما يفترقان على سبيل الندب ان خافا على أنفسهما الفتنة لا أن يكون ذلك واجبا عليهما كما يندب الشاب الا الامتناع عن التقبيل في حالة الصيام إذا كان لا يأمن على نفسه ما سوى ذلك (قال) وان كانا قارنين فعلى كل واحد منهما شاتان لان كل واحد منهما محرم باحرامين وعلى كل واحد منهما قضاء عمرة وحجة ان لم يكن طاف بالبيت قبل المواقعة وقد سقط دم القران عنهما لفساد نسكهما وان لزمهما المضى في الفاسد لان هذا دم نسك فلا يجب الا على من جمع بين الحج والعمرة بصفة الصحة وان كان طاف بالبيت قبل الجماع فكذلك الجواب في انه يجب عليه دمان لان بالطواف لم يتحلل عن احرام العمرة ما لم يحلق ولكن ليس عليه قضاء العمرة هنا لانه انما جامع بعد ما أدى عمرته لان ركن العمرة هو الطواف فلم تفسد عمرته بهذا وانما فسد حجه فعليه قضاؤه وقد سقط عنه دم القران بفساد أحد النسكين وان جامع بعد ما وقف بعرفة لم يفسد واحد من النسكين عندنا وقد بينا هذا ولكن عليه جزور لجماعه بعد الوقوف في احرام الحج وشاة لجنايته على احرام العمرة وعليه دم القران لانه أدى النسكين بصفة الصحة (قال) وإذا جامع الحاج بعدما وقف بعرفة فأهدى جزورا ثم جامع بعد ذلك فعليه شاة لانه دخل احرامه نقصان بالجماع الاول فالجماع الثاني صادف احراما ناقصا فيكفيه شاة بخلاف الجماع في المرة الاولى فان هناك صادف احراما تاما فكان عليه جزور (قال) وان طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة بعد ما حلق أو قصر ثم جامع فليس عليه شئ لان أكثر أشواط الطواف في حكم التحلل
[ 120 ] كجميع الطواف فكما انه لو أتم الطواف تحلل في حق النساء فكذلك إذا أتى بأكثر أشواط الطواف وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا طاف جنبا ثم جامع بعد قبل الاعادة في القياس لا شئ عليه كما لو طاف محدثا لان التحلل يحصل بطواف الجنب وفى الاستحسان عليه دم فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين ذلك والفرق ما بينا أن طواف الجنب غير معتد به الا في حكم التحلل ولهذا لو أعاده انفسخ الاول بالثاني في أصح الطريقين فصار في المعنى كالجماع قبل الطواف وهنا ما أتى به من أكثر أشواط الطواف معتد به على الاطلاق توضيحه أن ما بقى هنا يقوم الدم مقامه فيكون هذا نظير النقصان في طواف المحدث ولو طاف محدثا ثم جامع لم يلزمه شئ بخلاف ما إذا طاف جنبا فان الواجب هناك لا يجب بمقابلة أصل الطواف عند فوت أدائه وهى البدنة فجماعه في تلك الحالة كجماعه قبل الطواف وان لم يكن حلق قبل الطواف حتى جامع بعد ما طاف أربعة أشواط فعليه دم لارتكاب محظور الاحرام فان التحلل بالطواف لا يحصل إذا لم يحلق (قال) والمس والتقبيل عن شهوة والجماع فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل لا يفسد الاحرام وللشافعي رحمه الله تعالى قول أنه إذا اتصل به الانزال يفسد به الاحرام على قياس الصوم فانه يفسد بالتقبيل إذا اتصل به الانزال ولكنا نقول فساد الاحرام حكم متعلق بعين الجماع ألا ترى أن بارتكاب سائر المحظورات لا يفسد وما تعلق بعين الجماع من العقوبة لا يتعلق بالجماع فيما دون الفرج كالحد ثم ما يجب هنا أبلغ مما يجب هناك وهو القضاء فيكون قياس الكفارة في الصوم ولا يجب بالجماع فيما دون الفرج الكفارة هناك فكذلك لا يجب هنا القضاء ولكن عليه دم أما إذا أنزل فغير مشكل وكذلك إذا لم ينزل عندنا وللشافعي رحمه الله تعالى قول أنه لا يلزمه شئ إذا لم ينزل على قياس الصوم فانه لا يلزمه شئ إذا لم ينزل بالتقبيل فكذلك في الحج ولكنا نقول الجماع فيما دون الفرج من جملة الرفث فكان منهيا عنه بسبب الاحرام وبالاقدام عليه يصير مرتكبا محظور احرامه فيلزمه الدم وهكذا ينبغي في الصوم الا أن الشرع ورد بالرخصة في التقبيل هناك ثم المحرم هناك قضاء الشهوة ولا يحصل ذلك بالتقبيل بدون الانزال وهنا المحرم الجماع بدواعيه والتقبيل من جملتها. ألا ترى أن التطيب محرم هنا ولا يحرم هناك (قال) والنظر لا يوجب على المحرم شيئا وان أنزل لان النظر بمنزلة التفكر إذا لم يتصل منه صنع بالمحل ولو تفكر فأمنى لا يلزمه شئ فكذلك إذا
[ 121 ] نظر (قال) وحكم الجماع في الحج والعمرة واحد إذا كان عن نسيان أو عمد أو في حال نوم أو اكراه أو طوع الا في الاثم أما الناسي عندنا يفسد نسكه بالجماع ويلزمه ما يلزم العامد الا أنه لا يأثم بعذر النسيان وللشافعي رضى الله عنه قول انه لا يفسد النسك بجماع الناسي على قياس الصوم ولكنا نقول هذا الحكم تعلق بعين الجماع وبسبب النسيان لا ينعدم عين الجماع وهذا لانه قد اقتران بحالة ما يذكره وهو هيئة المحرمين فلا يعذر بالنسيان كما في الصلاة إذا أكل أو شرب بخلاف الصوم فانه لم يقترن بحالة ما ذكره فجعل النسيان فيه عذرا في المنع من افساد الصوم بخلاف القياس (قال) وان كانت نائمة أو مكرهة يفسد حجها عندنا ولا يفسد عند الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أصله ان الاكراه متى أباح الاقدام أعدم أصل الفعل من المكره في الاحكام والنوم يعدم أصل الفعل من النائم ولهذا قال لا يفسد الصوم بهذا الفعل في حالة الاكراه أو النوم فكذلك الاحرام وعندنا تأثير الاكراه والنوم في دفع المأثم لا في اعدام أصل الفعل ألا ترى أنه يلزمه الاغتسال ويثبت به حرمة المصاهرة فكذلك يتعلق به فساد النسك ويستوى ان كان الزوج محرما أو حلالا بالغا أو صغيرا عاقلا أو مجنونا أو تكون المرأة مجنونة أو صغيرة لان فساد النسك متعلق بعين الجماع وذلك لا ينعدم بالجنون والصغر إذا كان يجامع مثله وانما قلنا انه يتعلق بعين الجماع لان المنهى عنه في الاحرام الرفث والرفث اسم الجماع قال (رجل) أهل بعمرة وجامع فيها ثم أحرم بأخرى ينوى قضاءها قال هي هي لانه بالجماع وان فسد نسكه فقد لزمه المضى في الفاسد ولا يخرج من الاحرام الا بأداء الاعمال فنيته في الاحرام بالاهلال الثاني لغو لانه ينوى ايجاد الموجود ونية القضاء كذلك فان الاحرام الواحد لا يتسع للقضاء والاداء فكان عليه دم للجماع ويفرغ منها وعليه عمرة وكذلك هذا الحكم لو كان مهلا بالحجة (قال) وان جامع في العمرة قبل الطواف ثم أضاف إليها حجة يقضيهما جميعا لان اضافة الحج إلى العمرة الصحيحة جائز فالى العمرة الفاسدة أولى وليس عليه دم القران لفساد أحد النسكين وكذلك يسقط عنه دم ترك الوقت إذا أفسد بعد ما أحرم به يعنى إذا جاوز الميقات حلالا ثم أحرم بعمرة أو حجة فعليه دم لترك الاحرام من الميقات فان أفسدها بالجماع سقط عنه هذا الدم لانه وجب عليه قضاء النسك فيعود فيحرم من الميقات ولان الدم انما يلزمه بترك الاحرام من الميقات لانه يؤدى النسك بهذا الاحرام ولم يتأد نسكه بهذا الاحرام حين أفسده ولهذا لزمه قضاؤه (قال) المحرم بالعمرة إذا جامع النساء
[ 122 ] ورفض احرامه وأقام حلالا يصنع ما يصنع الحلال من الطيب والصيد وغيره فعليه أن يعود حراما كما كان لان بافساد الاحرام لم يصر خارجا منه قبل أداء الاعمال وكذلك بنية الرفض وارتكاب المحظورات فهو محرم على حاله الا أن عليه بجميع ما صنع دم واحد لما بينا أن ارتكاب المحظورات استند إلى قصد واحد وهو تعجيل الاحلال فيكفيه لذلك دم واحد وعليه عمرة مكان عمرته لانها لزمنه بالشروع والاداء بصفة الفساد لا ينوب عما لزمه بصفة الصحة فعليه قضاؤها والله سبحانه وتعالى أعلم باب الدهن والطيب (اعلم) بأن المحرم ممنوع من استعمال الدهن والطيب لقوله ﷺ الحج الشعث النفل وقال يأتون شعثا غبرا من كل فج عميق واستعمال الدهن والطيب يزيل هذا الوصف وما يكون صفة العبادة يكره ازالته الا ان في ظاهر الرواية قال ان استعمل الطيب في عضو كامل يلزمه الدم وقد فسره هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال كالفخذ والساق ونحوهما وان استعمله فيما دون ذلك فعليه الصدقة وعلى قول محمد رحمه الله تعالى عليه بحصته من الدم وقال الشعبي رحمه الله تعالى القليل والكثير من الطيب سواء في وجوب الدم به لان رائحة الطيب توجد منه سواء استعمل القليل أو الكثير ولكنا نقول الجزاء انما يجب بحسب الجناية وانما تتكامل الجناية بما هو مقصود من قضاء التفث والمعتاد استعمال الطيب في عضو كامل فتم به جنايته وفيما دون ذلك في جنايته نقصان فتكفيه الصدقة ومحمد رحمه الله تعالى يوجب بحصنه من الدم اعتبارا للجزء بالكل كما هو أصله وذكر في المنتقى إذا طيب شاربه أو طرفا من أطراف لحيته دون الربع فعليه الصدقة وان استعمل الطيب في ربع رأسه فعليه الدم وكذلك في ربع عضو آخر وجعل الربع بمنزلة الكمال على قياس الحلق ثم الدهن إذا كان مطيبا كدهن البان والبنفسج والزنبق فهو طيب يجب باستعماله الدم وكذلك إذا كان الدهن قد طبخ وجعل فيه طيب فاما إذا ادهن بزيت أو بخل غير مطبوخ فعليه الدم عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه صدقة وقال الشافعي رحمه الله تعالى لو استعمله في الشعر فعليه دم وان استعمله في غيره لم يلزمه شئ لان استعمال الدهن في الشعر يزيل الشعث فيكون من قضاء التفث واما في غير الشعر ليس فيه معنى
[ 123 ] قضاء التفث ولا معنى استعمال الطيب لان الدهن مأكول وليس بطيب فيكون قياس الشحم والسمن وبهذا يحتج أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولكنهما قالا استعمال الدهن يقتل الهوام فيكون فيه بعض الجناية فيلزمه الصدقة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الدهن أصل الطيب فان الروائح تلقى في الدهن فيصير تاما فيجب باستعمال أصل الطيب ما يجب باستعمال الطيب كما إذا كسر المحرم بيض الصيد يلزمه اجزاء كما يجب بقتل الصيد (قال) وإذا دهن شقاق رجله بزيت أو شحم أو سمن لم يكن عليه شئ لان قصده التداوى والتداوى غير ممنوع منه في حال الاحرام ولانه لو أكله لم يلزمه شئ فان دهن به شقاق رجله أولى (قال) ويكره للمحرم أن يشم الطيب والزعفران هكذا روى عن عمر وجابر رضى الله عنهما وكان ابن عباس رضى الله عنه لا يرى به بأسا لانه انما يحرم عليه مس الطيب وهو لم يمسه وان شم رائحته كمن اجتاز في سوق العطارين لم يكره له ذلك وان كان محرما مع أن الريحان من جملة نبات الارض لا من الطيب فهو كالتفاح والبطيخ ونحوهما ولكنا نأخذ بقول عمر رضي الله عنه لان في الطيب معنى الرائحة واستعمال عين الطيب غير مقصود بل المقصود من الطيب رائحته فما يوجد منه رائحة الطيب يكره للمحرم أن يشمه لان ذلك من قضاء التفث. وقد روى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى في التفاح هكذا ومن فرق فقال المقصود هناك الاكل فأما الريحان فليس فيه مقصود سوى رائحته فيمنع منه في حالة الاحرام ولكن لا يجب عليه شئ لان الاستمتاع لا يتم بمجرد اشتمام الرائحة بمنزلة الجلوس عند العطار ونحوه وذكر حمران عن ابان عن عثمان رضي الله تعالى عنهم أنه سئل عن المحرم أيدخل البستان قال نعم ويشم الريحان فهو دليل لمن أخذ بقول ابن عباس رضى الله تعالى عنه (قال) فان كان تطيب أو ادهن قبل الاحرام ثم وجد ريحه بعد الاحرام لم يضره وكذلك ان أجمر ثيابه قبل أن يحرم ثم لبسها بعد الاحرام فلا شئ عليه وذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى ان المحرم إذا دخل بيتا قد أجمر فيه فطال مكثه حتى علق ثوبه لا يلزمه شئ ولو أجمر ثيابه بعد الاحرام فعليه الجزاء لان الاجمار إذا كان في البيت فعين الطيب لم يتصل بثوبه ولا ببدنه انما نال رائحته فقط بخلاف ما إذا أجمر ثيابه فان عين الطيب قد علق بثيابه فإذا كان الاجمار قبل الاحرام لم يكن ممنوعا عن استعمال عين الطيب يومئذ وانما بقى مع المحرم رائحته فلا يلزمه شئ (قال) ولا بأس بأن يأكل الطعام الذى فيه الزعفران أو
[ 124 ] الطيب هكذا روى عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه كان يأكل السكباج الاصفر في احرامه ولان قصده بهذا الطعام التغذى لا التطيب وان أكل الزعفران من غير أن يكون في الطعام فعليه دم ان كان كثيرا لان الزعفران لا يتغذى به كما هو وانما يجعل تبعا للطعام ومن أكل الزعفران كما هو يضحك حتى يموت فكان هو بالاكل مطيبا فمه بالزعفران وهو عضو فيلزمه الدم فأما إذا جعل في الطعام فقد صار مستهلكا فيه ان كان في طعام قد مسته النار وان كان في طعام لم تمسه النار مثل الملح وغيره فلا بأس به أيضا لانه صار مغلوبا فيه والمغلوب كالمستهلك الا أن يكون الزعفران غالبا على الملح فحينئذ هو والزعفران البحت سواء وان مس طيبا فان لزق بيديه تصدق بصدقة الا أن يكون مالزق بيديه كثيرا فحينئذ يلزمه الدم وقد بينا حد الكثير فيه وان لم يلتزق به شئ فلا شئ عليه بمنزلة ما لو اجتاز في سوق العطارين وان استلم الركن فأصاب فمه أو يده خلوق كثير فعليه دم وان كان قليلا فعليه صدقة إذ لا فرؤق بين أن يكون الخلوق التزق به من الركن أو من موضع آخر (قال) ولا بأس بأن يكتحل المحرم بكحل ليس فيه طيب فان كان فيه طيب فعليه صدقة الا أن يكون كثيرا فعليه الدم لان الكحل ليس بطيب فلا يمنع من استعماله وان كان فيه طيب فتتفاوت الجناية باستعماله من حيث القلة والكثرة كما في سائر الاعضاء وان كان من أذى فعليه أي الكفارات الثلاث شاء لما بينا أن فيما يجب فيه الدم على المحرم إذا لم يكن معذورا فان كان عن عذر وضرورة يتخير بين الكفارات الثلاث وكذلك لو تداوى بدواء فيه طيب فألزقه بجراحه أو شرب شرابا لان التداوى يكون عن ضرورة وان داوى قرحة بدواء فيه طيب فألزقه بجراحه ثم خرجت به قرحة أخرى والاولى على حالها فداوى الثانية مع الاولى فليس عليه الا كفارة واحدة فكأنه فعل الكل دفعة واحدة إذا لم تبرأ الاولى لان الجنايات استندت إلى سبب واحد (قال) وللمحرم أن يبط القرحة ويجبر الكسر ويعصب عليه وينزع ضرسه إذا اشتكى ويحتجم ويغتسل ويدخل الحمام لان هذا كله من باب المعالجة فالمحرم والحلال فيه سواء. ألا ترى أن النبي ﷺ احتجم وهو صائم محرم بالقاحة ودخل عمر رضى الله تعالى عنه الحمام بالجحفة وهو محرم (قال) وان غسل رأسه ولحيته بالخطمى فعليه دم في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه صدقة لان الخطمى ليس بطيب بل هو كالاشنان يغسل به
[ 125 ] رأسه ولكنه يقتل الهوام فلذلك يلزمه الصدقة وروى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال لا يلزمه شئ قالوا وتأويل تلك الرواية انه إذا غسل رأسه بالخطمي بعد الرمي يوم النحر فاما قبل ذلك يلزمه الصدقة عنده وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الخطمي من الطيب فان له رائحة وان لم تكن زكية وهو يقتل الهوام أيضا فتتكامل الجناية باعتبار المعنيين فلهذا يلزمه الدم (قال) وان خضبت المحرمة بالحناء يدها فعليها دم لما روى ان النبي ﷺ نهي المعتدة ان تختضب بالحناء وقال الحناء طيب ولان له رائحة مستلذة وان لم تكن زكية وان خضب رأسه بالوسمة رجل أو امرأة فلا دم عليه لان الوسمة ليست بطيب انما تغير لون الشعر الا انه روى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى انه إذا خضب رأسه بالوسمة فعليه دم لا للاخضاب ولكن لغتطية الرأس به وهذا هو الصحيح (قال) وان خضب لحيته به فليس عليه دم ولكن ان خاف ان يقتل الهوام أطعم شيئا لان فيه معنى الجناية من هذا الوجه ولكنه غير متكامل فتلزمه الصدقة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب باب ما يلبسه المحرم من الثياب (قال) ولا بأس بان يلبس المحرم القباء ويدخل فيه منكبيه دون يديه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك لان القباء مخيط فإذا أدخل فيه منكبيه صار لا بسا للمخيط فان القباء يلبس هكذا عادة ولكنا نقول لبس القباء انما يحصل بادخال اليدين في الكمين فإذا لم يفعل ذلك كان واضعا القباء على منكبيه لا لابسا وهذا لانه في معنى لبس الرداء لانه يحتاج إلى تكلف حفظه على منكبيه عند اشتغاله بعمل كما يحتاج إليه لابس الرداء اما إذا أدخل يديه في كميه فلا يحتاج في حفظه على نفسه عند الاشتغال بالعمل فيكون لابسا للمخيط وكذلك ان زره عليه كان لابسا لانه لا يحتاج إلى تكلف حفظه عليه بعد ما زره فان فعل ذلك يوما أو أكثر فعليه دم وهكذا روى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إذا لبس المخيط لزمته الكفارة وان كان في ساعة واحدة لان لبس المخيط محظور الاحرام فيصير هو مرتكبا محظور الاحرام فيلزمه الدم وان فعله في ساعة واحدة كالتطيب ولكنا نقول انما تتم جنايته بلبس مقصود واللبس المقصود في الناس عادة يكون في يوم كامل فان من أصبح يلبس الثياب ثم لا ينزعها إلى الليل فإذا لبس في هذه المدة تكاملت
[ 126 ] الجناية باستمتاع مقصود وفيما دون ذلك لم تتكامل جنايته باستمتاع مقصود فتكفيه صدقة الا ان أبا حنيفة رحمه لله تعالى كان يقول أولا قد يرجع المرء إلى بيته قبل الليل فينزع ثيابه التى لبسها للناس فكان للبس في أكثر اليوم استمتاعا مقصودا عادة والاكثر ينزل منزلة الكمال (قال) ولا بأس بأن يلبس الخز والبرود إذا لم يكن مخيطا كما كان يفعله في غير الاحرام الا انه لا يلبس البرد المصبوغ بالعصفر أو الزعفران أو الورس فقد روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي ﷺ نهى عن لبس المزعفر والمورس في حالة الاحرام وكذلك المصبوغ بالمعصفر عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس به لما روى عن عثمان رضى الله عنه أنه رأى على عبد الله بن جعفر رضى الله عنه رداء معصفرا في احرامه فأنكر عليه ذلك فقال علي رضى الله عنه ما أرى أحدا يعلمنا السنة ولان العصفر ليس بطيب فهو قياس ثوب هروى ولا بأس للمحرم أن يلبسه ولكنا نستدل بحديث عائشة رضى الله عنها فانها كرهت لبس المعصفر في الاحرام وكذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنكر على طلحة الرداء المعصفر حتى قال لا تعجل يا أمير المؤمنين فانه ممشق ولان العصفر له رائحة وان لم تكن زكية فكان بمنزلة الورس والزعفران وتأويل حديث عبد الله رضى الله عنه أنه كان قد غسل وصار بحيث لا ينفض قد عرف عبد الله ابن جعفر ذلك ولم يعرفه عثمان رضى الله عنه أو كان ذلك مصبوغا بمدر على لون العصفر وقد عرف ذلك علي رضى الله عنه ولم يعرفه عثمان فلهذا قال ما قال فأما المصبوغ على لون الهروي وهو أدمى اللون ليس له رائحة فكان قياس المعصفر إذا غسل حتى صار بحيث لا ينفض وقد بينا هناك أنه لا يلزمه شئ فهذا مثله ثم التقدير في ايجاب الدم عند لبس المصبوغ بنحو ما بينا في لبس القباء وكذلك لو لبس قميصا أو سراويل أو قلنسوة يوما إلى الليل فعليه دم وان كان فيما دون ذلك فعليه صدقة كما بينا وانما أراد بهذا إذا لبسه على الوجه المعتاد اما إذا ائتزر بالسراويل أو ارتدى بالقميص أو اتشح به فلا شئ عليه لانه يحتاج إلى تكلف حفظه على نفسه عند اشتغاله بالعمل فلا يكون لابسا للمخيط وأما في القلنسوة فلتغطية الرأس بها يلزمه الجزاء وقد بينا أن المحرم ممنوع عن تغطية الرأس وقد ذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا لم يجد الازار ففتق السراويل الا موضع التكة فلا بأس حينئذ بلبسه بمنزلة المئزر وهو نظير ما ورد به الاثر فيما إذا لم يجد لمحرم نعلين قطع خفيه
[ 127 ] أسفل من الكعبين ليصير في معنى النعلين وفسر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى الكعب في هذا الموضع بالمفصل الذى في وسط القدم عند معقد الشراك وعلى هذا قال المتأخرون من مشايخنا لا بأس للمحرم بأن يلبس المشك لانه لا يستر الكعب فهو بمنزلة النعلين فان لبس القميص والقلنسوة والقباء والسراويل يوما إلى الليل فعليه دم واحد لان جنس الجناية واحد والمقصود واحد وهو الاستمتاع بلبس المخيط فعليه دم واحد كما لو حلق رأسه كله وكذلك ان غطى وجهه يوما فعليه دم وقد بينا فيما سبق أنه ليس للمحرم أن يغطى وجهه ولا رأسه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد ورد الاثر بالنهي عن تغطية اللحية في الاحرام لانه من الوجه فعرفنا أنه لا يغطى وجهه (قال) ولا بأس بأن يلبس الهميان والمنطقة يشد بها حقويه فيها نفقته هكذا روى عن عائشة رضى الله عنها أنها سئلت هل يلبس المحرم الهميان فقالت استوثق من نفقتك بما شئت وفى حديث ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي ﷺ أنه لم ير للمحرم بأسا بأن يعقد الهميان على وسطه وفيه نفقته وكان مالك رحمه الله تعالى قول ان كان فيه نفقته فلا بأس وان كان فيه نفقة غيره كرهت له ذلك لانه لا حاجة إلى حمل نفقة غيره ولكنا نقول جواز لبس الهميان والمنطقة باعتبار أنه ليس في معنى لبس المخيط وفي هذا يستوى نفقته ونفقة غيره وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه كره للمحرم لبس المنطقة المتخذة من الابريسم فقيل لانه في معنى المخيط وقيل هو بناء على أصل أبى يوسف رحمه الله تعالى في كراهة ما قل من الحرير وكثر للرجال (قال) ويتوشح المحرم بالثياب ولا يعقد على عنقه لانه إذا عقده لا يحتاج في حفظه على نفسه إلى تكلف فكان في معنى لبس المخيط وكذلك قالوا إذا ائتزر فلا ينبغى له أن يعقد ازاره على نفسه بحبل أو غيره فقد روى أن النبي ﷺ رأى رجلا قد شد فوق ازاره حبلا فقال الق ذلك الحبل ويلك وكذلك يكره له أن يخل رداءه بخلال لانه لا يحتاج إلى تكلف في حفظه على نفسه ولكنه مع هذا لو فعل لا شئ عليه لان المحظور عليه الاستمتاع بلبس المخيط ولم يوجد ذلك (قال) ويكره له أن يعصب رأسه فان فعل يوما إلى الليل فعليه صدقة لانه غطى بعض رأسه بالعصابة وهو ممنوع من تغطية الرأس الا أن ما غطى به جزء يسير من رأسه فتكفيه الصدقة لعدم تمام جنايته وان عصب شيئا من جسده من علة أو غير علة فلا شئ عليه
[ 128 ] لانه غير ممنوع عن تغطية سائر الجسد سوى الرأس والوجه ولكن يكره له أن يفعل ذلك من غير علة كما يكره شد الازار وشد الرداء على ما بينا (قال) وان غطى المحرم ربع رأسه أو وجهه يوما فعليه دم وان كان دون ذلك فعليه صدقة وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال ان غطى أكثر رأسه فعليه دم والا فلعيه صدقة لان القليل من تغطية الرأس لا تتم به الجناية والقلة والكثرة انما تظهر بالمقابلة وهذا أصل أبى يوسف رحمه الله تعالى في المسائل وفى ظاهر الرواية الجواب قال ما يتعلق بالرأس من الجناية فللربع فيه حكم الكمال كالحلق وهذا لان تغطية بعض الرأس استمتاع مقصود يفعله الا تراك وغيرهم عادة بمنزلة حلق بعض الرأس فاما المحرمة تغطى كل شئ منها الا وجهها وتلبس كل شئ من المخيط وغيره الا الثوب المصبوغ فان فيما لا حاجة إلى لبسه فهى بمنزلة الرجل وفيما تحتاج إلى لبسه وستره يخالف حالها حال الرجل وقد بيناه (قال) ولا بأس لها أن تلبس القفازين هكذا روي عن سعد ابن أبى وقاص رضى الله عنه أنه كان يلبس بناته القفازين في الاحرام ولها أن تلبس الحرير والحلى وعن عطاء رحمه الله تعالى أنه يكره للنساء لبس الحلى في الاحرام والصحيح أنه لا بأس به وقد روى عن ابن عمر رضى الله عنه أنه كان يلبس نساءه الحلى في حالة الاحرام ورأى رسول الله ﷺ امرأتين تطوفان بالبيت وعليهما سواران من ذهب الحديث فدل أنه لا بأس بذلك (قال) وكل ما يحل للمرأة ان تلبسه في غير حالة الاحرام فكذلك يحل في حالة الاحرام الا المصبوغ على ما بينا (قال) ولا بأس بان تسدل الخمار على وجهها من فوق رأسها على وجه لا يصيب وجهها وقد بينا ذلك عن عائشة رضى الله عنها لان تغطية الوجه انما يصحل بما يماس وجهها دون مالا يماسه فيكون هذا في معنى دخولها تحت سقف ويكره لها ان تلبس البرقع لان ذلك يماس وجهها فان لبس المحرم مالا يحل له من الثياب أو الخفاف يوما أو أكثر من ذلك لضرورة فعليه أي الكفارات شاء وقد بينا فيما سبق ان ما يجب الدم بلبسه في غير موضع الضرورة إذا لبسه لاجل الضرورة يتخير فيه بين الكفارات ما شاء وذكر في الرقيات عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا اضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين فعليه أي الكفارات شاء وإذا اضطر إلى لبس قميص فلبس معه عمامة أو قلنسوة فعليه دم في لبس القلنسوة ويتخير في الكفارات أيها شاء في لبس القميص لان في الفصل الاول زيادة في موضع الضرورة فلا تكون جناية مبتدأة كما لو اضطر إلى لبس قميص فلبس جبة وفى الفصل الثاني الزيادة في
[ 129 ] غير موضع الضرورة فكانت جناية مبتدأة فتعلق بها ما هو موجبها (قال) فان لبس المخيط للضرورة أياما كان ينزع بالليل للنوم لا للاستغناء عن ذلك فهذه كلها جناية واحدة بخلاف ما إذا نزع لزوال الضرورة ثم اضطر إليه بعد ذلك فلبس فانه يلزمه كفارة أخرى لان حكم الضرورة الاولى قد انتهى بالبرء وهو نظير ما تقدم فيمن يداوى القرحة بدواء فيه طيب مرارا ان عليه كفارة واحدة ما لم يبرأ فإذا برئ ثم خرجت به قرحة أخرى فداواها بالطيب فهذه جناية أخرى ولو كان به حمى غب فكان يلبسه يوم الحمى ولا يلبسه في غير ذلك فهذه كلها جناية واحدة لا يجب بها الا كفارة واحدة لان العلة المحوجة إلى اللبس قائمة أرأيت لو جلس في الشمس فاستغنى عن لبس المخيط فلما ذهبت الشمس احتاج إلى المخيط فأعاد اللبس أكانت هذه جناية أخرى بل الكل جناية واحدة ما دامت العلة قائمة فعليه أي الكفارات شاء فان اختار الاطعام فدعى المساكين فغداهم وعشاهم أجزأه ذلك في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى ولم يجزه في قول محمد رحمه الله تعالى فأبو يوسف رضى الله تعالى عنه اعتبر المقصود فقال هذا طعام كفارة فيتأدى بالتغدية والتعشية كسائر الكفارات ومحمد رحمه الله تعالى يعتبر المنصوص عليه فيقول المنصوص عليه الصدقة هنا لقوله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وما ورد بلفظة الصدقة لا يتأدى بطعام الاباحة كالزكاة وصدقة الفطر (قال) فان لبس المحرم قميصه ولم يزرره فعليه الجزاء لان استمتاعه بلبس المخيط قد تم فانه يستغنى عن التكلف لحفظ القميص على نفسه وان لم يزره (قال) ولا بأس للمحرم بلبس الطيلسان فانه بمنزلة الرداء ولكنه يكره له ان يزره عليه وهذا قول ابن عمر رضى الله عنه وكان ابن عباس رضى الله عنه يقول لا بأس بذلك لان الطيلسان ليس بمخيط ولكنا أخذنا بقول ابن عمر رضى الله عنه لان الازار محيط عليه ولانه إذا زره لا يحتاج إلى التكلف لحفظه على نفسه فكان بمنزلة لبس المخيط (قال) ولا يلبس المحرم الجوربين كما لا يلبس الخفين وقد بينا هذا (قال) ولا بأس بأن يضرب المحرم فسطاطا ليستظل فيه عندنا وكان مالك رحمه الله تعالى يكره ذلك وهذا مروى عن ابن عباس رضى الله عنه ولكنا نأخذ بما روى ان عثمان رضى الله عنه كان يضرب له فسطاط في احرامه وان عمار بن ياسر رضى الله عنه كان إذا آذاه الحر القى ثوبه على شجرة واستظل تحته ولانه لا بأس بأن يستظل بسقف البيت لان ذلك لا يماس بدنه فكذلك الفسطاط (قال) وان دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه فان كان
[ 130 ] الستر يصيب رأسه ووجهه كرهت له ذلك لتغطية الرأس والوجه به وان كان لا يصيب رأسه ولا وجهه فلا بأس به ولا شئ عليه لان التغطية انما تحصل بما يماس بدنه وعلى هذا لو حمل المحرم شيئا على رأسه فان كان شيئا من جنس ما لا يغطى به الرأس كالطست والاجانة ونحوها فلا شئ عليه وان كان من جنس ما يغطى به الرأس من الثياب فعليه الجزاء لان مالا يغطى به الرأس يكون هو حاملا لا مستعملا الا ترى ان الامين لو فعل ذلك لا يصير ضامنا (قال) فان كان المحرم نائما فغطى رجل وجهه ورأسه بثوب يوما كاملا فعليه دم لان ما فعله به غيره كفعله في الجزاء وان كانا يفترقان في المأثم وقد بيناه في حلق الرأس والجماع ونحوه وعذر النوم لا يمنع ايجاب الجزاء عليه كما لو انقلب على صيد في حال نومه فقتله (قال) صبى أحرم عنه أبوه وجنبه ما يجنب المحرم فلبس ثوبا أو أصاب طيبا أو صيدا فليس عليه شئ عندنا والشافعي رحمه الله تعالى يوجب الكفارة المالية على الصبى كالبالغ بناء على أصله في إيجاب الزكاة عليه ويأمر الولى بادائه من ماله وعندنا المالى والبدنى سواء في أن وجوب ذلك ينبنى على الخطاب والصبي غير مخاطب ثم احرام الصبي للتخلق فلا تتحقق جنايته في الاحرام بهذه الافعال وهذا لانه ليس للاب عليه ولاية الالزام فيما يضره ولو جعلنا احرامه ملزما اياه في الاجتناب عن المحظورات وموجبا للكفارة عليه لم يكن تصرف الاب في الاحرام واقعا بصفة النظر له فلهذا جعلناه تخلقا غير ملزم اياه فلا يلزمه الجزاء بارتكاب المحظور غير أن الاب يمنعه من ذلك لتحقيق معنى التخلق والاعتياد باب النذر (قال) وإذا حلف بالمشى إلى بيت الله تعالى فحنث فعليه حجة أو عمرة استحسانا وفي القياس لا شئ عليه لان الالتزام بالنذر انما يصح فيما يكون من جنسه واجب والمشى إلى بيت الله تعالى ليس من جنسه واجب شرعا فلا يصح الالتزام بالنذر توضيحه أن الالتزام باللفظ ولم يلزمه ما تلفظ به بالاتفاق وهو المشى فلان لا يلزمه ما لم يتلفظ به من الحج والعمرة أولى ولكنا تركنا القياس بحديث على رضى الله عنه قال فيمن نذر المشى إلى بيت الله تعالى فعليه حجة أو عمرة والعرف الظاهر بين الناس أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك واللفظ إذا صار عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته ويجعل
[ 131 ] كانه تلفظ بما صار عبارة عنه ولانه لا يتوصل إلى بيت الله تعالى الا بالاحرام فكأنه التزم الاحرام بهذا اللفظ والاحرام لاداء أحد النسكين اما الحج أو العمرة فكأنه التزم بهذا اللفظ ما يخرج به عن الاحرام فلهذا يلزمه حجة أو عمرة ويمشى فيها كما التزم فإذا ركب أراق دما لحديث عقبة بن عامر رضى الله تعالى عنه حيث قال يا رسول الله ان أختى نذرت أن تحج ماشية فقال ﷺ ان الله تعالى غنى عن تعذيب أختك مرها فلتركب ولترق دما ولان الحج ماشيا أفضل فان الله تعالى قدم المشاة على الركبان فقال يأتوك رجالا وعلى كل ضامر ولهذا كان ابن عباس رضى الله تعالى عنه بعد ما كف بصره يتأسف على تركه الحج ماشيا والحسن بن على رضى الله تعالى عنه كان يمشى في طريق الحج والجنائب تقاد بجنبه فقيل له ألا تركب فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول من مشى في طريق الحج كتب الله له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم قيل وما حسنات الحرم قال الواحدة بسبعمائة ضعف فإذا ثبت أن المشى أفضل قلنا إذا ركب فقد أدى أنقص مما التزم فعليه لذلك دم فان قيل كيف يستقيم هذا وقد كره أبو حنيفة رحمه الله تعالى المشى في طريق الحج قلنا لا كذلك وانما كره الجمع بين الصوم والمشى وقال إذا جمع بينهما ساء خلقه فجادل رفيقه والجدال منهى عنه فان اختار المشى فالصحيح من المذهب انه يلزمه المشى من بيته وقال بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى يلزمه المشى من الميقات لانه التزم المشى في النسك وذلك عند احرامه من الميقات ولكن العادة الظاهرة أن الناس بهذا اللفظ يقصدون المشى من بيوتهم وقد قال علي وابن مسعود رضى الله عنهما في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله قال اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فميقات الرجل في الاحرام منزله ولكن يرخص له في تأخير الاحرام إلى الميقات ولو أحرم من بيته لا اشكال أنه يمشى من بيته فكذلك إذا أخر الاحرام قلنا يمشى من بيته كما التزم ثم لا يركب إلى أن يطوف طواف الزيارة لان تمام الخروج من الاحرام به يحصل فان تمام التحلل في حق النساء انما يحصل بالطواف وإذا اختار العمرة مشى إلى أن يحلق فان قرن بهذه العمرة حجة الاسلام أجزأه لان القارن يأتي بكل واحد من النسكين بكماله فنسك العمرة التزمه بالنذر والحج حجة الاسلام وقد أداهما بصفة الكمال فعليه دم القران لذلك وان كان ركب فعليه دم لركوبه مع دم القران (قال) وكل من وجب عليه دم في المناسك جاز أن يشاركه في بدنة ستة نفر
[ 132 ] قد وجبت عليهم الدماء فيها ألا ترى أن النبي ﷺ جوز ذلك في كل سبعة من أصحابه عام الحديبية ولا فرق بين أن يكون جنس الواجب عليهم واحدا أو مختلفا في حكم الجواز حتى إذا قصد بعضهم دم المتعة وبعضهم دم الاحصار وجزاء الصيد فذلك جائز بخلاف ما إذا قصد بعضهم اللحم لان الواجب اراقة دم هو قربة واراقة الدم في كونه قربة لا يتجزأ فإذا قصد بعضهم اللحم لم يكن فيه معنى القربة خالصا فأما عند اختلاف جهات القربة فقصد كل واحد منهم معنى القربة فقط فلهذا يتأدى الواجب به ولو كان كله جنسا واحدا كان أحب إلى لان دماء القرب مختلفة بعضها لا يحل التناول منه للاغنياء كدماء الكفارات وبعضها يحل فإذا اتحد الجنس فقد اتحد معنى القربة في المذبوح فيكون أقرب إلى الجواز (قال) فإذا نذر المشى إلى بيت الله تعالى ونوى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجد آخر فلا شئ عليه اما صحة نيته فلانها مطابقة للفظه والمساجد كلها بيوت الله تعالى قال الله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع وإذا عملت نيته صار ذلك كالملفوظ به فلا يلزمه شئ لان سائر المساجد يباح دخولها بغير احرام فلا يصير به ملتزما للاحرام وعلى هذا لو قال أنا أمشى إلى بيت الله تعالى قال فان نوى به العدة فلا شئ عليه لان المواعيد لا يتعلق بها اللزوم ولكن يندب إلى الوفاء بالوعد وان نوى به النذر كان نذرا وكذلك ان لم يكن له نية فهو نذر وكذلك ان لم يكن نوى شيئا من المساجد فهو على الكعبة للعادة الظاهرة فان الناس إذا أطلقوا هذه اللفظة يريدون بها الكعبة وعلى هذا لو قال على المشي إلى مكة أو إلى الكعبة فهو وقوله إلى بيت الله سواء وقوله وان قال على المشى إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام فلا شئ عليه في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى أخذا بالقياس فيه لان الناس لا يطلقون هذا اللفظ عادة لارادة التزام الحج والعمرة بخلاف ما تقدم من الالفاظ الثلاثة ثم المسجد الحرام بمنزلة الفناء للكعبة والحرم بمنزلة الفناء لمكة فلا يجعل ذكر الفناء كذكر الاصل في النذر بل يجعل هذا بمنزلة ما لو قال لله على المشى إلى الصفا أو إلى المروة أو إلى مقام إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه فلا يلزمه شئ وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا نأخذ بالاحتياط أو بالاستحسان في هذين الفصلين أيضا لانه لا يتوصل إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام الا بالاحرام فصار بهما ملتزما للاحرام (قال) ولو قال على السفر إلى مكة أو الذهاب أو الاتيان إلى مكة أو الركوب فلا شئ عليه والقياس في الالفاظ كلها واحد ولكن فيما تعارف الناس التزام
