مبسوط السرخسي - الجزء التاسع2
[ 92 ] حديث ماعز بن مالك رحمه الله تعالى فانه جاء إلى رسول الله ﷺ فقال زنيت فطهرني فأعرض عنه فجاء إلى الجانب الآخر فقال مثل ذلك فأعرض عنه فجاء إلى الجانب الثالث وقال مثل ذلك فأعرض عنه فجاء إلى الجانب الرابع وقال مثل ذلك وفي رواية قال في كل مرة وأن هذا للآخر فلما كان في المرأة الرابعة قال ﷺ الآن أقررت أربعا فبمن زنيت وفي رواية الآن شهدت على نفسك أربعا فبمن زنيت قال بفلانة قال لعلك قبلتها أو لمستها بشهوة لعلك باشرتها فابى الا أن يقر بصريح الزنا فقال ابك خبل أبك جنون وفى رواية بعث إلى أهله هل ينكرون من عقله شيئا فقالوا لا فسأل عن احصانه فوجده محصنا فأمر برجمه فالنبي ﷺ أعرض عنه في المرأة الاولى والثانية والثالثة وحكم بالرابعة ولو لم يكن العدد من شرطه لم يسعه الاعراض عنه على ماقاله ﷺ لا ينبغى لوال عنده حد من حدود الله الا يقيمة ألا ترى أنه في المرة الرابعة لما تمت الحجة كيف لم يعرض عنه ولكنه قال الآن أقررت أربعا واشتغل بطلب ما يدرأ عنه الحد فحين لم يجد ذلك اشتغل بالاقامة ولا يقال انما أعرض عنه لانه أحس به الجنون على ماروى أنه جاء أشعث أغبر ثائر الرأس واليه أشارفي قوله أبك خيل ثم لما رأى اصراره على كلام واحد علم أنه ليس به جنون وهذا لانه قال الآن أقررت أربعا وفي هذا تنصيص أن الاعراض قبل هذا لعدم قيام الحجة وقد جاء نائبا مستسلما مؤثرا عقوبة الدنيا على الآخرة فكيف يكون هذا دليل جنونه وانما قال ذلك رسول الله ﷺ لطلب ما يدرأ به عنه الحد كما لقن المقر الرجوع بقوله اسرقت ما أخاله سرق أسرقت قولى لا وانما كان أشعث أغبر لانه جاء من البادية وقد جعل رسول الله ﷺ هذا علامة الابرار فقال رب أشعث أغبر ذى طعمرين لايؤبه به لو أقسم على الله لابره وابن أبى ليلى رحمه الله تعالى يستدل بهذا الحديث أيضا ويقول المذكور عدد الاقادير دون اختلاف المجالس ولكنا نقول قد وجد اختلاف مجالس المقر على ماروى ان رسول الله ﷺ طرده في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة ثم رجع وفي رواية قال اذهب ويلك فاستغفر الله فذهب حتى غاب عن بصر رسول الله ﷺ ثم رجع فالمعتبر اختلاف مجالس المقر دون القاضى حتى إذا غاب عن بصر القاضى في كل مرة يكفي هذا الاختلاف المجالس والذى روى انه أقر خمس مرات فانما يحمل ذلك على اقرارين كانا منه في مجلس واحد فكانا
[ 93 ] كاقرار واحد وروى ان أبا بكر رضى الله عنه قال له أقررت ثلاث مرات ان أقررت الرابعة رجمك رسول الله ﷺ وفى رواية قال اياك والرابعة فانها موجبة وعن بريدة الاسلمي فان كنا أصحاب رسول الله ﷺ نتحدث ان ماعزا لو جلس في بيته بعدما أقر ثلاثا ما بعث رسول الله ﷺ إليه من يرجمه فدل على ان اشتراط عدد الاقارير كان معروفا فيما بينهم وان المراد من قوله فان اعترفت فارجمها الاعتراف المعروف في الزنا وهو أربع مرات والصحيح من حديث الغامدية انها أقرت أربع مرات هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله تعالى الا ان الاقارير منها كانت في أوقات مختلفة قبل الوضع وبعد الوضع وبعدما طهرت من نفاسها وبعد ما فطمت ولدها ولهذا لم تتفق الرواية على نقل الاقارير الاربعة في حديثها والذى روى انها قالت اتريد ان ترددني كما رددت ماعزا لا يكاد يصح لان ترديد ماعز كان حكما شرعيا فلا يظن بها انها جاءت لطلب التطهير ثم تعترض على رسول الله ﷺ فيما هو حكم شرعى واعتبار هذا الحق بسائر الحقوق باطل فقد ظهر فيها من التغليظ ما لم يظهر في سائر الاشياء من ذلك ان النسبة إلى هذا الفعل موجب للحد بخلاف سائر الافعال وموجب للعان إذا حصل من الزوج في زوجته بخلاف سائر الافعال ويشترط في احدي الحجتين من العدد مالا يشترط في سائرها وكل ذلك للتغليظ فكذلك اعتبار عدد الاقرار الا ان العدد في الشهادة يثبت حقيقة وحكما بدون اختلاف المجالس ولا يثبت في الاقرار حكما الا باختلاف المجالس لان الكلام إذا تكرر من واحد في مجلس واحد بطريق الاخبار يجعل ككلام واحد وانما يتحقق معنى التغليظ باشتراط العدد في الاقرار الموجب للحد لافي الاقرار المسقط للحد عن القاذف ألا ترى ان التصريح بلفظ الزنا يعتبر في الاقرار الموجب للحد دون المسقط وكذلك عدد الاربعة بالشهود حتى إذا قذف امرأة بالزنا فشهد عليها شاهدان أنها اكرهت علي الزنا سقط الحد عن القاذف إذا عرفنا هذا فنقول ينبغى للامام أن يرد المعترف بالزنا في المرة الاولى والثانية والثالثة لحديث عمر رضى الله عنه قال اطردوا المعترفين بالزنا فإذا عاد الرابعة فاقر عنده سأله عن الزنا ما هو وكيف هو وبمن زنى وأين زنى لما بينا في الشهادة الا ان في الاقرار لا يسأله متى زنا لان حد الزنا يقام بالاقرار بعد التقادم وانما لايقام بالبينة فلهذا يسأل الشهود متى زنى ولا يسأل المقرعن ذلك فإذا وصفه وأثبته قال له فلعلك تزوجتها أو وطئتها
[ 94 ] بشبهة وهذا في ؟ معنى تلقين الرجوع والامام مندوب إليه وهو نظير ما قال رسول الله ﷺ لماعز لعلك قبلتها فان قال لانظر في عقله وسأل أهله عن ذلك كما فعله رسول الله ﷺ في ماعز وهذا لان الاقرار من المجنون والمعتوه هدر والعقل ليس بمعاين فالابد للامام من ان يتأمل في ذلك فإذا علم انه صحيح العقل يسأل عن الاحصان لان ما يلزمه من العقوبة يختلف باحصانه وعدم احصانه وسأله عن ذلك فعسى يقربه ولا يطول الامر على القاضى في طلب البينة على احصانه فإذا قال أحصنت استفسره في ذلك لان اسم الاحصان ينطلق على خصال وربما لايعرف المقر بعضها فيسأله لهذا فإذا فسره أمر برجمه فإذا رجم غسل وكفن وحنط وصلى عليه لانه مقتول بحق فيصنع به مايصنع بالموتى وقد سألوا رسول الله ﷺ عن غسل ماعز وتكفينه والصلاة عليه فقال اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم زاد في رواية ولقد تاب توبة لو قسمت توبته على أهل الحجاز لوسعتهم وفى رواية على أهل الارض وقد رأيته ينغمس في أنهار الجنة وروى أن رجلين من الصحابة قالا فيما بينهما ما ركنت نفسه حتى جاء واعترف فقتل كما يقتل الكلاب فسمع ذلك رسول الله ﷺ وسكت حتى مروا بحمار ميت فقال للرجلين انزلا فكلا فقالا انها ميتة فقال تناولكما من عرض أخيكما أعظم من ذلك (قال) فان أمر برجمه فرجع عن قوله درئ الحد عنه عندنا وقال ابن أبى ليلى رحمه الله تعالى لا يدرأ عنه الحد برجوعه وكذلك الخلاف في كل حد هو خالص حق الله تعالى واعتبر هذا الاقرار بسائر الحقوق مما لا يندرئ بالشبهات أو يندرئ بالشبهات كالقصاص وحد القذف فالرجوع عن الاقرار باطل في هذا كله (وحجتنا) فيه أن النبي ﷺ لقن المقر بالسرقة الرجوع فلو لم يصح رجوعه لما لقنه ذلك فقد روينا أن ماعزا رضى الله عنه لما هرب انطلق المسلمون في أثره فرجموه فقال النبي ﷺ هلا خليتم سبيله ولان الرجوع بعد الاقرار انما لا يصح في حقوق العباد لوجود خصم يصدقه في الاقرار ويكذبه في الرجوع وذلك غير موجود فيما هو خالص حق الله تعالى فيتعارض كلاماه الاقرار والرجوع وكل واحد منهما متمثل بين الصدق والكذب والشبهة تثبت بالمعارضة (قال) وإذا أقر أربع مرات في أربعة مجالس وأنكر الاحصان وشهد الشهود عليه بالاحصان يرجم لان الثابت بالبينة أقوي من الثابت بالاقرار ولا يجعل انكاره للاحصان رجوعا منه عن
[ 95 ] الاقرار بالزنا لانه مصر على الاقرار بالزنا والتزام العقوبة مع انكار الاحصان وانما أنكر الاحصان وقد ثبت بالبينة ولو أقر بالاحصان بعد انكاره كان يرجم فكذلك إذا ثبت بالبينة (قال) فان كانت المرأة التى أقرأنه زنى بها غائبة فالقياس أن لا يحد الرجل لانها لو حضرت ربما ادعت شبهة نكاح مسقطة للحد عنها فلا يقام الحد في موضع الشبهة وقيل هذا قياس قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى على قياس مسألة السرقة إذا قال سرقت أنا وفلان مال فلان وفى الاستحسان يقام عليه الحد لحديث ماعز رضى الله تعالى عنه فان رسول الله ﷺ لم يحضر المرأة التى أقرانه زنى بها ولكن أمر برجمه وفي حديث العسيف أوجب الجلد على ابن الرجل ثم قال اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها فدل ان حضور المرأة ليس بشرط وهذا لان مامن شبهة تدعيها إذا حضرت فالرجل متمكن من أن يدعى ذلك وتوهم ان تحضر فتدعى الشبهة كتوهم ان يرجع المقر عن اقراره فكما لا يمتنع اقامة الحد على المقر لتوهم ان يرجع عنه فكذلك هذا وان جاءت المرأة بعدما حد الرجل فادعت النكاح وطلبت المهر لم يكن لها المهر لان القاضى حكم بان فعله كان زنا بها حين أقام عليه الحد والزنا لا يوجب المهر وهي تدعى ابطال حكم الحاكم بقولها (قال) أربعة فساق شهدوا على رجل بالزنا وأقر هو مرة واحدة فلاحد عليه لعدم الحجة فان الحجة الاقارير الاربعة أو شهادة أربعة عدول ولايقال اقراره مرة واحدة تعديل منه للشهود وتصديق لهم فينبغي ان يلتحقوا بالعدول في هذه الحادثة لان القاضى لا يقضى بشهادة الفساق وان رضى به الخصم فان التوقف في خبر الفاسق واجب بالنص فلا يتغير ذلك باقراره ثم اقراره مانع من القضاء بالشهادة لان الشهادة تكون حجة على المنكر دون المقر الا انه إذا كان الشهود عدولا يجعل الاقرار الواحد كالمعدوم لما لم يتبين به سبب الحد فيتبين ذلك بالبينة وان كان الشهود عدولا لم يذكر في الاصل وذكر في غير رواية الاصول انه لا يحد عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لان الشهادة قد بطلت باقراره لكونه حجة على المنكر لاعلى المقر وعند محمد رحمه الله تعالى يحد لان الشهود عدول فاستغني عن اقراره فبطل الاقرار ولا يوجد ذلك في شهادة الفاسق (فان قيل) فبالاقرار الواحد إذا لم يثبت الحد يثبت الوطئ الموجب للمهر فينبغي أن لا يعتبر ذلك وان كرر الاقرار لانه قصد بذلك اسقاط المهر عن نفسه فيكون متهما وهو نظير ما قلتم في الاستدلال على قول أبى يوسف في السرقة
[ 96 ] أنه إذا لم يثبت الحد فبالاقرار الواحد يجب الضمان فلا يعتبر اقراره بعد ذلك في اسقاط الضمان وهذا لان حكم اقراره بالزنا مراعى من حيث أن الزنا غير موجب للمهر فان تم عدد الاربعة تبين أنه لم يكن موجبا للمهر وان لم يتم كان موجبا للمهر كما أنه بعد تمام الاقرار ان رجع تبين أن الواجب لم يكن عليه الحد بخلاف السرقة فان نفس الاخذ موجب للضمان وانما سقط الضمان لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى على ما نبينه (قال) وإذا وطئ الرجل جارية ولده وقال علمت أنها علي حرام لا يحد للشبهة الحكمية التى تمكنت في الموطوءة بقوله ﷺ أنت ومالك لابيك وكيف يجب الحد ولو جاءت بولد فادعاه ثبت النسب وصارت أم ولد له وان وطئ جارية أحد أبويه أو امرأته فان اتفقا على أنهما كانا يعلمان بحرمة الفعل فعليهما الحد لانه لاشبهة هنا في المحل وانما الشبهة من حيث الاشتباه فلا يكون معتبرا إذا لم يشتبه فأما إذا قال الواطئ ظننت أنها تحل لى أو قالت الجارية ظننت أنه يحل لى لاحد على واحد منهما لان شبهة الاشتباه عند الاشتباه معتبر بالشبهة الحكمية ودعوى الشبهة الحكمية من أحدهما يسقط الحد عنهما فكذلك شبهة الاشتباه وحكى عن ابن أبى ليلى انه أقر عنده رجل أنه وطئ جارية أمه فقال له أوطأتها ؟ قال نعم حتى قال أربع مرات فأمر بضربه الحد وخطأه أبو حنيفة رحمه الله تعالى في هذا القضاء من أوجه أحدها ان باقراره بلفظ الوطئ لا يلزمه الحد ما لم يقر بصريح الزنا والثانى وهو ان القاضى ليس له أن يطلب الاقرار في هذا الباب بقوله أفعلت بل هو مندوب إلى تلقين الرجوع والثالث أنه لم يسأله عن علمه بحرمتها وينبغي له أن يسأله عن ذلك وليس له أن يقيم الحد ما لم يعلم علمه بحرمة ذلك الفعل (قال) ولو وطئ جارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لى فعليه الحد لان هذا ليس بموضع الاشتباه وان كل واحد منهما في حكم الملك كالاجنبي (قال) في الاصل ولم يجعل هذا كالسرقة يعنى إذا سرق مال أخيه أو أخته لا يقطع ثم أجاب وقال ألا ترى أنه لو زنى بأخته وعمته حددته ولو سرق من واحدة منهما لم أقطعه وانما أشار بهذا إلى أن في حد السرقة لابد من هتك الحرز والاحراز لايتم في حق ذي الرحم المحرم لان بعضهم يدخل بيت يعض من غير استئذان وحشمة بخلاف حد الزنا (قال) وان وطئ جارية ولد ولده فجاءت بولد فادعاه فان كان الاب حيا لم تثبت دعوة الجد إذا كذبه ولد الولد لان صحة الاستيلاد تنبنى على ولاية نقل الجارية إلى نفسه وليس للجد ولاية ذلك في حياة لاب ولكن
[ 97 ] ان أقربه ولد الوالد عتق باقراره لانه زعم أنه ثابت النسب من الجد وانه عمه فيعتق عليه بالقرابة ولا شئ على الجد من قيمة الامة لانه لم يتملكها وعليه العقر لان الوطئ قد ثبت باقراره وسقط الحد للشبهة الحكمية وهو البنوة فيجب العقر وكذلك ان كانت ولدته بعد موت الاب لاقل من ستة أشهر لانا علمنا ان العلوق كان في حياة الاب وانه لم يكن للجد عند ذلك ولاية نقلها إلى نفسه وان كانت ولدته بعد موته لستة أشهر فهو مصدق في الدعوة صدقه ابن الاب أو كذبه لان العلوق به انما حصل بعد موت الاب والجد عند عدم الاب بمنزلة الاب في الولاية فله أن ينقلها إلى نفسه بدعوة الاستيلاد (قال) وإذا شهد الشهود على زنا قديم لم أحد بشهادتهم المشهود عليه وقد بينا هذا ولم أحدهم أيضا لان عددهم متكامل والاهلية للشهادة موجودة وذلك يمنع أن يكون كلامهم قذفا وان أقر بزنا قديم أربع مرات أقيم عليه الحد عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لايقام اعتبارا لحجة الاقرار بحجه البينة فان الشهود كما ندبوا إلى الستر فالمرتكب للفاحشة أيضا مندوب الي الستر على نفسه قال ﷺ من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ولكنا نستدل بآخر الحديث حيث قال ومن أبدي لنا صفحته أقمنا عليه حد الله وهذا قد أبدى صفحته باقراره وان كان تقادم العهد والمعنى فيه أن التهمة تنتفي عن اقراره وان كان بعد تقادم العهد فان الانسان لا يعادي نفسه على وجه يحمله ذلك على هتك ستره بل انما يحمله على ذلك الندم وايثار عقوبة الدنيا على الآخرة بخلاف الشهادة فبتقادم العهد هناك تتمكن التهمة من حيث أن العداوة حملتهم على أداء الشهادة بعدما اختاروا الستر عليه وهنا كان اصراره يمنعه عن الاقرار ثم الندم والتوبة حمله على الاقرار بعد تقادم العهد (قال) والذمى والعبد في الاقرار بالزنا كالحر المسلم وأما الذمي فحرمة الزنا ثابت في حقه كما هو ثابت في حق المسلم واقراره ملزم أيضا كاقرار المسلم فأما العبد فاقراره بالزنا يصح عندنا موجبا للحد عليه مأذونا كان أو محجورا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يصح لان نفسه مملوكة للمولى وبهذا الاقرار يتضرر المولى من حيث أنه تنتقص ماليته باقامة الحد عليه ولهذا لا يصح اقراره على نفسه بالمال إذا كان محجورا فكذلك بالحد ولكنا نقول ما لا يملكه المولى على عبده فالعبد فيه ينزل منزلة الحر كطلاق زوجته بخلاف الاقرار بالمال فان المولى يملكه عليه ثم وجوب الحد على العبد باعتبار أنه نفس مخاطبة وفيما يرجع إلى ذلك هو كالحر ولانه غير متهم بالاقرار على