[ 133 ] التمسك به تركنا القياس فيه للعرف فما لا عرف فيه أخذنا بالقياس فان قال ان كلمت فلانا فلله على حجة يوم أكلمه ينوى انه يجب عليه يوم يكلمه فكلمه وجب عله حجة يقضيها متى شاء ولم يكن محرما بها يومئذ ما لم يحرم بمنزلة ما لو قال على حجة اليوم كانت واجبة عليه يحرم بها متى شاء لانه التزمها في ذمته والشروع في الاداء لا يتصل بالالتزام في الذمة كسائر العبادات فان من قال لله على ان أصوم اليوم لا يصير صائما بنذره والاحرام شروع في الاداء فلا يثبت بالالتزام ولان ما يوجب عل نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ومن وجب عليه الحج بوجود الزاد والراحلة لا يصير محرما بنفس الوجوب عليه فكذلك لا يصير محرما بمجرد ما قال وان وصل الاستثاء بنذره لم يلزمه شئ لان الاستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة قال ﷺ من حلف بطلاق أو عتاق واستثني فلا حنث عليه ولو قال لآخر على حجة ان شئت فقال قد شئت فهو عليه لان تعليق النذر بالشرط صحيح فإذا علقه بمشيئته وشاء جعل كانه أرسل النذر عند ذلك فيلزمه كالطلاق والعتاق وقوله على حجة مثل قوله لله على حجة لان الحج لا يكون الا لله تعالى والالتزام بقوله على ولو قال ان فعلت كذا فأنا أحرم فان نوي به العدة فلا شئ عليه وان نوى به الايجاب لزمه إذا فعل ذلك اما حجة أو عمرة وان لم يكن له نية فالقياس أن لا يلزمه شئ لان ظاهر لفظه عدة وفى الاستحسان يلزمه لان في عرف اللسان يراد بمثله التحقيق للحال. ألا ترى أن المؤذن يقول أشهد أن لا اله الا الله والشاهد يقول بين يدى القاضى أشهد ويريد به التحقيق لا العدة وقوله أنا أهدى بمنزلة قوله أنها أحرم (قال) وان قال ان فعلت كذا فأنا أحج بفلان فحنث فان كان نوى فأنا أحج وهو معنا فعليه أن يحج وليس عليه أن يحج به وان نوى أن يحججه فعليه أن يحججه كما نوى لان الباء للالصاق فقد ألصق فلانا بحجه وهذا يحتمل معنيين أن يحج فلان معه في الطريق وأن يعطى فلانا ما يحج به من المال والتزام الاول بالنذر غير صحيح والتزام الثاني صحيح لان الحج يؤدى بالمال عند اليأس عن الاداء بالبدن فكان هذا في الحكم البدل وحكم البدل حكم الاصل فيصح التزامه بالبدل كما يصح التزامه بالاصل فان نوى الوجه الاول عملت نيته لاحتمال كلامه ولكن المنوي لا يصح التزامه بالنذر فلا يلزمه به شئ وانما عليه أن يحج بنفسه فقط وان نوى الثاني فقد نوى ما يصح التزامه فيلزمه ذلك وإذا لزمه ذلك فاما أن يعطيه من المال ما يحج به أو يحج به مع نفسه ليحصل به الوفاء
[ 134 ] بالنذر فان لم يكن له نية فعليه أن يحج وليس عليه أن يحجج فلانا لان لفظه في حق فلان محتمل والوجوب لا يحصل باللفظ المحتمل وان كان قال فعلى ان احجج فلانا فهذا محكم غير محتمل فانه تصريح الالتزام باحجاج فلان وذلك صحيح بالنذر ولو قال ان فعلت كذا فأنا أهدى فلانا ففعل ذلك الفعل فلا شئ عليه لان النذر بالهدى لا يصح الا في الملك وهو قد نذر هدى ما لا يملكه وما لا مالية فيه فكان نذره لغوا إذ لا ولاية له على فلان ليهديه الا أن يكون فلان ذلك ولده فحينئذ يكون على القياس والاستحسان المعروف في نذر ذبح الولد (قال) ولو قال ان فعلت كذا فأنا أهدى كذا وسمى شيئا من ماله فعليه أن يهديه لانه التزم أن يهدى ما هو مملوك له والهدى قربة والتزام القربة في محل مملوك له صحيح كما لو نذر أن يتصدق به ثم الاهداء يكون إلى مكان وذلك المكان وان لم يكن في لفظه حقيقة ولكن صار معلوما بالعرف أنه مكة فان الله تعالى قال في الهدايا ثم محلها إلى البيت العتيق فإذا تعين المكان بهذا المعنى فان كان ذلك الشئ مما يتقرب باراقة دمه فعليه أن يذبحه بمكة وان كان لا يتقرب باراقة دمه وانما يتقرب بالتصدق به فانه يتصدق به على مساكين مكة وان كان ذلك الشئ لا يستطيع أن يهديه بنفسه كالدار والارض فعليه أن يهديه بقيمته لان التقرب يحصل بالعين تارة ويحصل بمعنى المالية أخرى فإذا كانت العين لا تحول من مكان إلى مكان عرفنا ان مراده التزام التصدق بماليته فعليه ان يهدى قيمته يتصدق به على مساكين مكة وان اعطاه حجبة البيت أجزأه بعد أن يكونوا فقراء لانهم بمنزلة غيرهم من المساكين (قال) وكذلك ان قال فثوبي هذا ستر البيت أو قال انا أضرب به حطيم البيت فعليه أن يهديه استحسانا وفى القياس لا شئ عليه لان ما صرح به في كلامه لا يلزمه لانه ليس بقربة فلان لا يلزمه غيره أولى وفى الاستحسان انما يراد بهذا اللفظ الاهداء به فصار اللفظ عبارة عما يراد به غيره فكأنه التزم أن يهديه لان اللفظ متى صار عبارة عن غيره سقط اعتباره في نفسه حقيقة (قال) وان قال مالى هدى فعليه أن يهدى ماله كله قال بلغنا عن إبراهيم أنه قال في مثل هذا يتصدق بماله كله ويمسك منه قدر قوته فإذا أفاد مالا يتصدق بقدر ما أمسك وأورد هذه المسألة في كتاب الهبة فيما إذا قال مالى صدقة فقال في القياس ينصرف هذا إلى كل مال له وهو قول زفر رحمه الله تعالى وفى الاستحسان ينصرف إلى مال الزكاة خاصة بخلاف إما إذا قال جميع ما أملك فمن أصحابنا من قال ما ذكر هنا جواب
[ 135 ] القياس لان التزام الهدى في كل مال كالتزام الصدقة في كل مال والاصح أن يفرق بينهما فيقال في لفظة الصدقة انما حمل هذا اللفظ على مال الزكاة خاصة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجبه الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصدقة في المال مختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه وهنا انما أوجب الهدى وما أوجب الله تعالى من الهدى لا يختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه على نفسه فلهذا اعتبرنا فيه حقيقة اللفظ ولكنه يمسك مقدار قوته لان حاجته مقدمة على حاجة غيره فإذا أفاد ما لا تصدق بمثل ما أمسك لتعلق حق المساكين به ثم قال وكذلك ان قال كل مالى صدقة في المساكين فهذا مثل الاول في قول إبراهيم رحمه الله تعالى وهذا العطف يؤيد ما قلنا أولا أن المذكور جواب القياس فان القياس والاستحسان منصوص عليهما في لفظ الصدقة في كتاب الهبة وان قال ان فعلت كذا فغلامي هذا هدى فباعه ثم فعل ذلك لم يلزمه شئ لان المعلق بالشرط عند وجوده كالمنشأ ولو أنشأ النذر عند ذلك الفعل لم يلزمه شئ لان العبد ليس في ملكه فكذلك إذا وجد الشرط وكذلك ان كان الغلام في غير ملكه حين حلف ثم اشتراه ثم فعل ذلك لان اليمين بالنذر في محل معين لا يصح الا باعتبار الملك أو الاضافة إلى الملك ولم يوجد الملك ولا الاضافة إلى الملك في المحل وقت اليمين فلم ينعقد يمينه أصلا (قال) وان قال ان كلمت فلانا فهذا المملوك هدى ثم اشتراه صحت يمينه لوجود الاضافة إلى الملك ثم عند وجود الشرط وهو الكلام يصير كانه أرسل النذر وانما ينصرف إلى شراء بعده لا إلى شراء سبقه (قال) وان قال فهذه الشاة هدى إلى بيت الله تعالى أو إلى مكة أو إلى الكعبة وهو يملكها فعليه أن يهديها لانه لو أطلق التزام الهدى صح نذره باعتبار هذا المكان فإذا صرح به كان أولى (قال) وإذا قال إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لم يلزمه أن يهديهما في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ولزمه ذلك عندهما وهو نظير ما سبق من التزام المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لما جعل ذكر هذين الموضعين عندهما كذكر مكة ولم يجعل كذلك عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى كذلك هنا فان قيل فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي أن يزلمه هنا لان ذكره الحرم والمسجد الحرام غير ملزم فكأنه لم يذكر ولكنه قال هذه الشاة هدى فتلزمه بخلاف المشى فان هناك لو قال على مشى لا يلزمه شئ قلنا هذا غير صحيح لانه إذا قال هذه الشاة هدى انما يلزمه باعتبار
[ 136 ] أن ذكر مكة يصير مضمرا في كلامه بدلالة العرف فإذا نص إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لا يمكن أن يجعل ذكر مكة مضمرا في كلامه فلهذا لا يلزمه شئ عنده (قال) وكل شئ يجعله على نفسه من المتاع والرقيق فانما عليه أن يبيعه ويتصدق به على مساكين أهل مكة وان تصدق به بالكوفة أجزأه وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجزيه لانه التزم الهدى والهدى لا يكون الا في موضع فكان من ضرورة ما نص عليه تعيين مساكين أهل مكة للتصدق عليهم ولكنا نقول هو بهذا اللفظ ملتزم للقربة في هذه المحال والفعل الذى هو قربة في هذه المحال التصدق بها فكأنه نذر أن يتصدق بها والتصدق على فقراء الكوفة كالتصدق على فقراء مكة لان معنى القربة في التصدق انما يحصل بسد خلة المحتاج وفى هذا فقراء مكة وفقراء الكوفة سواء (قال) وكل هدى جعله على نفسه من الابل والبقر والغنم فعليه ان يذبحه بمكة لان فعل القربة في هذه المحال باراقة الدم واراقة الدم لا تكون قربة الا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو يوم النحر وفى لفظه ما ينبئ عن المكان دون الزمان ولهذا كان عليه ان يذبحه بمكة وبعد الذبح صار المذبوح لله تعالى خالصا فالسبيل ان يتصدق بلحمه والاولى ان يتصدق به على مساكين مكة وان تصدق على غيرهم أجزأه عندنا لما بينا في الفصل الاول وان كان ذلك في أيام النحر فعليه ان ينحر بمنى كما هو السنة في الهدايا وان كان في غير أيام النحر فعليه ان يذبح بمكة وهذا على سبيل بيان الاولى فاما في حكم الجواز إذا ذبحه في الحرم جاز كما قال ﷺ منى منحر وفجاج مكة كلها منحر (قال) ولو قال ان فعلت كذا فعلى هدى ففعله كان عليه ما استيسر من الهدى شاة لان اسم الهدى عند الاطلاق يتناول الابل والبقر والغنم فان هذه الحيوانات يتقرب باراقة دمها الا ان عند الاطلاق يلزمه المتيقن وهو الشاة فان نوى الابل أو البقر كان عليه ما نوى لانه شدد الامر على نفسه في نيته ونوى التعظيم فيما التزمه من الهدى فيلزمه ما نوى ولا يذبحها الا بمكة لتصريحه بالهدى فان كان قال على بدنة فان كان نوى شيئا من البدن بعينه فعليه ما نوى لان المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به وان لم يكن له نية فعليه بقرة أو جزور لان اسم البدنة مشتق من البدانة وهي الضخامة والعظم وذلك لا يتناول الشاة وانما يتناول البقرة والجزور هكذا نقل عن على وابن عباس رضى الله عنهما وعن ابن مسعود وابن عمر رضى الله عنهما ان لفظة البدنة لا تتناول الا الجزور فان سائلا سأل
[ 137 ] ابن مسعود رضى الله عنه ان صاحبا لنا أوجب بدنة افتجزى البقرة فاقل مم صاحبكم فقال منى بنى رباح فقال ومتى اقتنت بنو رباح البقر وانما وهم صاحبكم الابل ثم ان كان نوى ان ينحرها بمكة فليس له ان ينحرها الا بمكة كما نوى لان المنوي كالمصرح به وان كان لم يكن له نية نحرها حيث شاء في قول أبى حنفية ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يجزئه الا ان ينحرها بمكة وجه قوله انه التزم التقرب باراقة الدم واراقة الدم لا تكون قربة الا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص وإذا لم يختص هنا بالزمان يختص بالمكان وهو الحرم كما لو أوجبه بلفظة الهدى وهما قالا كما لا يختص بالزمان لانه ليس في لفظه ما يدل عليه فكذلك لا يختص بالمكان لانه ليس في لفظة البدنة ما يدل عليه بخلاف لفظه الهدى وإذا لم يكن في لفظه ما يدل على مكان أو زمان عرفنا ان مراده التزام التقرب والتصدق باللحم وذلك يحصل في أي موضع نحر وهو قياس ما لو قال لله على جزور كان له ان ينحر في أي مكان شاء ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول لا عادة في استعمال لفظة الجزور في معنى الهدى بخلاف لفظة البدنة. ألا ترى أن اسم البدنة. ألا ترى أن اسم البدنة لا ينطق الا على ما هو معد للقربة كاسم الهدى بخلاف اسم الجزور ولمعنى القربة جعلنا اسم البدنة متناولا للبقرة والجزور جميعا لان كل واحد منهما يجزى في الهدايا والضحايا عن سبعة فعرفنا أن معنى التقرب باراقة الدم معتبر في لفظة البدنة كما هو معتبر في لفظة الهدى فكان مختصا بالحرم (قال) ولا يقلد الا هدى متعة أو قران أو تطوع من الابل والبقر دون الغنم والكلام في فصول. أحدها أن التقليد في الهدايا سنة ثبتت بقوله تعالى ولا الهدى ولا القلائد وصح أن النبي ﷺ قلد هداياه في حجة الوداع وصفة التقليد هو أن يعلق على عنق البدنة نعل أو قطعة ادم أو عروة مزادة قيل والمعني فيه اعلام الناس ان هذا أعد للتطوع باراقة دمه فيصير جلده عن قريب مثل هذه القطعة من الجلد والمقصود به التشهير وقد بينا أن التشهير فيما هو نسك دون ما هو جبر ولهذا لا يقلد الا هدى متعة أو قران أو تطوع والمقصود أن لا يمنع من الماء والعلف إذا علم أنه هدى وهذا فيما يبعد عن صاحبه في الرعى كالابل والبقر دون الغنم فان يعدم إذا لم يكن صاحبه معه فلهذا لا يقلد الغنم وهذا عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى يقلد الغنم أيضا لان التقليد سنة في الهدايا والغنم من الهدايا وقد ورد فيه أثر ولكنه شاذ فلم نأخذ به وهذا لان تقليد الغنم غير معتاد في الناس ظاهرا بخلاف تقليد الابل
[ 138 ] والبقر (قال) والتجليل حسن لان هدايا رسول الله كانت مقلدة مجللة حيث قال لعلى رضى الله عنه تصدق بجلالها وخطامها وان ترك التجليل لم يضره والتقليد أحب إلى من التجليل لان للتقليد ذكر في كتاب الله تعالى دون التجليل وأما الاشعار فهو مكروه عند أبى حنفية رحمه الله تعالى وعندهما هو حسن في البدنة وان ترك لم يضره وصفة الاشعار هو أن يضرب بالمبضع في أحد جانبي سنام البدنة حتى يخرج الدم منه ثم يلطخ بذلك الدم سنامه سمى ذلك اشعارا بمعنى أنه جعل ذلك علامة له والاشعار هو الاعلام وكان ابن أبى ليلى رحمه الله تعالى يقول الاشعار في الجانب الايسر من السنام وقد صح في الحديث أن النبي ﷺ أشعر البدن بيده وهو مروى عن الصحابة رضى الله عنهم ظاهر حتى قال الطحاوي رحمه الله تعالى ما كره أبو حنيفة رحمه الله تعالى أصل الاشعار وكيف يكره ذلك مع ما اشتهر فيه من الآثار وانما كره إشعار أهل زمانه لانه رآهم يستقصون ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة لسرايته خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب في سد هذا الباب على العامة لانهم لا يراعون الحد فأما من وقف على ذلك بأن قطع الجلد فقط دون اللحكم فلا بأس بذلك ثم حجتهما من حيث المعنى لان المقصود من الاشعار والتقليد اعلام بأنها بدنة حتى إذا ضلت ردت وإذا وردت الماء والعلف لم تمنع لكن هذا المقصود بالتقليد لا يتم لان القلادة تحل ويحتمل أن تسقط منه فانما يتم بالاشعار لانه لا يفارقه فكان الاشعار حسنا لهذا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول معنى الاعلام بالتقليد يحصل وهو لاكرام البدنة وليس في الاشعار معنى الاكرام بل ذلك يؤذي البدنة ولان التجليل مندوب إليه وانما كان مندوبا لدفع أذى الذباب عن البدنة والاشعار من جوالب الذباب فلهذا كرهه أبو حنيفة رحمه الله تعالى (قال) ولا يصير بالاشعار والتجليل محرما وانما يصير محرما بالتقليد واصل هذا ان الاحرام لا ينعقد بمجرد النية عندنا وفى أحد قولى الشافعي رحمه الله تعالى ينعقد بمجرد النية وجعل الاحرام قياس الصوم من حيث أنه التزام الكف عن ارتكاب المحظورات ومثل هذه العبادة يحصل الشروع فيها بمجرد النية كالصوم وعلى قولنا الاحرام قياس الصلاة لان الاحرام لاداء الحج أو العمرة وذلك يشتمل على اركان مختلفة كالصلاة فكما لا يصير شارعا في الصلاة بمجرد النية بدون التحريمة فكذلك في الاحرام بخلاف الصوم فانه ليس للصوم الا ركن واحد وهو الامساك وذلك معلوم بزمانه
[ 139 ] فكان الوقت للصوم معيارا ولهذا لا يصح في كل زمان الاصوم واحد فبعد وجود النية ودخول وقت الاداء لا حاجة إلى مباشرة فعل الاداء فلهذا صار شارعا فيه بمجرد النية وهنا الزمان ليس بمعيار للحج ولهذا صح اداء النفل في الزمان الذى يؤدى فيه الفرض وانما داؤه بافعاله وبمجرد النية لا يصير مباشرا للفعل فلا يصير شارعا في الاداء أيضا ولكن لو قلد البدنة بنية الاحرام أو أمر فقلد له وهو ينوى الا حرام صار محرما عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يصير محرما الا بالتلبية على القول الذى يقول لا ينعقد الاحرام بمجرد النية وحجته في ذلك أن الفعل لا يقوم مقام الذكر في التحرم للعبادة كما في الصلاة لما كان الشروع فيها بالتكبير لا يقوم الفعل فيه مقامه حتى لو ركع أو سجد بنية الشروع في الصلاة لا يصير شارعا ولا فرق بينهما لان الهدى نسك في هذه العبادة كالركوع والسجود في الصلاة توضيحه ان تقليد الهدى لا يكون أقوى من اراقة دم الهدى وباراقة دم الهدي على قصد الاحرام لا يصير محرما فكذلك بالتقليد وحجتنا في ذلك قوله تعالى ولا الهدى ولا القلائد إلى أن قال وإذا حللتم فاصطادوا ولم يتقدم ذكر الاحرام ففى قوله وإذا حللتم فاصطادوا إشارة إلى أن الاحرام يحصل بتقليد الهدى وذلك مروى عن الصحابة عمر وابن مسعود وابن عباس رضى الله تعالى عنهم حتى روى عن قيس بن سعد أنه كان يغسل رأسه فبعد ما غسل أحد شقى رأسه نظر فإذا هداياه قد قلدت فقام وترك غسل الشق الآخر وقال اما إن من قلدت هذه الهدايا له فقدم احرم والمعنى فيه أن الحج يشبه الصلاة من وجه والصوم من وجه فمن حيث أنه ليس في اثنائه ذكر مفروض كان مشبها بالصوم ومن حيث أنه يشتمل على أركان مختلفة كان مشبها بالصلاة فيوفر على الشبهين حظهما من الحكم فنقول بشبهه بالصلاة لا يصير شارعا فيه بمجرد النية وبشبهه بالصوم يصير شارعا فيه وان لم يأت بالذكر إذا اتى بفعل يقوم مقام الذكر وهذا لان المقصود بالتلبية اظهار إجابة الدعوة وبتقليد الهدى يحصل اظهار الاجابة أيضا وفرق بين التجليل والتقليد فقال بالتجليل لا يصير محرما وان نوى لان التجليل لا يختص به ما أعد للقربة فقد تجلل البدنة لا على قصد التقرب بها فلا يكون ذلك دليل الاجابة بخلاف التقليد بالصفة التى ذكرنا فانه لا يكون الا عند قصد التقرب فكان اظهارا للاجابة وكذلك بالاشعار لا يصير محرما أما عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى فلا يشكل لان الاشعار مكروه عنده فكيف يصير
[ 140 ] محرما به وعندهما الاشعار بمنزلة التجليل فانه أخراج شئ من الدم من البدنة وذلك لا يختص بحال التقرب بها فلم يكن ذلك دليل الا جابة فلهذا لا يصير محرما ثم إذا نوى عند التقليد حجة أو عمرة فهو على ما نوى لان التقليد بمنزلة التلبية وان لم يكن له نية في حجة أو عمرة انما نوى الاحرام فقط فهو بمنزلة ما لو أتى بنية الاحرام مطلقا فان شاء جعله حجا وان شاء جعله عمرة وان قلد الشاة بنية الاحرام لا يصير محرما لما بينا أن التقليد في الشاة ليس بقربة فلا يصير به محرما وان قلد الهدى وبعث به وهو لا ينوى الاحرام ثم خرج في أثره لم يصر محرما حتى يدرك هديه فإذا أدركه وسار معه صار محرما الآن والاصل فيه حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قالت كنت أفتل قلائد هدى رسول الله ﷺ بيدى فقلدها وبعث بها وأقام بأهله حلالا لا يحرم به ما يحرم على المحرم فعرفنا أنه لا يصير محرما بمجرد التقليد والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا مختلفين في هذه المسألة على ثلاثة أقاويل فمنهم من يقول إذا قلدها صار محرما ومنهم من قال إذا توجه في أثرها صار محرما ومنهم من قال إذا أدركها فساقها محرما فاخذنا بالمتيقن من ذلك وقلنا إذا أدركها وساقها صار محرما لاتفاق الصحابة رضى الله عنهم في هذه الحالة الا في بدنة المتعة فانه لا يصير محرما حتى يخرج على أثرها وان لم يدركها استحسانا وفى القياس لا يصير محرما حتى يدركها فيسوقها كما في هدى التطوع ولكنه استحسن فقال لهدى المتعة نوع اختصاص لبقاء الاحرام بسببه فان المتمتع إذا ساق الهدى فليس له أن يتحلل من النسكين بخلاف ما إذا لم يسق الهدى وكما كان له نوع اختصاص ببقاء الاحرام فكذلك بابتداء الشروع في الاحرام لهدى المتعة نوع اختصاص وذلك في أن يصير محرما بنفس التوجه وان لم يدرك الهدى بخلاف هدى التطوع (قال) وان اشترك قوم في هدى المتعة وهم يؤمون البيت فقلدها بعضهم بأمر أصحابه صاروا محرمين لان فعله بأمر شركائه كفعلهم بأنفسهم وان قلدها بغير أمرهم صار هو محرما دونهم لان فعله بغير أمرهم لا يقوم مقام فعلهم وبدون فعل من جهتهم لا يصيرون محرمين ألا ترى أنه لو قلدها أجنبي بغير أمرهم لا يصيرون محرمين فكذلك إذا قلد بعضهم بغير أمر الشركاء يصير هو محرما دونهم (قال) ويتصدق بجلال هديه إذا نحره لقول النبي ﷺ لعلى رضى الله عنه تصدق بجلالها وخطامها (قال) ولا يعطى شيئا من ذلك في أجر جزارته لا من جلده ولا من لحمه ولا من جلاله
[ 141 ] هكذا قال النبي ﷺ لعلى رضى الله عنه ولا تعط الجزار منها شيئا وقال من باع جلدا ضحيته فلا أضحية له (قال) ويستحب له ان يأكل من هدى المتعة والقران والتطوع فان الله تعالى أمر به بقوله فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأدنى ما يثبت بالامر الاستحباب فلذلك يستحب له ولا ينبغي له ان يتصدق باقل من الثلث هكذا روى عن ابن مسعود رضى الله عنه انه بعث بهدى مع علقمة فأمره ان يتصدق بثلث وان يأكل ثلثا وان يبعث إلى آل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه بثلث (قال) وان ساق بدنة لا ينوى بها الهدي قال إذا كان ساقها إلى مكة فهو هدى وانما أراد بهذا إذا قلدها وساقها لان هذا لا يفعل عادة الا بالهدى فكان سوقها بعد اظهار علامة الهدى عليها بمنزلة جعله اياها بلسانه هديا (قال) ولا يجزى في الهدايا والضحايا الا الجذع من الضأن إذا كان عظيما فما فوق ذلك أو الثني من المعز والابل والبقر لقوله ﷺ ضحوا بالثنيان ولا تضحوا بالجذعان الا ان الجذع من الضأن إذا كان عظيما يجزى لما روى ان رجلا ساق جذعانا إلى منى فبادت عليه فقال أبو هريرة رضى الله عنه سمعت النبي ﷺ يقول نعمت الاضحية الجذع من الضأن فانتهزوها ولما قال النبي ﷺ في خطبة يوم النحر من من ضحي قبل الصلاة فليعد قال أبو بردة بن نيار انى ذبحت نسكي لاطعم أهلى وجيراني فقال ﷺ تلك شاة لحم فأعد نسكك فقال عندي عتود خير من شاتين فقال صلوات الله عليه يجزيك ولا يجزى أحدا بعدك فدل أن ما دون الثنى من المعز لا يجوز والجذع من الضأن عند الفقهاء ما أتى عليه سبعة أشهر وعند أهل اللغة ما تم له ستة أشهر والنثى من الغنم عند الفقهاء ما أتى عليه سنة وطعن في الثانية وعند أهل اللغة ماتم له سنتان والثني من المعز والبقر ماتم له سنتان وطعن في الثالثة ومن الابل الجذع ما تم له أربع سنين والثني ماتم له خمس سنين (قال) ولا يجزى في الهدايا العوراء أو المقطوعة الذنب أو الاذن اشتراها كذلك أو جدت عنده بعد الشراء لحديث جابر رضى الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال استشرفوا العين والاذن ونهي رسول الله ﷺ أن يضحى بالعوراء البين عورها والعجفاء التى لا تبقى والعرجاء التى لا تمشى إلى منسكها والحادث من هذه العيوب بعد الشراء بمنزلة الموجود وقت الشراء في المنع من الجواز وهكذا ان أضجعها ليذبحها فأصابها شئ من ذلك في القياس ولكن في الاستحسان هذا
[ 142 ] لا مينع الجواز لانها تضطرب عند الذبح فيصيبها شئ من ذلك ولا يمكن التحرز في هذه الحالة فجعل عفوا لهذا ولانه أضجعها ليتلفها فتلف جزء منها في هذه الحالة لا يؤثر في المنع من الجواز بخلاف ما قبله (قال) وان كان الذاهب من العين أو الاذن أو الذنب بعضه فان كان ما ذهب منه كثيرا يمنع الجواز أيضا لما روى أن النبي ﷺ نهى أن يضحى بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة فالشرقاء مشقوقة الاذن عرضا والخرقاء طولا والمقابلة التى ذهب قدام اذنها والمدابرة أن يكون الذاهب خلف أذنها الا أن القليل لا يمكن التحرز عنه عادة فجعل عفوا والحد الفاصل بين القليل والكثير عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى في ظاهر الرواية أن يكون الذاهب أكثر من الثلث فان النبي ﷺ قال الثلث كثير ولكن جعله من الكثير الذى يجزى في الوصية بخلاف ما وراءه فعرفنا ان ما زاد على الثلث حكمه مخالف للثلث وما دونه وذكر ابن شجاع عن أبى حنيفة رحمهم الله تعالى أن الذاهب إذا كان بقدر الربع يمنع على قياس ما تقدم من المسائل أن الربع ينزل منزلة الكمال كما في المسح والحلق وعلى قولهما إذا كان الذاهب أكثر من الباقي لم يجز وان كان الباقي أكثر من الذاهب أجزأه لان القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فانما يظهر عند المقابلة وان كان الذاهب والباقى سواء لم يجز في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى لان المانع من الجواز إذا استوى بالمجوز يترجح المانع وقال أبو يوسف أخبرت بقولى أبا حنيفة رحمه الله تعالى فقال قولى قولك أو مثل قولك قيل هذا رجوع من أبى حنيفة رحمه الله تعالى إلى قوله وقيل هو إشارة إلى التفاوت بين القولين (قال) ويجزى في الهدى الخصى ومكسورة القرن لان مالا قرن له يجزى فمكسور القرن أولى وهذا لانه لا منفعة للمساكين في قرن الهدى واما جواز الخصي فلانه أطيب لحما وقال الشعبى رحمه الله تعالى ما زاده الخصا في طيبة لحمه خير للمساكين مما فات من الخصبين والاصل فيه ما روى أن النبي ﷺ ضحي بكبشين أملحين موجوأين ينظر ان في سواد ويمشيان في سواد وياكلان في سواد أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته (قال) فان اشترى هديا ثم ضل منه فاشترى مكانه آخر وقلده وأوجبه ثم وجد الاول فان نحرهما فهو أفضل لانه أتى بالواجب وزاد ولانه كان وعد أن ينحر كل واحد منهما والوفاء بالوعد مندوب إليه وان نحر الاول وباع الثاني جاز لانه ما أوجب الثاني ليكون أصلا بنفسه وانما أوجبه ليكون خلفا عن الاول قائما مقامه فإذا
[ 143 ] أوجد ما هو الاصل سقط اعتبار الخلف وان باع الاول وذبح الآخر فان كانت قيمتهما سواء أو كانت قيمة الثاني أكثر جاز لانه مثل الاول أو أفضل منه وان كانت قيمة الاول أكثر فعليه أن يتصدق بالفضل لانه جعل الاول هديا أصلا فانما يجوز اقامة الثاني مقام الاول بشرط أن لا يكون أنقص من الاول فإذا كان انقص كان عليه أن يتصدق بقدر النقصان لانه قصد أن يمنع شيئا مما جعله لله تعالى وليس له ذلك فيتصدق بالفضل ليتم جعل ذلك القدر من المالية لله تعالى وهدى المتعة والتطوع في هذا سواء لانهما صار الله تعالى إذا جعلهما هديا في الوجهين جميعا فان عرف بهدى المتعة فهو حسن لان هدى المتعة نسك فينبنى أمره على الشهرة وان ترك ذلك لم يضره لان الواجب هو التقرب باراقة الدم فالتعريف فيه ليس من الواجب في شئ وان كان معه للمتعة هديان فنحر أحدهما حل لان ما زاد على الواحد تطوع فلا يتوقف حكم التحلل عليه (قال) وهدى التطوع إذا بلغ الحرم فعطب فنحر وتصدق به أجزأه بخلاف هدى المتعة فان ذلك مختص بيوم النحر فلا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فأما هدى التطوع غير مختص بيوم النحر وانما عليه تبليغه محله بأن يذبحه في الحرم وقد فعل ذلك (قال) فان اشترى بدنة لمتعته ثم اشترك ستة نفر فيها بعد ما أوجبها لنفسه خاصة لا يسعه ذلك لانه لما أوجبها لنفسه صار الكل لازما عليه فان قدر ما يجزئ من هدى المتعة كان واجبا عليه وما زاد على ذلك وجب بايجابه فاشراكه الغير بعد ذلك مع نفسه يكون رجوعا عما أوجب في البعض وكما لا يجوز له أن يرجع في الكل فكذلك لا يجوز له أن يرجع في البعض ولان اشراكه بيع للبعض منهم وليس له أن يبيع شيئا مما أوجبه هديا وان فعل فعليه أن يتصدق بالثمن وان كان نوى عند الشراء أن يشرك فيها ستة نفر أجزأه ذلك لانه ما أوجب الكل على نفسه بمجرد الشراء فكان هذا وما لو اشتراه السبعة سواء فان لم يكن له نية عند الشراء ولكن لم يوجبها حتى اشرك فيها ستة نفر أجزأه ولكن الافضل أن يكون ابتداء الشراء منهم أو من أحدهم بأمر الباقين حتى تثبت الشركة منهم في الابتداء (قال) وإذا ولدت البدنة بعد ما اشتراها لهديه ذبح ولدها معها لانه جعلها لله تعالى خالصا والولد جزء منها فان كان انفصاله بعد ما جعلها لله تعالى سرى حق الله تعالى إليه فعليه أن يذبحها والولد معها وان باع الولد فعليه قيمته اعتبارا للجزء بالكل وان اشترى بها هديا فحسن وان تصدق بها فحسن اعتبارا للقيمة بالولد فان
[ 144 ] الافضل أن يذبح ولو تصدق به كذلك أجزأه فكذلك بقيمته (قال) وإذا مات أحد الشركاء في البدنة أو الاضحية فرضى وارثه أن يذبحها معهم عن الميت أجزأهم وهو الاستحسان وفى القياس لا يجوز لان الميت إذا لم يوص بأن يذبح عنه فقد انقطع حكم القربة عن نصيبه فصار ميراثا لوارثه والوارث لم يقصد التقرب بذبحه عن نفسه فخرج ذلك القدر من أن يكون قربة وهذا لان التقرب بالذبح تقرب بطريق الاتلاف وذلك لا يجوز عن الميت بغير أمره كالعتق ولكنه استحسن فقال يجوز لان المقصود هو التقرب وتقرب الوارث بالتصدق عن الميت صحيح وان لم يوص به فكذلك تقربه بايفاء ما قصد المورث في نصيبه باراقة الدم فالتصدق به يكون صحيحا (قال) وان كان أحد الشركاء في البدنة كافرا أو مسلما يريد به اللحم دون الهدى لم يجزهم أما إذا كان أحدهم كافرا فلا يتحقق معنى القربة في نفسه لوجود ما ينافي معنى القربة وهو كفره واراقة الدم الواحد إذا اجتمع فيه ما ينافى معنى القربة مع الموجب لها يترجح المنافى وأما إذا كان مراد أحدهم اللحم فلا يجزئ الباقين عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجزيهم لان المنافى لمعنى القربة لم يتحقق هنا ليكون معارضا ونصيب كل واحد منهم بمنزلة هدى على حدة ولكل واحد منهم ما نوى ولكننا نقول الذى نوى اللحم فكأنه نفى معنى القربة في نصيبه. ألا ترى أن النبي ﷺ قال فيما ذبحه أبو بردة قبل الصلاة تلك شاة لحم فعرفنا ان هذه عبارة عما لا يكون قربة وما يمنع الجواز واراقة الدم لا يتجزى فإذا اجتمع فيه المانع من الجواز مع المجوز يترجح المانع كما لو كان أحدهم كافرا فاما إذا نووا القربة ولكن اختلفت جهات قصدهم فعلى قول زفر رحمه الله تعالى لا يجوز أيضا لان اراقة الدم لا يتبعض فلا تسع فيها الجهات المختلفة ولكنا نقول قصد الكل التقرب فكانت الاراقة لله خالصا فلا يعتبر فيه اختلاف الجهات بعد ذلك الا ترى ان الواحد إذا وجبت عليه دماء من جهات مختلفة فنحر بدنة ينوي عن ذلك كله أجزأه فكذلك الشركاء (قال) ولا يركب البدنة بعد ما أوجبها لانه جعلها لله جلت قدرته خالصا فلا ينبغي له ان يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه قبل ان يبلغ محله الا ان يحتاج إلى ركوبها فحينئذ لا بأس بذلك لما روى ان رسول الله ﷺ رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها فقال انها بدنة يا رسول الله فقال اركبها ويلك وانما أمره بذلك لانه رآه عاجزا عن المشى محتاجا إلى ركوبها فإذا ركبها وانتقص بركوبه شئ ضمن ما نقص ذلك لانه صرف جزء منها
[ 145 ] إلى حاجته وكذلك لا يحلب لبنها لان اللبن متولد منها فلا يصرفه إلى حاجة نفسه ولكن ينبغي ان ينضح ضرعها بالماء البارد حتى يتقلص لبنها ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح فاما إذا كان بعيدا ينزل اللبن ثانيا وثالثا فيصير ذلك بالبدنة ضارا فيحلبها ويتصدق بلبنها وان صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثل ذلك أو بقيمته وأى الشركاء فيها نحرها يوم النحر أجزأهم لان كل واحد يستعين بشركائه في نحرها في وقته دلالة فيجعل ذلك بمنزلة الامر به افصاحا (قال) وإذا عطب الهدى في الطريق نحره صاحبه فان كان واجبا فهو لصاحبه يصنع به ما شاء لانه قصد بهذا اسقاط الواجب عن ذمته فإذا خرج من أن يكون صالحا لاسقاط الواجب به بقى الواجب في ذمته كما كان وهذا ملكه فيصنع به ما شاء وان كان تطوعا نحره وصبغ نعله بدمه ثم ضرب به صفحته ولم يأكل منه شيئا بل يتصدق به وذلك أفضل من أن يتركه للسباع هكذا نقل عن عائشة رضى الله عنها والاصل فيه ما روى ان النبي ﷺ بعث عام الحديبية الهدايا على يد ناجية بن جندب الاسلمي رضى الله عنه وأمره ان يسلك بها الفجاج والاودية حتى يخرج بها إلى منى فقال ماذا أصنع بما عطب على يدى منها فقال انحرها واصبغ نعلها بدمها والمراد بالنعل قلادتها واضرب بها صفحة سنامها ثم خل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من رفقتك منها شيئا ومقصوده مما ذكر ان يجعل عليها علامة يعلم بتلك العلامة انها هدى فيتناول منها الفقراء دون الاغنياء وانما نهاه أن يتناول منها لانه كان غنيا مع رفقته ثم المتطوع بالهدايا انما يتناول باذن من له الحق والاذن معلق بشرط بلوغه محله قال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها فإذا لم تبلغ محلها لا يباح له التناول منها ولا ان يطعم غنيا بل يتصدق بها على الفقراء لانه قصد بها التقرب إلى إلى الله تعالى فإذا فات معنى التقرب إلى الله تعالى باراقة الدم يتعين التقرب إلى الله تعالى بالتصدق وذلك بالصرف إلى الفقراء دون الاغنياء فان أعطى من ذلك غنيا ضمن قيمته ويتصدق بجلالها وخطمها أيضا كما يفعل ذلك إذا بلغت محلها (قال) وإذا أخطأ الرجلان فنحر كل واحد منهما هدى صاحبه أو أضحيته عن نفسه أجزأه استحسانا وفى القياس لا يجزئ لان كل واحد منها غير مأمور بما صنع في هدى صاحبه فكان متعديا ضامنا ولكنه استحسن فقال كل واحد منهما مأذون بما صنع من صاحبه لادلة لان صاحب الهدى والاضحية يستعين بكل أحد أن ينوب عنه في الذبح في وقته دلالة والاذن دلالة بمنزلة
[ 146 ] الاذن افصاحا كقرب ماء السقاية ونحوها ويأخذ كل واحد منهما هديه من صاحبه فيصنع به ما شاء بمنزلة مالو فعله صاحبه بأمره وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال لكل واحد منهما الخيار بين أن يأخذ من صاحبه هديه فيصنع به ما شاء كما لو ذبحه بنفسه وبين أن يضمن صاحبه قيمة هدية فيشترى بها هديا آخر ويذبحه في أيام النحر وان كان بعد أيام النحر تصدق بالقيمة وان نحر هديه قائما أو أضجعه فأى ذلك فعل فهو حسن. وبلغنا أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا ينحرونها قياما معقولة الايدى اليسرى وفى قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها ما يدل على أنه لا بأس بأن ينحرها قائمة لان وجوب الجنب السقوط من القيام. وروى أن النبي ﷺ نحر خمس هدايا أو ستا فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ فدل أنه ينحر قياما. وقد حكي عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى قال نحرت بيدى بدنة قائمة معقولة فكدت أهلك قوما من الناس لانها نفرت فاعتقدت أن لا أنحر بعد ذلك الا باركة معقولة أو أستعين بمن يكون أقوى عليه منى (قال) ولا أحب أن يذكر مع اسم الله تعالى غيره نحو قوله اللهم تقبل من فلان لقوله ﷺ جردوا التسمية يعنى ذكر اسم الله تعالى عند الذبح ويكفى في هذا أن ينويه بقلبه أو يذكره قبل ذكر التسمية ثم يقول بسم الله والله أكبر وينحر (قال) ولا يذبح البقر والغنم قياما لانه مندوب في كل نوع ان يذبحه على وجه يكون أيسر على المذبوح قال ﷺ إذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة الحديث (قال) ويستحب له أن يذبحه هديه أو أضحيته بيده لما روى أن النبي ﷺ ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضى الله عنه وفي هذا دليل على أن الاولى أن يذبح بنفسه فاما إذا لم يقدر على ذلك ولم يهتد لذلك فلا بأس بان يستعين بغيره لان فعل الغير بأمره كفعله بنفسه (قال) ولا أحب أن يذبحه يهودى أو نصراني لان هذا من باب القربة فلا يستعان فيه بالكافر قال ﷺ إنا لا نستعين في امر ديننا بمن ليس على ديننا (قال) وان ذبح هديه يوم النحر بعد طلوع الفجر أجزأه ولا يجزيه قبل طلوع الفجر ان كان هدى المتعة لانه مؤقت بيوم النحر وانما يدخل يوم النحر بعد طلوع الفجر الثاني وان جعل ثوبه هديا أجزأه أن يهدى قيمته لانه جعله لله تعالى وفيما صار لله تعالى صرف العين والقيمة سواء كما في الزكاة وكذلك لو جعل شاة من غنمه هديا أجزأه ان يهدى قيمتها وفى رواية
[ 147 ] أبى حفص رحمه الله تعالى أجزأه أن يهدى مثلها قال ألا ترى أنه يعطى في الزكاة قيمة الشاة فيجوز وذكر في الجامع الكبير إذا قال لله على ان أهدى شاتين وسطين فأهدى شاة تبلغ قيمتها قيمة شاتين لا يجوز بخلاف الزكاة لانه التزم اراقة دمين واراقة دم واحد لا يقوم مقام اراقة دمين وما ذكر في هذا الموضع أنه لا يجزئه التصدق بالقيمة لانه انما التزم التقرب باراقة الدم فلا يقوم التصدق بالقيمة مقامه حتى قيل في المسألة روايتان فعلى ما ذكر هنا يجب أن يجوز هناك أيضا وان قال لله على أن أهدى شاة فأهدى جزورا يجزئه وهو محسن في ذلك لانه أدى الواجب عليه وزيادة فان الجزور قائم مقام سبع من الغنم حتى يجزى عن سبعة نفر ففيه وفاء بالواجب وزيادة وانما أورد هذا لايضاح أنه إذا أهدى مثل ما عينه في نذره أو أفضل منه أو أهدى قيمته أجزأه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب باب الحج عن الميت وغيره (قال) رضى الله عنه رجل دفع مالا إلى رجل ليحج به عن الميت فلم يبلغ مال الميت النفقة فانفق المدفوع إليه من ماله ومال الميت فان كان أكثر النفقة من مال الميت وكان ماله بحيث يبلغ ذلك أو عامة النفقة فهو جائز والا فهو ضامن يرده ويحج من حيث يبلغ لان المعتبر في الحج عن الغير الانفاق من ماله في الطريق والاكثر له حكم الكل والتحرز عن القليل غير ممكن فقد يضيفه انسان يوما فلا ينفق من مال الميت وقد يستصحب مع نفسه زادا أو ثوبا من ماله نفسه وقد يشرب الماء فيعطى السقاء شيئا من عند نفسه وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا فاعتبرنا الاكثر وقلنا إذا كان أكثر النفقة من مال الميت فكأن الكل من مال الميت وان كان أكثر النفقة من مال نفسه كان جميع نفقته من مال نفسه فيكون الحج عنه ويضمن ما انفق من مال الميت لانه مخالف لامره فانه أمر بأن ينفق في سفر الحج بذلك السفر عن الميت لا عن نفسه وهذه المسألة تدل على أن الصحيح من المذهب فيمن حج عن غيره ان أصل الحج يكون عن المحجوج عنه وأن إنفاق الحاج من مال المحجوج عنه كانفاق المحجوج عنه من مال نفسه أن لو قدر على الخروج بنفسه وبنحوه جاءت السنة فان النبي ﷺ قال لسائلة حجي عن أبيك واعتمري وقال رجل
[ 148 ] يا رسول الله ان أبى مات ولم يحج افيجزئني أن أحج عنه فقال ﷺ نعم وحديث الخثعمية مشهور حيث قالت يا رسول الله إن فريضة الله الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستسمك على الراحلة أفيجزئني أن أحج عنه فقال صلوات الله تعالى عليه أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك قالت نعم فقال ﷺ الله أحق أن يقبل فدل ان أصل الحج يقع عن المحجوج عنه وروى عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال للمحجوج عنه ثواب النفقة فاما الحج يكون عن الحاج وهذا لان الحج عبادة بدنية والعبادات البدنية لا تجرى النيابة في ادائها لان الواجب عليه انفاق المال في الطريق واداء الحج فإذا عجز عن اداء الحج بقى عليه مقدار ما يقدر عليه وهو انفاق المال في الطريق فلزمه دفع المال لينفقه الحاج في طريق الحج ولكن الاول أصح فان فرض الحج لا يسقط بهذا عن الحاج وكذلك في هذه المسألة إذا كان أكثر نفقته من مال نفسه حتى صار حجه عن نفسه كان ضامنا لما أنفق من مال الميت ولو كان للميت ثواب النفقة فقط لا يصير ضامنا لان ذلك قد حصل للميت فلما قال يضمن ويحج به عن الميت من حيث يبلغ عرفنا ان الحج عن الميت (قال) وان أنفق المدفوع إليه من مال نفسه وفى مال الميت وفاء بحجه رجع به في مال الميت إذا كان قد دفع إليه وجاز الحج عن الميت لانه قد يبتلى بالانفاق من مال نفسه في طريق الحج بان لا يكون مال الميت حاضرا أو يتعذر عليه اظهاره ولا فرق في حق الميت بين ان ينفق من ماله وبين ان ينفق من مال نفسه فيرجع به في مال الميت كالوصي والوكيل يشترى لليتيم ويعطى الثمن من مال نفسه يرجع به في مال اليتيم (قال) فان نوى الحاج عن الغير ان يقيم بمكة بعد النفر خمسة عشر يوما بطلت نفقته من مال الميت لان بهذه النية صار مقيما بمكة وتوطنه بمكة لحاجة نفسه لا لحاجة الميت فلا يستحق فيه النفقة في مال الميت وانما استحقاق النفقة في مال الميت في سفره ذاهبا وجائيا لانه في ذلك عامل للميت وان كان أقام دون خمسة عشر يوما فهو مسافر على حاله فنفقته في مال الميت وقد كان بعض المتقدمين من مشايخنا رحمهم الله تعالى يقول ان أقام بعد النفر ثلاثا فنفقته في مال الميت لانه محتاج إلى هذا القدر من المقام للاستراحة وان أقام أكثر من ذلك فنفقته في مال نفسه ولكن هذا الجواب كان في زمانهم لانه كان يقدر ان يخرج من مكة متى شاء فاما في زماننا لا يقدر على الخروج الا مع الناس فان كان مقامه بمكة لانتظار خروج قافلته فنفقته في مال الميت سواء أقام خمسة عشر
[ 149 ] يوما أو أقل أو أكثر لانه لا يقدر على الخروج الا معهم فلم يكن هو متوطنا بمكة لحاجة نفسه وان أقام بعد خروج قافلته فحينئذ ينفق من مال نفسه فان بداله بعد المقام أن يرجع فنفقته في مال الميت لانه كان استحق نفقة الرجوع في مال الميت وانما كان ينفق من مال نفسه لتأخير الرجوع فإذا أخذ في الرجوع عادت نفقة الرجوع في مال الميت وهو نظير الناشزة إذا عادت إلى بيت زوجها تستحق النفقة وكذلك المضارب إذا أقام في بلدته أو في بلدة أخرى ونوى الاقامة خمسة عشر يوما لحاجة نفسه لم ينفق من مال المضاربة فان خرج مسافرا بعد ذلك كانت النفقة في مال المضاربة وقد روى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه قالا لا تعود نفقته في مال الميت هنا لان القياس أن لا يستوجب نفقة الرجوع في مال الميت لانه في حق الرجوع عامل لنفسه لا للميت ولكنا تركنا ذلك وقلنا أصل سفره كان لعمل الميت فما بقى ذلك السفر تبقى نفقته في مال الميت وبالوصول لم يبق ذلك السفر ثم هو أنشأ سفرا بعد ذلك لحاجة نفسه وهو الرجوع إلى وطنه فلا يستوجب لهذا السفر النفقة في مال الميت ولم يذكر في الكتاب أنه إذا وصل إلى مكة قبل وقت الحج بزمان كيف يكون حاله في الانفاق وقد ذكر في النوادر عن أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه إذا قدم في الايام العشر فنفقته في مال الميت وان قدم قبل ذلك أنفق من مال نفسه إلى أن تدخل أيام العشر ثم نفقته في مال الميت بعد ذلك لان العادة ان قدوم قوافل مكة يتقدم ويتأخر ولكنه في الايام العشر. وافق لما هو العادة فأما قدومه قبل ايام العشر مخالف لما هو العادة وهو في هذه الاقامة ليس يعمل للميت شيئا فلهذا كانت نفقته في مال نفسه (قال) فان أوصى أن يحج عنه بألف درهم فبلغت حججا فالوصى بالخيار ان شاء دفع كل سنة حجة وإن شاء أحج عنه رجالا في سنة واحدة وهو أفضل لان الوصية بالحج بمال مقدر بمنزلة الوصية بالتصدق بمال مقدر وفي ذلك الوصي بالخيار بين التقديم والتأخير والتعجيل أفضل لانه أقرب إلى تحصيل مقصود الموصى وأبعد عن فوات مقصوده بهلاك المال (قال) وإذا حج العبد باذن مولاه فان ذلك لا يجزئه عن حجة الاسلام لقوله ﷺ ايما عبد حج ولو عشر حجج فعليه حجة الاسلام إذا عتق وايما صبى حج ولو عشر حجج فعليه حجة الاسلام إذا بلغ وايما اعرابي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الاسلام إذا هاجر وانما قال هذا حين كانت الهجرة فريضة وكان المعنى فيه أن العتق من شرائط وجوب
[ 150 ] الحج والا يتحقق الوجوب بدون شرطه فيكون المؤدى قبل وجود الشرط نفلا فلا ينوب عن الفرض وهذا بخلاف الفقير إذا حج ثم استغنى حين جاز ما أدى عن الفرض لان ملك المال ليس بشرط للوجوب انما شرط الوجوب التمكن من الوصول إلى موضع الاداء الا ترى أن المكي الذى هو في موضع الاداء لا يعتبر في حقه ملك المال وفي حق الآفاقي لا يتقدر المال بالنصاب بل يختلف ذلك باختلاف قربه من موضع الاداء وبعده فعرفنا ان الشرط هو التمكن من الوصول إلى موضع الاداء فبأى طريق وصل الفقير إلى ذلك الموضع وجب الاداء فانما حصل اداؤه بعد الوجوب فكان فرضا فاما العتق من شرائط الوجوب فان العبد الذى هو بمكة لا يلزمه الحج فالمؤدى قبل العتق لا يكون فرضا توضيحه أنه انما أدى الحج بمنافعه ومنافع الفقير حقه فإذا اداه بما هو حقه كان فرضا فأما منافع العبد لمولاه وباذن مولاه لا تخرج المنفعة من ملكه فانما أداه بما هو ملك الغير وملك الغير لا يسقط ما هو فرض العمر عنه وهذا بخلاف الجمعة إذا أداها باذن المولى لان الجمعة تؤدى في وقت الظهر ومنافعه لاداء الظهر صارت مستثناة عن حق المولى فانما أداه بمنافع مملوكة له فهذا جائز عنه بخلاف ما نحن فيه فان هذا غير مستثنى من حق المولى فلا تتأدى به حجة الاسلام (قال) فان أصاب صيدا فعليه الصيام لانه صار جانيا على احرامه بقتل الصيد وهو ليس من أهل التكفير باراقة الدم ولا بالاطعام فيكفر بالصوم كما إذا حنث في يمينه كان عليه أن يكفر بالصوم (قال) وان جامع مضى فيه حتى يفرغ منه لان حجه وان فسد لكن عليه المضى في الفاسد وان احرامه كان لازما فلا يخرج عنه الا بأداء أفعال الحج فاسدا كان أو صحيحا وعليه الهدى إذا عتق لتعجل الاحلال بالجماع وهذا الدم لا يقوم الصوم مقامه والاصل في كل دم لا يقوم الصوم مقامه يتأخر عن العبد حتى يعتق وكل ما يقوم الصوم مقامه فعليه أن يؤديه بالصوم وعليه حجة مكان هذه ينوى حجة الاسلام لانه أفسدها بعد ما صح شروعه فيها فعليه قضاؤها وان لم يجامع ولكنه فاته الحج يحل بالطواف والسعى والحلق لانه بعد صحة شروعه في الاحرام يتحلل بما يتحلل به الحر والحر انما يتحلل بعد فوات الحج باعمال العمرة فكذلك العبد وعليه أن يحج حجة إذا عتق سوى حجة الاسلام لفوات ما شرع فيه وان أطعم عنه مولاه أو ذبح عنه من الدماء ما يلزمه لا يجزئه لانه لم يصر مالكا للطعام الذى يؤدى في الكفارة ولا لما يراق دمه فان الرق ينافى الملك وبدون الملك فيما
[ 151 ] كفر به لا تسقط عنه الكفارة الا في الاحصار خاصة فان على مولاه أن يبعث بهدى عنه حتى يحل لانه هو الذى أدخله في هذه العهدة باذنه بالاحرام فانه لو أحرم بغير اذنه كان له أن يحلله بغير هدى فإذا أحرم باذنه كان المولى هو المكتسب لسبب وجوب هذا الدم فعليه أن يحلله ولا يبعد ان يجب على المولى حق بسبب عبده كما يجب عليه صدقة الفطر عن عبده ثم على العبد إذا عتق حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر إذا كان حرا ويتحلل بالهدى العبد إذا تحلل به (قال) وإذا أراد الرجل ان يحج رجلا عن نفسه فأحب إلى ان يحج رجلا قد حج عن نفسه لانه أبعد عن اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى ولانه أهدى في اقامة أعمال الحج لصيرورتها معهودة عنده فان أحج ضرورة عن نفسه يجوز عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز ويكون حج الضرورة عن نفسه لا عن الآمر وحجته ما ورى عن النبي ﷺ انه رأى رجلا يلبي عن شبرمة فقال عليه الصلاة والسلام من شبرمة فقال أخ لى أو صديق لى فقال عليه الصلاة والسلام حج عن نفسك ثم عن شبرمة وحجتنا في ذلك حديث الخثمية ان رسول الله ﷺ جوز لها ان تحج عن أبيها ولم يستفسر انها حجت عن نفسها أولا وفى الحديث الاخير تعارض فقد روى انه سمع رجلا يلبى عن نبيشة فقال من نبيشة فقال صديق لى فقال إذا حججت عن نبيشة فحج عن نفسك وتأويل الحديث الاخير ان ذلك الرجل لم يحرم بعد ولكن على سبيل التعليم للكيفية في التلبية عن الغير فاشار عليه عليه الصلاة والسلام بأن يبدأ بالحج عن نفسه وبه نقول ان الافضل ان يحج عن نفسه أولا والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في الضرورة إذا حج بنية النفل عندنا حجه يكون نفلا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يكون عن حجة الاسلام وحجته في ذلك ان نية النفل لغو لانه عبارة عن الزيادة ولا يتصور ذلك قبل الاصل وإذا لغت نية النفل يبقى مطلق نية الحج وبمطلق النية يتأدى الفرض بدل عليه ان نية النفل نوع سفه قبل أداء حجة الاسلام والسفيه مستحق الحجر فجعل نية النفل لغوا تحقيقا لمعنى الحجر فيبقى مطلق النية ويجوز ان تتأدى حجة الاسلام بغير نية كما في المغمى عليه إذا أحرم عنه أصحابه فبنية النفل أولى وحجتنا في ذلك ان وقت أداء الفرض في الحج يتسع لاداء النفل فلا يتأدى الفرض منه بنية النفل كالصلاة بخلاف الصوم عندنا ووقت أداء الصوم لا يتسع لاداء النفل وهذا لان الحج عبادة معلومة بالافعال لا بالوقت فكان الوقت ظرفا له لا معيارا وفى مثله
[ 152 ] لا يتميز الفرض من النفل الا بالتعيين وقوله يتأدى بمطلق النية قلنا عندنا لا يتأدي الا بالتعيين غير ان التعيين يثبت بالنص تارة وبالدلالة أخرى وفي الحج التعيين حاصل بدلالة العرف فالظاهر ان الانسان لا يتحمل المشقة العظيمة ثم يشتغل باداء النفل مع بقاء الفرض عليه والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص كمن اشترى بدراهم مطلقة ينصرف إلى نقد البلد بدلالة العرف وانما يعتبر العرف إذا لم يوجد التصريح بخلافه فإذا صرح بنية النفل سقط اعتبار العرف فكان حجه عما نوى وما قال باطل على أصله في الصوم فانه لا يلغى اعتبار نية النفل بل يجعله معتبرا في الاعراض عن الفرض والمغمى عليه آذن لاصحابه بطريق الدلالة في الاحرام عنه فينزل ذلك منزلة الاذن افصاحا فانما يتأدى له الحج بالنية وان أراد ان يعين رجلا بماله للحج عن نفسه فالصرورة أولى بذلك ممن قد حج لان الصرورة بماله يتوسل إلى اداء الفرض ومن قد حج مرة يتوسل إلى أداء النفل وكما أن درجة أداء الفرض أعلى كانت الاعانة عليه بالمال أولى (قال) والحج التطوع جائز عن الصحيح يريد به أن الصحيح البدن إذا أحج رجلا بماله على سبيل التطوع عنه فهو جائز لان هذا انفاق المال في طريق الحج ولو فعله بنفسه كان طاعة عظيمة فكذلك إذا صرفه إلى غيره ليفعله عنه يكون جائزا وكونه صحيحا لا يمنعه عن أداء التطوع بهذا الطريق وان كان يمنعه عن أداء الفرض لان في التطوع الامر موسع عليه ألا ترى ان في الصلاة يجوز التطوع قاعدا مع القدرة على القيام وان كان لا يجوز ذلك في الفرض فكذا هنا في حجة الاسلام والحاصل ان العبادات المالية المقصود منها صرف المال إلى سدخلة المحتاج وذلك يحصل نيابة فيجوز الانابة فيها في حالة الاختيار والضرورة والعبادات البدنية المحضة المقصود منها اما التعظيم بالجوارح كالصلاة وإما إتعاب النفس الامارة بالسوء ابتغاء مرضات الله تعالى وذلك لا يحصل بالنائب أصلا ولا تجرى النيابة في أدائها والحج فيه المعنيان جميعا معنى التعظيم للبقعة وذلك بالنائب يحصل ومعنى تحمل المشقة للتوسل إلى أدائها وذلك بالنائب الا يحصل فلا تجزئ النيابة فيها عند القدرة على الاداء بنفسه لانعدام أحد المعنيين في الاداء بالنائب وتجزى النيابة فيها عند تحقق العجز عن الاداء بالبدن لحصول أحد المعنيين بالنائب وفى العبادات البدنية المعتبر الوسع ولا يعتبر العجز للحال لان الحج فرض العمر فيعتبر فيه عجز مستغرق لبقية العمر ليقع به اليأس عن الاداء بالبدن فقلنا ان كان عجزه بمعنى لا يزول أصلا كالزمانة يجوز لاداء بالنائب
[ 153 ] مطلقا وان كان عارضا يتوهم زواله بان كان مريضا أو مسجونا فإذا أدى بالنائب كان ذلك مراعى فان دام به العذر إلى ان مات تحقق اليأس عن الاداء بالبدن فوقع المؤدى موقع الجواز وان برأ من مرضه تبين انه لم يقع فيه اليأس عن الاداء بالبدن فكان عليه حجة لاسلام والمؤدي تطوع له والمال جعل خلفا عن القدرة على الاداء بالبدن في جواز الاداء به بعد تقرر الوجوب فأما في ثبوت حكم الوجوب بسببه ففيه اختلاف العلماء فالمذهب عندنا ان المعضوب والمقعد ولزمن لا يجب عليه الحج باعتبار ملك المال وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجب وهو رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى وحجته في ذلك حديث الخثعمية حيث قالت ان فريضة الله الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة فقولها شيخا كبيرا نصب على الحال يعنى لزمه الحج في هذه الحالة ولم ينكر عليها رسول الله ﷺ ذلك فدل أن الحج يجب على المعضوب والمقعد والزمن والمعني فيه ان شرط الوجوب التمكن من أداء الواجب بالمال فإذا جاز أداء الواجب بالمال عند العجز عن الاداء بالبدن عرفنا أن شرط الوجوب يتم به وإذا جاز بقاء الواجب بعد وقوع اليأس عن الاداء بالبدن يؤدى بالمال فكذلك يثبت الوجوب بالبدن ابتداء بهذه الصفة كالصوم في حق الشيخ الفاني يجب باعتبار بدله وهو الفدية وحجتنا في ذلك قوله تعالى من استطاع إليه سبيلا فانما أوجب الله تعالى الحج على من يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى والزمن لا يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى فلا يتناوله هذا الخطاب ثم رسول الله ﷺ جعل الشرط مالا يوصله إلى البيت بقوله من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى وزاد المعضوب وراحلته لا يبلغانه بيت الله تعالى فصار وجوده كعدمه ولان المقصود بهذه العبادة تعظيم البقعة بالزيارة والمال شرط ليتوسل به إلى هذا المقصود وما هو المقصود فائت في حق المعضوب ولا يعتبر وجود الشرط لان الشرط تبع والتبع لا يقوم مقام الاصل في اثبات الحكم به ابتداء وان كان يبقى الحكم بعد ثبوته باعتباره واعتبار الابتداء بالبقاء فاسد فانه إذا افتقر بهلاك ماله بعد ما وجب الحج عليه يبقى واجبا ثم لا يجب ابتداء على الفقير وليس هذا نظير الفدية في حق الشيخ الفاني لانه بدل عن أصل الصوم بالنص فيجوز أن يجب الاصل باعتبار البدل وهناك المال ليس يبدل عن أصل الحج ألا ترى أنه لا يتأدى بالمال وانما يتأدى
[ 154 ] بمباشرة النائب بالحج عنه فإذا لم يكن المال بدلا عن أصل الحج لا يثبت الوجوب باعتباره والروايات اختلفت في الخثعمية ففي بعضها قالت هو شيخ كبير وهذا بيان أنه في الحال بهذه الصفة لا أنه في وقت لوجوب بهذه الصفة ثم مرادها أن تزول فريضة الحج عنه في حال كونه شيخا لا انه وجب عليه ولظاهر هذا الحديث قال الشافعي رحمه الله تعالى المعضوب الذى لا مال له إذا بذل ولده له الطاعة ليحج عنه يلزمه فرض الحج وبطاعة غيره من القرابات لا يلزمه لان الخثعمية لما بذلت الطاعة جعل رسول الله ﷺ الحج دينا على ابيها بقوله فدين الله أحق ولم يستفسر أنه غنى أو فقير فدل أن يبذل الولد الطاعة يلزمه الحج وهذا لان الولد كسبه فيكون بمنزلة ما له فكما أن القدرة على الاداء بالمال تكفى للايجاب عنده فكذلك القدرة بمنفعة الابن الذى هو كسبه وهذا لانه ليس للولد في هذه الطاعة كثير منة على ابيه بخلاف سائر القرابات فان ذلك لا يخلو عن منة وحجتنا في ذلك أن الولد متبرع في بذل هذه الطاعة كغيره فلا يجوز أن يكون تبرعه موجبا للحج على الاب. ألا ترى أن الابن لو بذل المال لابيه لا يلزمه قبوله ولا يجب الحج باعتبار هذا البذل فكذلك ببذل الطاعة بل أولى لان هناك لم يكن للابن أن يرجع بعد ذلك ليتمكن الاب من مكافأته إذا استفاد مالا وهنا للابن أن يرجع عما بذل من الطاعة فإذا لم يجب الحج على الوالد ببذل الولد المال فببذله الطاعة أولى وعلى الاصل الذى قلنا ان المعتبر استطاعة توصله إلى البيت يتضح الكلام في هذه المسألة وعلى هذا الاصل قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الاعمى لا يلزمه الحج وان وجد مالا وقائدا وعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يلزمه ذلك وهو رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى وجه قولهما أن الاعمى متمكن من الاداء ببدنه ولكنه محتاج إلى قائد يهديه إلى ذلك فيكون بمنزلة الضال والذى ضل الطريق إذا وجد من يهديه إلى الطريق يلزمه الحج وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هو عاجز عن الوصول إلى البيت بنفسه فكان بمنزلة المعضوب وهذا لان ملك المال انما يعتبر إذا كان يوصله إلى البيت والمال هنا لا يوصله إليه وبذل القائد الطاعة غير معتبر فكان وجود ذلك كعدمه فلهذا لا يلزمه الحج وأما إذا مات الرجل فأوصى بأن يحج عنه فعلى الوصي أن يحج بماله لان بموته تحقق العجز عن الاداء بالبدن والوصى قائم مقامه فكما أنه بعد وقوع اليأس يحج بماله في حياته فكذا وصيه تقوم مقامه بعد موته
[ 155 ] والاولى أن يحجج الوصي بماله رجلا فان حجج امرأة جاز مع الكراهة لان حج المرأة انقص لانه ليس فيه رمل ولا سعى في بطن الوادي ولا رفع الصوت بالتلبية ولا الحلق فكان احجاج الرجل عنه اكمل من احجاج المرأة (قال) وان أحج بماله رجلا فجامع ذلك الرجل في احرامه قبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه وهو ضامن للنفقة لانه أمر بانفاق المال في سفر يؤدى به حجا صحيحا فبالافساد يصير مخالفا فيكون ضامنا للنفقة وعليه المضى في الفاسد والدم وقضاء الحج وبهذا استدل محمد رحمه الله تعالى أن أصل الحج يكون للحاج حتى ان القضاء عليه عند الافساد دون المحجوج عنه فأما على ظاهر الرواية إذا وافق فالحج عن المحجوج عنه ألا ترى أنه لا بدله من أن ينوى عن المحجوج عنه ولكن إذا خالف خرج من أن يكون بأمر المحجوج عنه فكان واقعا عن نفسه فعليه موجبه كالوكيل بالشراء إذا وافق كان مشتريا لامره ولو خالف كان مشتريا لنفسه (قال) ولو قرن مع الحج عمرة كان مخالفا ضامنا للنفقة عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما لا يصير مخالفا استحسانا لانه أتى بالمأمور به وزاد عليه ما يجانسه فلا يصير به مخالفا كالوكيل بالبيع إذا باع بأكثر مما سمى له من جنسه توضيحه أن القران أفضل من الافراد فهو بالقران زاد للميت خيرا فلا يكون مخالفا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هو مأمور بانفاق المال في سفر مجرد للحج وسفره هذا ما تفرد للحج بل للحج والعمرة جميعا فكان مخالفا كما لو تمتع ولان العمرة التى زادها لا تقع عن الميت لانه لم يأمره بذلك ولا ولاية عليه للحاج في أداء النسك عنه الا بقدر ما أمره ألا ترى أنه لو لم يأمره بشئ لم يجز أداؤه عنه فكذلك إذا لم يأمره بالعمرة فإذا لم تكن عمرته عن الميت صار كأنه نوى العمرة عن نفسه وهناك يصير مخالفا فكذا هنا الا أنه ذكر ابن سماعة عن أبى يوسف رحمهما الله تعالى أنه وان نوى العمرة عن نفسه لا يصير مخالفا ولكن يرد من النفقة بقدر حصة العمرة التى أداها عن نفسه وذهب في ذلك إلى أنه مأمور بتحصيل الحج للميت بجميع النفقة فإذا ضم إليه عمرة نفسه فقد حصل الحج للميت ببعض النفقة وبهذا لا يكون مخالفا كالوكيل بشراء عبد بألف إذا اشتراه بخمسمائة ولكن هذا ليس بشئ فانه مأمور بأن يجرد السفر للميت فإذا اعتمر لنفسه لم يجرد السفر للميت ثم الذى يحصل للميت ثواب النفقة فبقدر ما ينتقص به ينتقص من الثواب فكان هذا الخلاف ضررا عليه لا منفعة له ثم دم القران عندهما يكون على الحاج من مال نفسه وكذلك عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى
[ 156 ] إذا كان مأمورا بالقران من جهة الميت حتى لم يصر مخالفا لان دم القران نسك وسائر المناسك عليه فكذلك هذا النسك ولان لهذا الدم بدلا وهو الصوم ولو كان معسرا لم يشكل ان الصوم عليه دون المحجوج عنه فكذلك الهدى يكون عليه (قال) وكذلك لو أمر بالعمرة عن الميت فقرن معها حجة فهو على الخلاف الذى ذكرنا الا أن على قولهما نفقة ما بقى من الحج بعد اداء العمرة يكون على الحاج خاصة لانه في ذلك عامل لنفسه لا للميت فلا يستوجب النفقة في مال الميت وبهذا الفصل يتضح كلام أبى حنيفة رحمه الله تعالى على ما بينا (قال) وإذا كان أمر بالحج فبدأ واعتمر في أشهر الحج ثم حج من مكة كان مخالفا في قولهم جميعا لانه مأمور بان يحج عن الميت من الميقات والمتمتع يحج من جوف مكة فكان هذا غير ما أمر به ولانه مأمور بالاتفاق في سفر يعمل فيه للميت وانما أنفق في سفر كان عاملا فيه لنفسه لان سفره انما كان للعمرة وهو في العمرة عامل لنفسه (قال) وكل دم يلزمه المجهز يعنى الحاج عن الغير فهو عليه في ماله لانه ان كان دم نسك فاقامة المناسك عليه وان كان دم كفارة فالجناية وجدت منه وان كان دما وجب بترك واجب فهو الذى ترك ما كان واجبا عليه فلهذا كانت هذه الدماء عليه في ماله الا دم الاحصار فانه في مال المحجوج عنه في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هو على الحاج أيضا لان وجوبه لتعجيل الاحلال فيكون قياس الدم الواجب بالجماع ولانه في معنى دم القران لانه مشروع للتحلل وهما احتجا وقالا دم الاحصار للخروج عن الاحرام وهو بمباشرة الاحرام كان عاملا للميت فكان الميت هو المدخل له في هذا حكما فعليه اخراجه كما بينا في العبد إذا أحرم باذن مولاه ثم أحصر كان عليه اخراجه توضيحه أن دم الاحصار بمنزلة نفقة الرجوع ونفقة الرجوع في مال الميت وكان الحاج هو المنتفع به فكذلك دم الاحصار في ماله وان كان الحاج هو المنتفع به ثم يرد ما بقى من المال على وصى الميت فيحج به انسانا من حيث يبلغ ولا ضمان عليه فيما أنفق لانه لم يكن مخالفا لامر الميت فيما انفق الا ترى انه لو مات في الطريق لم يضمن ما انفق فكذلك إذا أحصر وقوله من حيث يبلغ يعني إذ كان ما بقى من المال لا يمكن أن يحج به من منزل الميت فيحج به من حيث يمكن وصار هذا كما لو لم يبلغ في الابتداء ثلث ماله الا هذا القدر فيحج به بحسب الامكان وأصل المسألة ان من أوصى بأن يحج عنه بثلث ماله فانما يحج من منزله لانه لو خرج للحج بنفسه كان يخرج من منزله فكذلك
[ 157 ] يحج عنه بعد موته من منزله فان كان ثلث ماله لا يكفى للحج من منزله يحج عنه من حيث يبلغ استحسانا وفى القياس تبطل هذه الوصية لانه عجز الوصي عن تنفيذ ما أمر به وهو الحج من منزله فكان هذا بمنزلة ما إذا أوصي بأن يشترى نسمة بألف درهم فتعتق عنه وكان ثلث ماله دون الالف درهم تبطل الوصية وجه لاستحسان ان المقصود من الحج ابتغاء مرضاة الله تعالى ونيل الثواب فيكون بمنزلة الوصية بالصدقة وذلك ينفذ بحسب الامكان بخلاف الوصية بالعتق فان العبد ان كان معينا فالوصية تقع له وكذلك ان لم يكن معينا فانما أوصى بعبد يساوى ألفا فلا يجوز تنفيذه بعبد يساوي خمسمائة فلو وجدوا من يحج عن الميت من منزله بذلك المال ماشيا لا يجوز لهم ان يحجوا من منزله وانما يجوز من حيث يبلغ راكبا حتى قال محمد رحمه الله تعالى في النوادر راكب البعير في ذلك أفضل من راكب الحمار وهذا لانه لا يلزمه ان يحج بنفسه ماشيا وان وجد النفقة فكذلك لا يحج عنه ماشيا لان الحاصل للميت ثواب النفقة على ما بينا وروى الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى قال الخيار إلى الوصي ان شاء أحج عنه من حيث يبلغ راكبا وان شاء من منزله ماشيا لان في أحد الجانبين زيادة في المسافة ونقصان في النفقة وفي الجانب الآخر زيادة في النفقة ونقصان في المسافة وفي كل واحد منهما نيل الثواب فيختار الوصي أي الجانبين شاء فاما المحصر بعد ما تحلل فعليه قضاء الحج والعمرة بمنزلة ما لو كان أحرم عن نفسه فتحلل بالهدى وهذا شاهد لمحمد رحمه الله تعالى فان المحصر غير مخالف ومع ذلك كان قضاء الحجة والعمرة عليه فدل ان أصل حجه عن نفسه وان للميت ثواب النفقة فان أمره رجلان كل واحد منهما بالحج فأهل بحجة عنهما كان ضامنا لهما جميعا لان كل واحد منهما أمره بأن ينفق من ماله في سفر يخلص له وان ينويه بعينه عند الاحرام وإذا لم يفعل صار مخالفا ولا يستطيع ان يجعل الحجة لواحد منهما لانهما قد لزماه عن نفسه وهذا لانه حين نواهما ولم يمكن تصحيح نيته عنهما لان الحجة الواحدة لا تكون عن الاثنين وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطلت نيته عنهما فبقيت نية أصل الاحرام فكان محرما عن نفسه فلا يستطيع ان يحوله إلى غيره من بعد وهذا بخلاف من أحرم عن أبويه كان له أن يجعله عن أيهما شاء لانه متبرع وكان ذلك أمرا بينه وبين الله تعالى فلا يتحقق الخلاف في تركه تعيين أحدهما في الابتداء بل يجعل التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء وهنا هو غير متبرع فيما صنع وهذا أمر بينه وبين العباد فبترك التعيين في
[ 158 ] الابتداء يصير مخالفا وان أمره أحدهما بالحج والآخر بالعمرة ولم يأمراه بالجمع فجمع بينهما كان مخالفا أيضا لانه ما أتي بسفر خالص لواحد منهما فلم يكن مستوجبا للنفقة في مال واحد منهما وان أمراه بالجمع جاز لان كل واحد منهما صرح أن مقصوده تحصيل النسك لا خلوص السفر له وقد حصل مقصود كل واحد منهما ولا ضمان عليه فيما أنفق من مالهما وهدى المتعة عليه في ماله وكذلك ان أمره بالقران رجل واحد لان الهدى نسك وسائر المناسك على الحاج فكذا هذا النسك (قال) رجل استأجر رجلا ليحج عنه لم تجز الاجارة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى تجوز واصل المسألة ان الاستئجار على الطاعات التى لا يجوز اداؤها من الكفار لا يجوز عندنا وعند الشافعي رضى الله عنه كل مالا يتعين على الاجير أداؤه يجوز الاستئجار عليه إذا كان تجزى فيه النيابة واستدل بحديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه حيث رقى الملدوغ بفاتحة الكتاب فأعطى قطيعا من الغنم فسأل عن ذلك رسول الله ﷺ فقال لمن أكل برقيه باطل لقد أكلت برقيه حق والرقية بهذه الصفة طاعة ثم جوز أخذ البدل عليه والمعنى فيه أن الحج تجزى فيه النيابة في الاداء ولا يتعين على الاجير اقامته فيجوز استئجاره عليه كبناء الرباط والمسجد وبهذا الوصف تبين ان عمل الاجير وقع للمستأجر والدليل عليه انه استوجب النفقة في ماله عندكم وانما يستوجب النفقة في ماله إذا عمل له والدليل عليه أنه إذا خالف لا يستوجب النفقة عليه وإذا وقع عمله له استحق الاجر عليه بخلاف من استؤجر على الامامة فان عمله في الصلاة يقع له لا لغيره وكذلك من استؤجر على الجهاد فان المجاهد يؤدى الفرض لنفسه فلا يكون عمله لغيره وحجتنا في ذلك حديث مرداس السلمي رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال اياك والخبز الرقاق والشرط على كتاب الله وحديث أبى بن كعب رضى الله عنه حين علم سورة من القرآن فاعطى قوسا فقال ﷺ أتحب ان يقوسك الله بقوس من النار فقال لا فقال صلوات الله عليه رد عليه قوسه وفي حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال إذا اتخذت مؤذنا فلا تأخذ علم الاذان اجرا ولان المباشر لعمل الطاعة عمله لله تعالى فلا يصير مسلما إلى المستأجر فلا يجب الاجر عليه بخلاف بناء الرباط والمسجد فالعمل هناك ليس بعبادة محضة بدليل أنه يصح من الكافر والدليل عليه أن المؤذن والمصلى خليفة النبي ﷺ وهو ما كان يأخذ أجرا كما قال الله تعالى قل لا أسئلكم عليه أجرا
[ 159 ] الآية فكذلك الخليفة وأما حديث الرقية قلنا كان ذلك مالا أخذه من الحربى بطريق الغنيمة ألا ترى أن النبي ﷺ قال اضربوا لى فيها بسهم مع أن ذلك لم يكن مشروطا بعينه وعندنا ما ليس بمشروط يجوز أخذه وإذا ثبت ان الاستئجار على الحج لا يجوز قلنا العقد الذى لا جواز له بحال يكون وجوده كعدمه وإذا سقط اعتبار العقد بقى أمره بالحج فيكون له نفقة مثله في ماله وهذه النفقة ليس يستحقها بطريق العوض ولكن يستحق كفايته لانه فرغ نفسه لعمل ينتفع به المستأجر فيستحق الكفاية في ماله كالقاضي يستحق كفايته في بيت المال والعالم يستحق الكفاية في مال الصدقة والمرأة تستحق النفقة في مال الزوج لا بطريق العوض (قال) ويجوز حجة الاسلام عن المحبوس إذا مات قبل أن يخرج لانه قد تحقق اليأس عن الاداء بالبدن (قال) والحاج عن غيره ان شاء قال لبيك عن فلان وان شاء اكتفى بالنية بمنزلة الحاج عن نفسه ان شاء صرح بالحج عند الاحرام وان شاء نوى واكتفى بالنية (قال) وان كان الميت أوصى بالقران فخرج المجهز يؤم البيت وساق هديا فقلده يكون محرما بهما جميعا لان احرامه عن غيره معتبر باحرامه عن نفسه وقد بينا أن ذلك يحصل بسوق الهدى كما يحصل بالتلبية فكذلك احرامه عن غيره وكذلك ان لم يكن الهدى لقرانه انما هو من نذر كان عليه أو من جزاء صيد أو من جماع في احرام قبل هذا أو احصار كان قبل هذا فساق معه لذلك هديا بدنة وقلدها محرم على قياس ما لو نوى الاحرام عن نفسه فانه يصير محرما بتقليد هذه الهدايا وسوقها فكذلك إذا نوى الاحرام عن غيره لان هذه الهدايا عليه في ماله على كل حال (قال) رجل أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما فأهل بحجة عن احدهما لا ينوى عن واحد منهما قال له أن يصرفه إلى أيهما شاء في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أرى ذلك عن نفسه وهو ضامن لنفقتهما وحجته في ذلك أنه مأمور من كل واحد منهما بتعيين النية له فإذا لم يفعل صار مخالفا كما إذا نوى عنهما جميعا بخلاف الحاج عن الابوين فانه غير مأمور به من جهتهما. ألا ترى أنه يصح نيته عنهما فكذلك عن احدهما بغير عينه وهذا لان النية بمنزلة الركن في العبادات فان قيمة العمل يكون بالنية فبتركه تعيين النية يكون مخالفا في حق كل واحد منهما وهما قالا الابهام في الابتداء لا يمنع من انعقاد الاحرام صحيحا والتعيين في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء. ألا ترى أنه لو أحرم لا ينوى