[ 98 ] نفسه بالاسباب الموجبة للعقوبة ولان ما يلحقه من الضرر في ذلك فوق ما يلحق المولى فلانتفاء التهمة حكمنا بصحة اقراره بخلاف الاقرار بالمال (قال) ولا يؤخذ الاخرس بحد الزنا ولا بشئ من الحدود وان أقربه باشارة أو كتابة أو شهدت به عليه شهود وعند الشافعي رحمه الله تعالى يؤخذ بذلك لانه نفس مخاطبة فهو كالاعمى أو أقطع اليدين أو الرجلين ولكنا نقول إذا أقربه بالاشارة فالاشارة بدل عن العبارة والحد لايقام بالبدل ولانه لابد من التصريح بلفظة الزنا في الاقرار وذلك لا يوجد في إشارة الاخرس انما الذى يفهم من اشارته الوطئ فلو أقر الناطق بهذه العبارة لا يلزمه الحد فكذلك الاخرس وكذلك ان كتب به لان الكتابة تتردد والكتابة قائمة مقام العبارة والحد لايقام بمثله وكذلك ان شهدت الشهود عليه بذلك لانه لو كان ناطقا ربما يدعى شبهة تدرأ الحد وليس كل ما يكون في نفسه يقدر على اظهاره بالاشارة فلو اقمنا عليه كان اقامة الحد مع تمكن الشبهة ولا يوجد مثله في الاعمى والاقطع لتمكنه من اظهار دعوى الشبهة والذى يجن ويفيق في حال افاقته كغيره من الاصحاء يلزمه الحد بالزنا في هذه الحالة سواء أقربه أو شهد عليه الشهود وان قال زنيت في حال جنوني لم يحد لانه أضاف الاقرار إلى حالة معهودة وهو ليس بأهل لالتزام العقوبة في تلك الحالة لكونه مرفوع القلم عنه فهو كالبالغ إذا قال زنيت وأنا صبي وكذلك الذي أسلم إذا أقر أنه كان يزني في دار الحرب لانه أضاف الاقرار إلى حالة تنافى التزام العقوبة بالزنا في تلك الحالة فانه لم يكن تحت ولاية الامام ولاكان ملتزما حكم الاسلام (قال) وان أقر المجبوب بالزنا لا يحد لانا نتيقن بكذبه فالمجبوب ليس له آلة الزنا فالتيقن بكذبه أكثر تأثيرا من رجوعه عن الاقرار (قال) وان أقر الخصى بالزنا أو شهدت به عليه الشهود حد لان للخصي آلة الزنا وانما ينعدم بالخصى الانزال وذلك غير معتبر في اتمام فعل الزنا فيلزمه من الحد ما يلزم الفحل وان قال العبد بعد عتقه زنيت وانا عبد لزمه حد العبيد لانه مصدق في اضافة الاقرار إلى حالة الرق لكونها حالة معهودة فيه ثم الثابت باقراره كالثابت بالمعاينة ولو عايناه زنى في حالة رقه ثم عتق كان عليه حد العبيد فهذا مثله (قال) وإذا أقر الرجل أربع مرات أنه زنى بفلانة وقالت كذب ما زنى بى ولا أعرفه لم يحد الرجل في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحد لحديث سهل بن سعد ان رجلا أقر بالزنا بامرأة وأنكرت فحده رسول الله ﷺ ولان الزنا
[ 99 ] فعلان من الزانيين ؟ وفعل كل واحد منهما يظهر باقراره موجبا للحد عليه فانكارها لا يؤثر في اقراره وأكثر ما فيه أنه يمتنع بانكارها ظهور الزنا في حقها وذلك لايمنع وجوب الحد على الرجل كما لو كانت حاضرة ساكتة أو غائبة وكما لو قالت زنا بى مستكرهة يجب الحد عليه وان لم يجب عليها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول فعل الزنا من الرجل لا يتصور بدون المحل وبانكارها قد انتفي في جانبها فينتفي في جانبه أيضا ألا ترى أنه لو انتفي صفة الزنا في جانبها بدعوي النكاح سقط الحد عنهما فإذا انتفي أصل الفعل أولى وهذا لان القاضي لا يتمكن من القضاء عليه بالزنا بها مع انكارها ألا ترى انها تبقى محصنة لا يتمكن من القضاء عليه بالزنا بغيرها لانه لم يقر بذلك وبدون القضاء بالزنا لا يتمكن من اقامة الحد وفي الغائبة قياس استحسان والفصل المستحسن لايدخل على طريقة القياس ثم بغيبتها واستكراهها لا ينتفى الفعل في جانبها وبانكارها ينتفى ألاتري أن من أقر لانسان بشئ وكذبه بطل اقراره حتى لو صدقه بعد ذلك لم يصح ولو كان غائبا أو حاضرا ساكتا لم يبطل به الاقرار حتى إذا صدقه عمل بتصديقه وهذا بخلاف ما إذا قالت زنى بى مستكرهة لان المحلية وأصل الفعل هناك قد ظهر في حقها ولهذا سقط احصانها به وحديث سهل بن سعد قد ضعفه أهل الحديث ثم تأويل الحديث أنها أنكرت وطالبته بحد القذف فحده رسول الله ﷺ بقذفه اياها بالزنا لا باقراره بالزنا على نفسه وعلى هذا لو أقرت امرأة أنه زنى بها فلان أربع مرات وأنكر الرجل فهو على الخلاف الذى بينا في اقامة الحد عليها وكلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى هنا أظهر لان المباشر للفعل هو الرجل فلا يثبت أصل الفعل مع انكاره وان قال الرجل صدقت حدت المرأة ولم يحد الرجل لانه بالتصديق صار مقرا بالزنا مرة واحدة وقد بينا ان بالاقرار الواحد لايقام الحد (قال) الحربى المستأمن في دارنا إذا أقر بالزنا أربع مرات لايقام عليه الحد وقد بينا الخلاف في هذا في البينة فكذلك في الاقرار وعلل في الاصل فقال بأنه لا يؤخذ منه الخراج ومعناه ان الجزية تؤخذ من أهل الذمة حقا لله تعالى ثم لا تؤخذ من المستأمن عرفنا انه لا يجرى عليه ما هو خالص حق الله تعالى (قال) وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فزنى هناك بمسلمة أو ذمية ثم خرج إلى دار الاسلام فأقر به لم يحد وهذا عندنا وقال الشافعي يحد لان المسلم ملتزم لاحكام الاسلام حيث ماكان ومن أحكام الاسلام وجوب الحد على الزان ولكنا نستدل بقوله ﷺ لاتقام الحدود
[ 100 ] في دار الحرب والمعنى فيه ان الوجوب لايراد لعينه بل للاستيفاء وقد انعدم المستوفى لانه لا يملك اقامة الحد على نفسه وليس للامام ولاية على من في دار الحرب ليقيم عليه الحد فامتنع الوجوب لانعدام المستوفى وإذا لم يجب عليه حين باشر السبب لا يجب بعد ذلك وان خرج إلى دارنا (قال) وكذلك سرية من المسلمين دخلت في دار الحرب فزنى رجل منهم هناك أو كانوا عسكرا لان أمير العسكر والسرية انما فوض إليه تدبير الحرب وما فوض إليه اقامة الحدود وأما إذا كان الخليفة غزا بنفسه أو كان أمير مصر يقيم الحدود على أهله فإذا غزا بجنده فانه يقيم الحدود والقصاص في دار الحرب لان أهل جنده تحت ولايته فمن ارتكب منهم منكرا موجبا للعقوبة يقيم عليه العقوبة كما يقيمها في دار الاسلام هذا إذا زنى في المعسكر وأما إذا دخل دار الحرب وفعل ذلك خارجا من المعسكر لا يقيم عليه الحد بمنزلة المستأمن في دار الحرب (قال) ولا حد على من زنى أو شرب الخمر في معسكر أهل البغي منهم ولا من كان تاجرا من أهل العدل وأسرائهم فيه لان يد امام أهل العدل لا تصل إليهم لمنعة أهل البغي وولايته في الاستيفاء منقطعة لقصور يده وقد بينا أن الوجوب للاستيفاء فإذا انعدم المستوفى امتنع الوجوب كما لو فعل ذلك في دار الحرب وان كان خروجه من دار الحرب أو من عسكر أهل البغى بعد تطاول المدة فلا اشكال في أنه يدرأ العقوبة إذا تطاولت المدة في حد الشرب سواء ثبت بالاقرار أو بالبينة وفي حد الزنا إذا ثبت بالبينة (قال) ويقام الحد على العبد إذا أقر بالزنا أو بغيره مما يوجب الحد وان كان مولاه غائبا وكذلك القطع والقصاص لان الوجوب عليه باعتبار النفسية في محل لاحق للمولى فيه فان حق المولى في المالية وقد بينا أنه في حكم النفسية هو والحر سواء وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يفرقان بين حجة البينة والاقرار باعتبار ان للمولى حق الطعن في البينة دون الاقرار وان الاقرار موجب للحق بنفسه والبينة لا توجب الا بالقضاء وقد قررناه في الآبق (قال) وإذا وجب على المريض حد من الحدود في زنا أو شرب أو سرقة حبس حتى يبرأ لما روى عن رسول الله ﷺ أنه أمر عليا رضى الله عنه باقامة حد على أمة فرأى بها أثر الدم فرجع ولم يقم عليها ولم ينكر ذلك رسول الله ﷺ وانما يحمل هذا على أن أثر الدم بها كان نفاسا لاحيضا لان الحائض بمنزلة الصحيحة في اقامة الحد عليها والنفساء بمنزلة المريضة ولانه لو أقام الحد على المريض ربما ينضم الم الجلد
[ 101 ] إلى ألم المرض فيؤدى إلى الاتلاف والحد انما يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا والذى روى أن النبي ﷺ اقام الحد على مريض تأويله انه وقع اليأس عن برئه واستحكم ذلك المرض على وجه يخاف منه التلف وعندنا في مثل هذا يقام عليه الحد تطهيرا وهذا إذا لم يكن الحد رجما فاما الرجم يقام على المريض لان اتلاف نفسه هناك مستحق فلا يمتنع اقامته بسبب المرض (قال) رجل ثبت عليه باقراره الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف وفق ء عين رجل فانه يبدأ بالقصاص في الفق ء لانه محض حق العباد وحق العبد مقدم في الاستيفاء لما يلحقه من الضرر بالتأخير لانه يخاف الفوت والله تعالى يتعالى عن ذلك ثم إذا برئ من ذلك أخرجه وأقام عليه حد القذف لانه مشوب بحق العباد فيقدم في الاستيفاء على ما هو محض حق الله تعالى وهذا لان المقصود من اقامة حد القذف دفع العار عن المقذوف فلهذا يبدأ به قبل حد الزنا والشرب وإذا برئ من ذلك فهو بالخيار ان شاء بدأ بحد الزنا وان شاء بدأ بحد السرقة لان كل واحد منهما محض حق الله تعالى وهو ثابت بنص يتلي ويجعل حد شرب الخمر آخرها لانه أضعف من حيث أنه لا يتلي في القرآن وقد بينا ذلك وكلما أقام عليه حدا حبسه حتى يبرأ ثم أقام الآخر لانه ان والى اقامة هذه الحدود ربما يؤدي إلى الاتلاف وقد بينا أنه مأمور باقامة الحد علي وجه يكون زاجرا لامتلفا ولكنه يحبس لانه لو خلى سبيله ربما يهرب فلا يتمكن من اقامة الحد الآخر عليه ويصير مضيعا للحد والامام منهى عن تضييع الحد بعد ظهوره عنده وان كان محصنا اقتص منه في العين وضربه حد القذف لما فيهما من حق العباد ثم رجمه لان حد السرقة والشرب محض حق الله تعالى ومتى اجتمعت الحدود لحق الله تعالى وفيها نفس قتل وترك ما سوى ذلك هكذا نقل عن ابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم والمعنى فيه ان في الحدود الواجبة لله تعالى المقصود هو الزجر وأتم ما يكون من الزجر باستيفاء النفس والاستيفاء بما دونه اشتغال بما لا يفيد فلهذا رجمه ودرأ عنه ما سوى ذلك الا أنه يضمنه السرقة لان الضمان قد وجب عليه بالاخذ وانما يسقط لضرورة استيفاء القطع حقا لله ولم يوجد ذلك فلهذا يضمنه السرقة ويأمر بايفائها من تركته (قال) ولا يقام حد في المسجد ولا قود ولا تعزير لما فيه من وهم تلويث المسجد ولان المجلود قد يرفع صوته وقد نهى رسول الله ﷺ عن رفع الصوت في المسجد بقوله ﷺ جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع
[ 102 ] أصواتكم ولكن القاضى يخرج من المسجد إذا أراد اقامة الحد بين يديه كما فعله رسول الله ﷺ في حديث الغامدية أو يبعث أمينا ليقام بحضرته كما فعله رسول الله ﷺ في ماعز (قال) وإذا زنى الرجل مرات أو قذف مرات أو سرق مرات أو شرب مرات لايقام عليه الا حد واحد لان مبنى الحدود على التداخل لما أن المقصود بها الزجر وذلك يحصل بحد واحد ولان المقصود اظهار كذب القاذف لدفع العار عن المقذوف وذلك يحصل باقامة حد واحد ولان المغلب في حد القذف حق الله تعالى عندنا على ما نبينه في بابه (قال) وليس على واطئ البهيمة حد عندنا ولكنه يعزر ومن الناس من أوجب عليه الحد لحديث روى أن النبي ﷺ قال من أتى بهيمة فاقتلوه ولكن الحديث شاذ لا يثبت الحد بمثله ولو ثبت فتأويله في حق من استحل ذلك الفعل ثم ليس لفرج البهيمة حكم الفرج حتى لا يجب ستره والايلاج فيه بمنزلة الايلاج في كوز أوكوة ولهذا قلنا أنه لاتنتقض طهارته بنفس الايلاج من غير انزال ولان الحد مشروع للزجر ولا يميل طبع العقلاء إلى اتيان البهيمة فانها ليست بمشتهاة في حق بني آدم وقضاء الشهوة يكون من غلبة الشبق أو فرط السفه كما يحصل قضاء الشهوة بالكف والالية ولكنه يعذر لارتكابه مالا يحل (قال) في الاصل بلغنا عن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أنه أتى برجل أتى بهيمة فلم يحده وأمر بالبهيمة فذبحت وأحرقت بالنار وهذا ليس بواجب عندنا وتأويله أنه فعل ذلك كيلا يعير الرجل به إذا كانت البهيمة باقية (قال) لو قذف قاذف رجلا باتيان البهيمة فلا حد عليه لان القاذف انما يستوجب الحد إذا نسبه إلى فعل يلزمه الحد بمباشرته وذلك غير موجود هنا ألا ترى أنه لو قذفه بوطئ الميتة أو تقبيل الحرام لا يجب الحد فكذلك إذا قذفه باتيان البهيمة (قال) وان قذفه بعمل قوم لوط لم يحد الا أن يفصح معناه إذا قال يا لوطى لاحد عليه بالاتفاق لانه نسبه إلى نبى من أنبياء الله تعالى فلا يكون هذا اللفظ صريحا في القذف فأما إذا أفصح بنسبته إلى ذلك الفعل فعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى يعزر ولا يحد لانه نسبه إلى فعل لا يلزمه الحد بذلك الفعل عنده وعندهما يلزمه حد القذف لانه نسبه إلى فعل يستوجب بمباشرته الحد عندهما (قال) ومن وطئ امرأة في نكاح فاسد ثم قذفه رجل لا حد عليه لانه ارتكب وطءا حراما غير مملوك فيسقط به احصانه (قال) ولا ينبغي للقاضى أن يلقن الشهود ما تتم به شهادتهم في الحدود
[ 103 ] لانه مأمور بالاحتيال لدرء الحد لا لاقامته وفى هذا احتيال لاقامة الحد فلا يكون للقاضى أن يشتغل به (قال) وينبغي للقاضي إذا أشكل عليه شئ أن يسأل من هو أفقه منه ولا يسعه الا ذلك لقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وقال ﷺ هلا سألوه إذا لم يعرفوه وانما شفاء العى السؤال ولانه مأمور بالقضاء بحق ولا يتصل إلى ذلك فيما أشكل عليه الا بالسؤال فلا يسعه الا ذلك فان أشار عليه ذلك الذى هو أفقه منه في رأى نفسه بما هو خطأ عند القاضي فعليه أن يقضي بما هو الصواب عنده إذا كان يبصر وجوه الكلام لانه مأمور شرعا بالاجتهاد إذا كان مستجمعا شرائطه ولا يحل للمجتهد أن يدع رأيه برأى غيره وان كان أفقه منه فقد يسبق وجه الصواب في حادثة لانسان ويشتبه على غيره وان كان أفقه منه وان ترك رأيه وعمل بقول ذلك الفقيه كان موسعا عليه أيضا لان هذا نوع اجتهاد منه فان عند تعارض الاقاويل ترجيح قول من هو أفقه منه نوع اجتهاد ألا ترى ان القاضي إذا لم يكن مجتهدا واختلف العلماء في حادثة كان عليه ان يأخذ بقول من هو أفقه عنده ويكون ذلك اجتهاد مثله وهناك أيضا إذا قدم رأى من هو افقه منه على رأى نفسه كان ذلك نوع اجتهاد منه فكان موسعا عليه والله أعلم بالصواب (باب الرجوع عن الشهادات) (قال) وإذا شهد ثمانية نفر على رجل بالزنا كل أربعة يشهدون على الزنا بأمرأة على حدة فرجمه القاضى ثم رجع أربعة منهم عن الشهادة لم يضمنوا ولم يحدوا لانه قد بقى على الشهادة أربعة منهم ولان ما يثبته عليه شهادة الاربعة والمعتبر في مسائل الرجوع بقاء من بقى على الشهادة فان بقى على الشهادة من تتم به الجحة لم يضمن الراجعون شيئا ولا يحدون أيضا لانه غير محصن في حق أحد ما بقيت حجة تامة على زناه فان رجع واحد من الآخرين أيضا فعلي الراجعين ربع الدية لانه قد بقى علي الشهادة من يستحق بشهادته ثلاثة أرباع النفس وانما انعدمت الحجة في الربع فعلى الراجعين ذلك القدر وليس بعضهم بالوجوب عليه بأولى من البعض لانه قبل شهادتهم جميعا ويحدون حد القذف في قول أبى حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وفى قول محمد رحمه الله تعالى لا يحدون وكذلك ان رجع
[ 104 ] الفريقان جميعا فعليهم ضمان الدية ويحدون عندهما ولاحد عليهم عند محمد لان كل أربعة اثبتوا بشهادتهم زنا آخر فالزنا بزينب غير الزنا بعمرة ففي حق كل فريق يجعل كان الفريق الاول ثابتون على الشهادة في حكم سقوط الاحصان ألا ترى ان شهود الزنا لو رجعوا وقذف المرجوم انسان فلا حد على القاذف ويجعل في حقه كأنهم ثابتون على الشهادة وكذلك لو شهد أربعة سواهم أنه كان زانيا بعد رجوعه لا يحدون الا ان هذا المعنى لا يعتبر في سقوط ضمان يدل النفس لانه يؤدى إلى اهدار الدم ويعتبر في امتناع وجوب الحد عليهم لان الحد يندرئ بالشبهات وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا هم في حق الرجوع كالشاهدين عليه بزنا واحد لان المقصود بهذه الشهادة اقامة الحد ولا يقام عليه الاحد واحد وان تعدد فعل الزنا منه والدليل عليه ان في حكم الضمان جعلوا كالشاهدين بزنا واحد وأنه لو رجع اثنان من كل فريق لا يضمنون شيئا أيضا ولو لم يجعلوا كذلك لضمنوا لان الباقي على الشهادة شاهدان أنه زنى بامرأة وشاهدان أنه زنى بامرأة أخري والحجة لا تتم بهذا فعرفنا أنهم جعلوا كالشاهدين عليه بزنا واحد (قال) ولو شهدوا بذلك ثم رجع خمسة حدوا جميعا فهذا مثله وهذا لانهم إذا رجعوا جميعا فقد حكمنا في حقهم بأنه محصن مقتول ظلما حتى غرمناهم الدية فيبعدان يقال لايقام عليه الحد ومن زعمهم أنه عفيف وانهم قذفوه بغير حق (قال) وان شهد خمسة على رجل بالزنا والاحصان فرجم ثم رجع واحد فلا شئ عليه لبقاء حجة تامة فان رجع آخر غرما ربع الدية لان الباقي على الشهادة من يستحق بشهادته ثلاثة أرباع النفس ويحدان جميعا لانه لم يبق على الشهادة من تتم به الحجة وقد انفسخت الشهادة في حقهما بالرجوع فعليهما الحد (فان قيل) الاول منهما حين رجع لم يجب عليه حد ولاضمان فلو لزمه ذلك انما يلزمه برجوع الثاني ورجوع غيره لا يكون ملزما اياه الحد (قلنا) لم يجب لانعدام السبب بل لمانع وهو بقاء حجة تامة فإذا زال برجوع الثاني وجب الحد على الاول بالسبب المتقرر في حقه لا بزوال المانع فلو اعتبرنا هذا المعني لوجب القول بأنهم لو رجعوا معا لم يحد واحد منهم لان في حق كل واحد منهم لا يلزمه شئ برجوعه وحده لو ثبت أصحابه على الشهادة وهذا بعيد (قال) وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا فعل الامام الذي ليس فوقه امام شيئا مما هو إلى السلطان فليس فيه عليه حد الا القصاص والاموال فانه يؤخذ بها لان استيفاء الحد إلى الامام وهو الامام فلا يملك اقامة الحد على
[ 105 ] نفسه لان الشرع ما جعل من عليه نائبا عنه في الاستيفاء من نفسه فان اقامته بطريق الخزى والعقوبة فلا يفعل الانسان ذلك بنفسه ومن هو دونه نائبه لا يمكنه أن يقيم فانعدم المستوفى وفائدة الوجوب الاستيفاء فإذا انعدم المستوفى قلنا انه لا يجب والشافعي رحمه الله تعالى يقول يلزمه الحد ويجتمع الصلحاء من المسلمين على رجل ليقيم عليه ذلك الحد وأهل الزيغ يعللون في هذه المسألة ويقولون انه بالزنا قد انعزل فكان زناه في وقت لا امام فيه ولو زنى في مكان لا امام فيه وهو دار الحرب لا يلزمه الحد فكذلك إذا زنى في زمان لا امام فيه وهذا قول باطل عندنا لما قلنا أنه بالفسق لا ينعزل فأما القصاص والاموال محض حق العبد واستيفاؤه إلى صاحب الحق فيستوفيه منه ان تمكن من ذلك (قال) وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى السكر الذى يجب به الحد على صاحبه أن لا يعرف الرجل من المرأة وانما أراد به أن من شرب ما سوى الخمر من الاشربة فلا حد عليه ما لم يسكر وحد سكره عندهما أن يختلط كلامه فلا يتميز جده من هزله لانه إذا بلغ هذا الحد يسمى في الناس سكرانا واليه أشار الله عزوجل في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال ما لم يبلغ نهاية السكر لا يلزمه الحد لان في الاسباب الموجبة للحد يعتبر أقصى النهاية احتيالا لدرء الحد وذلك في أن لايعرف الارض من السماء والفرو من القباء والذكر من الانثى إلى هذا أشار في الاشربة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب الشهادة في القذف) (قال) رضي الله تعالى عنه وإذا ادعى رجل على رجل أنه قذفه ولا بينة له لم يستحلف على ذلك ولا يمين في شئ من الحدود لان المقصود من الاستحلاف القضاء بالنكول والنكول انما يكون بدلا والبدل لا يعمل في الحدود أو يكون قائما مقام الاقرار والحد لايقام بما هو قائم مقام غيره الا أن على قول الشافعي رحمه الله يستحلف في حد القذف بخلاف سائر الحدود بناء على أصله أن حد القذف حق العبد فيستحلف فيه كالتعزير والقصاص ولان في سائر الحدود رجوعه بعد الاقرار صحيح فلا يكون استحلافه مفيدا وفي حد القذف رجوعه عن الاقرار باطل فالاستحلاف فيه يكون مفيدا كالاموال ولكنا نقول هذا حد يدرأ
[ 106 ] بالشبهة فلا يستحلف فيه كسائر الحدود وهو بناء على أصلنا أن المغلب فيه حق الله تعالى على ما نبينه (قال) الا أنه يستحلف في السرقة لاجل المال فان أبى أن يحلف ضمن المال ولم يقطع لان المال حق العبد وهو يثبت مع الشبهات وحقيقة المعنى فيه أن في السرقة أخذ المال فانما يستحلف على الاخذ لاعلى فعل السرقة وعند نكوله يقضى بموجب الاخذ وهو الضمان كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة يثبت الاخذ الموجب للضمان ولا يثبت القطع الذى ينبني على فعل السرقة فان جاء المقذوف بشاهدين فشهدا أنه قذفه سئلا عن ماهيته وكيفيته لانهم شهدوا بلفظ مبهم فالقذف قد يكون بالزنا وقد يكون بغير الزنا فان لم يزيدوا على ذلك لم تقبل شهادتهم لان المشهود به غير معلوم ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول فكذلك يمتنع عن القضاء عند امتناعهما عن بيان ما شهدا به فان قالا نشهد أنه قال يا زاني قبلت شهادتهما وحد القاذف ان كانا عدلين لانهم شهدوا بالقذف بالزنا وهو موجب للحد بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى والذين يرمون المحصنات واتفق أهل التفسير أن المراد بالرمي الرمى بالزنا دل عليه قوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فان عدد الاربعة في الشهود شرط في الزنا خاصة واما السنة فما روى أن هلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء قال ﷺ ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك والا فحد في ظهرك (قال) وان لم يعرف القاضى شهود القذف بالعدالة حبسه حتى يسأل عنهم لانه صار متهما بارتكاب ما لا يحل من هتك الستر وأذى الناس بالقذف فيحبس لذلك ولا يكفله لان التكفيل للتوثق والاحتياط والحد مبني على الدرء والاسقاط ثم ذكر أنه لا يكفل في شئ من الحدود والقصاص في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى الاول ذكره في كتابه الكفالة وفى قول أبى يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله تعالى يأخذ منه الكفيل في دعوى حد القذف عليه وكذلك في دعوي القصاص ولا خلاف له أنه لا تصح الكفالة بنفس الحد والقصاص لان النيابة لا تجري في ايفائهما والمقصود من الكفالة اقامة الكفيل مقام المكفول عنه في الايفاء وهذا لا يتحقق في شئ من الحدود فلا تصح الكفالة بها فأما أخذ الكفيل بنفس المدعى عليه فعند أبى حنيفة رحمه الله إذا زعم المقذوف أن له بينة حاضرة في المصر فان القاضى لا يأخذ من المدعى عليه كفيلا بنفسه ولكن يحبسه إلى آخر المجلس فان أحضر بينته والاخلى سبيله ومراده بهذا الحبس الملازمة أنه
[ 107 ] يأمره بملازمته إلى آخر المجلس لاحقيقة الحبس لانه عقوبة وبمجرد الدعوى لاتقام العقوبة على أحد وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يأخذ منه كفيلا بنفسه إلى ثلاثة أيام ليأتي بالبينة وقالا ان حد القذف في الدعوى والخصومة بمنزلة حقوق العباد وفي أخذ الكفيل نظر للمدعى من حيث أنه يتمكن من احضار الخصم باقامة البينة عليه ولا ضرر فيه على المدعي عليه فيأخذ القاضى كفيلا بنفس المدعي عليه كما في الاموال وهذا لان تسليم النفس مستحق على المدعى عليه حقا للمدعى ولهذا يستوفى منه عند طلبه وهو مما يجرى فيه النيابة فيجوز أخذ الكفيل فيه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المقصود من هذه الخصومة اثبات الحد والكفالة للتوثق والاحتياط والحد مبني على الدرء والاسقاط فلا يحتاط فيه بأخذ الكفيل كما في حد الزنا وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول مراد أبى حنيفة ان القاضي لا يجبر الخصم على اعطاء الكفيل ولكن ان سمحت نفسه فأعطى كفيلا بنفسه صح ذلك لان تسليم النفس مستحق عليه كما قلنا وان أقام المدعى شاهدا واحدا فان كان القاضى لايعرف هذا الشاهد بالعدالة فهو وما لم يقم الشاهد سواء لا يحبسه الا بطريق الملازمة إلى آخر المجلس وان كان يعرف هذا الشاهد بالعدالة فادعي ان شاهده الآخر حاضر حبسه يومين أو ثلاثة استحسانا وفي القياس لا يفعل لان الحجة لا تتم بالشاهد الواحد حتي لا يجوز القضاء به بحال ولكنه استحسن فقال قد تم أحد شرطي الشهادة فان للشهادة شرطين العدد والعدالة فلو تم العدد حبسه قبل ظهور العدالة فكذلك إذا وجدت صفة العدالة قلنا أنه يحبسه إلى ان يأتي بشاهد آخر ويمهله في ذلك يومين أو ثلاثة فيحبسه هذا المقدار استحسانا وهذا كله عند أبى حنيفة لانه لا يرى الكفالة بالنفس في الحد فاما عندهما يأخذ كفيلا بنفسه ولا يحبسه والمقصود يحصل بذلك (قال) وإذا تزوج المجوسى أمه ودخل بها ثم أسلما وفرق بينهما ثم قذفهما رجل فعليه الحد عند أبي حنيفة رحمه الله لان من أصله ان نكاح المحارم فيما بينهم له حكم الصحة فلا يسقط به الاحصان (قال) وان مات المكاتب وترك وفاء فأديت مكاتبته فقذفه رجل فلا حد عليه لشبهة الاختلاف بين الصحابة رضى الله عنهم أنه مات حرا أو عبداو قد بينا هذا فيما سبق وبعد ثبوت القذف يسأله البينة أنه حر يريد به أنه إذا زعم القاذف ان المقذوف عبد وقد بينا ان الحرية الثابتة بالظاهر لا تكفي لثبوت الاحصان واستحقاق الحد على القاذف وكذلك إذا ادعى القاذف أنه عبد
[ 108 ] وعليه حد العبيد فالقول قوله فما لم يقم المقذوف البينة على حريته لايقام عليه حد الاحرار فان عرف القاضى حريته اكتفي بمعرفته لان علم القاضى أقوى من الشهادة ولا يقال كيف يقضى القاضى بالحد بعلمه لان في حد القذف له أن يقضى بعلمه ولانه انما يقضى بالحرية هنا بعلمه والحرية ليست بسبب لوجوب الحد فان اختلف الشاهدان في الوقت أو المكان لم تبطل شهادتهما في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما لا يحد القاذف بهذه الشهادة فالحاصل ان ما يكون قولا محصنا كالبيوع والاقارير ونحوها فاختلاف الشهود في المكان أو الزمان لايمنع قبول الشهادة لانه مما يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الاول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان وكذلك لو اختلفا في الانشاء والاقرار لان حقيقة الانشاء والاقرار واحد في هذا الباب ومن هذه الجملة القرض لان تمام القرض وان كان بالتسليم ولكن تحمل الشهادة على قول المقرض أقرضتك وذلك قول فالحقه بالاقرار لهذا فأما الجناية والغصب وما أشبههما من الافعال اختلاف الشهود في المكان والزمان والاقرار والانشاء يمنع قبول الشهادة لان الفعل مما لا يتكرر والاقرار بالفعل غير الفعل وما لم يتفق الشاهدان على شئ واحد لا يتمكن القاضى من القضاء به والنكاح من هذا النوع أيضا لانه وان كان قولا فلا يصح الا بمحضر من شاهدين وحضور الشهود فعل فالحق بالافعال لهذا وفى القول الذى لايتم الا بالفعل كالهبة والصدقة والرهن اختلاف معروف نذكره في الهبة والرهن فأما القذف فأبو يوسف ومحمد رحهما الله تعالى قالا اختلاف الشهود فيه في المكان والزمان يمنع قبول الشهادة لانه إنشاء سبب موجب للحد وما لم يتفق الشاهدان علي سبب واحد لا يتمكن القاضى من القضاء ألا ترى أنهما لو اختلفا في الاقرار والانشاء لم تقبل شهادتهما وألحق ذلك بالافعال فكذلك لو اختلفا في الوقت والمكان وهذا لان وجوب الحد بالتناول من عرض المقذوف فالشهادة عليه بمنزلة الشهادة على التناول من نفسه بالجناية وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول القذف قول قد تكرر فيكون حكم الثاني حكم الاول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان كالطلاق والعتاق بخلاف الاقرار والافعال وهذا هو القياس إذا اختلفا في الانشاء والاقرار قال الا أنى أستحسن هناك لان حكم الاقرار بالقذف مخالف لحكم الانشاء بالقذف ألا ترى أن من تزوج امرأة ثم أقرأنه كان قذفها قبل أن يتزوجها فعليه الحد وان قذفها في الحال لا عنها