[ 160 ] حجة ولا عمرة بعينها كان له أن يعين في الانتهاء ويجعل ذلك كتعيينه في الابتداء وهذا لان الاحرام بمنزلة الشرط لاداء النسك. ألا ترى انه يصح في غير وقت لاداء ولا يتصل به الاداء فتركه نية التعيين فيه لا يجعله مخالفا وإذا عين قبل الاشتغال بعمل الاداء كان ذلك كالتعيين في الابتداء حتى انه لو اشتغل بالطواف قبل التعيين لم يكن له أن يعين بعد ذلك عن واحد منهما لانه لما اشتغل بالعمل تعين احرامه عن نفسه فان أداء العمل مع ابهام النسك لا يكون وليس أحدهما بأولى من الآخر فتعين احرامه عن نفسه فلا يملك أن يجعله لغيره بعد ذلك (قال) وإذا أهل الرجل عن نفسه وعن ولده الصغير الذى معه ثم أصاب صيدا فعليه دم واحد ولا يجب عليه من جهة اهلاله عن ابنه شئ لان عبارته في اهلاله عن ابنه كعبارة ابنه أن لو كان من أهله فيصير الابن محرما بهذا لا أن يصير الاب محرما عنه بقي للاب احرام واحد فعليه جزاء واحد بخلاف القارن فهو محرم عن نفسه باحرامين فكان عليه جزاآن (قال) وإذا أم الرجل البيت فأغمى عليه فأهل عنه أصحابه بالحج ووقفوا به في المواقف وقضوا له النسك كله قال يجزيه ذلك عن حجة الاسلام في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يجزيه والقياس قولهما لانه لم يأمر أصحابه بالاحرام عنه وليس للاصحاب عليه ولاية فلا يصير هو محرما باحرامهم عنه لان عقد الاحرام عقد لازم والزام العقد على الغير لا يكون الا بولاية ولان الاحرام لا ينعقد الا بالنية وقد انعدمت النية من المغمى عليه حقيقة وحكما لان نية الغير عنه بدون أمره لا تقوم مقام نيته والدليل عليه ان سائر المناسك لا تتأدى بأداء الاصحاب عنه فكذلك الاحرام وجه قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وهو أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بهم في كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه والاذن دلالة بمنزلة الاذن فصاحا كما في شرب ماء السقاية وكمن نصب القدر على الكانون وجعل فيه اللحم وأو قد النار تحته فجاء انسان وطبخه لم يكن ضامنا لوجود الاذن دلالة وإذا ثبت الاذن قامت نيتهم مقام نيته كما لو كان أمرهم بذلك نصا وأما سائر المناسك فالاصح أن نياتهم عنه في أدائها صحيح الا أن الاولى أن يقفوا به وأن يطوفوا به ليكون أقرب إلى أدائه لو كان مفيقا ولو أدوا عنه جاز ومن أصحابنا من فرق فقال الاحرام بمنزلة الشرط فتجزى النيابة في الشروط وان كان لا تجزى في لاعمال. ألا ترى أن المحدث إذا غسل أعضاءه غيره كان له أن يصل بتلك
[ 161 ] الطهارة وان كانت النيابة لا تجزى في أعمال الصلاة توضيحه ان النيابة عند تحقق العجز ففي أصل الاحرام تحقق عجزه عنه بسبب الاغماء فينوب عنه أصحابه فأما في أداء الاعمال لم يتحقق العجز لانهم إذا أحضروه المواقف كان هو الواقف وإذا طافوا به كان هو الطائف بمنزلة من طاف راكبا لعذر (قال) فان أصاب الذى أهل عن المغمى عليه صيدا فعليه الجزاء من قبل اهلاله عن نفسه ان كان محرما وليس عليه من جهة اهلاله عن المغمي عليه شئ لما بينا أن بهذا الاهلال يصير المغمي عليه محرما كما لو أمره به إفصاحا فأما المهل بهذا الاهلال لا يصير محرما فلا يلزمه الجزاء باعتبار احرامه (قال) وإذا حج الرجل عن أبيه أو عن أمه حجة الاسلام من غير وصية أوصى بها الميت أجزأه ان شاء الله تعالى (قال) بلغنا عن النبي ﷺ أنه قال للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يقبل منك فقالت نعم فقال صلوات الله عليه الله أحق أن يقبل وفى الحديث الآخر قال ﷺ للتى سألته أن تحج عن أبيها حجي واعتمري وأن سعد بن أبى وقاص رضى الله تعالى عنه قال يا رسول الله ان أمي قد توفيت وانها كانت تحب الصدقة أفأتصدق عنها فقال نعم فهذه الآثار تدل على أن الوارث يتبرع على مورثه بمثل هذه القرب فان قيل فلماذا قيد الجواب الاستثناء بعد ما صح الحديث فيه (قلنا) لان خبر الواحد لا يوجب علم اليقين فان قيل فقد أطلق الجواب في كثير من الاحكام الثابتة بخبر الواحد (قلنا) خبر الواحد موجب للعمل ففيما طريقه العمل أطلق الجواب فيه فأما سقوط حجة الاسلام عن الميت باداء الورثة طريقه العلم فانه أمر بينه وبين ربه تعالى فلهذا قيد الجواب بالاستثناء (قال) رجل أوصى بحجة فأحج الوصي عنه رجلا فهلكت النفقة من ذلك الرجل قال يحج عنه حجة أخرى من ثلث ما بقى من المال وهذا قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى فأما عند أبى يوسف رحمه الله تعالى ان بقى من ثلث مال الميت ما يمكن أن يحج به يحج عنه ثانيا والا فقد بطلت الوصية وعند محمد رحمه الله تعالى الوصية تبطل لان الوصي قائم مقام الموصى في تعيين المال ولو عين الموصي مالا فهلك بطلت الوصية فكذلك إذا عين الوصي وأبو يوسف يقول محل الوصية الثلث فتعيين الوصي الثلث صحيح لان به يتميز الثلث للوصية فاما تعيينه في الثلث غير صحيح لان جميع الثلث محل الوصية فما بقى شئ يجب تنفيذ الوصية فيه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول تعيين المال ليس بمقصود وانما المقصود به الحج عن
[ 162 ] الميت فإذا لم يفد هذا التعيين ما هو المقصود صار كأن التعيين لم يوجد وماهلك من المال صار كان لم يكن فلهذا يحج عنه بثلث ما بقى (قال) وان أوصى بحجة وعتق نسمة والثلث لا يسعهما يبدأ بالذى بدأ به الميت لان البداية تدل على زيادة العناية وقد ثبت وجوب تنفيذ الوصية الاولى قبل ذكر الثانية فلا يتغير ذلك بذكر الوصية الثانية إذ ليس في آخر كلامه ما يغير موجب أوله الا أن يكون الحج حجة الاسلام فحينئذ يبدأ بها وان أخره الميت لان الترجيح بالبداية بعد المساواة في القوة ولا مساواة بين الفرض والنفل في القوة ولان الظاهر ان الموصى يقصد تقديم الفرض في الاداء وان أخره في الذكر لان إسقاط الفرض عن ذمته يترجح عنده على التبرع بما ليس عليه (قال) وان أوصى بان يحج عنه بثلثه ولم يقل حجة حج عنه بجميع الثلث لانه جعل الثلث مصروفا إلى هذا النوع من القربة فيجب تحصيل مقصوده في جميع الثلث كما لو أوصى أن يفعل بثلثه طاعة أخرى (قال) وان أوصى أن يحج عنه رجل حجة فأحجوه فلما قدم فضل معه كسوة ونفقة فان ذلك لورثة الميت لان الحاج عن الغير لا يتملك المال المدفوع إليه فان التمليك يكون بطريق الاستئجار وقد بينا بطلان الاستئجار على الطاعة وانما ينفق المال على ملك الموصى بطريق الاباحة لاستحقاقه الكفاية حين فرغ نفسه ليعمل له فما فضل من ذلك يكون باقيا على ملك الميت فيرد على ورثته (قال) وإذا أوصى لرجل فقال أحجوا فلانا حجة ولم يقل عنى ولم يسم كم يعطى فانه يعطى بقدر ما يحجه حجة وله أن لا يحج به إذا أخذه بل يصرفه إلى حاجة أخرى لانه مأمره بالحج عنه انما جعل ذلك الحج عيارا لما أوصى له به من المال ثم أشار عليه بان يحج بذلك المال عن نفسه فكانت وصية صحيحة يجب تنفيذها بالدفع إليه ومشورته غير ملزمة فان شاء حج به وان شاء لم يحج (قال) وإذا أوصى أن يحج عنه رجل بعينه أو بغير عينه وأوصى بوصايا لا ناس بأكثر من الثلث قسم الثلث بينهم بالحصص يضرب للحج فيه بأدنى ما يكون من نفقة الحج لان الوصية بالحج وجب تنفيذها له بنفقة الموصي ووجب تنفيذ سائر الوصايا حقا للموصي لهم فعند اختلاف الحقوق تجرى المزاحمة بينهم في الثلث لمراعاة حق كل مستحق بخلاف ما ذكرنا من الحج والعتق لان تنفيذ الوصيتين هناك لحق الموصى فلهذا كانت البداية بما بدأ به الميت ثم ما خص الحج من الثلث هنا يحج به من حيث يبلغ لانه هو الممكن من تحصيل مقصود الموصى بمنزلة ما لو لم يكن ثلث ماله
[ 163 ] الا هذا وأوصى بان يحج عنه فانه يحج من حيث يبلغ فان أحجوا به من موضع فرجع الحاج بفضل نفقة وكسوة فقد تبين أنهم أخطأوا فكان الوصي ضامنا لما أنفقه فيضم ذلك إلى ما بقى ويحج به عن الميت من حيث يبلغ الا إذا كان الفاضل شيئا يسيرا فحينئذ هذا والاول سواء في القياس ولكن في الاستحسان تجزى الحجة عن الميت ولا يكون الوصي ضامنا لان اليسير من التفاوت لا يمكن الاحتراز عنه فلا بد من أن يبقى بعد رجوعه كسرة أو جراب خلق أو ثوب خلق فلهذا جعل هذا القدر عفوا ولكن يرد على الورثة أو على الموصى له ان كان هناك موصى له بالثلث (قال) وإذا أهلت المرأة بحجة الاسلام لم يكن لزوجها أن يمنعها إذا كان معها محرم وان لم يكن معها محرم كان له ان يمنعها وهى بمنزلة الحرة المحصرة وقد بينا فيما تقدم ان من شرائط وجوب الحج عليها في حقها المحرم عندنا ثم يشترط أن تملك قدر نفقة المحرم لان المحرم إذا كان يخرج معها فنفقته في مالها الا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى يقول نفقة المحرم في ماله لانه غير مجبر على الخروج فإذا تبرع به لم يستوجب بتبرعه النفقة عليها ولكن في ظاهر الرواية هي لا تتوسل إلى الحج الا بنفقة المحرم كما لا تتوسل الا بنفقتها فكما يشترط لوجوب الحج عليها ملك الزاد والراحلة ويجعل ذلك شرطا لنفسها فكذلك للمحرم الذى يخرج معها يجعل ذلك شرطا وقد بينا شرائط الوجوب فيما سبق ولم يتعرض في شئ من المواضع لا من الطريق واختلف مشايخنا أن أمن الطريق شرط للوجوب أم شرط للاداء وكان ابن أبى شجاع رحمه الله تعالى يقول هو شرط الوجوب لان بدونه يتعذر الوصل إلى البيت الا بمشقة عظيمة فيكون شرط الوجوب كالزاد والراحلة وكان أبو حازم رحمه الله تعالى يقول هو شرط الاداء لان النبي ﷺ لما سئل عن الاستطاعة فسرها بالزاد والراحلة ولا تجوز الزيادة في شرط وجوب العبادة بالرأى ولم يكن الطريق في وقت أخوف مما كان يومئذ لغلبة أهل الشرك في ذلك الموضع ولم يشترط رسول الله ﷺ أمن الطريق فدل أن ذلك ليس من شرائط الوجوب انما شرط الوجوب ملك الزاد والراحلة للذهاب والمجئ وملك نفقة من تلزمه نفقته من العيال كالزوجة والولد الصغير وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى مع ذلك زيادة نفقة شهر لان الظاهر أنه إذا رجع لا يشتغل بالكسب الا بعد مدة فاستحسن اشتراط ملك نفقة شهر بعد رجوعه ثم بعد استجماع شرائط الوجوب يجب على الفور حتى يأثم بالتأخير عند أبى يوسف رواه عنه بشر بن المعلى وهكذا ذكره ابن شجاع عن أبي
[ 164 ] حنيفة رحمهما الله تعالى قال سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال بل يحج به فذلك دليل على أن الوجوب عنده على الفور وعن محمد رحمه الله تعالى يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت فان أخر حتى مات فهو آثم بالتأخير وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يأثم بالتأخير وان مات واستدل محمد بتأخير رسول الله ﷺ الحج بعد نزول فرضيته فانها نزلت فرضية الحج في سنة ست من الهجرة وحج رسول الله ﷺ في سنة عشر والمعنى فيه أن الحج فرض العمر فكان جميع العمر وقت أدائه ولا يستغرق جميع العمر اداؤه فصار جميع الوقت في حق الحج كجميع وقت الصلاة في حق الصلاة وهناك التأخير يسعه بشرط أن لا يفوته عن وقته ودليل صحة هذا الكلام انه إذا أخره كان مؤديا لا قاضيا فدل أن جميع العمر وقت ادائه وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله ﷺ من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم يحج عليه فلا أن يموت يهوديا أو نصرانيا الحديث وقال عمر رضى الله عنه لقد هممت ان أنظر إلى من ملك الزاد والراحلة ولم يحج فأحرق عليهم بيوتهم والله ما أراهم مسلمين قالها ثلاثا والمعنى فيه أن السنة الاولى بعد ما تمت الاستطاعة متعينة لاداء الحج بعد دخول وقت الحج فالتأخير عنه يكون تفويتا كتأخير الصوم عن شهر رمضان وتأخير الصلاة عن وقتها بيانه وهو أن يمضى هذا الوقت يعجز عن الاداء بيقين وقدرته على الاداء بمجئ أشهر الحج من السنة الثانية موهوم فربما لا يعيش إليها وبالموهوم لا تثبت القدرة فبقى مضى هذا الوقت تفويتا له توضيحه أن وقت أداء أشهر الحج من عمره لا من جميع الدنيا وهذه السنة متعينة لذلك لان عدم التعيين لاعتبار المعارضة ولا تتحقق المعارضة الا أن يتيقن بحياته إلى السنة الثانية ولا طريق لاحد إلى معرفة ذلك ولهذا قلنا لو أخره كان مؤديا لانه لما بقى إلى السنة الثانية تحققت المعارضة فخرجت السنة الاولى من أن تكون متعينة وكانت هذه السنة في حقه تعد لما أدركها بمنزلة السنة الاولى فأما تأخير النبي ﷺ فقد منع ذلك بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى فقالوا نزول فريضة الحج بقوله تعالى ولله عليه الناس حج البيت وانما نزلت هذه الآية في سنة عشر فأما النازل سنة ست فقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وهذا أمر بالاتمام لمن شرع فيه فلا يثبت به ابتداء الفرضية مع أن التأخير انما لا يحل لما فيه من من التعريض للفوت ورسول الله ﷺ كان يأمن من ذلك لانه مبعوث لبيان
[ 165 ] الاحكام للناس والحج من أركان الدين فأمن أن يموت قبل أن يبينه للناس بفعله ولان تأخيره كان لعذر وذلك أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويلبون تلبية فيها شرك وما كان التغيير ممكنا للعهد حتى إذا تمت المدة بعث عليا رضى الله تعال يعنه حتى قرأ عليهم سورة براءة ونادى أن لا يطوفن بهذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان ثم حج بنفسه ومن ذلك انه كان لا يستطيع الخروج وحده بل يحتاج إلى أصحاب يكونون معه ولم يكن متمكنا من تحصيل كفاية كل واحد منهم ليخرجوا معه فلهذا أخره أو كان للنسئ الذى كان يفعله أهل الجاهلية وقد بينا هذه الاعذار في الخلافيات (قال) وان أهلت المرأة بغير حجة الاسلام فللزوج أن يمنعها من الخروج ان كان لها محرم أو لم يكن لانها ممنوعة عن التطوع بغير اذن الزوج قال ﷺ لتلك المرأة لا تصومي تطوعا الا بأذن زوجك ولانا لو مكناها من ذلك فوتت على الزوج حقه أصلا لانها كما خرجت عن حجة أحرمت بأخرى وهي لا تملك تفويت حق الزوج عليه فلهذا كان له أن يمنعها وهى بمنزلة المحصرة الا أن للزوج أن يحللها هنا قبل أن تبعث بالهدى ليوفر حقه عليه بخلاف ما إذا عدمت المحرم في حجة الاسلام وقد بينا هذا فيما سبق وكذلك المملوك إذا أهل بغير اذن المالك (قال) وإذا أذن لعبده أو لامته في الاحرام كرهت له أن يمنعه بعد ذلك ولو حلله جاز بخلاف الزوج وقد تقدم بيان هذا الفرق أيضا اعاده للفرق وهو أنه لما باع المملوك بعد الاذن له فللمشترى أن يحلله بغير كراهة عندنا لان الكراهة في حق البائع كان لمعنى خلف الوعد وذلك غير موجود في حق المشترى وعلى قول زفر رحمه الله تعالى ليس للمشترى ان يحلله ولكون له ان يرده عليه بعيب الاحرام وجعله بمنزلة النكاح إذا زوج أمته ثم باعها لم يكن للمشترى ان يبطل ذلك النكاح لانه سبق ملكه ولكن يجوز له ان يردها إذا لم يكن عالما به فكذلك هنا ولكنا نقول المشترى في ملك الرقبة قائم مقام البائع ولم يكن للبائع ولاية ابطال النكاح بعد صحته فلا يكون ذلك للمشترى أيضا وقد كان للبائع ولاية التحليل من الاحرام قبل ان يبيعه فيكون ذلك للمشترى أيضا وإذا ثبت له ولاية التحلل لم يكن ذلك عيبا لازما توضيحه ان النكاح حق العباد فيكون معارضا لحق المشترى فيترجح عليه بالسبق فاما الاحرام لزومه ليس لحق العباد العباد وحق العبد في المحل مقدم على حق الله تعالى فلهذا كان للمشترى ان يحلله وعلى هذا الخلاف إذا أحرمت المرأة ثم
[ 166 ] تزوجت كان للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير حجة الاسلام عندنا وعند زفر ليس له ذلك وان أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير اذن زوجها فحللها ثم جامعها ثم بداله ان يأذن لها في عامه ذلك فعليها أن تحج باحرام مستقبل وعليها دم لانها قد تحللت من الاحرام الاول باحلال الزوج قبل اداء الاعمال فعليها الدم وقضاء الحج وليس عليها قضاء العمرة عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليها ذلك بمنزلة ما لو أذن لها بعد تحول السنة وهذا لان بالتحلل الاول وجب عليها قضاء حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر وصار ذلك دينا في ذمتها فلا فرق بين أن يأذن لها في عامه ذلك أو في عام آخر وحجتنا في ذلك أن وجوب العمرة على المحصر باعتبار فوت اداء الحج في هذه السنة بالقياس على فائت الحج فان فائت الحج يلزمه اداء العمرة فإذا أذن لها فحجت في هذه السنة لم يتحقق سبب وجوب العمرة عليها فاما بعد تحول السنة فقد تحقق سبب وجوب العمرة عليها وهو فوات اداء الحج في السنة الاولى فلهذا فرقنا بينهما والله أعلم بالصواب باب المواقيت (قال) بلغنا عن النبي ﷺ أنه وقت لاهل المدينة ذا الحليفة ولاهل الشام حجفة ولاهل نجد قرن ولاهل اليمن يلملم ولاهل العراق ذات عرق وهذا الحديث مروى عن عائشة رضى الله عنها فاما ابن عباس روي الحديث وذكر المواقيت الاربعة ولم يذكر ذات عرق لاهل العراق وابن عمر رضى الله عنه روي الحديث وذكر المواقيت الثلاث ولم يذكر ذات عرق ولا يلملم وفي هذه الآثار دليل على أن كل من وصل إلى شئ من هذه المواقيت وهو يريد دخول مكة يلزمه الاحرام لان توقيت النبي ﷺ لا يخلو عن فائدة ولا فائدة في هذه المواقيت سوى المنع من تأخير الاحرام بعد ما انتهى إلى هذه المواقيت فان قبل ذلك كان يسعه التأخير بالاتفاق والشافعي رحمه الله تعالى لظاهر الحديث يقول الافضل أن يكون احرامه عند الميقات وعلماؤنا رحمهم الله تعالى قالوا التأقيت لبيان أنه لا يسعه التأخير عنه لاما الافضل أن يحرم قبل أن ينتهى إلى المواقيت لحديث أم سلمة رضى الله تعالى عنها أن النبي ﷺ قال من أحرم من المسجد الاقصى إلى المسجد الحرام غفرت له ذنوبه وان كانت أكثر من زبد البحر ووجبت له
[ 167 ] الجنة وقال على وابن مسعود رضى الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ان اتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله قال وبلغنا عن النبي ﷺ أنه قال من وقتنا له وقتا فهو له وقت ولمن مر به من غير أهله ممن أراد الحج والعمرة ففى هذا دليل ان كل من ينتهى إلى الميقات على قصد دخول مكة ان عليه أن يحرم من ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن ألا ترى أن من دخل مكة من أهل الآفاق حلالا فأراد أن يحرم بالحج كان ميقاته للاحرام ميقات أهل مكة فكذا هنا ثم أخذ الشافعي رحمه الله تعالى بظاهر هذا الحديث فقال انما يجب الاحرام عند الميقات على من أراد دخول مكة للحج أو العمرة وأما من أراد دخولها لقتال فليس عليه الاحرام عنده قولا واحدا لان النبي ﷺ دخلها يوم الفتح بغير احرام وان أراد دخولها للتجارة أو طلب غريم له فله فيه قولان في أحد قوليه لا يلزمه الاحرام لان الاحرام غير مقصود لعينه بل لاداء النسك به وهذا الرجل غير قاصد أداء النسك فكان الحرم في حقه كسائر البقاع فكان له أن يدخلها بغير احرام فأما عندنا ليس لاحد ينتهى إلى الميقات إذا أراد دخول مكة أن يجاوزها الا باحرام سواء كان من قصده الحج أو القتال أو التجارة لحديث ابن شريح الخزاعى رضى الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال في خطبته يوم الفتح ان مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السموات والارض لم تحل لاحد قبلى ولا لاحد بعدى وانما أحلت لى ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة فقد ترخص للقتال رسول الله ﷺ فقال انما أحلت لى ساعة فلا تحل لاحد بعده فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي ﷺ بدخول مكة للقتال بغير احرام وانما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه وجاء رجل إلى ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فقال انى جاوزت الميقات من غير احرام فقال ارجع إلى الميقات ولب والا فلا حج لك فانى سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يجاوز الميقات أحد الا محرما ولان وجوب الاحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لاظهار شرف تلك البقعة وفى هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء فليس لاحد ممن يريد دخول مكة أن يجاوز الميقات الا محرما فاما من كان وراء الميقات إلى مكة فله أن يدخلها لحاجته بغير احرام عندنا وفي أحد قولى الشافعي رحمه الله تعالى ليس له ذلك فانه لا يفرق على أحد القولين
[ 168 ] بين أهل الميقات وأهل الآفاق في انه لا يدخل أحد منهم مكة الا محرما وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس رضى الله عنهما ان النبي ﷺ رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير احرام والظاهر انهم لا يجاوزون الميقات فدل أن كل من كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير احرام وابن عمر رضى الله عنه خرج من مكة يريد المدينة فلما انتهى إلى قديد بلغته فتنة بالمدينة فرجع إلى مكة ودخلها بغير احرام وكان المعنى فيه ان من كان داخل الميقات فهو بمنزلة أهل مكة لانه محتاج إلى الدخول في كل وقت ولان مصالحهم متعلقة باهل مكة ومصالح أهل مكة متعلقة بهم فكما يجوز لاهل مكة أن يخرجوا لحوائجهم ثم يدخلوها بغير احرام فكذا لاهل الميقات وهذا لانا لو ألزمناهم الا حرام في كل وقت كان عليهم من الضرر مالا يخفى فربما يحتاجون إليه في كل يوم فلهذا جوزنا لهم الدخول بغير احرام الا إذا أرادوا النسك فالنسك لا يتأدى الا بالاحرام وارادة النسك لا تكون عند كل دخول وإذا أراد الاحرام وأهله في الوقت أو دون الوقت إلى مكة فوقته من أهله حتى لو أحرموا من الحرم أجزأهم وليس عليهم شئ لان خارج الحرم كله بمنزلة مكان واحد في حقه والحرم حد في حقه بمنزلة الميقات في حق أهل الآفاق وكما أن ميقات الآفاقي للاحرام من دويرة أهله ويسعه التأخير إلى الميقات فكذا هنا يسعه التأخير إلى الحرم ولكن الشرط هناك أن لا يجاوز الميقات الا محرما والشرط هنا أن لا يدخل الحرم الا محرما لان تعظيم الحرم بهذا يحصل فان دخل مكة قبل أن يحرم فاحرم منها فعليه أن يخرج من الحرم فيلبى فان لم يفعل حتى يطوف بالبيت فعليه دم لانه ترك الميقات المعهود في حقه للاحرام فهو بمنزلة الآفاقي يجاوز الميقات بغير احرام ثم يحرم وراء الميقات وهناك يلزمه الدم إذا لم يعد لتأخير الاحرام عن مكانه فكذلك هنا يلزمه الدم إذا لم يعد إلى الحل وان عاد فالخلاف فيه مثل الخلاف في الآفاقي إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم وراء الميقات على ما نبينه بعد هذا ان شاء الله تعالى (قال) وان أراد الكوفى بستان بني عامر لحاجة فله أن يجاوز الميقات غير محرم لان وجوب الاحرام عند الميقات على من يريد دخول مكة وهذا لا يريد دخول مكة انما يريد البستان وليس في تلك البعقة ما يوجب التعظيم لها فلهذا لا يلزمه الاحرام فإذا حصل بالبستان ثم بداله أن يدخل مكة لحاجة له كان له ان يدخلها بغير احرام لانه لما حصل بالبستان حلالا كان مثل أهل البستان ولاهل البستان أن يدخلوا مكة لحوائجهم من غير احرام فكذلك هذا الرجل وهذا هو الحيلة لمن يريد دخول
[ 169 ] مكة من أهل الآفاق بغير احرام الا أنه روى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى انه ان نوى الاقامة بالبستان خمسة عشر يوما كان له أن يدخل وان نوى الاقامة بالبستان دون خمسة عشر يوما ليس له أن يدخل مكة الا باحرام لان بنية الاقامة خمسة عشر يوما يصير متوطنا بالبستان فيصير بمنزلة أهل البستان وان نوى المقام بها دون خمسة عشر يوما فهو ماض على سفره فلا يدخل مكة الا باحرام وجه ظاهر الرواية وهو أنه حصل بالبستان قبل قصده دخول مكة فانما قصد دخول مكة بعد ما حصل بالبستان فكان حاله كحال أهل البستان (قال) وليس للرجل من أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة أن يقرن أو أن يتمتع وهم في ذلك بمنزلة أهل مكة أما المكي فلانه ليس له أن يتمتع بالنص لان الله تعالى قال في ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حاضرى المسجد الحرام فقال مالك رحمه الله تعالى هم أهل مكة خاصة وقال الشافعي رحمه الله تعالى هم أهل مكة ومن يكون منزله من مكة على مسيرة لا يجوز فيها قصر الصلاة وقلنا أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة من حاضرى المسجد الحرام بمنزلة أهل مكة بدليل أنه يجوز لهم دخول مكة بغير احرام فلا يكون لهم أن يتمتعوا وكما لا يتمتع من هو من حاضر المسجد الحرام فكذلك لا يقرن بين الحج والعمرة وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز له القران من قبل أن القارن على قوله يترفه بادخال عمل أحد النسكين في الآخر والمكى في هذا وغيره سواء وعندنا معنى الترفه بالقران والتمتع في أداء النسكين في سفر واحد لا في ادخال عمل أحدهما في الآخر ومن كان من حاضرى المسجد الحرام فهو غير محتاج إلى السفر لاداء النسك ولا يلحقه بالسفر كثير مشقة فكما لا يكون له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج فكذلك لا يكون له أن يقرن بينهما عندنا الا أن المكي إذا كان بالكوفة فلما انتهى إلى الميقات قرن بين الحج والعمرة فأحرم لهما صح ويلزمه دم القران لان صفة القارن أن تكون حجته وعمرته متقارنتين يحرم بهما جميعا معا وقد وجد هذا في حق المكي ولو اعتمر هذا المكى في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعا لان الآفاقي انما يكون متمتعا إذا لم يلم بأهله بين النسكين الماما صحيحا والمكى هنا يلم بأهله بين النسكين حلالا ان لم يسق الهدى وكذلك ان ساق الهدى لا يكون متمتعا بخلاف الآفاقي إذا ساق الهدى ثم ألم بأهله محرما كان متمتعا لان العود هناك مستحق عليه فيمنع ذلك صحة المامه بأهله وهنا العود غير مستحق عليه وان ساق الهدى فكان المامه بأهله صحيحا فلهذا
[ 170 ] لم يكن متمتعا وعلى هذا روى هشام عن أبى يوسف رحمهما الله تعالى أن المكي إذا خرج إلى الكوفة ثم مات وأوصي بأن يحج عنه من منزله وهو بمكة بمنزلة الآفاقي يخرج مسافرا فيوصى بأن يحج عنه ولو أوصى هذا المكي بأن يقرن عنه من الكوفة لان القران لا يكون من مكة فعرفنا أن مراده أن يقرن عنه من حيث هو (قال) والمكى إذا خرج من مكة لحاجة له فلم يجاوز الوقت فله أن يدخل مكة بغير احرام وان جاوز لم يكن له أن يدخل مكة الا باحرام لما بينا أن من قصد إلى موضع فحاله في حكم الاحرام كحال أهل ذلك الموضع (قال) ووقت أهل مكة للاحرام بالحج الحرم وكذلك كل من حصل بمكة حلالا لما روى أن النبي ﷺ لما أمر أصحابه رضى الله تعالى عنهم بفسخ احرام الحج والاحرام بالعمرة فحلوا منها فلما كان يوم التروية أمرهم بأن يحرموا بالحج من جوف مكة (قال) وميقات احرام أهل مكة للعمرة التنعيم أو غيره من الحل لان موضع الاحرام غير موضع أداء النسك وأداء الحج يكون بالوقوف وهو في الحل فالاحرام به يكون في الحرم وأداء نسك العمرة بالطواف وهو في الحرم فالاحرام بها يكون في الحل (قال) كوفي جاوز الميقات نحو مكة ثم أحرم بالحج ووقف بعرفة جاز حجه وعليه دم لترك الوقت لانه لما انتهى إلى الميقات وجب عليه الاحرام بالحج من الميقات لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال لا يجاوز الميقات أحد الا محرما فإذا جاوزه حلالا فقد ارتكب المنهى وأخر الاحرام عن الميقات فتمكن نقصان في حجه ونقصان الحج بجبر بالدم فان رجع إلى الميقات ولبى ان رجع قبل أن يحرم وأحرم بالحج من الميقات فلا شئ عليه بالاتفاق لانه تلافي المتروك في وقته ومكانه فصار في الحكم كأنه لم يجاوز الميقات الا محرما فان الواجب عليه أداء الحج باحرام يباشره من الميقات وقد أتي بذلك وان كان أحرم بعد ما جاوز الميقات ثم عاد إلى الميقات فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ان لبى عند الميقات يسقط عنه الدم وان لم يلب لم يسقط عنه الدم وعندهما يسقط عنه الدم في الحالين جميعا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يسقط عنه الدم في الوجهين لان المستحق عليه انشاء الاحرام بالحج من الميقات فإذا أحرم بعد ما جاوز الميقات فقد ترك ما هو المستحق عليه فلزمه الدم كما لو لم يعد وهذا لان الواجب عليه انشاء تلبية واجبة عند الميقات ووجوب التلبية عند الاحرام لا بعده فهو وان لبي عند الميقات فانما أتى بتلبية غير واجبة فلا يصير به متداركا لما فاته بخلاف ما إذا عاد
[ 171 ] فأحرم من الميقات وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان الواجب عليه أن يكون محرما عند الميقات لا أن ينشئ الاحرام عند الميقات ألا ترى انه لو أحرم قبل أن ينتهى إلى الميقات ثم مر بالميقات محرما ولم يلب عند الميقات لا يلزمه شئ وكذلك إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم ولم يلب فقد تدرك ما هو واجب عليه وهو كونه محرما عند الميقات واستدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى بقول ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال لذلك الرجل إرجع إلى الميقات والا فلا حج لك والمعنى فيه أنه لما انتهى إلى الميقات حلالا وجب عليه التلبية عند الميقات والاحرام فإذا ترك ذلك بالمجاوزة حتى أحرم وراء الميقات ثم عاد فان لبى فقد أتى بجميع ما هو المستحق عليه فيسقط عنه الدم وان لم يلب فلم يأت بجميع ما استحق عليه وهذا بخلاف من أحرم قبل أن ينتهى إلى الميقات لان ميقاته هناك موضع احرامه وقد لبي عنده فقد خرج الميقات المعهود من أن يكون ميقاتا للاحرام في حقه فلهذا لا يضره ترك التلبية عنده بخلاف ما نحن فيه على ما بينا (قال) فان قرن هذا الكوفى بعد ما جاوز الميقات فأحرم بالحج والعمرة ولم يرجع إلى الميقات فعليه دم واحد عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه دمان لانه أخر الاحرامين جميعا عن الميقات فيلزمه لكل احرام دم ألا ترى ان القارن إذا ارتكب سائر المحظورات يجب عليه ضعف ما يجب على المفرد فكذلك إذا أحرم وراء الميقات وعلماؤنا قالوا المستحق عليه عند الميقات احرام واحد ألا ترى أنه لو أحرم بالعمرة عند الميقات ثم أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات كان جائزا ولا شئ عليه فعرفنا ان المستحق عليه عند الميقات احرام واحد فيجب عليه بتأخير ذلك الاحرام دم واحد بخلاف سائر المحظورات فانه صار يجنايته مرتكبا محظور احرامين فكان عليه جزاآن وكذلك ان أهل بعمرة بعد ما جاوز الميقات ثم أهل بحجة بمكة فعليه دم واحد لتأخيره احرام العمرة عن الميقات لانه لما دخل مكة باحرام العمرة فميقات احرامه للحج الحرم وقد أحرم به في الحرم وان كان أهل بالحجة بعد ما جاوز الميقات ثم دخل مكة فاهل بالعمرة أيضا كان عليه دمان لانه أخر احرام الحج عن ميقاته فوجب عليه دم ولما دخل مكة باحرام الحجة فميقات احرامه للعمرة الحل بمنزلة ميقات أهل مكة فحين أهل بالعمرة في الحرم فقد ترك ميقات احرام العمرة أيضا فيلزمه لذلك دم آخر (قال) كوفى دخل مكة بغير احرام لحاجة له فقال عليه حجة أو عمرة أي ذلك شاء لان دخول
[ 172 ] مكة سبب لوجوب الاحرام عليه فمباشرة ذلك السبب بمنزلة التزامه الاحرام بالنذر وفى نذر الاحرام يلزمه حجة أو عمرة فكذلك إذا لزمه الاحرام بدخول مكة فان رجع إلى الميقات فاهل بحجة الاسلام أجزأه عن حجة الاسلام وعما لزمه بدخول مكة استحسانا عندنا وفى القياس لا يجزيه عما لزمه لدخول مكة وهو قول زفر رحمه الله تعالى لانه بدخول مكة بغير احرام وجب عليه حجة أو عمرة وصار ذلك دينا في ذمته وحجة الاسلام لا تنوب عما صارت نسكا دينا في ذمته الا ترى انه لو تحولت السنة ثم أحرم بالحج في السنة الثانية من الميقات لا ينوب هذا عما لزمه لدخول مكة فكذلك في السنة الاولى ولكن استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا لو كان حين انتهى إلى الميقات في الابتداء أحرم بحجة الاسلام ناب ذلك عما يلزمه لدخول مكة لان الواجب عليه ان يكون محرما عند دخول مكة لا أن يكون احرامه لدخول مكة كمن اعتكف في رمضان أجزأه لان الواجب عليه أن يكون صائما في مدة الاعتكاف لا أن يكون صومه للاعتكاف فإذا عرفنا هذا فنقول لو أحرم عند الميقات في الابتداء كان يؤدى حجة الاسلام بذلك الاحرام في تلك السنة وقد أداها حين عاد إلى الميقات فأحرم بحجة الاسلام فصار به متلافيا للمتروك فيسقط عنه ما لزمه لدخول مكة فأما بعد ما تحولت السنة لم يصر متلافيا للمتروك لانه لو أحرم بالحج في السنة الاولى لم يكن له أن يؤدى الحج بذلك الاحرام في الثانية فعرفنا أنه لا يصير متلافيا للمتروك فان قيل أليس انه لو عاد إلى الميقات وأحرم بعمرة منذورة لا يسقط عنه بهذا العود ما لزمه بدخول مكة وهو حين انتهى إلى الميقات لو أحرم بالعمرة المنذورة ودخل به مكة لا يلزمه شئ ثم لا يصير به متداركا لما هو الواجب (قلنا) هو خارج على ما ذكرنا لان العمرة وان لم تكن مؤقتة فيكره أداؤها في خمسة أيام من السنة فلو أحرم بها في الابتداء لم يكن له أن يؤخرها إلى الوقت المكروه فلا يصير بالرجوع إلى الميقات والاحرام بالعمرة متداركا للمتروك (قال) وإذا جاوز الميقات حلالا ثم أحرم بالحج ففاته الحج سقط عنه دم الوقت عندنا ولم يسقط عند زفر رحمه الله تعالى لان الدم بمجاوزة الميقات صار واجبا عليه فلا يسقط بفوات الحج كما لو وجب عليه الدم بالتطيب أو لبس المخيط لا يسقط عنه ذلك بفوات الحج ولكنا نقول لما فاته الحج وجب عليه القضاء وهو للقضاء يحرم من الميقات فينعدم به المعنى الذى لاجله يلزمه الدم وهو أداء الحج باحرام بعد مجاوزة الميقات بخلاف سائر الدماء لان وجوب ذلك عليه بما
[ 173 ] ارتكب من المحظورات ولا ينعدم ذلك بفوات الحج وعلى هذا لو جامع قبل الوقوف حتى فسد حجه سقط عنه دم الوقت عندنا لان القضاء وجب عليه فإذا عاد للقضاء يحرم من الميقات فانعدم به المعنى الذى لاجله كان يلزمه الدم (قال) وكذلك من جاوز الميقات غير محرم ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه أجزأه ولا شئ عليه لان اتيانه وقتا آخر بمنزلة رجوعه إلى الميقات والاحرام عنده للاصل الذى قلنا ان من حصل في ميقات فاحرامه به يكون من ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن فانما أحرم بالحج من ميقاته فلهذا لا يلزمه الدم (قال) عبد دخل مكة مع مولاه بغير احرام ثم أذن له مولاه فأحرم بالحج فعليه إذا عتق دم لترك الوقت لانه مخاطب فيتحقق منه السبب الموجب للدم وهو تأخير الاحرام بالحج من ميقاته ولكن ما يلزمه من الدم إذا لم يكن له مال يتأخر إلى ما بعد العتق وهذا بخلاف النصراني يدخل مكة ثم يسلم ثم يحرم من مكة أو الصبي يدخل مكة بغير احرام ثم يحتلم بمكة فيحرم بالحج فان هناك لا يلزمه بترك الوقت شئ لان النصراني لم يكن مخاطبا بالاحرام بالحج حين انتهى إلى الميقات فان الخطاب بالاحرام انما يتوجه على من يصح منه احرام وكذلك الصبي فلا يتحقق منهما تأخير الاحرام الواجب لانه انما لزمهما الاحرم عند الاسلام والبلوغ وعند ذلك هما بمكة وميقات احرام الحج في حق من هو بمكة الحرم وقد أحرما منه بخلاف العبد على ما بينا وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى ان النصراني لو أسلم أو بلغ الصبى فمات قبل ادراك الوقت وأوصى كل واحد منهما بأن يحج عنه حجة الاسلام فوصيتهما باطلة عند زفر رحمه الله تعالى لانه لم يلزمهما الحج قبل ادراك الوقت إذ لا يتصور الاداء قبل ادراك الوقت فلا تصح وصيتهما به وعلى قول أبى يوسف يصح لان سبب الوجوب قد تقرر في حقهما والوقت شرط الاداء وانعدام شرط الاداء لا يمنع تقرر سبب الوجوب فتصح وصيتهما بالاداء في وقته (قال) ولو ان الصبي أهل بالحج قبل ان يحتلم ثم احتلم قبل أن يطوف بالبيت أو قبل أن يقف بعرفة لم يجزه عن حجة الاسلام عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجزئه وهو بناء على ما بينا في كتاب الصلاة إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره عنده يجزئه عن الفرض ويجعل كأنه بلغ قبل أداء الصلاة وهنا أيضا يجعل كانه بلغ قبل مباشرة الاحرام فيجزئه ذلك عن حجة الاسلام قال وهذا على أصلكم أظهر لان الاحرام عندكم من الشرائط
[ 174 ] دون الاركان ولهذا صح الاحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج ولكنا نقول حين أحرم هو لم يكن من أهل أداء الفرض فانعقد احرامه لاداء النفل فلا يصح أداء الفرض به وهو نظير الضرورة إذا أحرم بنية النفل عندنا لا يجزئه أداء الفرض به وعنده ينعقد احرامه للفرض والاحرام وان كان من الشرائط عندنا ولكن في بعض الاحكام هو بمنزلة الاركان ومع الشك لا يسقط الفرض الذى ثبت وجوبه بيقين فلهذا لا يجزئه حجة الاسلام بذلك الاحرام الا أن يجدد احرامه قبل أن يقف بعرفة فحينئذ يجزئه عن حجة الاسلام لان ذلك الاحرام الذى باشره في حالة الصغر كان تخلقا ولم يكن لازما عليه فيتمكن من فسخه يتجديد الاحرام وهذا بخلاف العبد فانه لو أعتقه المولى بعد ما أحرم لا يجزئه عن حجة الاسلام وان جدد الاحرام بعد العتق لان احرام العبد لازم في حقه لكونه مخاطبا فلا يتمكن بعد العتق من فسخ ذلك الاحرام وانما طريق خروجه من ذلك الاحرام أداء الافعال فسواء جدد التلبية أو لم يجدد فهو باق في ذلك الاحرام فلا يجزئه عن حجة الاسلام بخلاف الصبي على ذكرنا وان أعتق العبد قبل أن يحرم ثم أحرم بحجة الاسلام أجزأه لان شرط الوجوب تقرر في حقه بالعتق فلهذا يجزئه عن حجة الاسلام (قال) وإذا دخل الرجل مكة بغير احرام فوجب عليه حجة أو عمرة فأهل بها بعد سنة في وقت غير وقته الاول هو أقرب منه قال يجزيه ولا شئ عليه لانه في السنة الاولى لو أحرم من هذا الميقات أجزأه عما يلزمه لدخول مكة وجعل هذا كعوده إلى الميقات الاول فكذلك في السنة الثانية إذا جاء إلى هذا الميقات لان من حصل عند ميقات فحكمه حكم أهل ذلك الميقات والله أعلم بالصواب واليه والمرجع والمآب باب الذي يفوته الحج (قال) رضى الله عنه رجل أهل بحجة ففاته فانه يحل بعمرة وعليه الحج من قابل قال وبلغنا ذلك عن النبي ﷺ وعن عمر وزيد بن ثابت رضى الله تعالى عنهما والمراد بالحديث المرفوع ما رواه ابن عباس وابن عمر رضى الله تعالى عنهم أن النبي ﷺ قال من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج وليتحلل بالعمرة وعليه الحج من قابل وأما حديث عمر وزيد بن ثابت رضى الله تعالى عنهما
[ 175 ] ما رواه الاسود قال سمعت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه يقول من فاته الحج تحلل بعمرة عليه الحج من قابل ثم لقيت زيد بن ثابت رضى الله تعالى عنه بعد ذلك بثلاثين سنة فسمعته يقول مثل ذلك وكان المعنى فيه ان الاحرام بعد ما انعقد صحيحا فطريق الخروج عنه أداء أحد النسكين اما الحج أو العمرة كمن أحرم احراما بهما وهنا تعذر عليه الخروج عنه بالحرج حين فاته الحج فعليه الخروج بعمل العمرة ثم ان عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أصل احرامه باق بالحج ويتحلل بعمل العمرة وعند أبى يوسف رحمه الله تعالى يصير احرامه احرام عمرة وعند زفر رحمه الله تعالى ما يؤديه من الطواف والسعى بقايا اعمال الحج لانه بالاحرام بالحج التزم أداء أفعال يفوت بعضها بمضي الوقت ولا يفوته البعض فيسقط عنه ما يفوت بمضي المدة ويلزمه مالا يفوت وهو الطواف والسعى وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الطواف والسعى للحج انما يتحلل بهما من الاحرام بعد الوقوف فأما قبل الوقوف فلا وحاجته إلى التحلل هنا قبل الوقوف فانما يأتي بطواف وسعى يتحلل بهما من الاحرام وذلك طواف العمرة ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى يصير أصل احرامه للعمرة ضرورة لان التحلل بطواف العمرة انما يكون باحرام العمرة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لا يمكن جعل احرامه للعمرة الا بفسخ احرام الحج الذي كان شرع فيه ولا طريق لنا إلى ذلك والدليل عليه أن المكى إذا فاته الحج يتحلل بعمل العمرة من غير أن يخرج من الحرم ولو انقلب احرامه للعمرة لكان يلزمه الخروج إلى الحرم لانه ميقات احرام العمرة في حق المكي (قال) فان كان أهل بحجة وعمرة فقدم مكة وقد فاته الحج فانه يطوف بالبيت وبالصفا والمروة لحجه ويحل وعليه الحج من قابل ولا يجعل ما أتى به من لطواف والسعى قبل فوات الحج كافيا للتحلل عن احرام الحج لان ذلك كان طواف التحية وهو سنة فلا يحصل به التحلل فان كان طاف لعمرته وسعى فقد أتى بهما وان لم يكن طاف بعمرته يطوف لها الآن لان العمرة لا تفوته ثم يطوف بعد ذلك لحجته ويسعى حتى يتحلل وهذا دليل لابي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على ان أصل احرامه لا ينقلب عمرة لانه لو انقلب عمرة لصار جامعا بين احرام عمرتين وأدائهما في وقت واحد وذلك لا يجوز ثم لا يجب عليه الدم بالقياس على المحصر وهذا فاسد لان المحصر عاجز عن التحلل بالطواف والسعى وفائت الحج قادر على ذلك ثم فائت الحج يقطع التلبية حين يستلم الحجر في الطواف
[ 176 ] لما بينا ان هذا الطواف عمل العمرة وأوان قطع التلبية في حقه ما هو أوان قطع التلبية في حق المعتمر فان كان قارنا فانما يقطع التلبية حين يأخذ في الطواف الثاني لان العمرة ما فاتته فيجعل كأنه طاف لها قبل الفوات فلا يقطع التلبية عندها وانما يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف الذى يتحلل به عن الاحرام في الحج (قال) ولو فاته الحج فمكث حراما حتى دخلت أشهر الحج من قابل فتحلل بعمل العمرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا وهذا أيضا يدل على ان احرامه لم ينقلب احرام عمرة فانه لو انقلب احرام عمرة كان متمتعا كمن أحرم للعمرة في رمضان فطاف لها في شوال ولكنه بعمل العمرة يتحلل من احرامه الحج في شوال وليس هذا صورة المتمتع (قال) رجل أهل بحجة فجامع فيها ثم قدم وقد فاته الحج فعليه دم لجماعه ويحل بالطواف والسعى لان الفاسد معتبر بالصحيح فكما أن التحلل بالاحرام الصحيح بعد الفوات يكون بالطواف والسعى فكذلك عن الاحرام الفاسد ولو كان أصاب في حجه صيدا فعليه الكفارة لان احرامه بعد الفساد باق فيجب بارتكاب المحظور ما يلزمه بارتكابه في الاحرام الصحيح وهذا الذى أفسد الحج انما يقطع التلبية بعد الفوات حين يأخذ في الطواف الا ترى انه لو لم يفته كان أوان قطع التلبية في حقه حين يرمى جمرة العقبة اعتبارا بمن صح حجه فكذلك بعد الفوات (قال) رجل أهل بحجة فقدم مكة وقد فاته الحج فاقام حراما حتى يحج مع الناس من قابل بذلك الاحرام قال لا يجزئه عن حجته وبهذا يستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى على ان احرامه صار للعمرة حيث لا يجوز أداء الحج به ولكنا نقول قد بقى أصل احرامه للحج ولكنه تعين عليه الخروج باعمال العمرة فلا يبطل هذا التعيين بتحول السنة مع ان احرامه انعقد لاداء الحج في السنة الاولى فلو صح أداء الحج به في السنة الثانية تغير موجب ذلك العقد بفعله وليس إليه تغيير موجب عقد الاحرام وان قدم وقد فاته الحج فأهل بحجة أخرى فانه يطوف للذى قد فاته ويسعى ويرفض التى أهل بها وعليه فيها ما على الرافض وعليه قضاء الفائت أيضا لان أصل احرامه بعد الفوات تعين للحج فهو بالاهلال بحجة أخرى يصير جامعا بين حجتين فلهذا يرفض التى أهل بها وقد تعين عليه التحلل عن الاولى بالطواف والسعى فلا يتغير ذاك بفعله وان نوى بهذه التى أهل بها قضاء الفائت فهى هي يعني لا يلزمه بهذا الاهلال شئ لانه نوى إيجاد الموجود فان احرامه بالحج باق بعد الفوات ونية الايجاد فيما هو موجود لغو فيتحلل بالطواف والسعى
[ 177 ] وعليه قضاء الفائت فقط بخلاف الاول فقد نوى بالاهلال هناك حجة أخرى سوى الموجود (قال) وان أهل بعمرة بعد ما فاته الحج رفضها أيضا ومضى في عمل الفائتة لانه لما لزمه التحلل عن الاول بعمل العمرة يصير جامعا بين العمرتين من حيث العمل وذلك لا يجوز فلهذا يرفض التى أهل بها وقد تعين عليه التحلل عن الاولى بالطواف والسعى فلا يتغير ذلك بفعله (قال) رجل أهل بحجتين وقدم مكة وقد فاته الحج قال يحل بالطواف والسعى وعليه عمرة وحجتان ودم لانه صار رافضا لاحدى الحجتين ولزمه دم لرفضها وقضاء حجة وعمرة ثم قد فاتته الاخرى فيتحلل منها بالطواف والسعي وعليه قضاؤها ولا يكون له أن يتحلل منهما بعمل عمرتين لانهما لا يجتمعان عملا فكما أخذ في عمل احداهما صار رافضا للاخرى ولزمه الدم بالرفض (قال) وإذا ساق هديا للقران فقدم وقد فاته الحج قال يصنع بهديه ما شاء لانه ملكه وقد أعده لمقصوده فإذا فاته ذلك المقصود صنع به ما أحب وكذلك ان لم يفته ولكنه جامع لان بالجماع فسد حجه وخرج من أن يكون قارنا وانما أعد هذا الهدى للقران فإذا فاته ذلك صنع به ما شاء فان كان هديه قد نتج في الطريق ثم فاته الحج أو جامع أو أحصر صنع أيضا بالولد ما شاء لانه جزء من الام فكما يصنع بالام ما شاء فكذلك بالولد وان لم يكن شئ من هذه العوارض فعليه أن ينحر الام والولد جميعا فان نحر الام ووهب الولد أو باعه فعليه قيمة الولد وكذلك ان ولد هذا الولد ولذا فعليه قيمة ذلك الولد أيضا لان ما ثبت من الحق في الاصل سرى إلى الولد لكونه جزء من أجزائه وان كان قد كفر عن الولد بعد ما وهبه أو باعه ثم حدث له ولد لم يكن عليه من قبل ولده شئ لان بأداء الكفارة قد سقط عنه الحق في الولد لله تعالى فلا يلزمه فيما يلد هذا الولد بعد ذلك شئ بخلاف ما قبل التكفير فان حق الله تعالى في الولد لازم اياه قبل التكفير فيسرى إلى ما يتولد منه وهو نظير من أخرج ظبية من الحرم فكفر عنها ثم ولدت ثم ماتت لم يكن عليه فيها ولا في ولدها شئ وان لم يكفر عنها كان عليه فيها وفي ولدها الكفارة (قال) محرم بالحج قدم مكة وطاف بالبيت ثم خرج إلى الربذة فأحصر بها ثم قدم مكة بعد فوات الحج فعليه أن يحل بعمرة ولا يكفيه الطواف الاول لان ذلك كان طواف التحية وليس لطواف التحية أثر في التحلل ولان التحلل بالطواف يكون في يوم النحر أو بعده وذلك الطواف كان قبل يوم النحر فلا يكون معتبرا في التحلل وان كان
[ 178 ] خروجه إلى الربذة بعد الوقت لم يفته لقوله ﷺ من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ثم قد تقدم بيان ما عليه من الدماء بعد هذا بسبب الترك والتأخير (قال) فان أهل بعمرة في أشهر الحج ثم قدم مكة بعد يوم النحر يقضى عمرته وليس عليه شئ لان العمرة غير مؤقته فلا يفوته عمل العمرة بمضي أيام النحر فلهذا لا يلزمه شئ والحاصل أن جميع السنة وقت العمرة عندنا ولكن يكره أداؤها في خمسة أيام يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق هكذا روى عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تكره العمرة في هذه الايام الخمسة ولان الله تعالى سمى هذه الايام أيام الحج فيقتضى أن تكون متعينة للحج الاكبر فلا يجوز الاشتغال فيها بغيرها وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا تكره العمرة في هذه الايام الخمسة وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه لا تكره العمرة في يوم عرفة قبل الزوال لان في دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله ولكن مع هذه الكراهة لو أدى العمرة في هذه الايام صح فيبقى محرما في هذه الايام بها وهو نظير بقاء حرمة الصلاة بعد دخول وقت الكراهة (قال) وإذا أهل الحاج صبيحة يوم النحر بحجة أخرى لزمته ويقضى ما بقى عليه من الاولى ويقيم حراما إلى أن يؤدى الحج بهذا الاحرام من قابل لانه أحرم بعد مضى وقت الحج من السنة الماضية فينعقد احرامه لاداء الحج به في السنة القابلة وعليه بجمعه بين الحجتين دم لان احرامه للحج باق ما لم يتحلل بالحلق والطواف والجمع بين احرام الحجتين ممنوع عنه فإذا فعل ذلك لزمه الدم بالجمع المنهى عنه وهذا بخلاف ما إذا أهل بحجتين لان الدم هناك يلزمه لرفض احداهما لان الجمع هناك لا يتحقق حين صار قاضيا لاحداهما وهنا يتحقق لانه يؤدى ما بقى من اعمال الاولى من غير أن يصير رافضا للاخرى فلهذا لزمه للجمع بينهما دم وان قدم الحاج مكة فأدرك الوقوف بمزدلفة لم يكن مدركا للحج لقوله ﷺ من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج ثم ذكر بعد هذا حكم الاهلال بحجتين أو بعمرتين وقد بينا ذلك ويستوى فيه ان أهل بهما معا أو باحداهما ثم بالاخرى معا لانه جامع بين الاحرامين في الحالين فان رفض احدى العمرتين ثم قضاها في العام القابل ومعها حجة فهو قارن لان القران بالجمع بين الحجة والعمرة فكما أن كون الحج في ذمته لا يمنع تحقق القران فكذلك كون العمرة واجبة في ذمته وكذلك ان أتى بهذه العمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فهو متمتع ان لم يكن ألم بأهله
[ 179 ] بين النسكين حلالا فان ألم بأهله بين النسكين حلالا لم يكن متمتعا بلغنا ذلك عن ابن عمر وسعيد بن المسيب رضى الله عنهم وهذا بخلاف القارن ان رجع إلى أهله بعد طواف العمرة لانه انما رجع محرما فلم يصح المامه بأهله فلهذا كان قارنا وقد بينا الفرق بين المتمتع الذى ساق الهدى وبين الذى لم يسق الهدى في حكم الالمام بأهله وقد بينا الفرق أيضا في حكم المكى الذى قدم الكوفة وبينا القران والتمتع وروى ابن سماعة عن محمد أن المكي إذا قدم الكوفة انما يجوز له أن يقرن إذا كان خروجه من الميقات قبل دخول أشهر الحج فأما إذا دخلت أشهر الحج قبل خروجه من الميقات فقد حرم عليه القران والتمتع فلا يرتفع ذلك بالخروج عن الميقات بعد ذلك (قال) وإذا قدمت المرأة مكة محرمة بالحج حائضا مضت على حجتها غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر لقوله ﷺ لعائشة رضى الله عنها واصنعي جميع ما يصنعه الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فإذا طهرت بعد مضى أيام النحر طافت للزيارة ولا شئ عليها بهذا التأخير لانه كان بعذر الحيض وعليها طواف الصدر لانها طاهرة وان حاضت بعد ما طافت للزيارة يوم النحر فليس عليها طواف الصدر لما بينا من الرخصة الواردة للحائض في ذلك (قال) وليس على أهل مكة ومن وراء الميقات طواف الصدر انما ذلك على أهل الآفاق الذى يصدرون عن البيت بالرجوع إلى منازلهم فان نوى الاقامة بمكة واتخذها دارا سقط عنه طواف الصدر ان كانت نيته قبل أن يحل النفر الاول لان وقت الصدر بعد حل النفر الاول فانما جاء وقت الصدر وهو من أهل مكة فلا يلزمه طواف الصدر وان كانت نيته الاقامة بعد ما حل النفر الاول فعليه طواف الصدر في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان ذلك قد لزمه بمجئ وقت الصدر قبل نية الاقامة فلا يسقط عنه بنيته الاقامة بعد ذلك كالمرأة إذا حاضت بعد خروج وقت الصلاة لا تسقط عنها تلك الصلاة وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إذا نوى الاقامة قبل ان يأخذ في طواف الصدر سقط عنه طواف الصدر لانه وان دخل وقته فلا يصير طواف الصدر دينا عليه بدخول وقته فنيته الاقامة بعد دخول وقته وقبله سواء كالمرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الصلاة لا تلزمها تلك الصلاة فاما إذا نوى الاقامة بعد ما أخذ في طواف الصدر فعليه ان يأتي بذلك الطواف لان بالشروع فيه لزم اتمامه فلا يسقط بنية الاقامة بعد ذلك فان بداله الخروج من مكة بعد ما اتخذها دارا لا يلزمه طواف الصدر لانه بمنزلة المكي بقصد الخروج
[ 180 ] من مكة وان نوى أن يقيم بمكة أياما ثم يصدر لم يسقط عنه طواف الصدر وان نوى الاقامة سنة أو أكثر لان بهذه النية لم يصر كأهل مكة لان المكى غير عازم على الصدر منها بعد مدة وهذا على الصدر منها بعد مدة فيبقى عليه طواف الصدر على حاله (قال) وليس على فائت الحج طواف الصدر لان العود للقضاء مستحق عليه ولانه صار بمنزلة المعتمر المقيم في حق الاعمال وليس على المعتمر طواف الصدر (قال) رجل قصد مكة للحج فدخلها بغير احرام ووافاها يوم النحر وقد فاته الحج فأحرم بعمرة وقضاها أجزأه وعليه دم لترك الوقت لانه لو أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات وقضاه كان عليه دم لترك الوقت فكذلك إذا أحرم بالوقت بالعمرة وقضاها لان الواصل إلى الميقات يلزمه الاحرام حاجا كان أو معتمرا وان لم يحرم بعمرة ولكنه أحرم بحجة فهو محرم حتى يحج مع الناس من قابل وقد بينا حكم الاحرام في غير أشهر الحج ولكنه ينبغى ان يرجع إلى الوقت فيلبى منه ليسقط عنه الدم فان لم يرجع فعليه دم لتأخير الاحرام (قال) ومن فاته الحج لم يسعه أن يقيم في منزله حراما من غير عذر ويبعث بالهدى ولا يحل بالهدى إن بعث به لان التحلل بالهدى للمحصر وهذا غير محصر بل هو فائت الحج وقد تعين عليه التحلل بالطواف والسعى شرعا فلا يتحلل بغير ذلك والله أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب باب الجمع بين الاحرامين (قال) والعمرة لا تضاف إلى الحج والحج يضاف إلى العمرة قبل أن يعمل منها شيئا وبعد أن يعمل هكذا نقل عن ابن عباس رضى الله عنه وهذا لان الله تعالى جعل العمرة بداية والحج نهاية بقوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فمن أضاف الحجة إلى العمرة كان فعله موافقا لما في القرآن ومن أضاف العمرة إلى الحج كان فعله مخالفا لما في القرآن فكان مسيئا من هذا الوجه ولكن مع هذا هو قارن فان القارن هو جامع بين العمرة والحج وهو جامع بينهما على كل حال الا انه إذا أضاف الحج إلى العمرة بأن أهل بالعمرة أولا ثم بالحج فهو جامع مصيب للسنة فيكون محسنا ومن أهل بالحج ثم بالعمرة فهو جامع مخالف للسنة فكان مسيئا لهذا ويلزمه في الوجهين جميعا ما أوجب الله تعالى على المتمتع المترفق باداء النسكين في سفر واحد كما قال الله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وهو شاة
[ 181 ] في قول على وابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم وفى قول ابن عمر وعائشة رضى الله عنهما بدنة وأخذنا بالاول لحديث جابر رضى الله عنه قال تمتعنا بالعمرة إلى الحج مع رسول صلى الله عليه سلم فاشتركنا في البدنة عن سبعة فان لم يجد الهدى فعليه صوم ثلاثة أيام في الحج والافضل ان يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة لان صوم اليوم بدل عن الهدى فالاولى ان يؤخره إلى آخر الوقت الذى يفوته بمضيه رجاء أن يجد الهدى (قال) ولو صام هذه الايام الثلاثة بعد احرامه للعمرة قبل احرام الحجة جاز عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وحجته ظاهر الآية قال الله تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج وحين صام قبل أن يحرم بالحج فصومه هذا ليس في الحج وحجتنا في ذلك أن نقول جعل الحج ظرفا للصوم وفعل الحج لا يصلح ظرفا للصوم فعرفنا أن المراد به الوقت كما قال الله تعالى الحج أشهر معلومات وهذا قد صام في وقت الحج بعد ما تقرر السبب وهو التمتع لان معنى التمتع في أداء العمرة في سفر الحج في وقت الحج وقد وجد ذلك وأداء العبادة البدنية بعد وجود سبب وجوبها جائز كالمسافر إذا صام شهر رمضان وان لم يصم حتى جاء يوم النحر تعين عليه الهدى عندنا وهو قول عمر رضى الله تعالى عنه فان رجلا أتاه يوم النحر فقال انى تمتعت بالعمرة إلى الحج فقال اذبح شاة فقال ليس معى شئ فقال سل أقاربك فقال ليس هنا أحد منهم فقال لغلامه يا مغيثب اعطه قيمة شاة وذلك لان البدل كان مؤقتا بالنص فبعد فوات ذلك الوقت لا يكون بدلا فتعين عليه الهدى والشافعي رحمه الله تعالى كان يقول في الابتداء يصوم أيام التشريق وهو مروى عن ابن عمر وعائشة رضى الله عنهما ولكن هذا فاسد فقد صح النهى عن الصوم في هذه الايام عن رسول الله ﷺ فلا يجوز أداء الواجب بها ولو وجد الهدى بعد صوم يومين من الثلاثة كان عليه الهدى لانه قدر على الاصل قبل حصول المقصود بالخلف بخلاف ما إذا قدر على أصل الهدى بعد ما يحل يوم النحر لان المقصود هو التحلل فانما قدر على الاصل بعد حصول المقصود بالبدل وهو كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة وأما صوم السبعة ليس ببدل فيما هو المقصود وهو التحلل ألا ترى ان أوان ادائها بعد التحلل ووجوب الهدى لا يمنع اداءها والمراد من الرجوع المذكور في قوله تعالى وسبعة إذا رجعتم مضى أيام التشريق حتى إذا صام بعد مضيها قبل ان يرجع إلى أهله جاز عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى الا أن ينوى
[ 182 ] المقام فحينذ يجوز الصوم (قال) وان أهل الآفاقي بالحج فطاف لها شوطا ثم أهل بالعمرة رفضها وعليه قضاؤها ودم للرفض لان احرام الحج قد تأكد بما أتى به من الطواف فان ذلك من عمل الحج ولو بقى احرامه للعمرة كان بانيا عمل العمرة على أعمال الحج وذلك لا يجوز فلهذا يرفضها وان كان أهل بالعمرة أولا فطاف لها شوطا ثم أهل بالحج مضى فيها لانه يبنى أعمال الحج على العمرة وذلك صحيح الا أنه لو طاف للعمرة أقل الاشواط يكون قارنا وان طاف لها أكثر الاشواط ثم أهل بالحج كان متمتعا لان المتمتع من يحرم بالحج بعد عمل العمرة ولاكثر الطواف حكم الكل والقارن من يجمع بينهما وقد صار جامعا حين أحرم بالحج وقد بقى عليه أكثر طواف العمرة وقد بينا أن المكي لا يقرن بين الحج والعمرة ولا يضيف أحدهما إلى الآخر فان قرن بينهما رفض العمرة ومضى في الحج لانه ممنوع من الجمع بينهما فلا بد من رفض أحدهما ورفض العمرة أيسر لانها دون الحج في القوة ولانه يمكنه أن يقضيها متى شاء وكذلك ان أحرم أولا بالعمرة ثم أحرم بالحج رفض العمرة لان الترجيح بالبداءة بعد المساواة في القوة ولا مساواة هنا فيرفض العمرة على كل حال وان مضى فيهما حتى قضاهما أجزأه لان النهى لا يمنع تحقق المنهى عنه وهذا بخلاف الجامع بين الحجتين والعمرتين فان الجمع بينهما عملا منفى هناك ومع النفي لا يتحقق الاجتماع فيكون رافضا لاحدهما على كل حال وهنا الجمع بين الحج والعمرة في حق المكى منهى عنه ومع النهى يتحقق الجمع فيجب عليه الدم لجمعه بينهما ولكن هذا الدم ليس نظير الدم في حق الآفاقي إذا قرن بينهما فان ذلك نسك يحل التناول منه وهذا جبر لا يحل التناول منه لان وجوب هذا الدم بارتكاب ما هو منهى عنه فيكون واجبا بطريق الجبر للنقصان فلهذا لا يباح التناول منه وان كان طاف للعمرة شوطا أو ثلاثة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرفض العمرة لانه أهل بالحج فأكثر أعمال العمرة باق عليه وللاكثر حكم الكل فكأنه أهل بالحجة قبل أن يأتي بشئ من أعمال العمرة فيرفضها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ان احرام العمرة قد تأكد بما أتى به من طواف العمرة واحرام الحج لم يتأكد بشئ من عمله والمتأكد بأداء العمل أقوى من غير المتأكد فلهذا يرفض الحجة والدليل على أن التأكد يحصل بشوط من الطواف ما بينا في الآفاقي إذا طاف للحج شوطا ثم أحرم للعمرة كان عليه رفضها لتأكد
[ 183 ] احرام الحج بالعمل قبل الاهلال بالعمرة بخلاف ما لو أهل بالعمرة قبل ان يأتي بشئ من طواف الحج ولو كان المكي طاف للعمرة أربعة أشواط ثم أحرم بالحج فنقول انما أحرم بالحج بعد ما اتى بأكثر طواف العمرة وللاكثر حكم الكل فكأنه أحرم بالحج بعد الفراغ من العمرة فلا يرفض شيئا ولكن يفرغ من عمرته ومن حجته وعليه دم لانه صار كالمتمتع وهو منهي عن التمتع الا أنه لا يحل التناول من هذا الدم لانه دم جبر كما بينا ولو كان هذا الطواف منه للعمرة في غير أشهر الحج كان عليه الدم أيضا لانه أحرم بالحج قبل ان يفرغ من العمرة وليس للمكي أن يجمع بينهما فإذا صار جامعا كان عليه الدم ولو كان هذا آفاقيا لم يكن عليه هذا الدم لانه غير ممنوع من الجمع بينهما قال في الاصل وعليه دم لترك الوقت في العمرة أيضا وانما أراد به إذا كان أحرم للعمرة في الحرم فان ميقات أهل مكة لاحرام العمرة هو الحل (قال) كوفي أهل بحجة وطاف لها ثم أهل بعمرة قال يرفض عمرته لانه لو لم يرفضها كان بانيا للعمرة على الحجة هذا إذا أهل بعمرة بعرفة فان أهل بها يوم النحر قبل أن يحل بحجته أو بعد ما حل قبل أن يطوف أمر أن يرفهضا أيضا وان لم يرفضها ومضى فيها أجزأه وعليه دم ان كان أهل بها قبل أن يحل بحجته وان كان بعد ما حل من حجته فليس عليه شئ ان لم يترك الوقت فيها ولا يؤمر بان يرفضها إذا أحرم بها بعد تمام الاحلال لانه وان كان منهيا عن الاحرام فبعد ما أحرم يجب عليه الاتمام لانه غير جامع بينه وبين احرام آخر فإذا أداها كان صحيحا بخلاف ما إذا أهل بها بعرفات فان هناك قد صار رافضا للعمرة لتحقق المنافي على ما سبق ثم ان كان إهلاله بالعمرة قبل أن يحل من الحج فقد صار جامعا بين الاحرامين على وجه هو منهى عن ذلك فلزمه لذلك دم وان كان بعد ما حل لم يصر جامعا بين الاحرامين فلا يلزمه شئ (قال) مكى أهل بالحجة فطاف لها شوطا ثم أهل بالعمرة قال يرفض العمرة لان احرامه للحج قد تأكد وقبل تأكده كان يؤمر برفض العمرة فبعد تأكده أولى فان لم يرفضها وطاف لها وسعى أجزأه لما بينا أن النهى لا يمنع تحقق المنهى عنه ولكن عليه دم لاهلاله بها قبل أن يفرغ من حجته وقد صار جامعا بينهما وهو ممنوع من هذا الجمع (قال) محرم بعمرة جامع ثم أضاف إليها عمرة أخرى قال يرفض هذه ويمضى في الاولى لان الفاسد معتبر بالصحيح في وجوب الاتمام ولو كانت الاولى صحيحة كان عليه أن يمضى فيها ويرفض الثانية فكذلك بعد فسادها وكذلك لو لم يجامع في
[ 184 ] الاولى ولكنه طاف لها شوطا ثم أحرم بالثانية يرفض الثانية لان الاولى قد تأكدت لما طاف لها فتعينت الثانية للرفض وكذا هذا في حجتين (قال) وإذا أهل بحجتين معا ثم جامع قبل أن يسير فعليه للجماع دمان في قول أبي حنيفة لان من أصله أنه لا يصير رافضا لاحدهما ما لم يأخذ في عمل الاخرى وعند أبى يوسف رحمه الله تعالى عليه دم واحد للجماع لانه كما فرغ من الاحرامين صار رافضا لاحدهما فجماعه جناية على احرام واحد وان كان ذلك الجماع منه بعد ما سار فعليه دم واحد لانه صار رافضا لاحدهما حين سار إلى مكة فجماعه جناية على احرام واحد ثم ما يلزمه بالرفض وبالافساد من القضاء والدم قد بيناه فيما سبق فان أحرم لا ينوى شيئا فطاف ثلاثة أشواط ثم أهل بعمرة فانه يرفض هذه الثانية لان الاولى قد تعينت عمرة حين أخذ في الطواف لما بينا ان الابهام لا يبقى بعد الشروع في الاداء بل يبقى ما هو المتيقن وهو العمرة فحين أهل بعمرة أخرى فقد صار جامعا بين عمرتين فلهذا يرفض الثانية (قال) وإذا كان للكوفي أهل بالكوفة وأهل بمكة يقيم عند هؤلاء سنة وعند هؤلاء سنة فاعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا لانه ملم بين النسكين بأهله الماما صحيحا فان لم يكن له أهل بمكة واعتمر من الكوفة في أشهر الحج وقضى عمرته ثم خرج إلى مصر ليس فيه أهله ثم حج من عامه ذلك كان متمتعا ما لم يرجع إلى المصر الذى كان فيه أهله ثم قال بلغنا ذلك عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهما وابراهيم رحمه الله تعالى وقد بينا ان الطحاوي رحمه الله تعالى ذكر في هذا الفصل خلافا بين أبى حنيفة وصاحبيه رحمهما الله تعالى وهو الصحيح ان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يكون متمتعا وحديث زيد الثقفى رضى الله عنه انه سأل ابن عباس رضى الله عنهما فقال أتينا عمارا فقضيناها ثم زرنا القبر ثم حججنا فقال أنتم متمتعون والاصل عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى انه ما لم يصل إلى أهله فهو متمتع كمن لم يجاوز الميقات وعندهما من خرج من الميقات فهو كمن وصل إلى أهله في انه لا يكون متمتعا بعد ذلك فان كان له بالكوفة أهل وبالبصرة أهل فرجع إلى أهله بالبصرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا لانه ألم بأهله بين النسكين حلالا (قال) وان اعتمر الكوفي في أشهر الحج وساق هديا للمتعة وهو يريد الحج فطاف لعمرته ولم يحلق ثم رجع إلى أهله ثم حج كان متمتعا في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى ولم يكن متمتعا في قول محمد رحمه الله تعالى إذا كان
[ 185 ] رجوعه إلى أهله بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وحجته وهو أنه ملم بأهله بين النسكين وهو المام صحيح فان العود غير مستحق عليه حتى لو بعث بهديه لينحر عنه ولم يحج كان جائزا فهو بمنزلة المكي الذى اعتمر من الكوفة وساق الهدى لمتعته فهناك لا يكون متمتعا فكذلك هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى يقولان المامه غير صحيح بأهله هنا لانه محرم على حاله ما لم ينحر عنه الهدى فكان العود مستحقا عليه وذلك يمنع صحة المامه بأهله كالقارن إذا أتى بعمل العمرة ثم رجع إلى أهله ثم عاد فحج كان قارنا ولم يصح المامه باهله محرما فكذا هذا وهذا بخلاف من لا هدى معه وقد حل هناك من احرام العمرة فانما ألم باهله حلالا فكان المامه صحيحا (قال) رجل أهل بعمرة في أشهر الحج وساق هديا معه لمتعته ثم بداله أن يحل وينحر هديه ويرجع إلى أهله ولا يحج كان له ذلك لان بمجرد النية قبل الاحرام لا يلزمه اداء الحج في هذه السنة فان فعل ذلك ثم حج من عامه فلا شئ عليه لانه ألم باهله بين النسكين حلالا فخرج من أن يكون متمتعا وان أراد ان ينحر هديه ويحل ولا يرجع إلى أهله ويحج من عامه ذلك لم يكن له ذلك لانه إذا لم يقصد الرجوع إلى أهله فهو قصاد إلى التمتع فكان هديه هدى المتعة فليس له أن ينحرها قبل يوم النحر لاختصاص هدى المتعة بيوم النحر ولانه لما ساق الهدى وهو عازم على التمتع لزمه البقاء في الاحرام إلى أن يفرغ من عمل الحج وليس له أن يتعجل في الاحلال قبل وقته فان فعل ذلك ثم رجع إلى أهله ثم حج فلا شئ عليه لانه لما رجع إلى أهله فقد خرج من ان يكون متمتعا وانما كان يلزمه تأخير الخروج عن احرام العمرة لاجل التمتع فإذا خرج من ان يكون متمتعا تبين ان احلاله كان في وقته فلا يلزمه شئ وان فرغ من عمرته وحل ونحر هديه ثم أقام بمكة حتى حج من عامه فعليه دمان لمتعته فانه أتى بالنسكين في سفر واحد فكان متمتعا وما نحر من الهدى قبل يوم النحر فلا يجزئه عن هدى المتعة فلهذا لزمه دم المتعة ودم آخر لا حلاله قبل وقته لانه لما كان متمتعا وقد ساق الهدى لم يكن له ان يحل قبل يوم النحر وهو قد حل من عمرته قبل يوم النحر فعليه دم لتعجيل الاحلال (قال) رجل أهل بعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها بالجماع فلما فرغ منها أهل باخرى ينوى قضاءها ثم حج من عامه لم يكن متمتعا اما بالعمرة الاولى فلانه أفسدها بالجماع والتمتع بالعمرة الفاسدة لا يكون وأما بالثانية فلانه أحرم لها من غير الميقات والمتمتع من تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية ولانه لما دخل مكة بالعمرة الفاسدة صار بمنزلة أهل مكة وان كان حين
[ 186 ] فرغ من العمرة الفاسدة خرج من مكة حتى جاوز المواقيت ثم أهل بعمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فان كان جاوز الوقت قبل أشهر الحج كان متمتعا لانه بمجاوزة الميقات صار في حكم من لم يدخل مكة فإذا اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فقد أتى بعمرة ميقاتية وحجة مكية فكان متمتعا وان لم يجاوز الوقت الا في أشهر الحج فليس بتمتع لان أشهر الحج لما دخلت وهو داخل الميقات حرم عليه التمتع كما هو حرام على أهل مكة ومن هو داخل الميقات فلا تنقطع هذه الحرمة بخروجه من الميقات بعد ذلك في حق المكى ومن هو داخل الميقات فان كان دخوله الاول في أشهر الحج بعمرة فأفسدها وأتمها مع الفساد ثم رجع إلى أهله ثم عاد فقضاها وحج من عامه ذلك كان متمتعا لان سفره الاول قد انقطع برجوعه إلى أهله فصار كان لم يوجد فالمعتبر سفره الثاني وقد أدى النسكين في هذا السفر بصفة الصحة فكان متمتعا وان رجع إلى بلدة أخرى ثم عاد فقضى عمرته وحج من عامه لم يكن متمتعا في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى بناء على الاصل الذى قررنا انه ما لم يصل إلى بلدته فهو في الحكم كان لم يخرج من مكة فلا يكون متمتعا وعندهما يكون متمتعا لان من أصلهما ان بخروجه من الميقات انقطع حكم ذلك السفر في حق التمتع بمنزلة ما لو رجع إلى بلدته فإذا عاد معتمرا وحج من عامه كان متمتعا لاداء النسكين في سفر واحد صحيحا وان دخل بعمرة فاسدة في أشهر الحج فقضاها ثم خرج حتى جاوز الميقات ثم قرن عمرة وحجة كان قارنا لان أكثر ما فيه ان حاله كحال المكى متى حصل بمكة بالعمرة الفاسدة وقد بينا ان المكي إذا خرج من الميقات ثم قرن حجة وعمرة كان قارنا فهذا مثله ولو قضى عمرته الفاسدة ثم أهل من مكة بعمرة وبحجة فانه يرفض العمرة لانه متى حصل بمكة بعمرة فاسدة فهو بمنزلة مكي محرم بهما وقد بينا ان المكى يرفض العمرة إذا أحرم بهما كذلك هنا ولو كان أهل بعمرة في أشهر الحج فطاف لها شوطا ثم أهل بحجة فهو على الخلاف الذى ذكرناه في حق المكى ان عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى يرفض الحج لتأكد احرام العمرة بالطواف وعندهما يرفض العمرة على ما مر لانه لما لم يطف لها أربعة أشواط فهو بمنزلة من لم يطف لها شيئا وإذا ترك المكى أو الكوفى ميقات الاحرام في العمرة وطاف لها شوطا ثم أراد ان يلبى من الوقت لم ينفعه ولم يسقط عنه الدم لان احرامه وراء الميقات قد تأكد بالطواف فهو وان عاد إلى الميقات ولبي فلم يصر متداركا لما فاته في وقته فلا يسقط عنه الدم
[ 187 ] ألا ترى أنه إذا عاد لا يمكن أن يجعل كالمنشئ للاحرام الآن لان ما تقدم من الطواف محسوب له وكيف يجعل كالمنشئ الآن وطوافه قبل ذلك محسوب فلهذا لا يسقط عنه الدم والله أعلم بالصواب باب التلبية (قال) وبلغنا عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك اتفق على هذا رواة نسك رسول الله ﷺ ورضى الله عنهم في نقل تلبيته فان اقتصر عليه فحسن وان زاد على هذا فحسن أيضا عندنا وبعض أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى يقولون يباح له الزيادة واكثرهم على ان ذلك مكروه لحديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول في تلبيته لبيك ذى المعارج لبيك فقال مه ما كنا نلبي هكذا على عهد رسول الله ﷺ ولانه ذكر منظوم فلا يزاد عليه كالاذان والتشهد وحجتنا في ذلك حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي ﷺ كان يقول في تلبيته لبيك اله الحق لبيك وعن ابن مسعود أنه خرج من مسجد الحيف يلبى فقال قائل لا يلبي هنا فقال ابن مسعود رضى الله عنه أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك وعن ابن عمر رضى الله عنهما انه كان يقول في تلبيته لبيك مرهوب منك ومرغوب اليك والنعمى والفضل والحسن لك لبيك لبيك وتأويل حديث سعد رضي الله عنه ان ذلك الرجل كان ترك التلبية المعروفة واكتفى بذلك القدر فلهذا أنكر عليه وهكذا نقول إذا ترك التلبية المعروفة كان مكروها فاما إذا أتى بالمعروف ثم زاد كان ذلك حسنا لان المقصود هو الثناء على الله تعالى واظهار العبودية من نفسه وقد نقل من طريق أهل البيت عليهم السلام تلبية طويلة من ذلك والجاريات في الفلك على مجارى من سلك ثم الحاج والقارن في قطع التلبية سواء لانه لا يحل من النسكين قبل يوم النحر وقطع التلبية حين يرمى جمرة العقبة وقد بينا وقت قطع التلبية في حق فائت الحج والمحصر ومن أفسد حجه وانما يصير محرما بالتلبية إذا نوى الاحرام فأما بدون النية لا يصير محرما وان لبى كما لا يصير بالتكبير شارعا في الصلاة إذا لم ينو والتهليل والتسبيح بنية الاحرام به بمنزلة التلبية كما عند افتتاح الصلاة وقد بينا الفرق بينه وبين الصلاة لابي يوسف رحمه