[ 109 ] وكذلك لو أبان امرأته ثم أقرأنه كان قذفها قبل الابانة فلاحد عليه ولالعان ولو قذفها في الحال حد فلما كان حكم الاقرار مخالفا لحكم الانشاء يتحقق الاختلاف بين الشاهدين إذا اختلفا في الاقرار والانشاء فأما حكم القذف لا يختلف بالمكان والزمان فلا يتحقق الاختلاف بينهما في المشهود به وان اختلفا في المكان والزمان (قال) وإذا قضى القاضى بحد القذف على القاذف ثم عفي المقذوف عنه بعوض أو بغير عوض لم يسقط الحد بعفوه عندنا وذكر ابن عمر ان عن بشر بن الوليد عن ابى الوليد عن أبى يوسف رحمهم الله تعالى انه يسقط وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى وأصل المسألة ان المغلب في حد القذف عندنا حق الله تعالى وما فيه من حق العبد فهو في حكم التبع وعند الشافعي رحمه الله تعالى المغلب حق العبد وحجته لاثبات هذا الاصل ان سبب الوجوب التناول عن عرضه وعرضه حقه بدليل قوله ﷺ أيعجز أحدكم ان يكون مثل أبى ضمضم إذا أصبح قال اللهم انى تصدقت بعرضي على عبادك وانما يستحق المدح على التصدق بما هو من حقه والمقصود دفع الشين عن المقذوف وذلك حقه ومن حيث الحكم حد القذف يستوفى بالبينة بعد تقادم العهد ولا يعمل فيه الرجوع عن الاقرار وذلك دليل ظاهر على أنه حق العبد ولذلك لا يستوفي الا بخصومته وانما يستوفى بخصومته ما هو حقه بخلاف السرقة فخصومته هناك بالمال دون الحد ويقام هذا الحد على المستأمن بالاتفاق وانما يوأخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد الا أن من له لا يتمكن من الاستيفاء بنفسه لان ألم الجلدات غير معلوم المقدار فإذا فوض إلى من له ربما لا يقف على الحد لغيظه فجعل الاستيفاء إلى الامام مراعاة للنظر من الجانبين بخلاف القصاص فانه معلوم بجده فإذا جاوز من له الحق ذلك الحد يعلم ذلك فيمنع منه (وحجتنا) في ذلك وهو ان هذا حد يعتبر فيه الاحصان فيكون حقا لله تعالى كالرجم وتأثير هذا الكلام لان الحدود زواجر والزواجر مشروعة حقا لله تعالى فاما ما يكون حقا للعبد فهو في الاصل جائز فما أوجب من العقوبات حقا للعبد وجب باسم القصاص الذى ينبئ عن المساواة ليكون إشارة إلى معنى الجبر وما أوجب باسم الحد فهو حق الله تعالى وفى هذا الاسم إشارة إلى معنى الزجر والدليل عليه ان في حقوق العباد يعتبر المماثلة وبه ورد النص حيث قال تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم ولا مناسبة بين نسبة الزنا وبين ثمانين جلدة لاصورة ولا معنى والدليل عليه وهو أن الحد مشروع
[ 110 ] لتعفية أثر الزنا وحرمة اشاعة الفاحشة من حقوق الله تعالى فكان هذا نظير الواجب بمباشرة الزنا من حيث أن كل واحد منهما مشروع لابقاء الستر وتعفية أثر الزنا واعتبار الاحصان لمعني النعمة وذلك فيما هو من حق الله تعالى وما ذكره الخصم لا ينفي معني حق الله تعالى لان في عرضه حقه وحق الله تعالى وذلك في دفع عار الزنا عنه لان في ابقاء ستر العفة معني حق الله تعالى فإذا دل بعض الادلة على أنه محض حق الله تعالى وبعض الادلة على اجتماع الحقين فيه قلنا بأن المغلب حق الله تعالى مع اعتبار حق العبد فيه أيضا ليكون عملا بالادلة كلها والدليل عليه أن الاستيفاء إلى الامام والامام انما يتعين نائبا في استيفاء حق الله تعالى واما ما كأن حقا للعبد فاستيفاؤه إليه ولا معتبر بتوهم التفاوت فان للزوج أن يعزر زوجته وان كان ذلك يوهم التفاوت لكن التعزير لما كان للزوج حقا له لا ينظر إلى توهم التفاوت من هذا الوجه وهذا لان هذه المبالغة كما تتوهم من صاحب الحق تتوهم من الجلاد ويمنع صاحب الحق من ذلك إذا ظهر أثره كما يمنع الجلاد منه مع أن توهم الزيادة لايمنع صاحب الحق عن استيفاء حقه كتوهم السراية في القصاص والدليل عليه أنه يتنصف هذا الحد بالرق وانما يتنصف بالرق لانعدام نعمة الحرية في حق العبد لا لان بدنه دون بدن الحر في احتمال الضرب فاحتمال بدن العبد للمهانة والضرب أكثر وانما يتكامل بتكامل النعم ما كان حقا لله تعالى لان شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة حق للمنعم والدليل عليه ان ماكان متمما لهذا الحد وهو سقوط الشهادة كان حقا لله تعالى فكذلك أصل الحد ولكن قد بينا ان فيه معنى حق العبد أيضا فلهذا تعتبر خصومته وطلبه ولهذا لا يعمل فيه الرجوع عن الاقرار لان الخصم مصدق له في الاقرار مكذب له في الرجوع بخلاف ما كان محض حق الله تعالى فان هناك ليس من يكذبه ولهذا يقام بحجة البينة بعد التقادم لعدم تمكن الشهود من اداء الشهادة قبل طلب المدعى فلا يصيرون متهمين بالضغينة ولهذا يقام على المستأمن لانه لما كان للعبد حق الخصومة والطلب به والمستأمن ملتزم لحقوق العباد فيقام عليه إذا ثبت هذا الاصل فنقول بعفوه لا يسقط عندنا ولانه انما يملك اسقاط ما يتمحض حقا له فأما حق الله تعالى لا يملك اسقاطه وان كان للعبد فيه حق كالعدة فانها لا تسقط باسقاط الزوج لما فيها من حق الله تعالى وقد روى مثل مذهبنا عن على رضى الله عنه ولكن الحد وان لم يسقط بعفوه فإذا ذهب العافى لا يكون للامام ان يستوفى لما بينا ان الاستيفاء عند طلبه وقد ترك
[ 111 ] الطلب الا أنه إذا عاد فطلب فحينئذ يقيم الحد لان عفوه كان لغوا فكأنه لم يخاصم إلى الآن ولو صدقه فيما قال أوقال شهودي شهدوا بالباطل فليس له ان يخاصم في شئ لانه إذا أكذب شهوده تبطل شهادتهم كالمسروق منه إذا أكذب شهوده وإذا صدقه فقد صار مقرا بالزنا وانعدم به احصانه وقذف غير المحصن لا يوجب الحد فباقراره ينعدم السبب الموجب للحد لا انه يسقط فاما بعفوه لا ينعدم السبب وما أسقطه حق الشرع فكان اسقاطه لغوا لهذا (قال) ويستحسن للامام ان يقول للطالب قبل اقامة البينة أترك هذا وانصرف لان الحد لم يثبت عنده بعد وهذا نوع احتيال منه لدرء الحد وهكذا في السرقة يستحب له أن يقول للمسروق منه اترك دعوى السرقة قبل ان نثبت السرقة بالبينة (قال) ولو قذف جماعة في كلمة واحدة أو في كلمات متفرقة لايقام عليه الاحد واحد عندنا وعند الشافعي ان قذفهم بكلام واحد فكذلك الجواب وان قذفهم بكلمات متفرقة يحد لكل واحد منهم لانه حق المقذوف عنده فلا يجرى فيه التداخل عند اختلاف السبب وعندنا المغلب فيه حق الله تعالى وهو مشروع للزجر فيجرى فيه التداخل كسائر الحدود وكذلك ان حضر بعضهم للخصومة ولم يحضر البعض فاقيم الحد بخصومة من حضر فعلى مذهبه إذا حضر الغائب وخاصم يقام عليه الحد لاجله أيضا وعندنا لايقام إذا علم أنه قذفه بالزنا قبل اقامة الحد عليه لان حضور بعضهم للخصومة كحضور جماعتهم وما هو المقصود قد حصل وهو دفع العار عن المقذوف بالحكم بكذب القاذف (قال) ولا يقبل في القذف كتاب القاضى إلى القاضى ولا الشهادة على الشهادة ولا شهادة النساء مع الرجال لان موجبه حد يندرئ بالشبهات وتجوز شهادة القاذف بعدما ضرب بعض الحد وإذا كان عدلا لان رد شهادته من تتمة الحد فلو ثبت قبل كمال الجلد لم يكن متمما للحد ولان الله تعالى عطف رد الشهادة على الجلدات والمعطوف لا يسبق المعطوف عليه (قال) رجل قال لامرأته زنيت مستكرهة أو قال جامعك فلان جماعا حراما أو زنيت ؟ وانت ؟ صغيرة لاحد عليه لانه نسبها إلى فعل غير موجب للحد عليها وقد بينا ان وجوب الحد على القاذف بنسبة المقذوف إلى فعل موجب للحد عليه ثم المستكرهة لافعل لها وقوله جامعك جماعا حراما ليس بصريح بالقذف بالزنا وقوله زنيت وأنت صغيرة محال شرعا لان فعل الصغيرة لا يكون زنا شرعا الا ترى انها لا تأثم به فهو كقوله زنيت قبل ان تولدي وذلك غير موجب للحد لان الشين بهذا الكلام يلحق القاذف دون
[ 112 ] المقذوف وإقامة الحد لدفع العار عن المقذوف وان قال زنيت وأنت كافرة وقد أسلمت أو قال زنيت وأنت أمة وقد أعتقت فعليه الحد لدفع العار عن المقذوف لانه نسبها إلى فعل موجب للحد عليها فان فعل الذمية والامة زنا ويحدان على ذلك ولو قال قذفتك بالزنا وأنت كتابية أو أمة فلا حد عليه لانه ما نسبها إلى الزنا بهذا الكلام بل أقر على نفسه أنه قذفا في حال لو علمنا منه القذف في تلك الحالة لم يلزمه الحد فكان منكرا للحد لا مقرابه ويضرب في حد القذف ضربا ليس بشديد مبرح وهكذا في سائر الحدود لان المستحق فعل مؤلم لامتلف فالشديد المبرح متلف فعلى الجلاد أن يتحرز عن ذلك (قال) رجل قذف ميتا بالزنا فعليه الحد لان وجوب الحد باعتبار احصان المقذوف والموت يقرر احصانه ولا ينفيه ثم الخصومة في هذا القذف إلى من ينسب إلى الميت بالولاد أو ينسب إليه الميت بالولاد ولانه يلحقهم الشين بذلك وحق الخصومة لدفع العار فمن يلحقه الشين به كان له أن يخاصم باقامة الحد عليه (قال) وليس لاخيه أن يخاصم في ذلك عندنا وعند ابن أبى ليلي له ذلك لان للاخ علقة في حقوقه بعد موته كالولد ألا ترى أنه في القصاص يخلفه فكذا في حد القذف ولكنا نقول الخصومة هنا ليست بطريق الخلافة فان حد القذف لا يورث ليخلف الوارث المورث فيه وانما الخصومة لدفع الشين عن نفسه والاخ لايلحقه الشين بزنا أخيه لانه لا ينسب أحد الاخوين إلى صاحبه وانما نسبة زنا الغير باعتبار نسبته إليه بخلاف الآباء والاولاد (قال) ولولد الولد أن يأخذ بذلك كما للولد ذلك قال وفى كتاب الحدود الاختلاف فيمن يرث ويورث ولا معتبر بهذه الزيادة لان المطالبة بالحد ليس بطريق الوراثة الا أن محمدا رحمه الله تعالى روى عنه أنه ليس لولد الابنة حق الخصومة في هذا الحد لانه منسوب إلى أبيه لا إلى أمه فلا يلحقه الشين بزنا أبى أمه وفي ظاهر الرواية النسب يثبت من الطرفين ويصير الولد به كريم الطرفين ولو قذف أمه كان له أن يخاصم باعتبار نسبته إليها ليدفع به عن نفسه فكذلك إذا قذف أبا أمه وقال زفر رحمه الله تعالى مع بقاء الولد ليس لولد الولد ان يخاصم لان الشين الذى يلحق الولد فوق ما يلحق ولد الولد فصار ولد الولد مع بقاء الولد كالولد مع بقاء المقذوف واعتبر هذا بطلب الكفاءة فانه لا خصومة فيه للابعد مع بقاء الاقرب ولكنا نقول حق الخصومة باعتبار ما لحقه من الشين بنسبته إليه وذلك موجود في حق ولد الولد كموجوده في حق الولد فايهما خاصم يقام ؟
[ 113 ] الحد بخصومته بخلاف المقذوف فان حق الخصومة له باعتبار تناول القاذف من عرضه وذلك لا يوجد في حق ولده (قال) ولولد الكافر والمملوك ان يأخذ بالحد كما يأخذ به الولد الحر المسلم وعند زفر ليس له ذلك لان الكافر والمملوك لو قذف في نفسه لم يجب الحد على قاذفه فإذا قذف في أبيه وأمه أولى ولكنا نقول الحد وجب لحق الله تعالى وخصومة الولد باعتبار الشين الذى لحقه وذلك موجود في حق الولد الكافر والمملوك لان النسبة لا تنقطع بالرق والكفر وانما تنعدم الخلافة ارثا بالكفر والرق فيما هو من حق الميت وحد القذف ليس من ذلك في شئ وهذا بخلاف ما إذا قذف في نفسه لان الموجب للحد قذف المحصن والعبد والكافر ليس بمحصن اما هنا تم سبب وجوب الحد وهو قذف المحصن إذا لميت محصن فكل من يلحقه الشين بهذا القذف فهم خصم في المطالبة بالحد بعد تقرر سببه (قال) وان كان المقذوف حيا غائبا ليس لاحد من هؤلاء أن يأخذ بحده عندنا وقال ابن أبى ليلى رحمه الله تعالى الغائب كالميت لان خصومة تتعذر لغيبته كما هو متعذر بعد موته ولكنا نقول ينوب أو يبعث وكيلا ليخاصم والخصومة باعتبار تناول العرض أصل فما لم يقع اليأس عنه لا يعتبر بالخصومة باعتبار الشين وفى الميت الخصومة باعتبار تناول العرض مأيوس عنه فيقام الحد بخصومة من يلحقه الشين بخلاف الغائب فان مات هذا الغائب قبل أن يرجع لم يأخذ وليه أيضا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لان المغلب عنده حق العبد فيصير موروثا عن المقذوف بعد موته لورثته وعندنا المغلب حق الله تعالى فلا يورث عملا بقوله ﷺ لا يجرى الارث فيما هو من حق الله تعالى ولان الارث خلافة الوارث المورث بعد موته في حقه والله تعالى يتعالى عن ذلك (فان قيل) فحق لله تعالى لا يسقط أيضا بموت المقذوف (قلنا) لانقول سقط بموته ولكنه يتعذر استيفاؤه لانعدام شرطه فالشرط خصومة المقذوف ولا يتحقق منه الخصومة بعد موته (فان قيل) كان ينبغى أن يقوم الوارث مقامه في خصومته أو وصيه ان أوصى بذلك إلى انسان (قلنا) شرط الحد معتبر بسببه فكما أن ما يقوم مقام الغير لا يثبت به سبب الحد فكذلك لا يثبت به شرط الحد بخلاف ما إذا قذف بعد الموت لانا لانقول خصومة ولده تقوم مقام خصومته وكيف يقال ؟ ذلك ولا يورث ذلك ولا يثبت له حق الخصومة بعد موته ولكن الولد خصم عن نفسه باعتبار ما لحقه من الشين فأما في حال الحياة لم يثبت للولد حق الخصومة فلو ثبت بعد الموت
[ 114 ] كان بطريق القيام مقامه وذلك لا يكون في الحدود (قال) ولو وكل الغائب من يطلب بحده صح التوكيل في قول أبى حنيفة ومحمد وهو قول أبى يوسف الاول رحمهم الله تعالى ثم رجع وقال لا أقبل الوكالة في حد ولا قصاص لان خصومة الوكيل تقوم مقام الموكل وشرط الحد لا يثبت بمثله ولان بالاجماع لا يصح التوكيل باستيفاء الحد والقصاص لانها عقوبة تندرئ بالشبهات فكذلك في الاثبات كما في الحدود التى هي حق لله تعالى وهما يقولان الاثبات من جملة ما إذا وقع الغلط فيه أمكن التدارك فيه وتلافيه والتوكيل في مثله صحيح كالاموال بخلاف الاستيفاء فانه إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه ولو استوفاه الوكيل في حال غيبة الموكل كان استيفاؤه مع تمكن الشبهة لجواز أن من له القصاص قد عفي وان المقذوف قد صدق القاذف أو أكذب شهوده وهذا لا يستوفى بحضرة الوكيل حال غيبة الموكل (قال) فان مات المقذوف بعد ما ضرب القاذف بعض الحد فانه لايقام عليه ما بقي اعتبارا للبعض بالكل وكذلك ان غاب بعد ما ضرب بعض الحد لم يتم الا وهو حاضر ألا ترى أنه لو عمى الشهود أو فسقوا بعدما ضرب بعض الحد درئ عنه ما بقي (قال) والقذف بأى لسان كان بالفارسية أو العربية أو النبطية يوجب الحد بعد أن يكون بصريح الزنا لان المقصود دفع الشين وذلك لا يختلف باختلاف الالسن رجل فان لرجل يا زانية لاحد عليه في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا وفى القياس عليه الحد وهو قول محمد رحمه الله تعالى ورواية عن أبى يوسف رحمه الله تعالى ولو قال لامرأة يا زاني فعليه الحد بالاتفاق لوجهين أحدهما أن الايجاز والترخيم معروف في لسان العرب قال القائل * أصاح تري برقا أريك وميضه * معناه يا صاحب وقرئ ونادوا يا مال أي مالك وهذا أيضا حذف آخر الكلام للترخيم فلا يخرج به من أن يكون قذفا لها ألا ترى إلى قول امرئ القيس أفاطم مهلا أي يا فاطمة ولان الاصل في الكلام التذكير وإلحاق هاء التأنيث للفصل والفصل هنا حاصل بالاشارة حاصل بالاشارة فلا يخرج باسقاط حرف التأنيث من أن يكون قذفا لها واستدل في الاصل بقوله تعالى إذا جاءك المؤمنات وقال نسوة في المدينة فأما إذا قال يا زانية فمحمد رحمه الله تعالى يقول صرح بنسبته إلى الزنا وزاد حرف الهاء فتلغو الزيادة ويبقى قاذفا له ملتزما للحد ولان في لسان العرب إلحاق هاء التأنيث بآخرالكلام للمبالغة في الوصف فانهم يقولون نسابة وعلامة ورواية للشعر وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله
[ 115 ] تعالى يقولان هو كذلك ولكن المقصود هو المبالغة في الوصف بعلم ذلك الشئ فكأنه قال أنت أكثر الناس علما بالزنا أو أعلم الناس بالزنا وهكذا لا يكون قذفا موجبا للحد ثم نسبه إلى فعل لا يتحقق ذلك منه لان الزانية هي الموطوءة الممكنة من فعل الزنا والرجل ليس بمحل لذلك فقذفه بهذا اللفظ نظير قذف المجبوب وذلك غير موجب للحد بخلاف ما إذا قال لامرأته يا زانى لانه نسبها إلى مباشرة فعل الزنا وذلك يتحقق منها بان تستدخل فرج الرجل في فرجها (قال) وإذا ادعي القاذف أن له بينة على تحقيق قوله أجل ما بينه وبين قيام القاضى من مجلسه من غير أن يطلق عنه وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى يستأنى به ويمهل إلى المجلس الثاني ليحضر شهوده لان القذف موجب للحد بشرط عجزه عن اقامة أربعة من الشهداء والعجز لا يتحقق لا بالامهال ألا ترى أن المدعى عليه إذا ادعى دفعا أو طعنا في الشهود يهمل إلى المجلس الثاني ليأنى به فهذا مثله وجه ظاهر الرواية ان سبب وجوب الحد ظهر عند القاضي فلا يكون له أن يؤخر الاقامة لما فيه من الضرر على المقذوف بتأخير دفع العار عنه ولكن إلى آخر المجلس لا يكون تأخير فلا يتضرر بذلك القدر ألا ترى أنه يؤخر إلى أن يحضر الجلاد فلهذا جوزنا له أن يمهله إلى آخر المجلس من غير ان يطلق عنه ولكن يقول له ابعث إلى شهودك وذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى إذا لم يكن له من يحضر شهوده أطلق عنه وبعث معه بواحد من شرطه ليرده عليه وهذا لان كل واحد لا يجد نائبا والقاضى مأمور بالنظر من كل جانب ولكن لم يعتبر هذا في ظاهر الرواية لانه إذا لم يحضر الشهود بقى ستر العفة على المقذوف وذلك أولى الوجهين (قال) ولا يقبل منه أقل من أربعة شهود لقوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وقال تعالى فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فان جاء بهم فشهدوا على المقذوف بزنا متقادم درأت الحد عن القاذف استحسانا والقياس ان الشهادة على الزنا بعد التقادم لا تكون مقبولة فوجودها كعدمها الا أنه استحسن فقال انما لاتقبل الشهادة على الزنا بعد التقادم لتوهم الضغينة وذلك معتبر في منع وجوب الحد على المشهود عليه لافى اسقاط الحد عن القاذف كما لو أقام أربعة من الفساق على صدق مقالته وان جاء بثلاثة فشهدوا عليه بالزنا وقال القاذف انا رابعهم لم يلتفت إلى كلامه ويقام عليه وعلي الثلاثة الحد لانه خصم ملتزم للحد فلا يكون شاهداو بالثلاثة لا تتم الحجة فكانوا قذفة يحدون جميعا (قال) وان شهد رجلان أو رجل وامرأتان على اقرار المقذوف بالزنا يدرأ
[ 116 ] الحد عن القاذف وعن الثلاثة لان الثابت من اقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وليس المقصود من اثبات الاقرار هنا اقامة الحد على المقر لان الاقرار لا يثبت بحجة البينة موجبا للحد وان كثر الشهود فانه في الحال منكر ولو سمعنا اقراره ثم رجع عنه لم يقم عليه الحد فكيف يثبت اقراره بالبينة ولكن المقصود اسقاط الحد وذلك يثبت مع الشبهات بخلاف مااذا شهد الشاهدان على زنا المقذوف لان موجب تلك الشهادة الحد على الزانى إذا تم عدد الشهود فلهذا لا يكون للمثنى شهادة في ذلك (قال) ومن قذف الزاني بالزنا فلاحد عليه عندنا سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنا آخر أو مبهما وحكى عن إبراهيم وابن أبي ليلي رحمهما الله تعالى أنه ان قذفه بغير ذلك الزنا أو بالزنا مبهما فعليه الحد لان الرمي موجب للحد الا ان يكون الرامى صادقا وانما يكون صادقا إذا نسبه إلى ذلك الزنا بعينه ففي ما سوى ذلك فهو كاذب ملحق الشين به ولكنا نقول رمى المحصن موجب للحد بالنص قال تعالى والذين يرمون المحصنات والمحصن لا يكون زانيا فقاذف الزانى بالزنا قاذف غير المحصن وهو صادق في نسبته إلى أصل فعل الزنا فلا يكون ملتزما للحد (قال) وإذا وطئ الرجل امرأة وطءا حراما فهو على وجهين اما ان يكون وطؤه هذا في الملك اوفى غير الملك اما في الملك فان كانت الحرمة بعارض على شرف الزوال لم يسقط به احصانه كوطئ امرأته الحائض والمجوسية أو التى ظاهر منها أو المحرمة أو أمته التي زوجها أوهى في عدة من غيره لان ملك الحل قائم ببقاء سببه والمحرم هو الاستمتاع وهو نظيره وطئ امرأته المريضة إذا كانت تستضر بالوطئ وهذا لان مع قيام الملك بالمحل لا يكون الفعل زنا ولافى معناه فأما إذا كانت محرمة عليه على التأبيد كأمته التى هي اخته من الرضاع فانه يسقط بوطئها احصانه في ظاهر المذهب وذكر الكرخي رحمه الله تعالى انه لا يسقط به الاحصان لان حرمة الفعل مع قيام الملك الذى هو مبيح وهو نظير ما سبق وجه ظاهر الرواية ان بين الحل والحرمة في المحل منافاة ومن ضرورة ثبوت الحرمة المؤبدة انتفاء الحل فالسبب لا يوجب الحكم الافي محل قابل له وإذا لم يكن المحل قابلا للحل في حقه لا يثبت ملك الحل فكان فعله في معنى الزنا ولو وطئ مكاتبته لم يسقط به احصانه عندنا وعند زفر رحمه الله وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى يسقط لان المكاتبة غير مملوكة له وطءا بدليل أنه يلزمه العقر بوطئها والوطئ في غير الملك يسقط الاحصان ولان المكاتبة مملوكة
[ 117 ] له رقالا يدا فهي بمنزلة الامة المشتركة ووطئ المشتركة مسقط للاحصان ولكنا نقول ملكه في المكاتبة قائم والحرمة بعارض على شرف الزوال فهو نظير الامة المزوجة وبأن يلزمه العقر لا يدل على أنه يسقط به الاحصان كالزوجة (قال) فان وطئ أمته التى هي محرمة عليه بوطئ أبيه اياها أو بوطئه أمها يسقط احصانه لان في المصاهرة حرمة مؤبدة فهو نظير حرمة الرضاع فأما إذا نظر إلى فرج امرأة أو أمة بشهوة ثم اشترى أمها أو ابنتها أو تزوجها فوطئها فقذفه رجل حد قاذفه في قول أبى حنيفة رحمه الله ولم يحد في قولهما لانها محرمة عليه على التأبيد فان اللمس والتقبيل يثبت حرمة المصاهرة فلا معني لاعتبار اختلاف العلماء فيه كالزنا فان أباه لو زنى بأمة ثم اشتراها هو فوطئها يسقط احصانه وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا مختلف فيه بين العلماء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كثير من الفقهاء لا يرون اللمس والتقبيل موجبا للحرمة وليس في اثبات الحرمة نص ظاهر بل نوع احتياط أخذنا به من حيث اقامة السبب الداعي إلى الوطئ مقام الوطئ وبمثل هذا الاحتياط لا يسقط الاحصان الثابت بيقين بخلاف المزني بها فان في ثبوت حرمة المصاهرة بالوطئ نص وهو قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فقد قامت الدلالة لنا أن النكاح حقيقة للوطئ ومع وجود النص لا يعتبر اختلاف العلماء وأما الوطئ في غير الملك مسقط للاحصان على كل حال وكذلك في الاب يطأ جارية ابنه (قال) وإذا تزوج امرأة بغير شهودا أو في عدة من زوج أو تزوجها وهى مجوسية ووطئها سقط به احصانه لان العقد الفاسد غير موجب للملك والوطئ في غير الملك في معنى الزنا وكذلك إذا تزوج أمة على حرة أو تزوج أختين أو أمرأة وعمتها في عقد واحد فبالوطئ بحكم هذه العقود الفاسدة يسقط الاحصان وكذلك إذا تزوج امرأة فوطئها ثم علم أنها كانت محرمة عليه بالمصاهرة وهذا قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وأما عند أبى يوسف رحمه الله إذا كان عالما عند الوطئ بأنها غير مملوكة سقط احصانه وان لم يكن معلوما له لا يسقط احصانه وهو رواية عن محمد لان في الظاهر هذا الوطئ حلال بدليل أنه لا يأثم به وجه قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أنه معذور لجهله من حيث الظاهر فأما الوطئ فغير مملوك له في الحقيقة بل هو في معني الزنا فيكون مسقطا لاحصانه (قال) وان ملك أختين فوطئهما حد قاذفه لان هذا وطئ في الملك والحرمة بعارض على شرف الزوال ألا ترى أنه لو أخرج احداهما عن ملكه حل له وطئ الاخرى وبمثل هذا الوطئ لا يسقط
[ 118 ] الاحصان فان وطئ المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث لم يحد قاذفه لان هذا وطئ في غير الملك وان وطئ امرأة مستكرهة لم يحد قاذفه ولاقاذفها لان هذا وطئ غير مملوك وعند الاكراه وان كان يسقط الاثم عنها فلا يخرج من ان يكون الفعل زنا فلهذا سقط احصانها وان وطئ جارية ابنته أو أحد أبويه أو أخته ثم ادعي ان مولاها باعها منه ولم يكن له بينة فلا حد على قاذفه وكذلك ان أقام شاهدا واحدا على الشراء لان سبب ملك الحل لا يثبت بالشاهد الواحد فيكون وطؤه في غير الملك وهو مسقط للاحصان فان زنى في حالل كفره في دار الحرب أو في دار الاسلام ثم أسلم فقذفه انسان لم يحد قاذفه لان فعل الزنا يتحقق من الكافر وان كان لايقام به الحد عليه فيكون قاذفه صادقا في مقالته وان باشر امرأة حراما وبلغ كل شئ منها سوى الجماع فقذفه قاذف فعليه الحد لان سقوط الاحصان بالوطئ فان المسقط للاحصان الزنا أو ما في معناه واللمس والتقبيل ليس في معني الزنا (قال) مجنون زنى بامرأة مطاوعة أو مستكرهة ثم قذف المجنون أو المرأة قاذف فلا حد على قاذفه اما المرأة فلوجود الوطئ منها في غير الملك واما المجنون فان قذفه بعد الافاقة لم يحد لان الوطئ الذى هو غير مملوك قد تحقق من المجنون وهو مسقط للاحصان وان قذفه في حال جنونه فقاذف الصبى والمجنون لا يحد لان احصان المقذوف شرط والاحصان عبارة عن خصال حميدة فأول ذلك كمال العقل وذلك ينعدم بالصغر والجنون ولان الحد لدفع الشين عن المقذوف والشين بقذف الصبى والمجنون يلحق القاذف دون المقذوف وكذلك المملوك لا يكون محصنا لقوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فهو بيان ان المملوك لا يكون محصنا وان كان المملوك هو القاذف فعليه نصف حد الحر للآية (قال) ولاحد على قاذف الكافر لان الاسلام من شرائط الاحصان قال ﷺ من أشرك بالله فليس بمحصن وعلى الذمي في قذف المسلم حد كامل لان المسلم محصن يلحقه الشين بقذفه والقاذف مع كفره حر فعليه حد الاحرار ثمانون جلدة والذى يجن ويفيق في حال افاقته محصن ولا يحد قاذف الاخرس لانه لو كان ينطق ربما يقر بما يكون فيه من تصديق القاذف ولا يقام الحدمع الشبهة ولاحد على قاذف المجبوب والرتقاء لانه لا يحلقه الشين فان الزنا منهما لا يتحقق ويلحق الشين القاذف في هذا القذف (قال) والقاذف من أهل البغى متي قذف رجلا من أهل العدل في عسكرهم أوفى عسكر أهل الحرب أو قذف رجل من أهل الحرب رجلا
[ 119 ] منهم لم يحدوا حد منهم لانه ارتكب السبب وهو ليس تحت ولاية الامام وقد بينا ان ولاية الاستيفاء انما تثبت ؟ للامام إذا ارتكب السبب وهو تحت ولايته وبدون المستوفى لا يجب الحد (قال) ولو دخل حربى دارنا بأمان فقذف مسلما لم يحد في قول أبي حنيفة رحمه الله الاول لان المغلب في هذا الحد حق الله تعالى ولانه ليس للامام عليه ولاية الاستيفاء حين لم يلتزم شيئا من أحكام الاسلام بدخوله دارنا بأمان ويحد في قوله الآخر وهو قولهما فان في هذا الحد معنى حق العبد وهو ملتزم حقوق العباد ولانه بقذف المسلم يستحف به وما أعطى الامان على ان يستخف بالمسلمين ولهذا يجبر على بيع العبد المسلم فكذلك يحد بقذف المسلم (قال) وكل شئ أو جبنا فيه الحد على الأجنبي فانه إذا قال ذلك لامرأته وهما حران مسلمان فعليهما اللعان لان اللعان موجب قذف الزوج زوجته بالنص وقد بيناه في باب اللعان (قال) وان قال لامرأته زنيت قبل أن أتزوجك لاعنها لانه قاذف لها في الحال بخلاف ما لو قال كنت قذفتك بالزنا قبل أن أتزوجك فانه يحد لانه ما صار قاذفا لها بكلامه بعد النكاح وانما ظهر بكلامه قذف كان قبل النكاح فكأنه ظهر ذلك بالبينة فعليه الحد (قال) وان قال لاجنبية يا زانية فقالت زنيت بك لاحد على الرجل لها وتحد المرأة للرجل لانها صدقته بقولها زنيت فصارت قاذفة للرجل بقولها زنيت بك فعليها الحد له (قال) ولو قال ذلك لامرأته فقالت زنيت بك فلا لعان ولاحد لانها صدقته فسقط اللعان بتصديقها ولم تصر قاذفة له لان فعل المرأة بزوجها لا يكون زنا (قال) ولو قالت المرأة لزوجها مبتدئة زنيت بك ثم قذفها الزوج بعد ذلك لم يكن عليه حد ولالعان لوجود الاقرار منها بقوله زنيت (قال) رجل قال لآخر يا فاسق يا خبيث أو يا فاجر أويابن الفاجر أويابن القحبة فلا حد عليه لانه ما نسبه ولا أمه إلى صريح الزنا فالفجور قد يكون بالزنا وغير الزنا والقحبة من يكون منها ذلك الفعل فلا يكون هذا قذفا بصريح الزنا فلو أوجبنا به الحد انما يوجب بالقياس ولا مدخل للقياس في الحد ولو قال يا آكل الربا أو يا خائن أو يا شارب الخمر لاحد عليه في شئ من ذلك ولكنه عليه التعزير لانه ارتكب حراما وليس فيه حد مقدر ولانه ألحقه نوع شين بما نسبه إليه فيجب التعزير لدفع ذلك الشين عنه ولو قال يا حمار أو يا ثور أو يا خنزير لم يعزر في شئ من ذلك لان من عادة العرب اطلاق هذه الالفاظ بمعنى البلادة أو الحرص ولا يريدون به الشتيمة ألا ترى أنهم يسمون به فيقال عياض بن حمار وسفيان الثوري ولان
[ 120 ] المقذوف لايلحقه شين بهذا الكلام وانما يلحق القاذف فكل أحد يعلم أنه آدمى وليس بحمار وان القاذف كاذب وكذلك لو قال يا كلب وحكي عن الهندوانى أنه قال يعزر في عرف ديارنا لان هذا اللفظ فينا يذكر للشتيمة والاصح انه لا يعزر لان من عادة العرب اطلاق هذا الاسم لمعني المبالغة في الطلب وقلة الاستحياء فقد يسمون به كالكلبي ونحوه ثم كل أحد يعلم أنه كاذب فالشين يلحقه دون المقذوف (قال) وإذا قال له فجرت بفلانة وجامعتها أو فعلت بها فسمى الفحش لم يكن عليه في ذلك حد لانه ما صرح بالقذف بالزنا وفى الاسباب الموجبة للحد يعتبر عين النص فما لم يقذفه بصريح الزنا لا يتقرر السبب (قال) وإذا عرض بالزنا فقال أما أنا فلست بزان فلاحد عليه عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى يحد والاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم فعمر رضي الله عنه كان لا يوجب الحد في مثل هذا ويقول في حال المخاصمة مع الغير مقصوده بهذا اللفظ نسبة صاحبه إلى الشين وتزكيته لنفسه لا أن يكون قذفا للغير أخذنا بقوله لانه ان تصور معنى القذف بهذا اللفظ فهو بطريق المفهوم والمفهوم ليس بحجة (قال) فان قال قد اخبرت أنك زان فلاحد عليه لانه ما نسبه إلى الزنا انما حكى خبر مخبر والخبر قد يكون صدقا وقد يكون كذبا فالمخبر يكون حاكيا للقذف عن الغير لا قاذفا وان قال اذهب فقل لفلان انك زان فالمرسل لا يكون قاذفا له بهذا لانه أمر الغير ان يقذفه وبالامر لا يصير قاذفا كما انه بالامر بالقتل لا يكون قاتلا فان ذهب الرسول وحكي كلام المرسل على وجه تبليغ الرسالة لاحد عليه لانه حاك كلام الغير وان قال الرسول أنت زان فعليه الحد لانه قاذف له بالزنا وكذلك لو قال أشهدني رجل على شهادته بأنك زان فهو انما ذكر شهادة الغير اياه فيكون قاذفا (قال) وإذا قال للعبد يا زانى فقال لابل أنت حد العبد لان قوله لابل أنت معناه بل أنت الزانى فان كلمة لابل لاستدراك الغلط وهو غير مفهوم المعنى بنفسه فلابد من أن يجعل ما تقدم معادا فيه فصار كل واحد منهما قاذفا لصاحبه ولكن الحد لا يجب على الحر بقذف العبد ويجب على العبد يقذف الحر وان كانا حرين فعلى كل واحد منهما الحد لصاحبه (قال) وان قال لرجل يا زانى فقال رجل آخر صدقت لم يحد المصدق لانه ما صرح بنسبته إلى الزنا وتصديقه اياه لفظ محتمل يجوز أن يكون المراد به في الزنا وفى غيره وان كان باعتبار الظاهر انما يفهم منه التصديق في الزنا ولكن هذا الظاهر لا يكفي لايجاب الحد الا أن يكون
[ 121 ] قال صدقت هو كما قلت فحينئذ قد صرح بكلامه ان مراده التصديق في نسبته إلى الزنا فيكون قاذفا له (قال) وان قال لرجل أشهد انك زان وقال الآخر وأنا أشهد أيضا لاحد على الآخر لان قوله أشهد كلام محتمل فلا يتحقق به القذف الا أن يقول أنا أشهد عليه بمثل ما شهدت به فحينئذ يكون قاذفا له (قال) وان قال الرجل لرجل زني فرجك فعليه الحد لان الفرج عبارة عن جميع البدن ولان الزنا يكون بالفرج بخلاف قوله زنى يدك أو رجلك (قال) وان قال لامرأة يا زانية ثم قال بعدما قطع كلامه وأنت مستكرهة لم يسقط الحد عنه بخلاف مالو وصله بكلامه فقال زنيت وانت مستكرهة لان هذا بيان مغير حكم أول الكلام ومثله يصح موصولا لا مفصولا كالاستثناء (قال) وان قال الرجل لآخر زنيت أنت وفلان معك فهو قاذف للثاني لانه عطف الثاني على الاول والعطف للاشراك في الخبر وقد أكد ذلك بقوله معك ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر وفلان معك عتقا جميعا فان قال عنيت أن فلانا معك شاهد لم يصدق الا أن يصرح بذلك لانه أضمر خبرا آخر للثاني وموجب العطف الاشتراك في الخبر الاول فلا يصدق في اضمار خبر آخر للثاني فلا يسقط به الحد عنه (قال) وان قال لرجل يا ولد الزنا أو يابن الزنا فعليه الحد لانه قذف أمه بهذا اللفظ فان ولد الزنا من تكون أمه زانية وقد بينا أن قذف الميتة يوجب الحد ولولدها أن يطالب بجده الا أنه يشترط اثبات احصان الام وموتها لانها إذا كانت غير محصنة فلاحد على قاذفها وإذا كانت حية فلا خصمومة للولد مع قاذفها (قال) وكذلك ان قال ليست لابيك فعليه الحد لانه قذف أمه بهذا فان الولد من الزنا لا يكون ثابت النسب من أبيه فأما الوطئ إذا لم يكن زنا يكون مثبتا للنسب فعرفنا أن بهذا اللفظ قذف أمه فإذا كانت حرة مسلمة فعليه الحد وفى القياس لاحد عليه لانه يجوز أن لا يكون ثابت النسب من أبيه ؟ من غير أن تكون الام زانية بأن كانت موطوءة بشبهة ولدت في عدة الوطئ ولكنا تركنا هذا القياس لحديث ابن مسعود رضى الله عنه حيث قال لاحد الا في قذف محصنة أو نفي رجل عن أبيه ولانها إذا وطئت بالشبهة فولدها يكون ثابت النسب من انسان وانما لا يكون الولد ثابت النسب من الاب إذا كانت هي زانية فعرفنا أنه بهذا اللفظ قاذف لامه (قال) وان قال انك ابن فلان لغير ابيه فعليه الحد إذا كانت هذه اللفظة في حالة المسابة ؟ لان مقصوده نفي نسبه من أبيه ونسبة أمه إلى الزنا إذا لم يعرف بين أمه وبين فلان الذى نسبه
[ 122 ] إليه سبب ذلك ولكن في حالة الرضا لا يجب الحد عليه لان مراده من هذا اللفظ في حالة الرضا ان أخلاقك تشبه أخلاق فلان فكانك ابنه فهذا لا يكون قذفا (قال) وان قال لست بابن فلان يعنى جده لا يحد لانه صادق في مقالته فانه ابن ابنه الادنى حقيقة ونسبته إلى الجد بطريق المجاز ألا ترى أنه يستقيم نفي اسم الابوة عن جده فيقال انه جده وليس بأبيه فان نسبه إلى جده فلا حد عليه لان الولد كما ينسب إلى أبيه حقيقة ينسب إلى جده مجازا ألا ترى أنه يقال بنو آدم وآدم جدهم الاعلى عليه السلام وكذلك لو نسبه إلى عمه أو خاله فان العم بمنزلة الاب قال تعالى قالوا نعبد الهك واله آبائك إبراهيم واسمعيل واسحاق وهو كان عما وقال ﷺ الرجل صنو أبيه وكذلك الخالة سماها رسول الله ﷺ أما فيكون الخال أبا أيضا قال القائل * وخال بني العباس والخال كالاب * وكذلك لو نسبه إلى زوج أمه قال تعالى وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم وفي العادة زوج الام يقول لولد امرأته هو ولدى باعتبار أنى أربيه والناس يسمونه ابنا له أيضا وان كان ذلك مجازا ولكنه متى كان صادقا في كلامه مجازا أو حقيقة لم يكن قاذقا له وان قال لست لابيك وأمه حرة وأبوه عبد وقد ماتت فانه قاذف لامه وهى محصنة فعليه الحد وكذلك ان قال لكافر قد مات أبواه مسلمين أو لعبد وقد مات أبواه حرين لما بينا أن المقذوف بهذا اللفظ الام والمعتبر احصان المقذوف لااحصان من يطالب بالحد فان قال المولى ذلك لعبده لم يكن له أن يأخذه بحده وان عتق لان العبد مملوك له فلا يجوز ان يكون مستوجبا عليه الحد ألاتري أنه لا يقتل بقتله وعلى هذا إذا قذف الرجل امرأته بالزنا وهي ميتة فليس للابن أن يخاصم في الحد لان الابن يضاف إلى أبيه كالعبد إلى سيده ألا ترى أنه لا يقتل بقتله ولا يحد في قذفه في نفسه فكذلك في قذفه في أمه لان الاب كان سبب ايجاده فيستحيل ان يكون الولد مستوجبا عليه العقوبة بهذه الاسباب (قال) وان قال لرجل لست من بني فلان لقبيلته لا يحد لانه صادق فان بنى فلان حقيقة أولاده لصلبه وهو ليس منهم ولانه لو كان هذا قذفا فانما يكون قذفا لامرأة من تنسب إليه القبيلة وهى كانت كافرة غير محصنة وهو نظير مالو قال له جدك زان أو جدتك زانية فانه لا يكون قاذفا بهذا لان في أجداده وجداته من هو كافر فإذا لم يعين مسلما لا يكون قاذف محصن بخلاف مالو قال أنت ابن ابن الزانية لانه بهذا للفظ قاذف لامه الادنى وهى كانت محصنة فعليه الحد (قال) وان قال له يابن مزيقيا أو يابن ماء السماء
[ 123 ] أو يابن جلا فليس عليه في شئ من هذا حد لانه كلام الناس وليس على سبيل القذف ومعنى هذا ان من عادة العرب اطلاق هذا اللفظ على سبيل المدح والمعنى أنه يشبه هؤلاء في حسن الخلق أو الجود أو الجلادة فقد كانوا معروفين بذلك فيهم فلذلك لا يكون ؟ قاذفا ملتزما للحد وإذا نسب رجل رجلا إلى غير أبيه في غير غضب فلا حد عليه وان كان على سبيل الغضب والسب فعليه الحد استحسانا وفي القياس لاحد عليه في الوجهين لانه تكلم بكلام مبهم محتمل وجوها الا أنه استحسن فقال مطلق الكلام يجب تحصيله على قصد المتكلم ففي حالة الرضا مقصوده المدح بنسبته إلى جواد أو مبارز أو متبحر في العلم ألا ترى إلى ماروى ان أبا بكر رضى الله عنه كان يأخذ الحسن ويقول يا شبيها بعله وفى حالة الغضب يعلم ان مقصوده الحاق الشين به في ذكر نسبة امه إلى الزنا فإذا كان يعتبر ؟ الحال في كنايات الطلاق فكذلك في لفظ القذف ألا ترى ان المصلى إذا قال يايحى خذ الكتاب بقوة واراد القراءة لم يضره وان أراد خطاب انسان فسدت صلاته (قال) وان قال لعربى يا نبطى أو قال لعربى لسب بعربي فلا حد عليه وقال ابن أبى ليلى إذا قال لعربى يا نبطى أو قال لست من بنى فلان لقبيلته التى هو منها فعليه الحد لانه نسبه إلى غير أبيه ولكنا نقول لايراد بهذا اللفظ القذف ألا ترى أن الرجل يقول للآخر أنت رستاقى أو خراساني أو كوفى ولا يريد بشى من ذلك القذف ومذهبنا مروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن رجل قال لرجل من قريش يا نبطى فقال لاحد عليه (قال) وإذا قذف الوالد ولده لاحد عليه لانه منسوب إليه بالولاد ولا يعاقب بجنايته على نفسه وأطرافه فكذلك لا يعاقب بالتناول عن عرضه (قال) وان قذف أباه أو أمه أو أخاه أو عمه فعليه الحد لان المقذوف محصن ولو قتله القاذف قتل به فيحد بالحاق الشين بقذفه (قال) رجل قال لابنه يابن الزانية وأمه ميتة ولها ابن من غيره فجاء يطلب الحد يضرب القاذف الحد لانه قذف الام وهى محصنة ولكل واحد من الولدين حق الخصومة في الحد بنسبته إليها أن احدهما ابن القاذف والابن لا يخاصم أباه في اقامة العقوبة عليه فيكون كالمقذوف يبقى الآخر فله المطالبة بالحد وكذلك ان كان للميت المقذوف ابنان فصدق أحدهما كان للآخر أن يأخذه بالحد لان الحد واجب لحق الله تعالى والمعتبر الخصومة ممن يلحقه الشين وكل واحد منهما أصل في هذه الخصومة كانه ليس معه غيره فتصديق أحدهما لا يكون عاملا في
[ 124 ] حق الآخر وهذا بخلاف مااذا قتلت امرأة ولها ابنان فعفى أحدهما أو كان أحد الابنين لها من القاتل حيث لا يكون للآخر استيفاء القصاص لان القصاص حق العبد فكان ميراثا بين الاثنين فيسقط نصيب أحدهما اما باسقاطه أو لمعنى الابوة ويتعذر على الآخر الاستيفاء لانه لا يحتمل التجزى فأما حد القذف حق الله تعالى ولم يصر ميراثا للابنين بل المعتبر الخصومة من كل واحد منهما وحق الخصومة ثابت لكل واحد منهما بكماله توضيحة أن المقذوف هنا منكر وجوب الحد لامسقط له فإذا أثبت الآخر وجوب الحد بالحجة استوفاه الامام بخلاف العفو في القصاص وان لم يكن للمقذوف الا ابن واحد فصدقه في القذف ثم أراد أن يأخذه بالحد ليس له ذلك لانه مناقض في كلامه ومع التناقض لا تصح الدعوى فلا يقام الحد الا بخصومة معتبرة ولو كان للمقذوف ابنان أحدهما عبد أو كافر كان له أن يطالب بالحد حاضرا كان الآخر أو غائبا لما بينا أن خصومته باعتبار أنه منسوب إليها وحال الابنين في ذلك سواء (قال) رجل قذف رجلا قدام القاضي فله أن يضربه الحد وان لم يشهد به غيره لان العلم الذى يقع له بمعاينة السبب فوق العلم الذى يثبت له بشهادة الشاهدين وفى حد القذف معنى حق العبد فهو كالقصاص وسائر حقوق العباد فالقاضي يقضي في ذلك بعلمه وان علمه قبل أن يستقضي ثم استقضى فليس له أن يقيم الحد بعلمه حتي يشهد الشاهد عنده في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى له أن يقضى بعلمه لان علمه بمعاينة السبب لا يختلف بعدما قلد القضاء وقبله وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول حين عاين السبب استفاد علم الشهادة فلا يتغير ذلك بتقليد القضاء بخلاف مااذا علم وهو قاض لانه حين عاين السبب استفاد علم القضاء توضيحه أن معاينة السبب بمنزلة شهادة الشهود في الفصلين عنده ولو شهد الشاهد ان عنده قبل أن يستقضى ثم استقضى لم يكن له أن يقضى بذلك فكذلك إذا عاين السبب فأما في الحدود التى هي خالص حق الله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر فان عاين السبب في حالة القضاء فليس له أن يقضى بعلمه استحسانا وفي القياس له ذلك لان علمه بمعاينة السبب أقوى من علمه بشهادة الشهود عنده ولكنه استحسن لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه أرأيت لو لقيت رجلا على الزنا ماكنت أصنع به فقال شهادتك عليه كشهادة واحد من المسلمين فقال صدقت وروى
[ 125 ] نحو هذا عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه والمعني فيه أن الامام نائب في استيفاء ما وجب لحق الله تعالى فمن هذا الوجه يشبه الخصم ومجرد علم الخصم لا يكفي للقضاء فلا يتمكن القاضى من الاستيفاء توضيحه أنه لو سمع اقراره بذلك ثم جحد لم يكن له أن يقيم عليه الحد والمقر به في حق المقر كالمعاين بخلاف حد القذف والقصاص وروى ابن سماعة أن محمدا رحمه الله تعالى رجع عن هذا فقال لا يقضى بعلم نفسه في شئ من الحدود لانه هو المستوفى لذلك كله وإذا اكتفي بعلم نفسه اتهمه الناس فعليه أن يتحرز عن موضع التهمة (قال) رجل اشترى جارية شراء فاسدا فوطئها ثم قذفه انسان فعلى قاذفه الحد لانه ملكها بالقبض مع فساد السبب وملك الرقبة مبيح للوطئ والحرمة بعده بعارض ؟ على شرف الزوال وذلك لا يسقط احصانه بخلاف الوطئ في النكاح الفاسد لان النكاح الفاسد غير موجب للملك فان موجب النكاح ملك الحل فلا يمكن اثباته بالسبب الفاسد فيكون وطؤه في غير الملك (قال) رجل قال لرجل يابن الزانيين فعليه حد واحد لانه قذف أباه وأمه ولو كانا حبين فخاصماه لم يكن عليه الاحد واحد فكذلك إذا كانا ميتين فخاصمه الابن (قال) وان قال لست لفلان و لا لفلانة لاحد عليه لانه نفي ولادة الام اياه فان ثبوت النسب من الام بالولادة فنفي ولادتها لا يكون قذفا لها انما يكون قذفا لها إذا ذكر أنها ولدته من زنا فانما يندرج ذلك في قوله لست لابيك ولا لامك لا يندرج قذف الام يوضحه ان ولادتها اياه معاين فكل أحد يعلم بكذب القاذف في نفس ما هو معاين ولا يلحق الولد شين بهذا القذف بخلاف قوله لست لابيك فانه يلحقه الشين بنفي نسبه عن أبيه وإذا قال لم يلدك فلان لابيه لاحد عليه لانه صادق في مقالته وانما ولدته أمه لا أبوه (قال) رجل قال لامرأة زنيت ببعير أو بثور أو بحمار لاحد عليه لانه نسبها إلى التمكين من بهيمة وذلك غير موجب للحد عليها وقد بينا ان نسبته إلى فعل لا يوجب الحد على فاعله لا يكون قذفا موجبا للحد ولو قال زنيت بناقة أو ببقرة أو بثوب أو بدرهم فعليه الحد لان معنى كلامه زنيت بدرهم بدل لك وهذا افحش ما يكون من الزنا ان تكتسب المرأة بفرجها (فان قيل) بل معنى كلامه زنيت بدرهم استؤجرت عليه فينبغي أن لا يحد في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وهذا لان حرف الباء يصحب الا عواض (قلنا) هذا محتمل والبدل أيضا محتمل فتقابل المحتملان يبقي قوله زنيت فكأنه لم يزد على هذا حتى لو قال استؤجرت على الزنا بدرهم فلاحد على القاذف عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى
[ 126 ] فالحاصل أنه متى كان في آخر كلامه ما يحقق تمكينها منه جعل كلامه بمعنى التمكين وإذا لم يكن فيه احتمال ذلك جعل بمعنى البدل (قال) وان قال لرجل زنيت ببعير أو بناقة أو ما أشبه ذلك لاحد عليه لانه نسبه إلى اتيان البهيمة فان قال بأمة فعليه الحد فان قال لرجل يابن الاقطع أو يابن المقعد أو يابن الحجام وأبوه ليس كذلك ليس عليه حد لانه لايراد بمثل هذه اللفظة نفيه عن أبيه وانما يراد به وصف الاب بهذه الاوصاف كمن يقول لبصير يا أعمى أو يشبه به في الحرفة وكذلك لو قال يابن الازرق يابن الاصفر أو الاسود وأبوه ليس كذلك ألا ترى أنه لو قال يابن السندي أو يابن الحبشى لا يكون قاذفا له بهذا فالمقصود تحقيره لاقذفه بهذا اللفظ ولو قال لعربى يا عبد أو يا مولى لاحد عليه لانه صادق في مقالته فانه عبد الله وليس بقاذف له بقوله يا مولى قال تعالى واني خفت الموالى من ورائي والمراد الورثة وبنو الاعمام وكذلك لو قال لعربى يا دهقان لاحد عليه وهذا من أعجب المسائل فلفظ الدهقان فينا ؟ للمدح والتعظيم وقد ذكره من جملة القذف وهذا لان العرب كانوا يستنكفون من هذا اللفظ ولا يسمون به الا العلوج فلازالة الاشكال ذكره وبين انه ليس بقذف فان الدهقان اسم لمن له ضياع واملاك وذلك يتحقق للعرب والعجم (قال) ولو قال يا بنى لاحد عليه لان هذا اللفظ يذكر على وجه اللطف دون القذف فهو كقوله يا أخي وكذلك لو قال لرجل أنت عبدى أو مولاى فهذا دعوى الرق والولاء عليه فليس من القذف في شئ وان قال يا يهودي يا نصراني أو يا مجوسي أو يابن اليهودي لاحد عليه لان القذف بالكفر ليس في معني القذف فانه لا يشين المقذوف إذا كان اسلامه معلوما ولكنه يعزر لان نسبة المسلم إلى الكفر حرام وبارتكاب المحرم يستوجب التعزير (قال) وان قال يازانئ وأدخل فيه الهمزة وقال عنيت أنه يصعد على الجبل أو على شئ فعليه الحد ونيته باطلة لان أصل الكلمة لغة بالهمزة فذكر الهمزة يقرره ولا يخرجه من أن يكون قذفا (قال) وان قال زنأت في الجبل وقال عنيت الصعود فيه عليه الحد في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله ولاحد عليه في قول محمد فمحمد رحمه الله يقول أهل اللغة يستعملون هذا اللفظ مهموزا عند ذكر الجبل ؟ ويريدون ؟ به الصعود قال القائل * وارق إلى الخيرات زنا في الجبل * وأكثر ما فيه أن تكون الكلمة مشتركه والحد لا يجب بمثله ولكنا نقول مطلق اللفظ ؟ محمول على ما يتفاهمه الناس في مخاطباتهم والعامة