[ 188 ] الله تعالى وإذا توضأ الاخرس ولبس ثوبين وصلى ركعتين ثم نوي الاحرام بقلبه وحرك لسانه كان محرما لانه أتلى بما في وسعه وليس عليه فوق ذلك كما إذا شرع في الصلة بتحريك اللسان مع النية يصح شروعه والمرأة بمنزلة الرجل في التلبية غير أنها لا ترفع صوتها لما بينا أن صوتها فتنة وإذا لم يلب القارن والمفرد بالحج والعمرة الامرة واحدة فقد أساء ولا شئ عليه لان الشروع في الاحرام بالتلبية كما أن صحة الشروع في الصلاة بالتكبير ولو لم يأت المصلى الا بتكبيرة الافتتاح جازت صلاته وكان مسيئا فكذلك إذا لم يأت المحرم بالتلبية الا مرة واحدة جاز لانه أتى بما هو الواجب وترك المسنون فيكون مسيئا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب باب الصيد في الحرم (قال) رضي الله عنه رجل رمى صيدا في الحل وهو في الحل فأصابه في الحرم كان عليه الجزاء لانه من جنايته وهو قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى فيما أعلم ومعنى هذا التعليل أن ذهاب السهم حتى وصل إلى الصيد كان بقوة الرامي وهو مباشر لذلك الفعل حتى يستوجب القصاص به إذا رمى إلى مسلم عمدا فقتله وانما أصابه بعد ما صار صيد الحرم فكان هو قاتلا صيد الحرم بفعله فيلزمه الجزاء وهذا بخلاف ما لو أرسل كلبه على صيد في الحل فطرد الكلب الصيد حتى قتله في الحرم حيث لا يضمن قال لان هذا ليس من جنايته ومعنى هذا ان طرف الكلب الصيد فعل أحدثه الكلب فلا يصير المرسل به جانيا على صيد الحرم وحقيقة المعنى في الفرق ان الرامى مباشر لما يصيبه سهمه وفى مباشرة الفعل لا فرق بين أن يكون متعديا وبين أن يكون غير متعد فيما يلزمه من الجزاء ألا ترى أن من رمي سهما في ملك نفسه فأصاب مالا أو نفسا كان ضامنا له فأكثر ما في الباب هنا أنه في أصل الرمى لم يكن متعديا وهذا لا يمنع وجوب الجزاء عليه عند مباشرته فأما مرسل الكلب متسبب لاتلاف ما يأخذه الكلب لا مباشر حتى لا يلزمه القصاص بحال والمتسبب إذا كان متعديا في تسببه كان ضامنا وإذا لم يكن متعديا لا يكون ضامنا كمن حفر بئرا في ملك نفسه وهنا هو غير متعد في إرسال الكلب على صيد في الحل فلهذا لا يلزمه الجزاء (قال) وان زجر الكلب بعد ما دخل في الحرم فانزجر وأخذ الصيد فعليه جزاؤه استحسانا وفى
[ 189 ] القياس لا يلزمه شئ لان الاخذ من الكلب يكون محالا على أصل الارسال دون الزجر ألا ترى لو أن مسلما أرسل كلبه على صيد فزجره مجوسي فانزجر حتى أخذ الصيد حل تناوله وأصل الارسال هنا لم يكن جناية فوجود الزجر بعد كعدمه وجه الاستحسان أنه في هذا الزجر متسبب لاخذ الصيد وهو متعد في هذا التسبب ثم أصل الارسال هنا ما انعقد تعديا وكان ذلك في حكم الزجر كالمعدوم أصلا وهو نظير القياس والاستحسان الذى ذكره في كتاب الصيد أن الكلب المعلم إذا انبعث على أثر الصيد من غير ارساله فزجره صاحبه فانزجر حتى أخذ الصيد انما يحل تناوله استحسانا بخلاف ما إذا أرسله مجوسي ثم زجره مسلم لان أصل الارسال هناك كان معتبرا فيحال الحكم عليه دون الزجر (قال) ولو أرسل كلبا في الحرم على ذئب فأصاب صيدا في الحرم لم يكن عليه شئ لانه غير متعد في هذا التسبب فان إرسال الكلب على الذئب مباح له فلهذا لا يوجب عليه الضمان وان أخذ الكلب الصيد بخلاف ما إذا رمى إلى ذئب فأصاب صيدا لانه مباشر فلا يعتبر فيه معنى التعدي ولكن قتل الصيد في الحرم خطأ موجب للضمان كقتله عمدا وكذلك لو أرسل حلال كلبا على صيد في الحل فذهب الكلب إلى صيد في الحرم فقتله لم يكن عليه جزاء كما لو دخل الصيد الذى أرسله عليه في الحرم فقتله فيه (قال) ولو أرسل المجوسى كلبا على صيد في الحرم فزجره مسلم محرم فانزجر فقتل الصيد كان على المحرم جزاؤه لان زجر المحرم لا يكون دون دلالته على الصيد والمحرم يضمن الصيد بالدلالة فبالزجر أولى ولا يؤكل ذلك الصيد لا لزجر المحرم فان حرمة الصيد تثبت به كما تثبت بالدلالة ولكن لان اخذه محال به على أصل الارسال والمرسل كان مجوسيا (قال) ولو نصب شبكة للصيد فأصاب الصيد فعليه جزاؤه لانه متعد في هذا التسبب ولو نصبها لذئب أو سبع آذاه وابتدأه فوقع فيه صيد لم يكن عليه شئ لانه غير متعد في هذا التسبب وهو قياس نصب الفسطاط من المحرم على ما سبق (قال) محرم دل محرما على صيد وأمره بقتله وأمر المأمور ثانيا بقتله فقتله كان على كل واحد منهم جزاء كامل لان كل واحد منهم جان على الصيد بما صنع القاتل بالمباشرة والآمر الثاني بدلالة القاتل عليه والآمر الاول باعلامه الآمر الثاني بمكان الصيد حتى أمر به غيره فكانوا جميعا ضامنين وهذا لان فعل المأمور الثاني كفعل آمره ولو قتل الآمر الثاني وجب الجزاء به على الآمر الاول فكذلك إذا أمر به غيره
[ 190 ] حتى قتله وجزاء الصيد في حق المحرم لا يتجزء فلهذا كان على كل واحد من الثلاثة جزاء كامل (قال) لو أخبر محرم محرما بصيد لم يره حتى أخبره به محرم آخر فلم يصدق الاول ولم يكذبه ولكن طلب الصيد فقتله كان على كل واحد منهم جزاؤه لان كل واحد منهم جان فيما صنع وهذا بخلاف ما إذا أكذب الاول فان هناك لا يلزمه الجزاء لانه بتكذيبه اياه انتسخ حكم دلالته فلم يكن قتل الصيد بعد ذلك محالا به على دلالة الاول وانما كان محالا به على دلالة الثاني فاما إذا لم يصدقه ولم يكذبه لم ينتسخ حكم دلالته (قال) محرم أرسل محرما إلى محرم فقال ان فلانا يقول لك ان في هذا الموضع صيدا فذهب فقتله كان على المرسل والرسول والقاتل الجزاء لان كل واحد منهم متعد فيما صنع فان القاتل انما تمكن من قتل الصيد بارسال المرسل وتبليغ الرسول فلهذا ضمن كل واحد منهم الجزاء (قال) وان دل محرم على صيد رجلا وهو يعلم به ويراه فقتله لم يكن على الدال شئ لان تمكن القاتل من قتل الصيد لم يكن بدلالته فقد كان متمكنا منه قبل دلالته (قال) محرم استعال من محرم سكينا ليذبح بها صيدا فاعاره اياه فذبح الصيد فلا جزاء على صاحب السكين ويكره له ذلك اما الكراهة بالاعانة على المعصية بما أعطاه من الآلة وأما حكم الجزاء فأكثر مشايخنا يقولون تأويل هذه المسألة أنه إذا كان مع المحرم القاتل سلاح يقتل بذلك السلاح الصيد فحينئذ لا يلزم الجزاء على من أعطى السكين لانه وان لم يعطه كان متمكنا من قتله فإذا لم يكن تمكنه بما أعطى لا يجب عليه الجزاء كما لا يجب الجزاء على الدال إذا كان للمدلول علم بمكان الصيد فأما إذا لم يكن مع المحرم القاتل ما يقتل به الصيد ينبغي أن يجب الجزاء على هذا المعير لان التمكن من قتل الصيد كان باعارته السكين والى هذا أشار في السير الكبير والاصح عندي انه لا يجب الجزاء على المعير للسكين على كل حال لوجهين (أحدهما) أن الصيد مأخوذ المستعير قبل اعارة السكين منه وكان قد تلف معنى الصيدية بأخذ المستعير اياه حكما وبقتله حقيقة فأما اعارة السكين ليس باتلاف معنى الصيدية عليه لا حقيقة ولا حكما بخلاف الدلالة فانه اتلاف لمعنى الصيدية من وجه حين أعلم بمكانه من لا يقدر الصيد على الامتناع منه فان امتناع الصيد ممن يقدر على الامتناع منه يكون بجناحه ومن لا يقدر على الامتناع منه يكون بتواريه عن عينه فإذا أعلمه بمكانه صار متلفا معنى الصيدية حكما (والثانى) أن الاعارة تتصل بالسكين لا بالصيد فانها صحيحة وان لم يكن هناك صيد ولا يتعين استعماله في حق قتل الصيد بخلاف
[ 191 ] الاشارة إلى قتل الصيد فانها متصلة بالصيد ليس فيها فائدة أخرى سوى ذلك ولا يتم ذلك الا بصيد هناك فلهذا يتعلق وجوب الجزاء بها ولم يذكر في الكتاب مسألة نكاح المحرم وهى مسألة خلافية معروفة عندنا يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج وليته وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمحرم أن يتزوج ولا أن يزوج ولو فعل لم ينعقد النكاح لحديث عثمان رضى الله عنه ان النبي ﷺ قال لا ينكح المحرم ولا ينكح ولان المقصود من النكاح الوطئ وبسبب الاحرام يحرم عليه الوطئ بدواعيه فيحرم العقد الذى لا يقصد به الا هذا وهذا بخلاف شراء الامة فان الشراء غير مقصود للوطئ بل للتجارة والمحرم غير ممنوع عنه ألا ترى ان المسلم لا يتزوج المجوسية ولا أخته من الرضاعة لانه لما حرم عليه وطؤها حرم عليه العقد أيضا وله أن يشترى هؤلاء وحجتنا حديث ابن عباس رضى الله عنهما ان النبي ﷺ تزوج ميمونة رضى الله عنها وهو محرم وهكذا روى عن عائشة رضى الله عنها واختلف الروايات في حديث أبى رافع قال في بعض الروايات تزوجها رسول الله ﷺ وهو حلال وفي بعضها تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال وكنت أنا السفير فيما بينهما ويتبين بهذا الحديث أن المراد من حديث عثمان رضى الله عنه الوطئ دون العقد فانه للوطئ حقيقة وان كان مستعارا للعقد مجازا على ما نبينه في كتاب النكاح ان شاء الله تعالى ومن حيث المعنى الكلام واضح في المسألة فان النكاح عقد معاوضة والمحرم غير ممنوع عن مباشرة المعاوضات كالشراء ونحوه ولو جعل عقد النكاح بمنزلة ما هو المقصود به وهو الوطئ لكان تأثيره في ايجاب الجزاء أو افساد الاحرام به لا في بطلان عقد النكاح توضيحه ان بعد الاحرام يبقى النكاح بينه وبين امرأته صحيحا ولو كان عقد الاحرام ينافى ابتداء النكاح لكان منافيا للبقاء كتمجسها والحرمة بسبب الرضاع ولما لم يناف بقاء النكاح فكذلك الابتداء وبهذا فارق شراء الصيد أيضا لان الاحرام يمنع استدامة اليد على الصيد فيمنع اثبات اليد بالشراء ابتداء بخلاف النكاح والدليل عليه أنه لو راجعها وهو محرم كان صحيحا بالاتفاق وعلى أصل الشافعي رحمه الله تعالى الرجعة سبب يحل الوطاء به ثم لم يكن المحرم ممنوعا عنه فكذلك النكاح وأصل كلامه يشكل بالظهار فان الظهار يحرم الوطئ بدواعيه ولا يمنع العقد ابتداء بان ظاهر منها ثم فارقها ثم تزوجها ثم الشافعي رحمه الله تعالى يمنع المحرم
[ 192 ] من تزويج وليته وليس في هذا تطرق المحرم إلى استباحة الوطئ فعرفنا ان كلامه من حيث المعنى ضعيف جدا والله أعلم (قال) رحمه الله تعالى وغفر له هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات مصليا على سيد السادات محمد المبعوث بالرسالات وعلى أهله من المؤمنين والمؤمنات تم كتاب المناسك ولله المنة وله الحمد الدائم الذى لا يفنى امده ولا ينقضى عدده كتاب النكاح (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسي رحمهما الله تعالى إملاء أعلم بان النكاح في اللغة عبارة عن الوطئ تقول العرب تناكحت العرى أي تناتجت ويقول أنكحنا العرى فسنرى لامر يجتمعون عليه وينظرون ماذا يتولد منه وحقيقة المعنى فيه هو الضم ومنه يقال أنكح الظئر ولدها أي الزمه ويقال إنكح الصبر أي الزمه وقال القائل ان القبور تنكح الايامى * والنسوة الارامل اليتامى أي تضمهن إلى نفسها واحد الواطئين ينضم إلى صاحبه في تلك الحالة فسمي فعلهما نكاحا قال القائل * كبكر تحب لذيذ النكاح * أي الجماع وقال القائل التاركين على طهر نساءهم والناكحين بشطى دجلة البقرا أي الواطئين ثم يستعار للعقد مجازا اما لانه سبب شرعى يتوصل به إلى الوطئ أو لان في العقد معنى الضم فان احدهما ينضم به إلى الآخر ويكونان كشخص واحد في القيام بمصالح المعيشة وزعم الشافعي رحمه الله تعالى ان اسم النكاح في الشريعة بتناول العقد فقط وليس كذلك فقد قال الله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح يعنى الاحتلام فان المحتلم يرى في منامه صورة الوطئ وقال الله تعالى الزانى لا ينكح الا زانية والمراد الوطئ وفى الموضع الذى حمل على العقد فذلك لدليل اقترن به من ذكر العقد أو خطاب الاولياء في قوله وانكحوا الايامى منكم أو اشتراط اذن الاهل في قوله تعالى فانحكوهن باذن أهلن ثم يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية من ذلك حفظ النساء والقيام عليهن والانفاق ومن ذلك صيانة النفس عن الزنا ومن ذلك تكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول الله ﷺ وتحقيق مباهاة الرسول
[ 193 ] ﷺ بهم كما قال تناكحوا تناسلوا تكثروا فانى مباه بكم الامم يوم القيامة وسببه تعلق البقاء المقدور به إلى وقته فان الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة وبالتناسل يكون هذا البقاء وهذا التناسل عادة لا يكون الا بين الذكور والاناث ولا يحصل ذلك بينهما الا بالوطئ فجعل الشرع طريق ذلك الوطئ النكاح لان في التغالب فسادا وفى الاقدام بغير ملك اشتباه الانساب وهو سبب لضياع النسل لما بالاناث من نبى آدم من العجز عن التكسب والانفاق على الاولاد فتعين الملك طريقا له حتى يعرف من يكون منه الولد فيوجب عليه نفقته لئلا يضيع وهذا الملك على ما عليه أصل حال الآدمى من الحرية لا يثبت الا بطريق النكاح فهذا معنى قولنا إنه تعلق به البقاء المقدور به إلى وقته ثم هذا العقد مسنون مستحب في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى وعند أصحاب الظواهر واجب لظاهر الامر به في الكتاب والسنة ولما روى أن النبي ﷺ قال لعكاف بن خالد ألك امرأة فقال لا فقال ﷺ تزوج فانك من اخوان الشياطين وفى رواية ان كنت من رهبان النصارى فالحق بهم وان كنت منا فتزوج فان المهاجر من أمتى من مات وله زوجة أو زوجتان أو ثلاث زوجات ولان التحرز من الزنا فرض ولا يتوصل إليه الا بالنكاح ومالا يتوصل إلى الفرض الا به يكون فرضا وحجتنا أن النبي ﷺ ذكر أركان الدين من الفرائض وبين الواجبات ولم يذكر من جملتها النكاح وقد كان في الصحابة رضى الله عنهم من لم يتزوج ولم ينكر عليه رسول الله ﷺ ذلك والصحابة رضى الله عنهم فتحوا البلاد ونقلوا ما جل ودق من الفرائض ولم يذكروا من جملتها النكاح وكما يتوصل بالنكاح إلى التحرز عن الزنا يتوصل بالصوم إليه قال ﷺ يا معشر الشبان عليكم بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء وتأويل ما روى في حق من تتوق نفسه إلى النساء على وجه لا يصبر عنهن وبه نقول إذا كان بهذه الصفة لا يسعه ترك النكاح فاما إذا لم يكن بهذه الصفة فالنكاح سنة له قال ﷺ ثلاث من سنن المرسلين النكاح والتعطر وحسن الخلق وقال ﷺ النكاح سنتى فمن رغب عن سنتى فليس مني أي ليس على طريقتي ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله في النوافل وقال الشافعي رحمه الله تعالى التخلي لعبادة الله تعالى أفضل الا ان تتوق نفسه إلى النساء ولا يجد الصبر على التخلي لعبادة الله واستدل
[ 194 ] بقوله تعالى وسيدا وحصورا فقد مدح يحيى ﷺ بانه كان حصورا والحصور هو الذى لا يأتي النساء مع القدرة على الاتيان فدل ان ذلك أفضل ولان النكاح من جنس المعاملات حتى يصح من المسلم والكافر والمقصود به قضاء الشهوة وذلك مما يميل إليه الطبع فيكون بمباشرته عاملا لنفسه وفى الاشتغال بالعبادة هو عامل لله تعالى بمخالفة هوى النفس وفيه اشتغال بما خلقه الله تعالى لا جله قال الله تعالى وما خلقت الجن والانس الا لعيبدون فكان هذا أفضل الا أن تكون نفسه تواقة إلى النساء فحينئذ في النكاح معنى تحصين الدين والنفس عن الزنا كما قال عمر رضى الله عنه أيما شاب تزوج فقد حصن ثلثي دينه فليتق الله في الثلث الباقي فلهذا كان النكاح أفضل في حقه وحجتنا قوله ﷺ من كان على دينى ودين داود وسليمان عليهما السلام فليتزوج وقد اشتغل رسول الله ﷺ بالتزويج حتى انتهى العدد المشروع المباح له ولا يجوز ان يقال انما فعل ذلك لان نفسه كان تواقة إلى النساء فان هذا المعنى يرتفع بالمرأة الواحدة ولما لم يكتف بالواحدة دل ان النكاح أفضل والاستدلال بحال الرسول الله ﷺ أولى من الاستدلال بحال يحيى عليه السلام مع انه كان في شريعتهم العزلة أفضل من العشرة وفى شريعتنا العشرة أفضل من العزلة كما قال ﷺ لا رهبانية في الاسلام وقد بينا ان النكاح مشتمل على مصالح جمة فالاشتغال به أولى من الاشتغال بنفل العبادة على ما اختاره الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم وليس المقصود بهذا العقد قضاء الشهوة وانما المقصود ما بيناه من أسباب المصلحة ولكن الله تعالى علق به قضاء الشهوة أيضا ليرغب فيه المطيع والعاصي المطيع للمعانى الدينية والعاصي لقضاء الشهوة بمنزلة الامارة ففيها قضاء شهوة الجاه والنفوس ترغب فيه لهذا المعنى أكثر من الرغبة في النكاح حتى تطلب ببذل النفوس وجر العساكر لكن ليس المقصود بها قضاء شهوة الجاه بل المقصود اظهار الحق والعدل ولكن الله تعالى قرن به معنى شهوة الجاه ليرغب فيه المطيع والعاصي فيكون الكل تحت طاعته والانقياد لامره مع ان منفعة العبادة على العابد مقصورة ومنفعة النكاح لا تقتصر على الناكح بل تتعدى إلى غيره وما يكون أكثر نفعا فهو أفضل قال ﷺ خير الناس من ينفع الناس إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب فقال بلغنا عن رسول الله ﷺ انه قالا لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على
[ 195 ] بنت أختها ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفي ما في صحفتها فان الله تعالى هو رازقها وهذا الحديث يرويه رجلان من الصحابة رضي الله عنهم ابن عباس وجابر رضى الله عنهما وهو مشهور بلغة العماء بالمقبول والعمل به ومثله حجة يجوز به الزيادة على كتاب الله تعالى عندنا وفيه دليل على حرمة نكاح المرأة على عمتها وخالتها لان هذا النهى بصيغة الخير وهذا أبلغ ما يكون من النهى كما أن الامر قد يكون بصيغة الخبر قال الله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية وقال الله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن والنهي يقتضى التحريم ثم ذكر هذا النهى من الجانبين اما للمبالغة في بيان التحريم أو لازالة الاشكال فربما يظن ظان ان نكاح بنت الاخ على العمة لا يجوز ونكاح العمة على بنت الاخ يجوز لتفضيل العمة كما لا يجوز نكاح الامة على الحرة ويجوز نكاح الحرة على الامة فبين رسول الله ﷺ ثبوت هذه الحرمة من الجانبين وقوله لا تسأل المرأة طلاق أختها نهى بصيغة الخبر وله تأويلان إما أن يكون المراد به الاخت دينا بأن تكون امرأتان تحت رجل وهو يحسن اليهما فتجئ إلى الزوج احداهما وتقول طلق صاحبتي ليتحول نصيبها إلى وهذا منهي عنه لانه سبب للتحاسد والتنافر وقال ﷺ لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله اخوانا أو يكون المراد به الاخت نسبا بأن تأتى المرأة إلى زوج أختها وتقول فارقها وتزوجني فانى أوفق لك وهذا منهى عنه لانه سبب لقطيعة الرحم بينهما وقطيعة الرحم من الملاعن واليه أشار ﷺ في بعض الروايات فقال انكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن ومعنى قوله لتكفئ ما في صحيفتها أي لتحول نصيبها إلى نفسها وروى لتكفئ وكلاهما لغة يقال كفأت القدر وأكفأتها إذا أملتها وأرقت ما فيها وفي بعض الروايات لتكف ما في صحفتها ومعناه لتقنع بما آتاها الله فان الله تعالى هو رامقها والصحفة عبارة عن الحظ والنصيب وقد اشتمل الحديث على الحتم والوعظ والندب فان قوله فان الله هو رازقها وعظ وقوله لا تسأل ندب لانها لو فعلت ذلك جاز ولكن لا ينبغى لها أن تفعله وقوله لا تنكح المرأة على عمتها حتم حتى إذا فعل ذلك لم يجز انكاح عندنا وقال عثمان البتى رحمه الله تعالى يجوز في غير الاختين لان المحرم بالنص الجمع بين الاختين وهذا ناسخ لما يتلى في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلك ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز ولكنا نقول الحديث صحيح مقبول والعمل به واجب فلكونه مشهورا نقول يجوز نسخ
[ 196 ] الكتاب به عندنا أو نقول هذا مبين لما ذكر في الكتاب وليس بناسخ لان الحل في الكتاب مقيد بشرط مبهم وهو قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين وهذا الشرط مبهم فالحديث ورد لبيان ما هو مبهم في الكتاب ورسول الله ﷺ بعث مبينا قال الله تعالى ليبين للناس ما نزل إليهم أو نقول هذا الحديث مقرر للحرمة المذكورة في الكتاب فان الله تعالى ذكر في المحرمات الجمع بين الاختين لانه بينهما رحما يفترض وصلها ويحرم قطعها وفي الجمع قطيعة لحرم على ما يكون بين الضرائر من التنافر فبين رسول الله ﷺ أن كل قرابة يفترض وصلها فهى في معنى الاختية في تحريم الجمع والتى بين العمة وبنت الاخ قرابة يفترض وصلها حتى لو كان أحدهما ذكرا والاخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الانثى صيانة للرحم وإذا ملكه عتق عليه تحرزا عن قطيعة الرحم فكان الحديث مقررا للحرمة المذكورة في القرآن لا أن يكون ناسخا قال وبلغنا عن عمر رضى الله عنه أنه قال لامنعن النساء فروجهن الا من الاكفاء وفى هذا دليل على أن للسلطان يدا في الانكحة فقد أضاف المنع إلى نفسه وذلك يكون بولاية السلطنة وفيه دليل أن الكفاءة في النكاح معتبرة وأن المرأة غير ممنوعة من أن تزوج نفسها ممن يكافئها وأن النكاح ينعقد بعبارتها قال وبلغنا عن النبي ﷺ أنه قال البكر تستأمر في نفسها واذنها صماتها والثيب تشاور ومعنى قوله تستأمر في نفسها أي في أمر نفهسا في النكاح فهو دليل على أنه ليس لاحد من الاولياء أن يزوجها من غير استئمارها أبا كان أو غيره وقيل معناه تستأمر خالية لا في ملا من الناس لكيلا يمنعها الحياء من الرد إذا كانت كارهة ولا تذهب حشمة الولى عنه بردها قوله واذنها صماتها وفي بعض الروايات سكوتها رضاها وذلك دليل على أن رضاها شرط وأن السكوت منها دليل على الرضا فيكتفي به شرعا لما روى أن عائشة رضى الله عنها قالت يا رسول الله انها تستحى فتسكت فقال ﷺ سكوتها رضاها ومعنى هذا انه تستحى من اظهار الرغبة في الرجال وإذا استؤمرت فلها جوابان نعم أولا وسكوتها دليل على الجواب الذى يحول الحباء بينها وبين ذلك الجواب وهو الرضا دون الاباء إذ ليس في الاباء اظهار الرغبة في الرجال وقد يكون السكوت دليل الرضا كسكوت الشفيع بعد العلم بالبيع وسكوت المولى عند رؤيته تصرف العبد عن الحجر عليه وقوله والثيب تشاور دليل على أنه لا يكتفى بسكوت الثيب فان
[ 197 ] المشاورة على ميزان المفاعلة ولا يحصل ذلك الا بالنطق من الجانبين وبظاهره يستدل الشافعي على أن الثيب الصغيرة لا يزوجها أحد حتى تبلغ فتشاور ولكنا نقول هذا اللفظ يتناول ثيبا تكون من أهل المشاورة والصغيرة ليست بأهل المشاورة فلا يتناولها الحديث (قال) وبلغنا عن إبراهيم رحمه الله تعالى قال البكر تستأمر في نفسها فلعل بها داء لا يعلمه غيرها قيل معنى هذا لعلها رتقاء أو قرناء وذلك في باطنها لا يعلمه غيرها فإذا زوجت من غير استئمارها لا يحصل المقصود بالنكاح وينهتك سترها وقيل معناه لا تشتهي صحبة الرجال لمعنى في باطنها من غلبة الرطوبة أو نحو ذلك فإذا زوجت بغير استئمارها لا تحسن العشرة مع زوجها أو لعل قلبها مع غير هذا الذى تزوج منه فإذا زوجت بغير استئمارها لم تحسن صحبة هذا الزوج ووقعت في الفتنة لكون قبلها مع غيره وأى داء أدوى من العشق (قال) وبلغنا عن رسول الله ﷺ أنه قال لا تنكح الامة على الحرة وتنكح الحرة على الامة وفيه دليل على أن نكاح الامة على الحرة لا يجوز وأن هذه الحرمة ثابتة شرعا رضيت الحرة أو لم ترض وهو مذهبنا وقال مالك رحمه الله تعالى إذا رضيت الحرة جاز قال لان المنع لحق الحرة لا للجمع بدليل أنه إذا تقدم نكاح الامة بقي نكاحها بعد الحرة والجمع موجود فدل أن المنع لحق الحرة وهو أنه يغصها ادخال ناقصة الحال في فراشها وذلك ينعدم برضاها ولكنا نقول المنع ليس لحقها بل لانها ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة وهي من المحللات منفردة عن الحرة فان الحل برقها يتنصف كما يتنصف برق الرجل على ما نبينه ان شاء الله تعالى فإذا تزوجها على الحرة فهذا حال ضمها إلى الحرة وهى ليست من المحللات في هذه الحالة وهذا المعنى لا يزول برضاها فلهذا لا يجوز النكاح والكلام فيه أن هذا الحديث ناسخ لما في الكتاب أو مبين بطريق التخصيص على نحو ما بينا في الحديث الاول ثم ذكر هذا اللفظ عن على رضى الله عنه أيضا وزاد فيه وللحرة الثلثان من القسم وللامة الثلث وبه نأخذ فان القسم ينبنى على الحل الذى ينبني عليه النكاح وحظ الامة فيه على النصف من حظ الحرة وزعم بعض العلماء رحمهم الله تعالى أنه يسوى بينهما في القسم كما يسوى بينهما في النفقة للسماواة بينهما في الملك والحاجة ولكنا نقول لا يسوى بينهما في النفقة أيضا فالحرة تستحق نفقة خادمها كما تستحق نفقة نفسها والامة لا تستحق النفقة الا أن يبوئها المولى بيتا مع زوجها (قال) وبلغنا عن ابن عباس رضى
[ 198 ] الله عنه أنه قال ان بعض العرب كان في الجاهلية يستحل الرجل نكاح امرأة أبيه فإذا مات أبوه ورث نكاحها عنه فأنزل الله تعالى قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية وأنزل الله تعالى قوله حرمت عليكم أمهاتكم الآية وان العرب في الجاهلية كانوا فريقين فريق يعتقدون الارث في منكوحة الاب ويقولون ان ولد الرجل إذا لم يكن منها يخلفه في نكاحها كما يخلفه في ملكه فيطأها بغير عقد جديد رضيت أو كرهت وفيه نزل قوله تعالى لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها وبعضهم كانوا يعتقدون أنها تحل له بعقد جديد وأنه متى رغب فيها فهو أحق بها من غيره وفيه نزل قوله تعالى ولا تكحوا ما نكح آباؤكم وكانوا في الجاهلية يسمون الولد الذى يكون بينهما ولد المقت واليه أشار الله تعالى في قوله انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا وقوله تعالى الا ما قد سلف معناه أن ما قد سلف في الجاهلية فانكم لا تؤاخذون بذلك إذا خليتم سبيلهن بعد العلم بالحرمة وقيل معناه ولا ما قد سلف فان كلمة الا قد تكون بمعنى ولا قال الله تعالى الا الذين ظلموا منهم فيكون المعنى أنه كما لا يحل ابتداء العقد بعد نزول الحرمة لا يحل امساك ما قد سلف بعد نزول الحرمة لكيلا يظن ظان أن هذه الحرمة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء كحرمة العدة فأما قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم ففيه بيان المحرمات والحاصل أن المحرمات أربعة عشر سبع من جهة النسب وسبع من جهة السبب أما من جهة السبب فالامهات بقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فأم الرجل حرام عليه وكذلك جداته من قبل أبيه أو من قبل أمه فعلى قول من يقول ان اللفظ الواحد يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز في محلين مختلفين يقول حرمت الجدات بالنص لان اسم الامهات يتناولهن مجازا وعلى قول من يقول لا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز يقول حرمت الجدات بدليل الاجماع إذ الامهات هن الاصول وهو حقيقة معنى هذا الاسم وذلك يجمع الكل الا أن اطلاق الاسم في الام الادنى دون غيرها لدليل العرف فعلى هذا يتناول النص الجدات حقيقة والثانى البنات فعلى القول الاول حرمة بنات البنات وبنات البنين وان سفلن ثابتة بالنص أيضا لان الاسم يتناولهن مجازا وعلى القول الآخر حرمتهن بدليل الاجماع على ما بينا والثالث الاخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى وأخواتكم وهن أصناف ثلاثة الاخت لاب وأم والاخت لاب والاخت لام وهن محرمات بالنص فالاختية عبارة عن المجاورة في الرحم أو في الصلب فكان الاسم حقيقة يتناول الفرق الثلاث والرابع العمات تثبت حرمتهن بقوله تعالى
[ 199 ] وعماتكم ويدخل في ذلك أخوات الاب لاب وأم أو لاب أو لام والخامس الخالات تثبت حرمتهن بقوله تعالى وخالاتكم ويدخل في ذلك أخوات الام لاب وأم أو لاب أو لام والسادس بنات الاخ تثبت حرمتهن بقوله تعالى وبنات الاخ ويدخل في ذلك بنات الاخ لاب وأم أو لاب أو لام والسابع بنات الاخت تثبت حرمتهن بقوله تعالى وبنات الاخت ويستوى في ذلك بنات الاخت لاب وأم أو لاب أو لام وأما السبع اللاتى من جهة النسب الامهات من الرضاعة والاخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة والحاصل أنه يثبت بالرضاع من الحرمة ما يثبت بالنسب قال ﷺ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والثالث أم المرأة فان من تزوج امرأة حرمت عليه أمها ثبت بقوله تعالى وأمهات نسائكم وهذه الحرمة تثبت بنفس العقد عندنا وكان بشر المريسى وابن شجاع رحمهما الله تعالى يقولان لا تثبت الا بالدخول بالبنت وهو أحد قولى الشافعي رحمه الله تعالى ومذهبنا مذهب عمرو ابن عباس رضي الله عنهم واليه رجع ابن مسعود رضى الله عنه حين ناظره عمر رضى الله عنه ومذهبهم مذهب علي وزيد بن ثابت رضى الله عنهما واستدلوا بقوله تعالى وأمهات نسائكم الآية والاصل أن الشرك والاستثناء إذا تعقب كلمات منسوقة بعضها على بعض ينصرف إلى جميع ما سبق ذكره ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن النبي ﷺ قال من تزوج امرأة حرمت عليه أمها دخل بها أو لم يدخل وحرمت عليه ابنتها ان دخل بها وكان ابن عباس رضى عنهما يقول أم المرأة مبهمة فابهموا ما أبهم الله بين أن الشرط المذكور ينصرف إلى الربائب دون الامهات وهذا هو الظاهر لغة فالنساء المذكورة في قوله تعالى وامهات نسائكم مخفوضة بالاضافة وفى قوله من نسائكم مخفوض بحرف من والمخفوضات بأداتين لا ينعتان بنعت واحد ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقول مررت بزيد إلى عمرو الظريفين وهو الاصل في اللغة أن المعمول الواحد لا يكون بعاملين فلو جعلنا قوله وربائبكم عطفا لصار قوله من نسائكم مخفوضا بحرف من وبالاضافة جميعا وذلك لا يجوز فعرفنا أن قوله وربائبكم ابتداء بحرف الواو وان أمهات النساء مبهمة كما قال ابن عباس رضى الله عنهما فأما حرمة الربيبة وهى بنت المرأة لا تثبت الحرمة الا بالدخول بالام لقوله تعالى من نسائكم اللاتى دخلتم بهن ولان الربائب ليس في معنى الامهات فالظاهر من العبارة ان أم الزوجة تبرز إلى زوج بنتها قبل الدخول وأما بنت المرأة
[ 200 ] لا تبرز إلى زوج أمها قبل الدخول بالام واختلفت الصحابة رضى الله عنهم ان الحجر هل ينتصب شرطا لهذه الحرمة أولا فكان على رضى الله عنه يقول الحجر شرط لقوله تعالى وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن ولما روى انه عرض على رسول الله ﷺ زينب بنت أم سلمة رضى الله عنهما فقال لو لم تكن ربيبتي في حجري ما كانت تحل لى أرضعتني واباها ثوبية فاما عمر وابن مسعود رضى الله عنهما كانا يقولان الحجر ليس بشرط وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى للحديث الذى رويناه وتفسير الحجر وهو أن النبت إذا زفت مع الام إلى بيت زوج الام فهذه كانت في حجره وإذا كانت مع أبيها لم تكن في حجر زوج الام وانما ذكر الحجر في الآية على وجه العادة فان بنت المرأة تكون في حجر زوج أمها لا على وجه الشرط مثل قوله تعالى فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا مذكور علي وجه العادة لا على وجه الشرط الا ترى انه قال فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم شرط للحل عدم الدخول فذلك دليل على انه بعد ما دخل بالام لا تحل له البنت قط سواء كانت في حجره أو لم تكن ولا يحل له ان يجمع بين الام والبنت وان لم يكن دخل بالام لان القرابة التى بينهما أقوى من القرابة التى بين المرأة وعمتها وقد بينا ان هناك لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فهنا أولى فاما إذا طلق الام قبل أن يدخل بها أو ماتت يحل له ان يتزوج البنت وكان زيد رحمه الله تعالى يفرق بين الطلاق والموت فيقول بالموت ينتهى النكاح حتى يتقرر به كمال المهر فنزل ذلك منزلة الدخول ولكنا نقول هذه الحرمة تعلقت شرعا بشرط الدخول فلو اقمنا الموت مقامه كان ذلك بالرأى وكما لا يجوز نصب شرط بالرأى لا يجوز اقامة شرط مقام شرط بالرأى فاما حليلة الابن على الاب حرام سواء دخل الابن بها أو لم يدخل لقوله تعالى وحلائل أبنائكم سميت حليلة لانها تحل للابن من الحل أو هو مشتق من الحلول على معنى انها تحل على فراشه وهو يحل في فراشها وكما تحرم حليلة الابن نسبا فكذلك حليلة الابن من الرضاع عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تحرم حليلة الابن من الرضاع بناء على أصله ان لبن الفحل لا يحرم واستدل بالتقييد المذكور هنا بقوله من أصلابكم ولكنا نستدل بقوله ﷺ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والمراد بقوله تعالى من أصلابكم بيان اباحة حليلة الابن من التبني فان النبنى انتسخ بقوله تعالى أدعوهم لآبائهم وكان النبي ﷺ تبنى زيد بن حارثة
[ 201 ] ثم تزوج زينب بعد ما طلقها زيد فطعن المشركون وقالوا إنه تزوج حليلة ابنه وفيه نزل قوله تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم فهذا التقييد هنا لدفع طعن المشركين وكما تحرم حليلة الابن فذلك حليلة ابن الابن وان سفل لان اسم الابن يتناوله مجازا فان قيل ابن الابن لا يكون من صلبه فكيف يصح تعدية هذا التحريم إليه مع هذا التقييد قلنا مثل هذا اللفظ يذكر باعتبار ان الاصل من صلبه كقوله تعالى هو الذى خلقكم من تراب والمخلوق من التراب هو الاصل وكذلك منكوحة الاب حرام على الابن دخل بها الاب أو لم يدخل لقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وكما يحرم على الابن يحرم على النوافل من قبل الرجال والنساء جميعا لان اسم الاب يتناول الكل مجازا فاما قوله تعالى وان تجمعوا بين الاختين معناه حرم عليكم أن تجمعوا بين الاختين لانه معطوف على أول الاية والجمع بين الاختين نكاحا حرام وكذلك الجمع بينهما فراشا حتى لا يجمع بين الاختين وطئا بملك اليمين وهو مذهب على وابن مسعود وعمار بن ياسر رضوان الله عليهم فانه قال ما حرم الله تعالى من الحرائر شيئا الا وحرم من الاماء مثله الا رجل يجمعهن يريد به الزيادة على الاربع وكان عثمان رضى الله عنه يقول أحلتهما آية وحرمتها آية يريد بآية التحليل قوله تعالى أن ما ملكت أيمانكم وبآية التحريم قوله تعالى وأن تجمعوا بين الاختين فكان يتوقف في ذلك ولكنا نقول عند التعارض يترجح جانب الحرمة ويتأيد هذا بقوله ﷺ لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجمع ماءه في رحم أختين ولان المراد من قوله وأن تجمعوا حرمة الجمع فراشا كما أن قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم يقتضى حرمة الاستفراش بأى سبب كان والجمع فراشا يحصل بالوطئ بملك اليمين فلهذا يحرم عليه الجمع بينهما فان تزوجهما في عقدة واحدة بطل نكاحهما لانه لا وجه لتصحيح نكاح إحداهما بغير عينها فان النكاح عقد تمليك فلا يثبت في المجهولة ابتداء ولا بعينها إذ ليست احداهما بأولى من الاخرى ولا يمكن تصحيح نكاحهما لان الجمع محرم بالنص فتعين البطلان وان نكح احداهما قبل الاخرى فنكاح الاولى جائز لان بهذا العقد لا يصير جامعا ونكاح الثانية فاسد لان بهذا العقد يصير جامعا بين الاختين فتعين فيه جهة البطلان فيفرق بينهما فان لم يكن دخل بها فلا شئ لها عليه وان كان قد دخل بها فعليها العدة ولها الاقل من المسمى ومن مهر المثل لان الدخول حصل بشبهة صورة النكاح فيسقط به الحد ويجب المهر والعدة كما إذا زفت إليه غير امرأته