[ 127 ] لا يفهمون من هذا اللفظ الا الزنا فبهذا الطريق يلحق المقذوف الشين فيقام الحد على القاذف لدفع الشين عنه ألاتري أنه لو لم يذكر الجبل كان قاذفا ملتزما للحد بأن قال زنأت فلا يتغير بذكر الجبل كما لو قال زنيت لا يفصل بين قوله زنيت في الجبل وبين قوله بدون ذكر الجبل وكذلك لو قال زنأت على الجبل يلزمه الحد فكذلك إذا قال زنأت في الجبل الا أن محمدا رحمه الله يقول أهل اللغة إذا استعملوا الكلمة لمعني الصعود يصلون به حرف في لاحرف على ولا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما إذا كان المتكلم بهذا اللفظ لغويا ومن أصحابنا من يقول هو يصدق في أنه أراد به الصعود والاصح أنه لافرق بين اللغوى وبين غيره لان اللفظ محمول على ما هو المتعارف في عادة العوام من الناس وهو القذف بالزنا (قال) وإذا زنى المقذوف قبل أن يقام الحد على القاذف أو وطئ وطءا حراما غير مملوك فقد سقط الحد عن القاذف لان احصان المقذوف شرط فلابد من وجوده عند اقامة الحد وقد زال احصانه بهذا الوطئ وكذلك إذا ارتد المقذوف وان أسلم بعد ذلك فلا حد على القاذف لانه قد سقط الحد لزوال احصانه بالردة وكذلك ان صار معتوها ذاهب العقل أو أخرس وبقي كذلك وبالخرس لا يزول احصانه ولكن تتمكن شبهة من حيث أنه إذا كان ناطقا ربما يصدقه ولهذا شرط بقاء الخرس حتى إذا زال الخرس وطالب بالحد فله ذلك بمنزلة المريض يبرأ (قال) ومن قذف ولد ملاعنة أو ولد زنا في نفسه فعليه الحد لانه محصن عفيف وانما الذنب لابويه وفعلهما لا يسقط احصانه وان قذف أمه فلا حد عليه أما ولد الزنا فلان قاذف أمه صادق لانها زانية وأما ولد الملاعنة فان أمه ليست بمحصنة لانه كان في حجرها ولد لايعرف له والد ومثله في صورة الزانيات لا يحد قاذفه (قال) وان اختلفا شاهدا القذف في اللغة التي قذف بها من الفارسية والعربية والنبطية فشهادتهما باطلة لان اللفظ معتبر في القذف ألا ترى أنه لا يجب الحد الا بصريح الزنا وعند اختلافهما في اللغة يتمكن الاختلاف في المشهود به وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال يابن الزانية والآخر انه قال لست لابيك فقد اختلفا في اللفظ المشهود به وكذلك لو تزوج مجوسي أمه ودخل بها ثم أسلما فقذفه انسان فعليه الحد في قول ابى حنيفة رحمه الله تعالى ولاحد عليه عندهما إذا كان الدخول بحكم نكاح يتركان عليه بعد الاسلام وان كان بحيث لا يتركان عليه بعد الاسلام كالنكاح بغير شهود فعلى قاذفهم الحد وهو بناء ؟ على أن عند
[ 128 ] أبى حنيفة رحمه الله لانكحتهم حكم الصحة ما لم يسلموا وعندهما كل نكاح لا يتركان عليه بعد الاسلام فليس له حكم الصحة ولكن لا يتعرض لهم في ذلك لاعتقادهم ما لم يسلموا واعتقادهم لا يكون حجة على القاذف (قال) أربعة شهدوا على عبد أن مولاه أعتقه وأنه قد زني وهو محصن فرجم ثم رجعوا عن شهادة الزنا والعتق فعليهم ضمان القيمة للمولى لانهم أقروا عند الرجوع أنهم أتلفوا ماليته بشهادتهم عليه بالعتق وبالزنا بغير حق ويضربون الحد لاقرارهم انه كان عفيفا وبطلان معنى الشهادة من كلامهم عند رجوعهم وان شهد اثنان منهم على العتق فأعتقه ثم شهدا مع آخرين على الزنا عليه فرجم ثم رجع شاهدا العتق عن العتق ولم يرجعا عن الزنا ورجع الآخران عن الزنا فعلى شاهدى العتق جميع القيمة للمولى لان تلف المالية كان بشهادتهما عليه بالعتق وعلى الآخرين نصف الدية للورثة لانه بقي على الشهادة بالزنا من يستحق بشهادته نصف النفس فانما انعدمت الحجة في النصف فلهذا ضمن الراجعان نصف الدية وعليهما الحد وان شهد الرجلان على عتقه فأعتقه ثم شهد هو وآخر مع شاهدى العتق على رجل بالزنا فرجمه ثم رجعا عن العتق جميعا ضمنا قيمته للمولى ولم يضمنا من دية المرجوم شيئا لانه قد بقى على الشهادة بالزنا حجة تامة (فان قيل) كيف يستقيم هذا وفي زعمهما أنه عبد ولا شهادة له على الزنا (قلنا) ولو شهد أربعة على الزنا فرجم ثم ظهر ان أحد الشهود عبد لا ضمان على الشهود ولا يمكن ايجاب ضمان النفس عليهما من أجل شهادتهما بعتقه لانه مارجم لعتقه وانما رجم لزناه وقيل على قياس قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ينبغى أن يجب الضمان عليهما لانه يقول المزكى للشهود إذا رجع ضمن وهما بشهادتهما بحرية الشاهد صارا مزكيين له وقد رجعا عن التزكية فينبغي أن يجب عليهما الضمان ولكن الاصح أن لا يجب لان الشاهد على الزنا لا يصح أن يكون مزكيا للشاهد معه فلا يمكن جعل شهادتهما بالعتق تزكية للشاهد معهما على الزنا ولان قضاء القاضى بالعتق لا يبطل برجوعهما فتبقى الحجة على الزنا تامة فلهذا لم يضمنا من دية المرجوم شيئا ولاحد عليهما (قال) ولو أن صبيا زنى بصبية مطاوعة لاحد عليهما لانعدام الاهلية للعقوبة فيهما وعلى الصبي المهر في ماله لانه ضمان الفعل والصبى أسوة البالغ في المؤاخذة بضمان الفعل بحق العباد انما لا يؤخذ بضمان القول ولهذا لو كان أقر بالوطئ لا يلزمه شئ (قال) ولو زني الصبي بامرأة فأذهب عذرتها وشهد عليه الشهود بذلك فعليه المهر إذا استكرهها وان كانت دعته
[ 129 ] إلى نفسها فلا مهر عليه لانها رضيت بسقوط حقها ورضاها معتبر لكونها بالغة ولانها صارت مستعملة للصبي ومن استعمل صبيا في شئ لحقه فيه ضمان ثبت لوليه حق الرجوع على المستعمل فلا فائدة في ايجاب المهر لها إذا طاوعته والمجنون في ذلك بمنزلة الصبى ولو كانت صبية أو مجنونة دعته إلى نفسها فالمهر واجب لانها ليست من أهل الرضي بسقوط حقها ولان اشتغالها بالامر غير مثبت حق الرجوع عليها لاهدار قولها (قال) رجل قال لرجل أنت أزنى من فلان فلا حد عليه لان افعل يذكر بمعني المبالغة في العلم فكان معني كلامه أنت أعلم بالزنا من فلان أو أنت أقدر على الزنا من فلان وكذلك لو قال أنت أزني الناس أو أزنى الزناة وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنت أزنى من فلان الزانى أو أزنى الزناة فعليه الحد لانه بين بآخر كلامه أن المراد المبالغة في وصفه بفعل الزنا وكذلك قوله أزنى الناس لان في الناس زان فهو كقوله أزني الزناة بخلاف قوله أنت أزنى من فلان (قال) رجل زني بخرساء أو أخرس زنى بامرأة لاحد عليه لان الاخرس لو كان ناطقا ربما يدعي شبهة يسقط به الحد عن نفسه وعن صاحبه والخرس يمنعه من اظهار تلك الشبهة ولايجوز اقامة الحد مع تمكن الشبهة بخلاف مااذا زنى صحيح بمجنونة فعليه الحد لان المجنونة ليست من أهل أن تدعى الشبهة وامتناع وجوب الحد لمعنى فيها وهو الجنون لا لشبهة في الفعل فهو نظير الزنا بمستكرهة (قال) ولو سرق رجلان سرقة واحدة وأحدهما أخرس أو مجنون لاقطع على واحد منهما لان الفعل هنا واحد فإذا لم يكن موجبا للقطع على احدهما لا يكون موجبا على الآخر فأما في الزنا كل واحد من الزانيين مباشر لفعل آخر إذ لا مجانسة بين الفعلين لان فعله الايلاج وفعلها التمكين فجنونها لا يعدم التمكين فلا يتمكن فيه نقصان فيكون فعل الرجل في الايلاج مخصوصا بكمال الزنا فلهذا لزمه الحد (قال) وإذا شهد الشاهدان على رجل بالزنا وآخران على اقراره بالزنا لاحد عليه لان الشهادة على الاقرار لغو في ايجاب حكم الحد فان المشهود عليه جاحد ومن ضرورة جحوده الرجوع عن اقراره ولانهم اختلفوا في المشهود به فشهد اثنان بالفعل والآخران بالقول ولاحد عليه لان الذين شهدوا على الاقرار ما نسباه إلى الزنا والآخران وان نسباه إلى الزنا فشهادة الشاهدين على الاقرار يسقط الحد عنهما لانهما شهدا على تصديق المقذوف والتصديق يثبت بشهادة شاهدين (قال) وان شهد ثلاثة بالزنا وواحد بالاقرار به فعلى الثلاثة الحد لانهم قذفوه بالزنا وليس على التصديق الا شاهد
[ 130 ] واحد وشهادة الواحد لا تثبت التصديق (قال) وإذا ضرب العبد حد القذف أربعين سوطا ثم أعتق لم تجز شهادته أبدا لوجهين أحدهما أن الاربعين حد في حقه واقامة الحد عليه جرح في عدالته وحكم بكذبه فيسقط به شهادته على التأبيد كما في حق الحر ولان العبد ليس من أهل الشهادة ورد الشهادة من نتمة الحد فيتوقف ذلك على صيرورته من أهل الشهادة وبالعتق صار من أهل الشهادة الآن فيصير مردود الشهادة تتميما لحده وكذلك إذا ارتد المحدود في قذف ثم أسلم لم تقبل شهادته لان الكفر لم يزده الاشرا وإذا صار مردود الشهادة على التأبيد فبالردة لا يصير مقبول الشهادة فان ضرب الكافر حد القذف ثم أسلم جازت شهادته لان الكافر محكوم بكذبه ولكن يزول ذلك باسلامه ويستفيد بالاسلام عدالة لم تكن موجودة حين أقيم عليه الحد وهذه العدالة لم تصر مجروحة توضيحه أن الكافر ليس من أهل الشهادة فيصير مردود الشهادة باقامة الحد عليه ويتم به حده ثم بالاسلام استفاد شهادة حادثة لم تكن موجودة عند اقامة الحد عليه فلهذا قبلت شهادته (قال) أربعة كفار شهدوا على كافر انه زني بامرأتين كافرتين فلما قضي بالحد عليهم أسلم الرجل والمرأتان بطل الحد عنهم جميعا لان الحجة لم تبق عليهم بعد الاسلام فشهادة الكفار لا تكون حجة على المسلمين ولا يمكن اقامة الحد بغير حجة وان أسلمت احدى المرأتين سقط عنها الحد وبقى الحد على الاخرى لبقاء الحجة في حقها وكذلك على الرجل لان الحجة في الزنا بالتي هي باقية على الكفر باق وذلك كاف في اقامة الحد عليه وكذلك ان شهدوا على كافرين بالزنا بامرأة واحدة فان أسلمت المرأة درئ الحد عنها وعن الرجلين كما لو كانت مسلمة عند الشهادة وان أسلم أحد الرجلين درئ الحد عنه خاصة ويقام الحد على الرجل الآخر والمرأة لبقاء الحجة الكاملة عليه في زناه بها (قال) وإذا جنت الامة جناية عمدا فيها القصاص فوطئها الولى ولم يدع شبهة فليس عليه الحد لوجهين أحدهما ان من العلماء من يقول ان لولى الجناية حق التملك ان شاء وهذا قول معتبر فانه لافرق في حق المولى بين ان يتلف ماليته باستيفاء القصاص وبين ان يتلف بتمليك الولي اياها عليه وفيه منفعة للولى سواء استوفى القصاص أو تملكها فله أن يختار أي الوجهين شاء فإذا ثبت له حق التملك فيها على قول بعض الفقهاء يصير ذلك شبهة في اسقاط الحد عنه ولان الوطئ اتلاف جزء منها لان المستوفى بالوطئ في حكم الجزء من العين فإذا صار
[ 131 ] اتلاف الكل حقا له شرعا يصير ذلك شبهة في اتلافه جزءا منها والحد يسقط بالشبهة ثم يلزمه العقر لسيدها لانه وطئ في غير الملك فلا يخلو عن حد أو عقر وقد سقط الحد بشبهة فعليه العقر ويكون للسيد بمنزلة كسبها لان حق من له القصاص في استيفاء القصاص فلا يثبت في المال والعقر والكسب مال فيكون لمولاها بملكه رقبتها وان كانت الجناية خطأ فوطئها الولى ففى القياس عليه الحد وبه يأخذ أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى سواء اختار المولى الدفع أو الفداء وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى ان اختار المولى الفداء فكذلك الجواب وان اختار الدفع فلا حد عليه استحسانا لان بالجناية الخطأ لم يثبت للولى حق التملك فيها وهذا لان موجب جناية الخطأ يكون على أقرب الناس من الجاني ألا ترى ان في الحر موجب جنايته على العاقلة وفى المملوك موجب جنايته على المولى لانه أقرب الناس إليه ولهذا خير بين الدفع والفداء فان اختار الفداء فقد وصل إلى ولى الجناية حقه وبقيت الجارية مملوكة للمولى كما كانت فتبين أنه وطئها ولا شبهة له فيها فكان عليه الحد فان اختار الدفع فكذلك عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان موجب الجناية كان على المولى ولكنه كان متمكنا من اختيار الدفع بأن يقول هذا الشغل انما لحقني بجنايتها على ان أدفعها لاخلص نفسي من هذا الشتغل فكان هذا ملكا حادثا للولى فيها بعد تقرر فعل الزنا فلا يسقط به الحد وعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالي يسقط الحد استحسانا لان حق ولى الجناية في رقبتها وان كان المولى متمكنا من تحويل الحق عن الرقبة باختيار الفداء بدليل انها لو هلكت يسقط حق ولى الجناية وانما سقط لفوات محل حقه فإذا تقرر حقه في محله باختيار المولى الدفع فانما يملكها بسبب تلك الجناية وتبين انها وطئها وله فيها سبب ملك فيسقط الحد كمن اشتري جارية على أن البائع بالخيار فوطئها المشترى ثم اختار البائع البيع فلا حد على المشترى ولكن هذا ضعيف لانه لو كان له فيها سبب ملك لم يلزمه الحد وان اختار المولى الفداء كما في المشتراة بشرط الخيار للبائع فلا حد على المشتري وان فسخ البيع فيها وحيث وجب الحد هنا عند اختيار الفداء عرفنا أنه ليس فيها سبب ملك ثم ذكر في بعض النسخ فصلا وهو أنه زنى بجارية ثم اشتراها في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يحد ولاحد عليه في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى فان كان جواب هذا الفصل هكذا فلا حاجة إلى التكلف الذى قلنا في مسألة الدفع بالجناية لان الملك الحادث بعد وجوب الحد