[ 202 ] وحكم ذلك مروى عن على رضى الله عنه فاما وجوب الاقل من المسمى ومن مهر المثل فهو مذهبنا وعند زفر رحمه الله تعالى يجب مهر المثل بالغا ما بلغ لان الواجب عند فساد العقد بدل المتلف ألا ترى ان المقبوض بحكم الشراء الفاسد يكون مضمونا بالقيمة بالغة ما بلغت عند الاتلاف فكذلك المستوفى بالنكاح الفاسد ولكنا نقول المستوفى بالوطئ ليس بمال فانما يقتدر بالمال بالتسمية الا ان المسمى إذا كان أكثر من مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم صحة التسمية فإذ كان أقل لم تجب الزيادة على قدر المسمى لانعدام التسمية فيه ولتمام التراضي على قدر المسمى بخلاف المبيع فانه مال متقوم بنفسه فبدله يقتدر بالقيمة وانما يتحول عنه إلى المسمى إذا صحت التسمية فإذا لم تصح لفساد العقد كان مضمونا بالقيمة ثم يعتزل عن امرأته حتى تنقضي عدة الاخرى سواء دخل بالاولى أو لم يدخل بها لان رحم المعتدة مشغول بمائه حكما ولو وطئ الاخرى في هذه الحالة صار جامعا ماءه في رحم الاختين وذلك حرام شرعا ولكن أصل نكاح الاولى بهذا لا يبطل لان اشتغال رحم الثانية عارض على شرف الزوال فلا يبطل ذلك أصل النكاح كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة ووجبت عليها العدة لا يكون للزوج ان يطأها حتى تنقضي عدتها ولا يبطل نكاحها ولا تتزوج المرأة في عدة أختها منه من نكاح فاسد أو جائز عن طلاق بائن أو غير بائن وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى ان كانت تعتد منه من طلاق رجعى فليس له أن يتزوج أختها وان كان من ثلاث أو خلع فله أن يتزوج أختها في عدتها وقد روى مثل مذهبه عن زيد بن ثابت رضى الله عنه الا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى ذكر في الامالى رجوع زيد رضي الله عنه عن هذا القول وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى قول زيد الآخر أنه ليس له أن يتزوجها وحكي أن مروان شاور الصحابة رضى الله عنهم في هذا فاتفقوا على أنه يفرق بينهما وخالفهم زيد ثم رجع إلى قولهم وقال عبيدة السلمانى ما اجتمع أصحاب رسول الله ﷺ ورضي الله عنهم على شئ كاجتماعهم على تحريم نكاح الاخت في عدة الاخت والمحافظة على الاربع قبل الظهر وذكر سلمان بن بشار عن على وابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم المنع من نكاح الاخت المتعدة من طلاق بائن أو ثلاث وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول ان كانت حاملا فليس له أن يتزوج أختها وان كانت حائلا فله أن يتزوجها وحجة الشافعي رحمه الله تعالى أن النكاح مرتفع بينهما بجميع علائقه فيجوز له نكاح أختها كما بعد انقضاء العدة
[ 203 ] ودليل الوصف أنه لو وطئها وقال علمت أنها على حرام يلزمه الحد ولو جاءت بولد لاكثر من سنتين حتى علم أن العلوق كان في العدة لم يثبت النسب ولو بقيت بينهما علاقة من علائق النكاح لسقط به الحد وثبت النسب والعدة الواجبة أثر ماء محترم لانها من حقوق النكاح حتى لا يجب بدون توهم الدخول وما كان من العدة لحق النكاح لا يعتبر فيه توهم الدخول كعدة الوفاة وإذا ثبت الوصف فتأثير أن المحرم هو الجمع بينهما نكاحا فلا يصير جامعا بهذا حتى لم يبق بينه وبين الاولى علقة من علائق النكاح والمقصود من هذا التحريم صيانة الرحم عن القطيعة التى تكون بسبب المنازعة بينهما في القسم وذلك لا يتحقق بعد الخلع والتطليقات الثلاثة (ولنا) أن هذه معتدة على الاطلاق فليس له أن يتزوج باختها كالعدة من طلاق رجعى وهذا لان العدة حق من حقوق النكاح ألا ترى أنها لا تجب بدون النكاح أو شبهة النكاح ولا معنى لما قال ان وجوبها بماء محترم لانه ان اعتبر أصل الماء فهو موجود في الزانية ولا عدة وان اعتبر الماء المحتمر فاحترام الماء يكون بالنكاح والدليل عليه أن العدة تختلف بالرق والحرية واشتغال الرحم بالماء لا يختلف وانما يختلف ملك النكاح لتفاوت بينهما في الحل الذى ينبنى عليه النكاح فعرفنا أنه من حقوق النكاح ولكن حق النكاح بعد ارتفاعه انما يبقى إذا كان النكاح متأكدا وتأكده بالموت أو بالدخول ولهذا لا تجب العدة على المطلقة قبل الدخول وإذا ثبت أنه من حقوق النكاح فالحق يعمل عمل الحقيقة في اثبات الحرمة كما أن حق ملك اليمين للمكاتب كحقيقة ملك اليمين للحر في المنع من نكاح أمته وكما أن الرضاع في التحريم ينزل منزلة النسب لانه في البعضية بمنزلة الحق من الحقيقة والدليل عليه أن في جانبها جعل الحق كالحقيقة في حق المنع من التزوج فكذلك في جانبه ونحن نسلم ارتفاع ملك النكاح بجميع علائقه انما تدعى بقاء الحق وهذا الحكم عندنا يثبت بدون ملك النكاح فان بالنكاح الفاسد أصل الملك لا يثبت ثم يكون ممنوعا من نكاح أختها وكما يلزمه الحد إذا وطئها يلزمها الحد إذا مكنت نفسها منه ولا يدل ذلك على زوال المنع من جانبها فكذلك من جانبه وكما لا يجوز له أن يتزوج أختها في عدتها فكذلك لا يجوز أن يتزوج احدا من محارمها لانهما في معنى الاختين في حرمة الجمع بينهما وكذلك لا يجوز له ان يتزوج أربعا سواها في عدتها لان الجمع بين الخمس حرام بالنكاح بمنزلة الجمع بين الاختين (قال) ولا يحل له أن يجمع بين امرأتين
[ 204 ] ذواتي رحم محرم من نسب أو رضاع لان الرضاع في حكم الحرمة بمنزلة النسب وبهذا تبين ان في المنصوص لا يعتبر المعنى وان المعتبر حرمة الجمع بالنص لا صيانة الرحم عن القطيعة فانه ليس بين الاختين من الرضاعة قرابة يفترض وصلها ثم كان الجمع بينهما حراما فان تزوجها فهو على ما بينا في الاختين نسبا زاد في التفريع هنا فقال ان تزوجهما في عقدة ودخل بهما فرق بينه وبينهما وعليهما العدة وانما تصير كل واحدة منهما شارعة في العدة من وقت التفريق عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى من آخر الوطآت وكذلك في كل نكاح فاسد لان وجوب العدة بسبب الوطئ فيعتبر من آخر الوطآت ولكنا نقول الموجب للعدة شبهة النكاح ورفع هذه الشبهة بالتفريق ألا ترى ان وطأها قبل التفريق لا يلزمه الحد وبعده يلزمه فلا تصير شارعة في العدة ما لم ترتفع الشبهة وذلك بالتفريق بينهما والدليل على ان المعتبر هو الشبهة أنه وان وطئها مرارا لا يجب الا مهر واحد لاستناده إلى شبهة واحدة إذا ثبت هذا فنقول بعد ما فرق بينه وبينهما ليس له أن يتزوج واحدة منهما حتى تنقضي عدة الاخرى لان الاخرى في عدته وعدة الاخت تمنع نكاح الاخت فان انقضت عدتهما معا فله أن يتزوج أيتهما شاء وان انقضت عدة احداهما فليس له أن يتزوج التى انقضت عدتها لان الاخرى معتدة وله أن يتزوج المعتدة لان الاخرى منقضية العدة وعدة هذه لا تمنع صاحب العدة من نكاحها انما تمنع غيره من ذلك وكذلك لو كان دخل باحداهما ثم فرق بينه وبينهما فالعدة على التى دخل بها دون الاخرى وله ان يتزوج المعتدة ولا يتزوج الاخرى حتى تنقضي عدة المعتدة لما بينا (قال) وإذا وطئ الرجل امرأة بملك يمين أو نكاح أو فجوز يحرم عليه أمها وابنتها وتحرم هي على آبائه وأبنائه وقال الشافعي رحمه الله تعالى ان كان الوطئ بنكاح أو ملك يمين فكذلك الجواب وان كان بالزنا لا تثبت به الحرمة واستدل بقوله ﷺ الحرام لا يحرم الحلال وهكذا رواه ابن عباس رضى الله عنه وروى أبو هريرة رضى الله عنه ان النبي ﷺ سئل عمن يبتغى من امرأة فجورا ثم يتزوج ابنتها فقال لا بأس لا يحرم الحرام الحلال وقالت عائشة رضى الله عنها سئل رسول الله ﷺ عن رجل يبتغي من امرأة حراما ثم يتزوج ابنتها فقال لا يجوز لا يحرم الحرام الحلال وانما يحرم ما كان من قبل النكاح وعلل الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه فقال النكاح أمر حمدت عليه والزنا فعل رجمت عليه فانى يستويان ومعنى
[ 205 ] هذا ان ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة فان الله تعالى من به على عباده بقوله تعالى فجعله نسبا وصهرا وهو معقول فان أمهاتها وبناتها يصرن كامهاته وبناته حتى يخلو بهن ويسافر بهن وهذا يكون بطريق الكرامة والزنا المحض سبب لايجاب العقوبة فلا يصلح سببا لا يجاب الحرمة والكرامة الا ترى انه لا يثبت به النسب والعدة فكذلك حرمة المصاهرة وحجتنا في ذلك قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وقد بينا أن النكاح للوطئ حقيقة فتكون الآية نصا في تحريم موطوءة الاب على الابن فالتقييد بكون الوطئ حلالا زيادة ولا تثبت هذه الزيادة بخبر الواحد ولا بالقياس والدليل عليه أن موطوءة الاب بالملك حرام على الابن بهذه الآية فدل أن المراد بالنكاح الوطئ لا العقد وقد نقل مثل مذهبنا عن ابن مسعود وابن عباس وأبى بن كعب وعمران بن حصين رضى الله عنهم بألفاظ مختلفة والمعنى فيه أنه وطئ في محله فيكون موجبا للحرمة كالوطئ بالنكاح وملك اليمين وتفسير الوصف ان الوطئ في هذا المحل محرم لكونه مثبتا لان هذا الفعل حرث والحرث لا يكون الا في محل مثبت وكون المحل مثبتا لا يختلف بالملك وعدم الملك وتأثيره أن ثبوت الحرمة بسبب هذا الوطئ في الملك ليس لعين الملك بل لمعنى البعضية لان الولد الذى يتخلق من الماءين يكون بعضا لكل واحد منهما فتتعدى شبهة البعضية إلى أمهاتها وبناتها والى آبائه وأبنائه والشبهة تعمل عمل الحقيقة في ايجاب الحرمة وهذا المعنى لا يختلف بالملك وعدم الملك لان سبب البعضية حسي وانما تكون هذه البعضية موجبة حرمة الموطوءة لان البعضية الحكمية عملها كعمل حقيقة البعضية وحقيقة البعضية توجب الحرمة في غير موضع الضرورة فاما في موضع الضرورة لا توجب ألا ترى أن حواء عليها السلام خلقت من آدم عليه السلام فكانت بعضه حقيقة وهي حلال له فكذلك شبهة البعضية انما توجب الحرمة في غير موضع الضرورة وفي حق الموطوأة ضرورة وهذا لان العلل الشرعية امارات لا موجبات فلهذا ثبت الحكم بها في الموضع الذى جعلها الشرع علة وقد جعل الشرع موضع الضرورة مستثنى من الحرمة بقوله تعالى الا ما اضطررتم إليه فاما النسب فعندنا أحكام النسب تثبت ولكن الانتساب لا يثبت لانه لمقصود الشرب به ولا يحصل ذلك بالنسبة إلى الزانى والعدة انما لا تجب لان وجوبها في الاصل باعتبار حق النكاح أو الفراش وبين النكاح والسفاح منافاة فبانعدام الفراش ينعدم السبب الموجب للعدة وبعض
[ 206 ] أصحابنا رحمهم الله تعالى يقولون الحرمة تثبت هنا بطريق العقوبة كما تثبت حرمة الميراث في حق القاتل عقوبة والاصل فيه قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم الآية وعلى هذا الطريق يقولون المحرمية لا تثبت حتى لا تباح الخلوة والمسافرة بها ولكن هذا التعليل فاسد فان التعليل لتعدية حكم النص لا لاثبات حكم آخر سوى المنصوص فان ابتداء الحكم لا يجوز اثباته بالتعليل والمنصوص حرمة ثابتة بطريق الكرامة فانما يجوز التعليل لتعدية تلك الحرمة إلى الفروع لا لاثبات حكم آخر سوى المنصوص ولكن الصحيح أن نقول هذا الفعل زنا موجب للحد كما قال ولكنه مع ذلك حرث للولد ويصلح ان يكون سببا لثبوت الحرمة والكرامة باعتبار أنه حرث للولد ألا ترى أنه في جانبها الفعل زنا ترجم عليه وااذ حبلت به كان لذلك الولد من الحرمة ما لغيره من بنى آدم فيثبت نسبه منها وتحرم هي عليه وثبوت هذا كله بطريق الكرامة لانه حرث لا لانه زنا فكذا هنا فبهذا التقرير يتبين فساد استدلالهم بالحديث فانا لا نجعل الحرام محرما للحلال وانما نثبت الحرمة باعتبار ان الفعل حرث للولد وحرمة هذا الفعل بكونه زنا على ان هذا الحديث غير مجرى على ظاهره فان كثيرا من الحرام يحرم الحلال كما إذا وقعت قطرة من خمر في ماء وكالوطئ بالشبهة ووطئ الامة المشتركة ووطئ الاب جارية الابن فان هذا كله حرام حرم الحلال لا لانه حرام بل للمعنى الذى قلنا فكذلك هنا ومن فروع هذه المسألة بنت الرجل من الزنا بأن زنى ببكر وأمسكها حتى ولدت بنتا حرم عليه تزوجها عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون حراما وله في البنت الملاعنة التى لم يدخل بالام قولان واستدل فقال نص التحريم قوله تعالى وبناتكم وذلك يتناول البنت المضافة إليه نسبا والبنت من الزنا غير مضافة إليه نسبا بل هي حرام الاضافة إليه نسبا ولو أثبتنا الحرمة فيها كان اثبات الحرمة بالزنا وبه فارق جانبها فان الابن من الزنا يضاف إلى الام نسبا فكانت هي حراما عليه لقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وتبين بهذا التفريق ان هذه الحرمة الثابتة شرعا تنبنى على ثبوت النسب شرعا والنسبة الي الزانى غير ثابتة من كل وجه فكذا هنا وهكذا يقول على أحد القولين في بنت الملاعنة وعلى القول الآخر يفرق بينهما فيقول النسب هناك كان ثابتا باعتبار الفراش لكن انقطع باللعان وبقى موقوفا على حقه حتى لو أكذب نفسه يثبت النسب منه ولا يثبت من غيره وان أعاده فيجوز ابقاء الحرمة وهنا النسب لم يكن ثابتا أصلا
[ 207 ] لانعدام الفراش ولا هو بعرض الثبوت منه ولنا ان ولد الزنا بعضه فتكون محرمة عليه كولد الراشدة وهذا لان البعضية باعتبار الماء وذلك لا يختلف حقيقته بالملك وعدم الملك فالولد المخلوق من المائين يكون بعض كل واحد منهما قال النبي ﷺ لفاطمة رضى الله عنها هي بضعة منى والبعضية علة صالحة لاثبات الحرمة لان الانسان كما لا يستمتع بنفسه لا يستمتع ببعضه الا ان النسب لا يثبت لا لانعدام البعضية بل للاشتباه لان الزانية يأتيها غير واحد ولو أثبتنا النسب بالزنا ربما يؤدى إلى نسبه ولد إلى غير ابيه وذلك حرام بالنص حتى ان في جانبها لما كان لا يؤدى إلى هذا الاشتباه كان النسب ثابتا ولان قطع النسب شرعا لمعنى الزجر عن الزنا فانه إذا علم ان ماءه يضيع بالزنا يتحرز عن فعل الزنا وذلك يوجب اثبات الحرمة لان معنى الزجر عن الزنا به يحصل فانه إذا علم انه بسبب الحرام مرة يفوته حلال كثير يمتنع من مباشرة الحرام فلهذا أثبتنا الحرمة وان لم يثبت النسب هنا إذا عرفنا هذا فنقول كما ثبتت حرمة المصاهرة بالوطئ تثبت بالمس والتقبيل عن شهوة عندنا سواء كان في الملك أو في غير الملك وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت الحرمة بالتقبيل والمس عن شهوة أصلا في الملك أو في غير الملك حتى انه لو قبل أمته ثم أراد ان يتزوج ابنتها عنده يجوز وكذلك لو تزوج امرأة وقبلها بشهوة ثم ماتت عنده يجوز له ان يتزوج ابنتها بناء على أصله ان حرمة المصاهرة تثبت بما يؤثر في اثبات النسب والعدة وليس للمس والتقبيل عن شهوة تأثير في اثبات النسب والعدة فكذلك في اثبات الحرمة وقاس بالنكاح الفاسد فان التقبيل والمس فيه لا يجعل كالدخول في ايجاب المهر والعدة وكذلك في ايجاب الحل للزوج الاول فكذا هنا ولكنا نستدل بآثار الصحابة رضى الله عنهم فقد روي عن ابن عمر رضى الله عنه انه قال إذا جامع الرجل المرأة أو قبلهما بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها وعن مسروق رحمه الله تعالى قال بيعوا جاريتي هذه أما أنى لم أصب منها ما يحرمها على ولدى من المس والقبلة ولان المس والتقبيل سبب يتوصل به إلى الوطئ فانه من دواعيه ومقدماته فيقام مقامه في اثبات الحرمة كما أن النكاح الذى هو سبب الوطئ شرعا يقام مقامه في اثبات الحرمة الا فيما استثناه الشرع وهي الربيبة وهذا لان الحرمة تنبنى على الاحتياط فيقام السبب الداعي إلى الوطئ فيه مقام الوطئ احتياطا وان لم يثبت به سائر
[ 208 ] الاحكام كما تقام شبهه البعضية بسبب الرضاع مقام حقيقة البعضية في اثبات الحرمة دون سائر الاحكام ولو نظر إلى فرجها بشهوة تثبت به الحرمة عندنا استحسانا وفى القياس لا تثبت وهو قول ابن أبى ليلى والشافعي رحمهما الله تعالى لان النظر كالتفكر إذ هو غير متصل بها ألا ترى أنه لا يفسد به الصوم وان اتصل به الانزال ولان النظر لو كان موجبا للحرمة لاستوى فيه النظر إلى الفرج وغيره كالمس عن شهوة ولكنا تركنا القياس بحديث أما هانئ رضى الله تعالى عنها أن النبي ﷺ قال من نظر إلى فرج امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وعن عمر رضى الله تعالى عنه أنه جرد جارية ثم نظر إليها ثم استوهبها منه بعض بنيه فقال أما انها لا تحل لك وفى الحديث ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها ثم النظر إلى الفرج بشهوة نوع استمتاع لان النظر إلى المحل اما الجمال المحل أو للاستمتاع وليس في ذلك الموضع جمال ليكون النظر لمعنى الجمال فعرفنا أنه نوع استمتاع كالمس بخلاف النظر إلى سائر الاعضاء ولان النظر إلى الفرج لا يحل الا في الملك بمنزلة المس عن شهوة بخلاف النظر إلى سائر الاعضاء ثم معنى الشهوة المعتبرة في المس والنظر ان تنتشر به الآلة أو يزداد انتشارها فاما مجرد الاشتهاء بالقلب غير معتبر ألا ترى ان هذا القدر يكون من الشيخ الكبير الذى لا شهوة له والنظر إلى الفرج الذى تتعلق به الحرمة هو النظر إلى الفرج الداخل دون الخارج وانما يكون ذلك إذا كانت متكثة اما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت الحرمة بالنظر ثم حرم المصاهرة بهذه الاسباب تتعدى إلى آبائه وان علوا وأبنائه وان سفلوا من قبل الرجال والنساء جميعا وكذلك تتعدى إلى جداتها والى نوافلها لما بينا ان الاجداد والجدات بمنزلة الآباء والامهات والنوافل بمنزلة الاولاد فيما تنبني عليه الحرمة وذلك كله مروى عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى وعلى هذا إذا جامع الرجل ام امرأته حرمة عليه امرأته نقل ذلك عن أبى بن كعب رضى الله عنه وكان المعنى فيه ان الحرمة بسبب المصاهرة مثل الحرمة بالرضاع والنسب وذلك كما يمنع ابتداء النكاح يمنع بقاء النكاح فكذلك هذا يمنع بقاء النكاح كما يمنع ابتداءه (قال) رجل له أربع نسوة فطلق واحدة منهن بعد ما دخل بها ثلاثا أو واحدة بائنة أو خلعها لم يجز له أن يتزوج أخرى ما دامت في العدة لان حرمة ما زاد على الاربع كحرمة الاختين فكما ان هناك العدة تعمل على حقيقة النكاح في المنع فكذا هنا فان قال أخبرتني ان عدتها قد انقضت فان كان ذلك
[ 209 ] في مدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قوله ولا قولها ان أخبرت الا أن تفسر بما هو محتمل من اسقاط سقط مستبين الخلق ونحوه وان كان ذلك في مدة تنقضي في مثلها العدة ان صدقته أو كانت ساكتة أو غائبة فله ان يتزوج أخرى أو أختها ان شاء ذلك وكذلك ان كذبته في قول علمائنا وعن زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك لان عدتها باقية فانها أمينة في الاخبار بما في رحمها وقد اخبرت ببقاء عدتها والزوج انما أخبر عليها وهى تكذبه في ذلك فيسقط منه اعتبار قوله كشاهد الاصل ان أكذب شاهد الفرع أو راوي الاصل ان كذب الراوى عنه والدليل عليه بقاء نفقتها وسكناها وثبوت نسب ولدها ان جاءت به لاقل من سنتين وبالاتفاق إذا حكمنا بثبوت نسب ولدها يبطل نكاح أختها فكذلك إذا قضينا بنفقتها وحجتنا في ذلك أنه أخبر عن أمر بينه وبين ربه عزوجل فكان أمينا مقبول القول فيه إذا احتمل كمن قال صمت أو صليت وبيان الوصف أنه أخبر بحل نكاح أختها له ولا حق للمطلقة في ذلك فان الحل والحرمة من حق الشرع وانما حق العباد فيه باعتبار قيام حق لهم في محله ولا حق لها في نكاح أختها فلا يعتبر تكذيبها فيه والدليل أن بمجرد الخبر يثبت له حل نكاح أختها ألا ترى أنها لو كانت غائبة كان له أن يتزوج بأختها ولو بطل ذلك الحق انما يبطل بتكذيبها وتكذيبها يصلح حجة في ابقاء حقها لا في ابطال حق ثبات للزوج والنفقة والسكنى حقها فيكون باقيا وأما نكاح الاخت لاحق لها فيه فلا يعتبر تكذيبها في ذلك لان ثبوت الحكم بحسب الحجة وكذلك ثبوت النسب من حقها وحق الولد لانه يندفع به تهمة الزنا عنها ويتشرف به الولد ثم من ضرورة القضاء بالنسب الحكم باستناد العلوق إلى ما قبل الطلاق فإذا اسندنا صار الخبر بانقضاء العدة قبل الوضع مستنكرا فلهذا بطل نكاح الاخت بخلاف القضاء بالنفقة فانه يقتصر على الحال وليس من ضرورة الحكم بها الحكم ببقاء العدة مطلقا فان المال تكثر أسباب وجوبه في الجملة توضيحه أن من ضرورة القضاء بالنسب القضاء بالفراش فتبين أنه صار جامعا بين الاختين في الفراش وليس من ضرورة القضاء بالنفقة القضاء بالفراش وأكثر ما فيه أنه يجتمع عليه استحقاق النفقة للاختين وذلك جائز كما في ملك اليمين (قال) وان مات لم يكن لها ميراث وكان الميراث للاخرى هكذا ذكر هنا وذكر في كتاب الطلاق وقال الميراث للاولى دون الثانية ولكن وضع المسألة فيما إذا كان مريضا حين قال أخبرتني ان عدتها قد انقضت وانما يتحقق اختلاف الروايات في حكم
[ 210 ] الميراث إذا كان الطلاق رجعيا فاما إذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا وكان في الصحة فلا ميراث للاولى سواء أخبر الزوج بهذا أو لم يخبر ولكن في كتاب الطلاق لما وضع المسألة في المريض وكان قد تعلق حقها بماله لم يقبل قوله في ابطال حقها كما في نفقتها وهنا وضع المسألة في الصحيح ولا حق لها في مال الزوج في صحته فكان قوله مقبولا في ابطال إرثها توضيحه ان بقوله أخبر ان الواقع صار بائنا فكأنه أبانها في صحته فلا ميراث لها ولو أبانها في مرضه كان لها الميراث وقيل هذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى لان عندهما للزوج ان يجعل الرجعى بائنا خلافا لمحمد رحمه الله تعالى ومتى كان الميراث للاولى فلا ميراث للثانية لان بين ارث الاختين منه بالنكاح منافاة ومتى لم ترث الاولى ورثته الثانية (قال) وان ماتت في العدة أو لحقت بدار الحرب مرتدة حل له ان يتزوج أختها لان لحوقها كموتها فلا تبقى معتدة بعد موتها فان رجعت مسلمة قبل ان يتزوج أختها فله ان يتزوج أختها عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى لان العدة بعد ما سقطت لا تعود الا بتجدد سببها وعندهما ليس له ان يتزوج أختها لانها لما عادت مسلمة كان لحوقها بمنزلة الغيبة الا ترى انه يعاد إليها مالها فلا تعود كحالها فتعود كما كانت وان كان قد تزوج أختها قبل رجوعها ثم رجعت مسلمة عن أبى يوسف رحمه الله تعالى روايتان في احدى الروايتين يبطل نكاح الاخت وفي الرواية الاخرى لا يبطل ذكر الروايتين عنه في الامالى (قال) ولا بأس بان يتزوج المسلم الحرة من أهل الكتاب لقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب الآية وكان ابن عمر رضى الله عنهما لا يجوز ذلك ويقول الكتابية مشركة وقد قال الله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وكان يقول معنى الآية الثانية واللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ بهذا فان الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب فدل أن اسم المشرك لا يتناول الكتابى مطلقا ولو حملنا الآية الثانية على ما قال ابن عمر رضى الله عنهما لم يكن لتخصيص الكتابية بالذكر معنى فان غير الكتابية إذا أسلمت حل نكاحها وقد جاء عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه أنه تزوج يهودية وكذلك كعب بن مالك رحمهما الله تعالى تزوج يهودية وكذلك ان تزوج الكتابية على المسلمة أو المسلمة على الكتابية جاز والقسم بينهما سواء كأن جواز النكاح ينبنى على الحل الذى به صارت المرأة محلا للنكاح وعلى ذلك ينبنى القسم والمسلمة والكتابية في ذلك سواء اسرائيلية كانت أو غير اسرائيلية وبعض من لا يعتبر قوله فصل
[ 211 ] بين الاسرائيلية وغيرها ولا معنى لذلك في الجواز لكونها كتابية وأما المجوسية لا يجوز نكاحها للمسلم لانها ليست من أهل الكتاب وذكر ابن اسحاق في تفسيره عن علي رضى الله عنه جواز نكاح المجوسية بناء على ما روى عنه أن المجوس أهل كتاب ولكن لما واقع ملكهم أخته ولم ينكروا عليه أسرى بكتابهم فنسوه وهو مخالف للنص فان الله تعالى قال أن تقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإذا قلنا للمجوس كتاب كانوا ثلاث طوائف وقال ﷺ سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحى نسائهم ولا آكلى ذبائحهم ولئن كان الامر على ما قال على رضى الله عنه ولكن بعد ما نسوا خرجوا من أن يكونوا أهل كتاب فأما نكاح الصابئة فانه يجوز للمسلم عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى ويكره ولا يجوز عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وكذلك ذبائحهم وهذا الاختلاف بناء على أن الصابئين من هم فوقع عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى انهم قوم من النصارى يقرؤن الزبور ويعظمون بعض الكواكب كتعظيمنا القبلة وهما جعلا تعظيمهم لبعض الكواكب عبادة منهم لها فكانوا كعبدة الاوثان وقالا انهم يخالفون النصارى واليهود فيما يعتقدون فلا يكونون من جملتهم ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول مخالفتهم للنصارى في بعض الاشياء لا تخرجهم من أن يكونوا من جملتهم كبنى تغلب فانهم يخالفون النصارى في الخمور والخنازير ثم كانوا من جملة النصارى (قال) ولا بأس بأن يتزوج الرجل المرأة وبنت زوج قد كان لها من قبل ذلك يجمع بينهما لانه لا قرابة بينهما وقال ابن أبى ليلى لا يجوز ذلك لان بنت الزوج لو كان ذكرا لم يكن له أن يتزوج الاخرى لانها منكوحة أبيه وكل امرأتين لو كانت احداهما ذكرا لم تجز المناكحة بينهما فالجمع بينهما نكاحا لا يجوز كالاختين ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن جعفر رضى الله تعالى عنه فانه جمع بين امرأة على رضى الله تعالى عنه وابنته ثم المانع من الجمع قرابة بين المرأتين أو ما أشبه القرابة في الحرمة كالرضاع وذلك غير موجود هنا وما قاله ابن أبى ليلى رحمه الله تعالى انما يعتبر إذا تصور من الجانبين كما في الاختين وذلك لا يتصور هنا فان امرأة الاب لو صورتها ذكرا جاز له نكاح البنت فعرفنا أنهما ليستا كالاختين ولا بأس بأن يجمع بين امرأتين كانتا عند رجل واحد لانه لا قرابة بينهما وكما جاز للاول أن يجمع بينهما فكذلك للثاني وكذلك لا بأس بأن يتزوج المرأة يتزوج ابنه أمها أو ابنتها فان محمد بن الحنفية رضى الله تعالى عنه تزوج
[ 212 ] امرأة وزوج ابنتها من ابنه وهذا لان بنكاح الام تحرم الام هي على ابنه فاما امها وابنتها تحرم عليه لا على ابنه فلهذا جاز لابنه أن يتزوج أمها أو ابنتها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب باب نكاح الصغير والصغيرة (قال) وبلغنا عن رسول الله ﷺ أنه تزوج عائشة رضى الله عنها وهي صغيرة بنت ستة سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين وكانت عنده تسعا ففى الحديث دليل على جواز نكاح الصغير والصغيرة بتزيوج الآباء بخلاف ما يقوله ابن شبرمة وأبو بكر الاصم رحمهم الله تعالى أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا لقوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة ولان ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى عليه حتى ان فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات ولا حاجة بهما إلى النكاح لان مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة وشرعا النسل والصغر ينافيهما ثم هذا العقد يعقد للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ فلا يكون لاحد أن يلزمهما ذلك إذ لا ولاية لاحد عليهما بعد البلوغ وحجتنا قوله تعالى واللاتي لم يحضن بين الله تعالى عدة الصغيرة وسبب العدة شرعا هو النكاح وذلك دليل تصور نكاح الصغيرة والمرد بقوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح الاحتلام ثم حديث عائشة رضى الله عنها نص فيه وكذلك سائر ما ذكرنا من الآثار فان قدامة بن مظعون تزوج بنت الزبير رضى الله عنه يوم ولدت وقال ان مت فهى خير ورثتي وان عشت فهى بنت الزبير وزوج ابن عمر رضى الله عنه بنتا له صغيرة من عروة بن الزبير رضى الله عنه وزوج عروة بن الزبير رضى الله عنه بنت أخيه ابن أخته وهما صغيران ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فاجاز ذلك على رضي الله عنه وزوجت امرأة ابن مسعود رضى الله عنه بنتا لها صغيرة ابنا للمسيب بن نخبة فاجاز ذلك عبد الله رضى الله عنه ولكن أبو بكر الاصم رحمه الله تعالى كان أصم لم يسمع هذه الاحاديث والمعنى فيه ان النكاح من جملة المصالح وضعا في حق الذكور والاناث جميعا وهو يشتمل على اغراض ومقاصد لا يتوفر ذلك الا بين الاكفاء والكف ء لا يتفق في
[ 213 ] كل وقت فكانت الحاجة ماسة إلى اثبات الولاية للولى في صغرها ولانه لو انتظر بلوغها لفات ذلك الكف ء ولا يوجد مثله ولما كان هذا العقد يعقد للعمر تتحقق الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لاثبات الولاية للولى ثم في الحديث بيان ان الاب إذا زوج ابنته لا يثبت لها الخيار إذا بلغت فان رسول الله ﷺ لم يخيرها ولو كان الخيار ثابتا لها لخيرها كما خير عند نزول آية التخيير حتى قال لعائشة اني أعرض عليك أمرا فلا تحدثي فيه شيئا حتى تستشيرى أبويك ثم تلا عليها قوله تعالى فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا فقالت أفى هذا أستشير أبوى أنا أختار الله تعالى ورسوله ولما لم يخيرها هنا دل انه لا خيار للصغيرة إذا بلغت وقد زوجها أبوها وذكر ذلك في الكتاب عن إبراهيم وشريح رحمهما الله تعالى وابن سماعة رحمه الله تعالى ذكر فيه قياسا واستحسانا قال في القياس يثبت لها الخيار لانه عقد عليها عقدا يلزمها تسليم النفس بحكم ذلك العقد بعد زوال ولاية الاب فيثبت لها الخيار كما لو زوجها أخوها ولكنا نقول تركنا القياس للحديث ولان الاب وافر الشفقة ينظر لها فوق ما ينظر لنفسه ومع وفور الشفقة هو تام الولاية فان ولايته تعم المال والنفس جميعا فلهذا لا يثبت لها الخيار في عقده وليس النكاح كالاجارة لان اجارة النفس ليست من المصالح وضعا بل هو كد وتعب وانما تثبت الولاية فيه على الصغير لحاجته إلى التأدب وتعلم الاعمال وذلك يزول بالبلوغ فلهذا أثبتنا لها الخيار قال وفي الحديث دليل فضيلة عائشة رضى الله تعالى عنها فانها كانت عند رسول الله ﷺ تسع سنين في بدء أمرها وقد أحرزت من الفضائل ما قال صلوات الله عليه تأخذون ثلثى دينكم من عائشة وفيه دليل ان الصغيرة يجوز أن تزف إلى زوجها إذا كانت صالحة للرجال فانها زفت إليه وهى بنت تسع سنين فكانت صغيرة في الظاهر وجاء في الحديث انهم سمنوها فلما سمنت زفت إلى رسول الله ﷺ (قال) وبلغنا عن إبراهيم أنه كان يقول إذا أنكح الوالد الصغير أو الصغيرة فذلك جائز عليهما وكذلك سائر الاولياء وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا يجوز لغير الاب والجد من الاولياء تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول مالك رحمه الله تعالى ليس لاحد سوى الاب تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى ليس لغير الاب والجد تزويج الصغير والصغيرة فمالك يقول القياس أن لا يجوز تزويجهما الا أنا تركنا ذلك في حق الاب للآثار المروية فيه فبقى ما سواه على
[ 214 ] أصل القياس والشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله ﷺ لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر واليتيمة الصغيرة التى لا أب لها قال ﷺ لا يتم بعد الحلم فقد نفي في هذا الحديث نكاح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر وفي الحديث ان قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه عثمان بن مظعون من ابن عمر رضى الله تعالى عنه فردها رسول الله ﷺ وقال انها يتيمة وانها لا تنكح حتى تستأمر وهو المعنى في المسألة فنقول هذه يتيمة فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالبالغة وتأثير هذا الوصف أن مزوج اليتيمة قاصر الشفقة عليها ولقصور الشفقة لا تثبت ولايته في المال وحاجتها إلى التصرف في المال في الصغر أكثر من حاجتها إلى التصرف في النفس فإذا لم يثبت للولى ولاية التصرف في مالها مع الحاجة إلى ذلك فلان لا يثبت له ولاية التصرف في نفسها كان أولى وحجتنا قوله تعالى وإذا خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية معناه في نكاح اليتامى وانما يتحقق هذا الكلام إذا كان يجوز نكاح اليتيمة وقد نقل عن عائشة رضى الله عنها في تأويل الآية أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها يرغب في مالها وجمالها ولا يقسط في صداقها فنهوا عن نكاحهن حتى يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وقالت في تأويل قوله تعالى في يتامى النساء اللاتى لا تؤتوهن ما كتب لهن أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها ولا يرغب في نكاحها لدمامتها ولا يزوجها من غيره كيلا يشاركه في مالها فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر الاولياء بتزوج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم فذلك دليل على جواز تزويج اليتيمة وزوج رسول الله ﷺ بنت عمه حمزة رضى الله عنه من عمر بن أبى سلمة رضى الله عنه وهى صغيرة والآثار في جواز مشهورة عن عمر وعلى وعبد الله ابن مسعود وابن عمر وأبى هريرة رضوان الله عليهم والمعنى فيه أنه وليها بعد البلوغ فيكون وليا لها في حال الصغر كالاب والجد وهذا لان تأثير البلوغ في زوال الولاية فإذا جعل هو وليا بعد بلوغها بهذا السبب عرفنا أنه وليها في حال الصغر وبه فارق المال لانه لا يستفيد الولاية بهذا السبب في المال بحال وكان المعنى فيه أن المال تجرى فيه الجنايات الخفية وهذا الولى قاصر الشفقة فربما يحمله ذلك على ترك النظر لها فأما الجناية في النفس من حيث التقصير في المهر والكفاءة وذلك ظاهر يوقف عليه ان فعله يرد عليه تصرفه ولانه لا حاجة إلى إثبات الولاية لهؤلاء في المال فان الوصي يتصرف في المال والاب متمكن من نصب
[ 215 ] الوصي وباعتباره تنعدم حاجتها فأما التصرف في النفس لا يحتمل الايصاء إلى الغير فلهذا يثبت للاولياء بطريق القيام مقام الآباء والمراد بالحديث اليتيمة البالغة قال الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم والمراد البالغين والدليل عليه أنه مده إلى غاية الاستئمار وانما تستأمر البالغة دون الصغيرة وتأويل حديث قدامة رضى الله عنه أنها بلغت فخيرها رسول الله ﷺ فاختارت نفسها ألا ترى أنه روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه قال والله لقد انتزعت مني بعد ان ملكتها فإذا ثبت جواز تزويج الاولياء الصغير والصغيرة فلهما الخيار إذا أدركا في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول ابن عمر وأبى هريرة رضى الله عنهما وبه كان يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى ثم رجع وقال لا خيار لهما وهو قول عروة بن الزبير رضى الله عنهما قال لان هذا عقد عقد بولاية مستحقة بالقرابة فلا يثبت فيه خيار البلوغ كعقد الاب والجد وهذا لان القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية والقريب بالتصرف ينظر للمولى عليه لا لنفسه وهو قائم مقام الاب في التصرف في النفس كالوصي في التصرف في المال فكما ان عقد الوصي يلزم ويكون كعقد الاب فيما قام فعله مقامه فكذلك عقد الولى وجه قولهما أنه زوجها من هو قاصر الشفقة عليها فإذا ملكت أمر نفسها كان لها الخيار كالامة إذا زوجها مولاها ثم أعتقها وهذا لان أصل الشفقة موجود للولى ولكنه ناقص يظهر ذلك عند المقابلة بشفقة الآباء وقد ظهر تأثير هذا النقصان حكما حين امتنع ثبوت الولاية في المال للاولياء فلاعتبار وجود أصل الشفقة نفذنا العقد ولاعتبار نقصان الشفقة أثبتنا الخيار لان ثبوت الولاية لكيلا يفوت الكف ء الذى خطبها فيكون بمعني النظر لها وانما يتم النظر باثبات الخيار حتى ينظر لنفسه بعد البلوغ بخلاف الاب فانه وافر الشفقة تام الولاية فلا حاجة إلى اثبات الخيار في عقده وكذلك في عقد الجد لانه بمنزلة الاب حتى تثبت ولايته في المال والنفس واما القاضى إذا كان هو الذى زوج اليتيمة ففى ظاهر الرواية يثبت لها الخيار لانه قال ولهما الخيار في نكاح غير الاب والجد إذا أدركا وروى خالد بن صبيح المروزى عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يثبت الخيار وجه تلك الرواية أن للقاضى ولاية تامة تثبت في المال والنفس جميعا فتكون ولايته في القوة كولاية الاب ووجه ظاهر الرواية أن ولاية القاضى متأخرة عن ولاية العم والاخ فإذا ثبت الخيار في تزويج الاخ والعم ففي تزويج القاضى أولى وهذا لان شفقة القاضى انما تكون لحق الدين والشفقة لحق الدين
[ 216 ] لا تكون الامن المتيقن بعد التكلف فيحتاج إلى اثبات الخيار لهما إذا أدركا فاما الام إذا زوجت الصغير والصغيرة جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتعالى وفى اثبات الخيار لهما إذا أدركا عنه روايتان في احدى الروايتين لا يثبت لان شفقتها وافرة كشفقة الاب أو أكثر والاصح أنه يثبت الخيار لان بها قصور الرأى مع وفور الشفقة ولهذا لا تثبت ولايتها في المال وتمام النظر بوفور الرأى والشفقة فلتمكن النقصان في رأيها أثبتنا لهما الخيار إذا أدركا فان اختارا الفرقة عند الادراك لم تقع الفرقة الا بحكم الحاكم لان السبب مختلف فيه من العلماء من رأى ومنهم من أبى وهو غير متيقن به أيضا فان السبب قصور الشفقة ولا يوقف على حقيقته فكان ضعيفا في نفسه فلهذا توقف على قضاء القاضى وهذا بخلاف خيار الطلاق فان المخيرة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضى لان السبب هناك قوى في نفسه وهو كونها نائبة عن الزوج في ايقاع الطلاق أو مالكة أمر نفسها بتمليك الزوج وهذا بخلاف خيار العتق فان المعتقة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضى لان السبب هناك قوى وهو زيادة ملك الزوج عليها فان قبل العتق كان يملك مراجعتها من قرأين ويملك عليها تطليقتين وعدتها حيضتان وقد زاد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة ولا تتوصل إلى دفع الزيادة الا بدفع أصل الملك فكما ان دفع أصل الملك عند انعدام رضاها يتم بها فكذلك دفع زيادة الملك فأما هنا بالبلوغ لا يزداد الملك وانما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك النظر من الولى وذلك غير متيقن به فلهذا لا تتم الفرقة الا بالقضاء فالحاصل أن الفرق بين خيار البلوغ وخيار العتق في أربعة فصول (أحدها) ما بينا (والثانى) خيار المعتقة لا يبطل بالسكوت بل يمتد إلى آخر المجلس كخيار المخيرة وخيار البلوغ في جانبها يبطل بالسكوت لان المعتقة انما يثبت لها الخيار بتخيير الشرع حيث قال ﷺ ملكت بضعك فاختارى فيكون بمنزلة الثابت بتخيير الزوج فأما هنا الخيار يثبت للبكر لانعدام تمام الرضا منها ورضاء البكر يتم بسكوتها شرعا ألا ترى أنها لو زوجت بعد البلوغ فسكتت كان سكوتها رضا فكذلك إذا زوجت قبل البلوغ ولهذا قلنا لو بلغت ثيبا لا يبطل خيارها بالسكوت كما لو زوجت بعد البلوغ وكذلك الغلام لا يبطل خياره بالسكوت لان السكوت في حقه لم يجعل رضا كما لو زوج بعد البلوغ (والثالث) ان خيار العتق يثبت للامة دون الغلام وخيار البلوغ يثبت لهما جميعا لان ثبوت خيار العتق باعتبار زيادة الملك وذلك في عتق الامة دون
[ 217 ] الغلام وثبوت خيار البلوغ لنقصان شفقة الولى وذلك موجود في حق الغلام والجارية ولان في تزويج الغلام المولى ينظر له لا لنفسه وفى تزويج الامة ينظر لنفسه باكتساب المهر واسقاط النفقة عن نفسه فلهذا اختلفا في حكم الخيار وهنا لا يختلف معنى نظر الولى بالغلام والجارية فلهذا يثبت الخيار في الموضعين جميعا ولا يقال بأن الغلام هنا يتمكن من التخلص بالطلاق كما في المعتق لانه لا يتمكن من التخلص عن المهر بالطلاق ولم يكن متمكنا من التخلص عند العقد بخلاف العبد فانه كان عند العقد متمكنا من التخلص بالطلاق ووجوب المهر يومئذ كان في مالية المولى وباعتباره ملك المولى اجباره على النكاح فلهذا فرقنا بينهما (والرابع) ان المعتقة إذا علمت بالعتق ولم تعلم ان لها الخيار لا يسقط خيارها حتى تعلم به والتى بلغت إذا لم تعلم بالخيار وعلمت بالنكاح فسكتت سقط خيارها لان سبب الخيار في العتق وهو زيادة الملك حكم لا يعلمه الا الخواص من الناس فتعذر بالجهل وقد كانت مشغولة بخدمة المولى فعذرناها لذلك اما خيار البلوغ فظاهر يعرفه كل واحد ولظهوره ظن بعض الناس انه يثبت في انكاح الاب أيضا فهذا لا تعذر بالجهل ولانها ما كانت مشغولة بشئ قبل البلوغ فكان سبيلها ان تتعلم ما تحتاج إليه بعد البلوغ فلهذا لا تعذر بالجهل (قال) فان اختار الصغير أو الصغيرة الفرقة بعد البلوغ فلم يفرق القاضى بينهما حتى مات أحدهما توارثا لان أصل النكاح كان صحيحا والفرقة لا تقع الا بقضاء القاضى فإذا مات أحدهما قبل القضاء كان انتهاء النكاح بينهما بالموت فيتوارثان بمنزلة ما لو وجد الاعتراض بعدم الكفاءة فمات أحدهما قبل قضاء القاضى وباعتبار هذا المعنى نقول يحل للزوج ان يطأها ما لم يفرق القاضى بينهما لان أصل النكاح كان صحيحا بخلاف النكاح الفاسد فان أصل الملك لم يكن ثابتا فلا يثبت حل الوطئ والتوارث (قال) وإذا مات زوج الصغيرة عنها بعد ما دخل بها أو طلقها وانقضت عدتها كان لابيها ان يزوجها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس للاب ان يزوج الثيب الصغيرة حتى تبلغ فيشاورها لقوله ﷺ والثيب تشاور فقد علق هذا الحكم باسم مشتق من معنى وهو الثيوبة فكان ذلك المعنى هو المعتبر في اثبات هذا الحكم كالزنا والسرقة لايجاب الحد وقد قال ﷺ الايم أحق بنفسها من وليها والمراد بالايم الثيب ألا ترى أنه قابلها بالبكر فقال البكر تستأمر في نفسها والمعنى فيه أنها ثيب ترجى مشورتها إلى وقت معلوم فلا يزوجها وليها بدون رضاها
[ 218 ] كالنائمة والمغمى عليها وتأثير هذا الوصف أن في الثيوبة معنى الاختبار وممارسة الرجال وفى النكاح في جانب النساء معنيان معنى الضرر باثبات الملك عليها ومعنى المنفعة بقضاء شهوتها فمن ترجح معنى قضاء الشهوة في جانبها تختار الزوج ومن ترجح معنى ضرر الملك تختار التأيم وانما تتمكن من التمييز بالتجربة لان لذة الجماع بالوصف لا تصير معلومة والتجربة انما تحصل بالثيوبة فكانت صفة الثيوبة في حقها نظير البلوغ في حق الغلام وفى حق التصرف في المال ولهذا تزول ولاية الافتيات عليها بالثيوبة لان فيه تفويت ما يحدث لها في التأني من الرأى وهذا بخلاف المجنونة لان الجنون لا ينفقد شهوة الجماع ولو لم يزوجها وليها كان فيه اضرار بها في الحال والصغر يفقد شهوة الجماع فلا يجون في تأخير العقد الا أن تبلغ معنى الاضرار بها ولانه ليس لزوال الجنون غاية معلومة ولا يدرى أيفيق أم لا وفى تأخير العقد لا إلى وقت معلوم ابطال حقها فأما الصغر لزواله غاية معلومة فلا يكون في تأخير العقد إلى بلوغها ابطال حقها وحجتنا في ذلك انه ولى من لا يلى نفسه وماله فيستبد بالعقد عليها كالبكر وتأثيره أن الشرع باعتبار صغرها اقام رأى الولى مقام رأيها كما في حق الغلام وكما في حق المال وبالثيوبة لا يزول الصغر وكذلك معنى الرأى لا يحصل لها بالثيوبة في حالة الصغر لانها ما نضت شهوتها بهذا الفعل ولو ثبت لها رأى فهى عاجزة عن التصرف بحكم الرأى فيقام رأى الولى مقام رأيها كما أنها لما كان عاجزة عن التصرف في ملكها أقيم تصرف الولى مقام تصرفها والمراد بالحديث البالغة لانه علق به مالا يتحقق الا بعد البلوغ وهو المشاورة وكونها أحق بنفسها وذلك انما يتحقق في البالغة دون الصغيرة ولئن ثبت ان الصغيرة مراد فالمراد المشورة على سبيل الندب دون الحتم كما أمر باستئمار أمهات البنات فقال وتؤامر النساء في ابضاع بناتهن وكان بطريق الندب فهذا مثله وكما يجوز للاب عندنا تزويج الثيب الصغيرة فكذلك يجوز لغير الاب والجد وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز لمعنيين احدهما انها يتيمة والثانى انها ثيب (قال) وإذا اجتمع في الصغيرة أخوان لاب وأم فايهما زوجها جاز عندنا ومن العلماء رحمهم الله تعالى من يقول لا يجوز ما لم يجتمعا عليه لان هذا قام مقام الاب فيشترط اجتماعهما لنفوذ العقد كالموليين في حق العبد أو الامة أو المعتقة ولكنا نستدل بقوله ﷺ إذا أنكح الوليان فالاول أحق وفى هذا تنصيص على ان كل واحد منهما ينفرد بالعقد والمعنى فيه ان سبب الولاية هو القرابة وهو غير وحتمل للوصف بالتجزى والحكم
[ 219 ] الثابت أيضا غير متجز وهو النكاح فيجعل كل واحد منهما كالمنفرد به لثبوت صفة الكمال في حق كل واحد منهما بكمال السبب وكونه غير محتمل للتجزي كما في ولاية الامان يثبت لكل واحد من المسلمين بهذا الطريق بخلاف الموليين فان هناك السبب هو الملك أو الولاء وذلك متجز في نفسه فلم يتكامل في حق كل واحد منهما ألا ترى ان أحد الموليين لا يرث جميع المال بالولاء وان تفرد به أحد الاخوين يرث جميع المال فلهذا فرقنا بينهما وان كان أحد الاخوين لاب وأم والآخر لاب فعندنا الاخ لاب وأم أولى بالتزويج وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يستويان لان ولاية التزويج لقرابة الاب دون قرابة الام فان الولى انما يقوم مقام الاب لقرابته منه وقد استويا في قرابة الاب ولكنا نستدل بحديث على رضى الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله ﷺ أنه قال النكاح إلى العصبات والاخ لاب وأم في العصوبة مقدم وهو المعنى فانه يدلى بقرابتين فيترجح على من يدلى بقرابة واحدة ويثبت الترجيح بقرابة الام وان كان لا يثبت به أصل الولاية كالعصوبة والاصل في ترتيب الاولياء قوله ﷺ النكاح إلى العصبات والمولى عليها لا يخلو اما أن تكون صغيرة أو كبيرة معتوهة فان كانت صغيرة فأولى الاولياء عليها أبوها ثم الجد بعد الاب قائم مقام الاب في ظاهر الرواية وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أن هذا قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى فأما عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الاخ والجد يستويان لان من أصلهما أن الاخ يزاحم الجد في العصوبة حتى يشتركا في الميراث فكذا في الولاية وعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى الجد مقدم في العصوبة فكذلك في الولاية والاصح أن هذا قولهم جميعا لان في الولاية معنى الشفقة معتبر وشفقة الجد فوق شفقة الاخ ولهذا لا يثبت لها الخيار في عقد الجد كما لا يثبت في عقد الاب بخلاف الاخ ويثبت للجد الولاية في المال والنفس جميعا ولا يثبت للاخ وكذلك في حكم الميراث حال الجد أعلى حتى لا ينقص نصيبه عن السدس بحال فلهذا كان في حكم الولاية بمنزلة الاب لا يزاحمه الاخوة ثم بعد الاجداد من قبل الآباء وان علوا الاخ لاب وأم ثم الاخ لاب ثم ابن الاخ لاب وأم ثم ابن الاخ لاب ثم العم لاب وأم ثم العم لاب ثم ابن العم لاب وأم ثم ابن العم لاب على قياس ترتيب العصوبة فاما المجنونة إذا كان لها ابن فللابن عليها ولاية التزويج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس للابن ولاية تزويج الام الا ان يكون من عشيرتها بان كان أبوه تزوج بنت عمه وهذا بناء على أصل
[ 220 ] يأتي بيانه من بعد ان شاء الله تعالى في ان المرأة لا ولاية لها على نفسها عنده والولد جزء منها فلا يثبت له الولاية عليها وعندنا تثبت لها الولاية على نفسها فكذلك تثبت لابنها وحجته في ذلك ان ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه ولا يحصل ذلك باثبات الولاية للابن لانه يمتنع من تزويج أمه طبعا فلا ينظر لها في التزويج ولئن فعل ذلك يميل إلى قوم أبيه وربما لا يكون كف ء لها الا ان يكون من عشيرتها فحينئذ ينعدم هذا الضرر فأثبتنا له الولاية وحجتنا في ذلك الحديث النكاح إلى العصبات والابن يستحق العصوبة وهو المعنى الفقهي ان الوراثة نوع ولاية لان الوارث يخلف المورث ملكا وتصرفا والوراثة هي الخلافة في التصرفات وللوراثة أسباب الفريضة والعصوبة والقرابة ولكن أقوى الاسباب العصوبة لان الارث بها متفق عليه ويستحق بها جميع المال فلهذا رتبنا الولاية على أقوى أسباب الارث وهو العصوبة ولا ينظر إلى امتناعه من تزويجها طبعا فان ذلك موجود فيما إذا كان الابن من عشيرتها وهذا لانه إذا خطبها كف ء فلو لم يزوجها الابن حكم القاضى عليه بالعضل فيزوجها بنفسه كما في سائر الاولياء ثم اختلف أصحابنا رضى الله عنهم في الاب والابن ايهما أحق بالتزويج فقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى الابن أحق لانه مقدم في العصوبة الا ترى ان الاب معه يستحق السدس بالفريضة فقط وقال محمد رحمه الله تعالى الاب أولى لان ولاية الاب تعم المال والنفس فلا يثبت للابن الولاية في المال ولان الاب ينظر لها عادة والابن ينظر لنفسه لالها فكان الاب مقدما في الولاية وبعد هذا الترتيب في الاولياء لها كالترتيب في أولياء الصغيرة (قال) فان زوجها الا بعد والاقرب حاضر توقف على اجازة الاقرب لان الابعد كالاجنبي عند حضرة الاقرب فيتوقف عقده على اجازة الولى فان كان الاقرب غائبا غيبة منقطعة فللابعد ان يزوجها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يزوجها السلطان وقال زفر رحمه الله تعالى لا يزوجها أحد حتى يحضر الاقرب وحجتهم في ذلك ان الابعد محجوب بولاية الاقرب وولايته باقية بعد الغيبة إذ لا تأثير للغيبة في قطع الولاية الا ترى انه لا ينقطع التوارث وان الولاية من حق الولى ليطلب به الكفاءة فلا يبطل شئ من حقوقه بالغيبة والدليل عليه انه لو زوجها حيث هو جاز النكاح فدل أن ولاية الاقرب باقية إذا ثبت هذا فالشافعى رحمه الله تعالى يقول تعذر عليها الوصول إلى حقها من جهة الاقرب مع بقاء ولايته فيزوجها السلطان كما لو عضلها الاقرب بخلاف ما إذا كان
[ 221 ] الاقرب صغيرا أو مجنونا لانه لا ولاية له عليها والا بعد محجوب بولاية الاقرب الا بالغيبة وزفر رحمه الله تعالى يقول الا بعد يزوجها لبقاء ولاية الاقرب وكذلك السلطان لا يزوجها لان ولاية السلطان متأخرة عن ولاية الا بعد فإذا لم تثبت الولاية للابعد هنا فالسلطان أولى بخلاف ما إذا عضلها لان هناك هو ظالم في الامتناع من ايفاء حق مستحق عليه فيقوم السلطان مقامه في دفع الظلم لانه نصب لذلك وهنا الاقرب غير ظالم في سفره خصوصا إذا سافر للحج وهو غير ممتنع من ايفاء حق مستحق عليه ليقوم السلطان مقامه في الايفاء فيتأخر إلى حضوره وحجتنا في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه حتى لا يثبت الا على من هو عاجز عن النظر لنفسه وجعل الاقرب مقدما لان نظره لها أكثر لزيادة القرب ثم النظر لها لا يحصل بمجرد رأى الاقرب بل رأى حاضر منتفع به وقد خرج رأيه من أن يكون منتفعا به في هذه الحال بهذه الغيبة فالتحق بمن لا رأى له أصلا كالصغير والمجنون ورأى الا بعد خلف عن رأى الاقرب وفى ثبوت الحكم للخلف لا فرق بين انعدام الاصل وبين كونه غير منتفع به ألا ترى أن التراب لما كان خلفا عن الماء في حكم الطهارة فمع وجود الماء النجس يكون التراب خلفا كما ان عند عدم الماء يكون التراب خلفا لان الماء النجس غير منتفع به في حكم الطهارة فهو كالمعدوم أصلا ونظيره الحضانة والتربية يقدم فيه الاقرب فإذا تزوجت الاقرب حتى اشتغلت بزوجها كانت الولاية للابعد وكذلك النفقة في مال الاقرب فإذا انقطع ذلك ببعد ماله وجبت النفقة في مال الا بعد فأما إذا زوجها الاقرب حيث هو فانما يجوز لانها انتفعت برأيه ولكن هذه المنفعة حصلت لها اتفاقا فلا يجوز بناء الحكم عليه فلهذا تثبت الولاية للابعد توضيحه أن للابعد قرب التدبير وبعد القرابة وللاقرب قرب القرابة وبعد التدبير وثبوت الولاية بهما جميعا فاستويا من هذا الوجه فكانا بمنزلة وليين في درجة واحدة فياهما زوجها يجوز والولاية انما تثبت للقاضى عند الحاجة ولا حاجة إلى ذلك لما ثبتت الولاية للابعد بالطريق الذى قلنا ثم تكلموا في حد الغيبة المنقطعة فكان أبو عصمة سعد بن معاذ رحمه الله تعالى يقول أدنى مدة السفر تكفى لذلك وهو ثلاثة أيام ولياليها لانه ليس لا قصى مدة السفر نهاية فيعتبر الادنى واليه يشير في الكتاب فيقول أرأيت لو كان في السواد ونحوه أما كان يستطلع رأيه فهذا دليل على أنه إذا جاوز السواد تثبت للابعد وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى فيه
[ 222 ] روايتان في احدى الروايتين قال من جابلقا إلى جابلتا وهما قريتان أحداهما بالمشرق والاخرى بالمغرب فقالوا هذا رجوع منه إلى قول زفر رحمه الله تعالى أن الولاية لا تثبت للابعد وانما ذكر هذا على طريق المثل وفى الرواية الاخرى قال من بغداد إلى الرى وهكذا روى عن محمد رحمه الله تعالى وفى رواية قال من الكوفة إلى الرى ومن مشايخنا رحمهم الله تعالى من يقول حد الغيبة المنقطعة أن يكون جوالا من موضع إلى موضع فلا يوقف على أثره أو يكون مفقودا لا يعرف خبره وقيل ان كان في موضع يقطع الكرى إلى ذلك الموضع فليست الغيبة بمنقطعة وان كان انما يقطع الكري إلى ذلك الموضع بدفعتين أو أكثر فالغيبة منقطعة وقيل ان كانت القوافل تنفر إلى ذلك الموضع في كل عام فالغيبة ليست بمنقطعة وان كانت لا تنفر فالغيبة منقطعة والاصح أنه إذا كان في موضع لو انتظر حضوره أو استطلاع رأيه فات الكف ء الذى حضر لها فالغيبة منقطعة وان كان لا يفوت افالغيبة ليست بمنقطعة وبعد ما تثبت الولاية للابعد إذا زوجها ثم حضر الاقرب فليس له أن يرد نكاحها لان العقد عقد بولاية تامة (قال) ولا يجوز لغير الولى تزويج الصغير والصغيرة لقوله ﷺ لا نكاح الا بولي قال والوصى ليس بولي عندنا في التزويج وقال ابن أبى ليلى رحمه الله تعالى للوصي ولاية التزويج لان وصى الاب قائم مقام الاب فيما يرجع إلى النظر للمولى عليه ألا ترى أنه في التصرف في المال يقوم مقامه فكذلك في التصرف في النفس ومالك رحمه الله تعالى يقول ان نص في الوصاية على التزويج فله أن يزوجها كما لو وكل بذلك في حياته وان لم ينص على ذلك فليس له أن يزوج ولكنا نستدل بما روينا النكاح إلى العصبات والوصى ليس بعصبة إذا لم يكن من قرابته فهو كسائر الاجانب في التزويج وان كان الوصي من القرابة بان كان عما أو غيره فله ولاية التزويج بالقرابة لا بالوصاية ولهذا يثبت لهما الخيار إذا أدركا وان حصل التزويج ممن له ولاية التصرف في المال والنفس جميعا لان ولايته في المال بسبب الوصاية ولا تأثير للوصاية في ولاية التزويج فكان وجوده كعدمه وكذلك ان كانا في حجر رجل يعولهما فحال هذا الرجل دون حال الوصي فلا يثبت له ولاية التزويج ولان من يعول الصغير انما يملك عليه ما يتمحض منفعة للصغير كالحفظ وقبول الهبة والصدقة والنكاح ليس بهذه الصفة (قال) ومولى العتاقة تثبت له الولاية إذا لم يكن هناك أحد من القرابة لان العصوبة تستحق بولاء
[ 223 ] العتاقة وعليه ينبنى ولاية التزويج (قال) والرجل من عرض النسب إذا لم يكن أقرب منه يعنى به العصبات فاما ذوو الارحام كالاخوال والخالات والعمات فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى يثبت لهم ولاية التزويج عند عدم العصبات استحسانا وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يثبت وهو القياس وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة وقول أبى يوسف رحمه الله تعالى مضطرب فيه وذكر في كتاب النكاح قوله مع أبى حنيفة رحمه الله تعالى وفى كتاب الولاء ذكر في الام قوله مع محمد رحمه الله تعالى ان الام إذا عقدت الولاء على ولدها لم يصح عندهما والخلاف في التزويج وعقد الولاء سواء وكذلك في الام وعشيرتها من ذوى الارحام وجه قولهما الحديث النكاح إلى العصبات وادخال الالف واللام دليل على ان جميع الولاية في باب النكاح انما تثبت لمن هو عصبة دون من ليس بعصبة والدليل عليه أنه لا يثبت لغير العصبات ولاية التصرف في المال بحال وان مولى العتاقة مقدم عليهم فلو كان لقرابتهم تأثير في استحقاق الولاية بها لكانوا مقدمين على مولى العتاقة إذ لا قرابة لمولى العتاقة وحجة أبى حنيفة رحمه الله تعالى حديث ابن مسعود رضى الله عنه في اجازته تزويج امرأته ابنتها على ما روينا فان الاصح ان ابنتها لم تكن من عبد الله فانما جوز نكاحها بولاية الامومة والمعنى فيه وهو ان استحقاق الولاية باعتبار الشفقة الموجودة بالقرابة وهذه الشفقة توجد في قرابة الام كما توجد في قرابة الاب فيثبت لهم ولاية التزويج أيضا الا ان قرابة الاب يقدمون باعتبار العصوبة وهذا لا ينفى ثبوته لهؤلاء عند عدم العصبات كاستحقاق الميراث يكون بسبب القرابة ويقدم في ذلك العصبات ثم يثبت بعد ذلك لذوى الاحرام وبه ينتقض قولهم ان مولى العتاقة في الولاية مقدم على ذوى الارحام فان في الارث أيضا يقدم مولى العتاقة ولا يدل ذلك على انه لا يثبت لذوى الاحرام أصلا فكذا هنا وعلى هذا الخلاف مولى المولاة له ولاية التزويج على الصغير والصغيرة إذا لم يكن لهما قريب عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى وليس له ذلك عند محمد رحمه الله تعالى لانه مؤخر عن ذوى الارحام (قال) ولا ولاية للاب الكافر والمملوك على الصغير والصغيرة إذا كان حرا مسلما لان اختلاف الدين يقطع التوارث فكذلك يقطع ولاية التزويج قال الله تعالى والذين آمنوا ولم يهاجروا الآية نص على قطع الولاية بين من هاجر وبين من لم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة فكان ذلك تنصيصا على انقطاع الولاية بين الكفار والمسلمين بطريق الاولى وكذلك
[ 224 ] الرق ينفي الولاية حتى يقطع التوارث ولانه ينفي ولايته عن نفسه فلان ينفي ولايته عن غيره أولى وأما الكافر فثبت له ولاية التزويج على ولده الكافر كما تثبت للمسلم قال الله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض والدليل عليه جريان التوارث فيما بينهم كما يجرى فيما بين المسلمين (قال) ولانكحة الكفار فيما بينهم حكم الصحة الا على قول مالك رحمه الله تعالى فانه يقول أنكحتهم باطلة لان الجواب نعمة وكرامة ثابتة شرعا والكافر لا يجعل أهلا لمثله ولكنا نستدل بقوله تعالى وامرأته حمالة الحطب ولو لم يكن لهم نكاح لما سماها امرأته وقال ﷺ ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح وهذه نعمة كما قال ولكن الاهلية لهذه النعمة باعتبار صفة الآدمية وبالكفر لم يخرج من أن يكون من بنى آدم فلا يخرج من أن يكون أهلا لهذه النعمة (قال) ولو زوج الاب ابنته الصغيرة ممن لا يكافئها أو زوج ابنه الصغير امرأة ليست بكف ء له جاز في قول أبى حنيفة استحسانا ولم يجز عندهما وهو القياس وكذلك لو زوج ابنته بأقل من صداق مثلها أو ابنه بأكثر من صداق مثلها بقدر ما لا يتغابن الناس فيه لا يجوز عندهما هكذا قال في الكتاب ولم يبين ماذا لا يجوز حتى ظن بعض أصحابنا أن الزيادة والنقصان لا يجوز فأما أصل النكاح صحيح لان المانع هنا من قبل المسمى وفساد التسمية لا يمنع صحة النكاح كما لو ترك التسمية أصلا أو زوجها بخمر أو خنزير ولكن الاصح أن النكاح لا يجوز هكذا فسره في الجامع الصغير وجه قولهما أن ولاية الاب مقيدة بشرط النظر ومعنى الضرر في هذا العقد ظاهر فلا يملكها الاب بولايته كما لا يملك البيع والشراء في ماله بالغبن الفاحش والدليل عليه أنه لو زوج أمتها بمثل هذا الصداق لا يجوز فإذا زوجها أولى وولايته عليها دون ولاية المرأة على نفسها ولو زوجت هي نفسها من غير كف ء أو بدون صداق مثلها يثبت حق الاعتراض للاولياء فهذا أولى ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى ترك القياس بما روى ان رسول الله ﷺ تزوج عائشة رضى الله عنها على صداق خمسمائة درهم زوجها منه أبو بكر رضى الله عنه وزوج فاطمة رضى الله عنها من على رضي الله عنه على صداق أربعمائة درهم ومعلوم ان ذلك لم يكن صداق مثلهما لانه ان كان صداق مثلهما هذا المقدار مع انهما مجمع الفضائل فلا صداق في الدنيا يزيد على هذا المقدار والمعنى فيه ان النكاح يشتمل على مصالح واغراض ومقاصد جمة والاب وافر الشفقة ينظر لولده فوق ما ينظر لنفسه فالظاهر انه انما قصر في الكفاءة
[ 225 ] والصداق ليوفر سائر المقاصد عليها وذلك أنفع لها من الصداق والكفاءة فكان تصرفه واقعا بصفة النظر فيجوز كالوصي إذا صانع في مال اليتيم جاز ذلك لحصول النظر في تصرفه وان كان هو في الظاهر يعطى مالا غير واجب وهذا بخلاف تصرف الاب في المال إذ لا مقصود هناك سوى المالية فإذا قصر في المالية فليس بازاء هذا النقصان ما يجبره وهذا بخلاف ما إذا زوج أمتهما لان سائر مقاصد النكاح لا تحصل للصغير والصغيرة هنا انما يحصل للامة ففى حق الصغير قد انعدم ما يكون جبرا للنقصان وبخلاف العم والاخ لانه ليس لهما شفقة وافرة فيحمل تقصيرهما في الكفاءة والمهر على معنى ترك النظر والميل إلى الرشوة لا لتحصيل سائر المقاصد وبخلاف المرأة في نكاح نفسها لانها سريعة الانخداع ضعيفة الرأى متابعة للشهوة عادة فيكون تقصيرها في الكفاءة والصداق لمتابعة الهوى لا لتحصيل سائر المقاصد على أن سائر المقاصد تحصل لها دون الاولياء وبسبب عدم الكفاءة والنقصان في الصداق يتعير الاولياء وليس بازاء هذا النقصان في حقهم ما يكون جابرا فلهذا يثبت لهم حق الاعتراض (قال) وإذا أقر الولد على الصغير أو الصغيرة بالنكاح لم يثبت النكاح باقراره ما لم يشهد به شاهدان عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يثبت النكاح باقراره وانما يتبين هذا الخلاف فيما إذا أقر الولى عليهما ثم أدركا وكذباه وأقام المدعى عليهما بعد البلوغ شاهدين باقرار الولى بالنكاح في الصغر وعلى هذا الخلاف الوكيل من جهة الرجل والمرأة إذا أقر على موكله بالنكاح وكذلك المولى إذا أقر على عبده بالنكاح فهو على هذا الخلاف ايضا اما إذا أقر على أمته بالنكاح صح اقراره بالاتفاق فهما يقولان أقر بما يملك انشاءه فيصح كالمولى إذا أقر على أمته وهذا لان الاقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإذا حصل بما لا يملك انشاءه تتمكن التهمة في اخراج الكلام مخرج الاخبار وإذا حصل بما لا يملك انشاءه لا يكون متهما في اخراج الكلام مخرج الاخبار لتمكنه من تحصيل المقصود بطريق الانشاء ألا ترى أن المطلق إذا قال قبل انقضاء العدة كنت راجعتها كان مصدقا بخلاف ما لو أقر بذلك بعد انقضاء العدة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا اقرار على الغير والاقرار على الغير لا يكون حجة لانه شهادة وشهادة الفرد لا تثبت الحكم بقي كونه مالكا للانشاء فنقول هو لا يملك انشاء هذا العقد الا بشاهدين كما قال ﷺ لا نكاح الا بشهود فلا يملك الا قرار به الا من
[ 226 ] الوجه الذى يملك الانشاء وهكذا نقول إذا ساعده شاهدان على ذلك كان صحيحا اعتبارا للاقرار بالانشاء وهذا بخلاف الامة فان المولى هناك يقر على نفسه لان بضعها مملوك للمولى واقرار الانسان على نفسه صحيح مطلقا من غير ان يكون ذلك معتبرا بالانشاء فاما في حق العبد الاقرار عليه لا على نفسه فلا يملك الا من الوجه الذى يملك الانشاء وأصل كلامهم يشكل باقرار الوصي بالاستدانة على اليتيم فانه لا يكون صحيحا وان كان هو يملك انشاء الاستدانة (قال) وان كان للصغيرة وليان فزوجها كل واحد منهما رجلا فان علم ايهما أول جاز نكاح الاول منهما لقوله ﷺ إذا أنكح الوليان فالاول أحق وهذا لان الاول صادف عقده محله وعقد الثاني لم يصادف محله لانها بالعقد الاول صارت مشغولة وان لم يعلم أيهما أول أو وقع العقدان معا بطلا جميعا لانه لا وجه لتصحيحهما وليس احدهما بأولى من الآخر فتعين جهة البطلان فيهما (قال) وإذا تزوج الصغير امرأة فأجاز ذلك وليه جاز عندنا لان الصبى العاقل من أهل العبارة عندنا ولكن يحتاج إلى انضمام رأى الولى إلى مباشرته ليحصل تمام النظر فإذا أجاز الولى جاز ذلك وكان ذلك كمباشرة الولى بنفسه حتى يثبت له الخيار إذا بلغ وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا ينفذ باجازة الولى لان من أصله ان عبارة الصبى غير معتبرة في العقود وكذلك من أصله ان العقود لا تتوقف على الاجازة وعلى هذا لو زوجت الصغيرة نفسها فاجاز الولى ذلك جاز عندنا ولم يجز عند الشافعي رحمه الله تعالى لهذين المعنيين ومعنى ثالث ان عبارة النساء عنده لا تصلح لعقد النكاح وان كان المجيز غير الاب والجد فلمعنى رابع على قوله أيضا وهو ان هذا المجيز لا يملك مباشرة التزويج وان أبطل الولى عقدهما بطل وان لم يتعرض له بالاجازة ولا بالابطال حتى بلغا فالرأى اليهما ان أجازا ذلك العقد جاز كما لو أجاز الولى في صغرهما ولا ينفذ بمجرد بلوغهما الا ان يجيز لان النظر عند مباشرتهما ماتم لصغرهما ونفوذ هذا العقد يعتمد تمام النظر فلهذا يعتمد اجازتهما بعد البلوغ (قال) وإذا زوج الاب ابنته الصغيرة وضمن لها المهر عن زوجها فهو جائز لانه صير نفسه زعيما والزعيم غارم بخلاف ما إذا باع مال ولده الصغير وضمن الثمن عن المشترى لا يصح الضمان لان ثبوت حق قبض الثمن للاب هناك بحكم العقد لا بولايته عليه الا ترى ان بعد بلوغه الاب هو الذى يقبض الثمن دون الصبي وفيما يكون وجوبه بحكم عقده فهو كالمستحق لان حقوق ذلك العقد تتعلق بالعاقد ولهذا لو أبرأ المشترى عن الثمن
[ 227 ] كان صحيحا فإذا ضمن الثمن عن المشترى كان في معنى الضامن لنفسه فلا يصح فاما ثبوت حق قبض الصداق للاب بولاية الابوة لا بمباشرته عقد النكاح لان حقوق العقد في النكاح لا تتعلق بالعاقد الا ترى انها لو بلغت كان القبض إليها دون الاب فكان الاب في هذا الضمان كسائر الاجانب ولو ضمن الصداق لها أجنبي آخر وقبل الاب ذلك كان الضمان صحيحا فكذلك إذا ضمنه الاب فإذا بلغت ان شاءت طالبت الزوج بالصداق بحكم النكاح وان شاءت طالبت بحكم الضمان وإذا أداه الاب لم يرجع على الزوج لانه ضمن بغير أمره وان كان ضمن عن الزوج بأمره فحينئذ يكون له ان يرجع عليه إذا أدى فان كان هذا الضمان في مرض الاب ومات منه فهو باطل لانه قصد ايصال النفع إلى وارثه وتصرف المريض فيما يكون فيه ايصال النفع إلى وارثه باطل (قال) وإذا زوج ابنه الصغير في صحته وضمن عنه المهر جاز يعني إذا قبلت المرأة الضمان ثم إذا أدى الاب لم يرجع بما أدى على الابن استحسانا وفى القياس يرجع عليه لان غيره لو ضمن بأمرالاب وأدى كان له أن يرجع به في مال الابن فكذلك الاب إذا ضمن لان قيام ولايته عليه في حالة الصغر بمنزلة أمره اياه بالضمان عنه بعد البلوغ ألا ترى أن الوصي لو كان هو الضامن بالمهر عن الصغير وأدى من مال نفسه يثبت له الرجوع في ماله فكذلك الاب وجه الاستحسان أن العادة الظاهرة أن الآباء بمثل هذا بتبرعون وفى الرجوع لا يطمعون والثابت بدلالة العرف كالثابت بدلالة النص فلا يرجع به الا أن يكون شرط ذلك في أصل الضمان فحينئذ يرجع لان العرف انما يعتبر عند عدم التصريح بخلافه كتقديم المائدة بين يدى الانسان يكون اذنا له في التناول بطريق العرف فان قال له لا تأكل لم يكن ذلك اذنا له فهذا مثله بخلاف الوصي فان عادة التبرع في مثل هذا غير موجودة في حق الاوصياء بل يكتفى من الوصي أن لا يطمع في مال اليتيم فلهذا ثبت له حق الرجوع إذا ضمن وأدى من مال نفسه وان مات الاب قبل أن يؤدى فهذه صلة لم تتم لان تمام الصلة يكون بالقبض ولم يوجد ولكنها بالخيار ان شاءت أخذت الصداق من الزوج وان شاءت من تركة الاب بحكم الضمان لان الاستحقاق كان ثابتا لها في حياة الاب بحكم الكفالة فلا يبطل ذلك بموته وإذا استوفت من تركة الاب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه ان كان قبض نصيبه وقال زفر رحمه الله تعالى لا يرجعون لان أصل الكفالة انعقدت غير موجبة للرجوع عند الاداء بدليل أنه لو
[ 228 ]
[عدل]أداه في حياته لم يرجع عليه فبموته لا يصير موجبا للرجوع ولكنا نقول انما لا يرجع في حياته إذا أدى لمعنى الصلة وقد بطل ذلك بموته قبل التسليم فكان هذا بمنزلة ما لو ضمن عنه بعد البلوغ بأمره واستوفاه من تركته بعد وفاته وان كان هذا الضمان في مرض الاب الذى مات فيه فهو باطل لانه تبرع منه على ولده بضمان الصداق منه وتبرع الوالد على ولده في مرضه باطل وكذلك كل من ضمن عن وارثه أو لوارثه ثم مات فضمانه باطل لما بينا (قال) والمجنون المغلوب بمنزلة الصبي في جميع ذلك لانه مولى عليه كالصغير ويستوى ان كان جنونه أصليا أو طارئا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى في الجنون الاصلى كذلك الجواب بان بلغ مجنونا فاما في الجنون الطارئ لا يكون للمولى عليه ولاية التزويج لانه تثبت له الولاية على نفسه عند بلوغه والنكاح يعقد للعمر ولا تتجدد الحاجة إليه في كل وقت فبصيرورته من أهل النظر لنفسه يقع الاستغناء فيه عن نظر الولى بخلاف المال فان الحاجة إليه تتجدد في كل وقت ولكنا نقول ثبوت الولاية لعجز المولى عليه عن النظر لنفسه والجنون الاصلى والعارض في هذا سواء فربما لم يتفق له كف ء في حال افاقته حتى جن أو ماتت زوجته بعد ما جن فتتحقق الحاجة في الجنون الطارئ كما تتحقق في الجنون الاصلى والله أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس (وأوله باب نكاح البكر)