[ 132 ] قبل الاستيفاء عند أبي يوسف رحمه الله تعالى مسقط للحد وقد ثبت ذلك للولى بدفع الجارية إليه وعند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يكون مسقطا للحد ولكن في هذا الفصل اختلاف الرواية في النوادر فذكر أصحاب الاملاء عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى أن من زني بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها لا حد عليه في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وعليه الحد في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وذكر ابن سماعة رحمه الله تعالى في نوادره على عكس هذا قال على قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى عليه الحد في الوجهين جميعا وعند أبى يوسف رحمه الله تعالي لا حد عليه في الوجهين جميعا وروى الحسن عن أبى حنيفة أنه إذا زنى بأمة ثم اشتراها فلا حد عليه وان زنى بحرة ثم تزوجها فعليه الحد فأما وجه الرواية التى قال لا حد عليه في الفصلين أن الملك في المحل لو اقترن بالفعل كان مانعا وجوب الحد فإذا طرأ بعد الوجوب قبل الاستيفاء يكون مسقطا للحد كملك السارق العين المسروقة بعدما وجب عليه القطع والعمى والفسق في المشهود بعد وجوب الحد قبل الاستيفاء وهذا لانه لو أقام الحد عليه انما أقام بوطئه امرأة هي زوجته في الحال وذلك لا يجوز وجه الرواية التى قال يقام الحد في الفصلين أن وجوب الحد باعتبار المستوفى والمستوفى مثلا شئ فبالنكاح والشراء بعد الاستيفاء لا يثبت له الملك في المستوفي فلا يسقط الحد بخلاف السرقة فان وجوب القطع على السارق باعتبار العين وقد ملك تلك العين فسقط القطع عنه بالشبهة وجه رواية الحسن في الفرق بين النكاح والشراء أنه بالشراء يملك عينها وملك العين في محل الحرث سبب لملك الحل فيجعل الطارئ قبل الاستيفاء كالمقترن بالسبب كما في باب السرقة فأما بالنكاح لا يملك عين المرأة وانما يثبت له ملك الاستيفاء ولهذا لو وطئت بالشبهة كان المهر لها فلا يورث ذلك شبهة فيما تقدم استيفاؤه منها فلهذا لا يسقط الحد عنه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب واليه المرجع والمآب
[ 133 ] بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب السرقة) (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد الاستاذ شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رحمه الله تعالى السرقة لغة أخذ مال الغير على وجه الخفية سمى به لانه يسارق عين حافظه ويطلب غرته ليأخذه أو يسارق عين أعوانه على الحفظ بأن يسامره ليلا لان الغوث بالليل قل ما يلحقه وهي نوعان صغرى وكبرى فالكبرى هي قطع الطريق لانه يأخذ المال في مكان لا يلحق صاحبه الغوث ويطلب غفلة من التزم حفظ ذلك المكان وهو السلطان والعقوبة تستحق بكل واحد من الفعلين على حسب الجريمة في الغلظ والخفة فهذا الكتاب لبيان هذين الحدين وكل واحد منهما ثابت منهما بالنص اما في السرقة الصغرى الواجب بالنص قطع اليد قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والواجب باخذ المال في السرقة الكبري قطع يد ورجل قال الله تعالى انما جزاء الذى يحاربون الله ورسوله الآية وكل واحد من الحدين عقوبة فان الله عزوجل سمي أحدهما نكالا والاخر خزيا بقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا وكل واحد منهما جميع موجب الفعل فقد سمى كل واحد منهما جزاء وفيه إشارة إلى الكمال يقال خزى أي قضي وجزأ بالهمزة أي كفي فعرفنا انه جميع موجب الفعل وان كان كل واحد منهما مستحقا حقا لله تعالى لان الجزاء علي الافعال المحرمة من العباد يكون حقا لله تعالى وفيه إشارة إلى أن الفعل محرم العين وان عصمة المال فيما يرجع إلى موجب الفعل لله تعالى خالصا واختلف العلماء بعد هذا في السرقة الصغرى قال فقهاء الامصار رضي الله عنهم المستحق قطع اليد اليمني من الرسغ وقال الخوارج إلى المنكب لان اليد اسم للجارحة من رؤس الاصابع إلى الآباط وقال بعض الناس المستحق قطع الاصابع فقط لان بطشه كان بالاصابع فتقطع أصابعه ليزول تمكنه من البطش بها وهو مخالف للنص والمنصوص قطع اليد وقطع اليد قد يكون من الرسغ وقد
[ 134 ] يكون من المرفق وقد يكون من المنكب ولكن هذا الابهام زال ببيان رسول الله ﷺ فانه أمر بقطع يد السارق من الرسغ ولان هذا القدر متيقن به وفى العقوبات إنما يؤخذ بالمتيقن فاما قوله جل وعلا انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله فقد قيل المراد يحاربون أولياء الله فان أحد الا يحارب الله تعالى ولكنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وهو أصل في اللغة وقيل المراد بيان ان قاطع الطريق كانه يحارب الله تعالى لان المسافر في المفاوز في امان الله تعالى وحفظه فالمتعرض له كانه يحارب الله تعالى وهو نظير قوله سبحانه وتعالى من يشاقق الله ورسوله فان أحد الايشاقق الله حقيقة ولكن راد أمر الله تعالى كانه يشاقق الله تعالى وزعم بعض العلماء رحمهم الله تعالى ان نزول الآية في المرتدين واستدلوا عليه بحديث أنس رضى الله عنه ان العرنيين لما ارتدوا وقتلوا الرعاة وساقوا ابل الصدقة بعث رسول الله ﷺ في أثرهم وجئ بهم فامر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم فنزلت الآية ولكن الاصح ان نزول الآية في الذين قطعوا الطريق من غير المرتدين لان في الآية بيان عقوبة تستحق بقطع الطريق وقيل المرتد يستحق القتل قطع الطريق أو لم يقطع وانما سبب نزول هذه الآية الذين قطعوا الطريق وما بدأ به محمد الكتاب ورواه عن أبى يوسف رحمه الله تعالى عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهم أجمعين (قال) وادع رسول الله ﷺ أبا بردة هلال بن عويمر الاسلمي فجاء أناس يريدون الاسلام فقطع عليهم أصحاب أبى بردة الطريق فنزل على رسول الله ﷺ جبريل عليه السلام بالحد فيهم ان من قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الاسلام ماكان في الشرك فقوله وادع يحتمل المؤقتة وهى الامان ويحتمل المؤبدة وهى الذمة فأجرى أبو يوسف رحمه الله تعالى الكلمة على ظاهرها وقال يقام حد قطاع الطريق على المستأمنين وأهل الذمة بدليل الحديث وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا المراد الموادعة المؤبدة وهي عقد الذمة لانه قد ثبت بالنص وجوب تبليغ المستأمنين مأمنهم والآية وان نزلت في الكفار فالحكم غير مقصور عليهم لان السبب الموجب للعقوبة قطع الطريق بالنص ففى حق كل من تقرر السبب ثبت الحكم ولكن بعد ان يصير محاربا بقطع الطريق والمستأمن محارب وان لم يقطع الطريق لانه متمكن من الرجوع إلى دار الحرب
[ 135 ] والمحارب بقطع الطريق يكون من أهل دارنا وقوله فجاء اناس يريدون الاسلام قيل معناه قد أسلموا فجاؤا يريدون الهجرة لتعلم أحكام الشرع وقيل بل جاؤا على قصد أن يسلموا ومن جاء من دار الحرب على هذا القصد فوصل إلى دار الاسلام فهو بمنزلة أهل الذمة والحد يجب بقطع الطريق على أهل الذمة كما يجب بقطع الطريق على المسلمين بخلاف المستأمنين على ما بيناه ثم في هذا الحديث دليل على أن هذا الحد مشروع على الترتيب بخلاف ما يقوله مالك رضى الله عنه أنه على التخيير بظاهر حرف أو وهذا لان الجناية تختلف منه بمباشرة القتل أو أخذ المال أو اخافة الناس والعقوبة بحسب الجناية فيستحيل أن يقال عند غلظ الجناية يعاقب بأخف الانواع وعند خفتها بأغلظ الانواع فعرفنا أنها مرتبة كما ذكر في الحديث فظاهر قوله من قتل وأخذ المال صلب دليل لابي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالي في أن الامام لا يشتغل بقطع يده ورجله بهذه الحالة ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول المراد بيان ما يختص به بهذه الحالة فأما قطع اليد والرجل عند أخذ المال مبين في الحديث ألا ترى أنه لم يذكر القتل في هذه الحالة لانه مبين في حق من قتل ولم يأخذ المال فأقول الامام يتخير في هذه الحالة بين أن يقطع يده ورجله ثم يقتله ويصلبه أو يقتله ويصلبه ثم يطعن تحت تندوته اليسرى فيقتله على خشبة ففي ظاهر المذهب يتخير بين ان يصلبه حيا وبين ان يقتله ثم يصلبه وذكر الطحاوي انه لا يصلبه قبل القتل فان ذلك مثلة ونهى رسول الله ﷺ عن المثلة ولو بالكلب العقور ولكن في هذا الحديث دليل على ان له ذلك لتحقيق معني الخزى في حقه ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى يتركه على خشبته أبدا إلى ان يسقط لتحقيق معنى الخزي وليعتبر به غيره فأما قوله عزوجل أو ينفوا من الارض فهو غير مذكور في هذا الحديث والمراد عندنا الحبس في حق من خوف الناس ولم يأخذ مالا ولم يقتل لانه اما أن يكون المراد نفيه من جميع الارض وذلك لا يتحقق مادام حيا أو المراد نفيه من بلدته إلى بلدة أخرى وبه لا يحصل المقصود وهو دفع أذيته عن الناس أو يكون المراد نفيه عن دار الاسلام إلى دار الحرب وفيه تعريض له على الردة فعرفنا أن المراد نفيه من جميع الارض إلى موضع حبسه فان المحبوس يسمى خارجا من الدنيا قال القائل خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلسنا من الاحياء فيها ولا الموتى
[ 136 ] إذا جاءنا السبحان يوما لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا والشافعي رحمه الله تعالى يقول المراد اتباعه حتى لا يتمكن من القرار في موضع فذلك نفيه من الارض فأما قوله من جاء مسلما هدم الاسلام ماكان في الشرك فهو معنى قوله جل وعلا الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وفيه كلام نبينه في بابه ثم الاسلام يهدم ماكان في الشرك من الجناية على خالص حق الله تعالى قال الله جل وعلا قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال ﷺ الاسلام يجب ما قبله والتوبة قبل قدرة الامام عليه مسقطة لهذه العقوبة بالنص على ما نبينه ان شاء الله تعالى وذكر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ أنه لا تقطع اليد الا في ثمن المجن وهو يؤمئذ يساوى عشرة دراهم وفيه دليل على أن النصاب في المسروق معتبر لايجاب القطع على السارق وهو قول فقهاء الامصار وأصحاب الظواهر يقولون لا يعتبر النصاب فيه وقد نقل ذلك عن الحسن البصري رحمه الله تعالى واستدلوا بالآية فان الله عزوجل قال والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما يعني بالسرقة لان السارق اسم مشتق من فعل والفعل الذى اشتق منه الاسم يكون علة للحكم ولكن السرقة لاتتحقق الا بصفة المالية والمملوكية والحرز فان أخذ المال المباح يسمي اصطيادا أو احتطابا لاسرقة وكذلك ما ليس بمحرز محفوظ فاخذه لا يكون سرقة لانعدام مسارقة عين الحافظ فشرطنا ما يقتضيه اسم السرقة وليس في اسم السرقة ما يدل على النصاب فالسرقة تتحقق في القليل والكثير فاشتراط النصاب يكون زيادة على النص وذلك يعدل النسخ وفي الحديث ان النبي صلي قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده والبيضة قد لا تساوي أكثر من فلس ولايجوز ان يقال المراد بيضة الحديد وحبال السفن واللؤلؤ لان المقصود بيان حقارة السارق وفي حمله على ما قلتم تفويت هذا المقصود ولكنا نقول لما كان في اسم السرقة ما ينبئ عن صفة الاحراز صار كون المال محرزا شرطا بالنص وشرائط العقوبة يراعى وجودها بصفة الكمال لما في النقصان من شبهة العدم والاحراز انما يتم في المال الخطير دون الحقير فالقليل لا يقصد الانسان احرازه عادة واليه اشارت عائشة رضى الله عنها في قولها كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله ﷺ في الشئ التافه فصار ما يتم به الاحراز وهو كون المال خطيرا ثابتا بالنص والمراد من الحديث بيضة
[ 137 ] الحديد الا أن صاحب الشرع وان ذكره لاظهار حقارة السارق فقد أضمر في كلامه هذا المعنى ليحصل المقصود ويكون كلامه حقا على ماروى أنه كان يمازح ولا يقول الا حقا وقيل ان هذا كان في الابتداء لزيادة التغليظ والتشديد ثم انتسخ بالآثار المشهورة باعتبار النصاب في المسروق ثم اختلفوا في مقدار النصاب فقال علماؤنا رحمهم الله تعالى عشرة دراهم أو دينار وقال الشافعي رحمه الله تعالى ربع دينار وقال مالك رحمه الله ثلاثة دراهم وقال ابن أبى ليلى رحمه الله تعالى خمسة دراهم وقال عكرمة رحمه الله تعالى أربعة دراهم وعن أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنهما أربعون درهما واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بحديث الزهري عن عروة عن عائشة رضى الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ قال القطع في ربع دينار فصاعدا ولانهم اتفقوا على أن القطع على عهد رسول الله ﷺ ماكان الافي ثمن المجن واختلف في ثمن المجن وعند الاختلاف في القيمة يؤخذ بالاقل كما إذا اختلف المقومون في قيمة المسروق يؤخذ بالاقل في ذلك فأقل ما نقل فيه ثلاثة دراهم فلهذا قدر مالك رحمه الله تعالى النصاب به وقد كانت قيمة الدينار على عهد رسول الله ﷺ اثنى عشر درهما فثلاثة دراهم يكون ربع دينار وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يستدل بحديث عثمان رضى الله عنه لا تقطع الخمس الا بخمسة يعني اليد التى عليها خمسة أصابع لا تقطع الا بخمسة دراهم ومن اعتبر بأربعين استدل بحديث عائشة رضى الله عنها كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله ﷺ في الشئ التافه فكانت تقطع في ثمن المجن وهو كان يومئذ ذا ثمن وهذا منها إشارة إلى أنه كان مالا خطيرا والخطير ما يكون مقدارا يعتبر لايجاب الزكاة فيه وأدنى ذلك الاربعون في نصاب الشياه وعلماؤنا رحمهم الله استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال لاقطع الافى دينار أو عشرة دراهم وعن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا لا تقطع اليد الافى دينار أو في عشرة دراهم وهكذا عن علي رضي الله عنه وفى الحديث المعروف لامهر أقل من عشرة ولاقطع في أقل من عشرة دراهم وعن أيمن بن أبى أيمن وابن عباس وابن عمر رضى الله عنهم أن المجن الذى قطعت اليد فيه على عهد رسول الله ﷺ كان يساوى عشرة دراهم والرجوع إلى قولهم أولى لانهم من جلة الغزاة فكانوا أعرف بقيمة السلاح من غيرهم وليس هذا من جملة ما قال ان
[ 138 ] الاخذ بالاقل أولي لان في قيمة المسروق انما يؤخذ بالاقل لدرء الحد ذلك يوجب أن يؤخذ بالاكثر ههنا لان معني درء الحد فيه وقد روى أن عمر رضى الله تعالى عنه أتي بسارق سرق ثوبا فأمر بقطع يده قال عثمان رضى الله عنه ان سرقته لا تساوي عشرة دراهم فأمر بتقويمه فقوم بثمانية دراهم فدرأ الحد عنه فدل أنه كان ظاهرا معروفا فيما بينهم ان النصاب يتقدر بعشرة دراهم ويعتبر نصاب الحد بنصاب المهر وقد قامت الدلالة لنا على أن أدناه عشرة دراهم والمستحق بكل واحد منهما ماله خطر وهو مصون عن الابتذال فلا يستحق الا بمال خطير والحديث الذى رواه عن عائشة رضى الله عنها اضطرب أهل الحديث فيه وأكثرهم على أنه غير مرفوع إلى رسول الله ﷺ حتى كان القاسم بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى إذا سمع من يروى هذا الحديث مرفوعا رماه بالحجارة والدليل عليه ما اشتهر من قول عائشة رضي الله عنها كانت اليد لا تقطع في الشئ النافة ؟ وكانت تقطع في ثمن المجن فلو كان عندها نص لما اشتغلت بهذا الجواب المبهم ثم يحتمل أنه كان التقدير بربع دينار في الابتداء ثم انتسخ ذلك بعشرة دراهم ليكون الناسخ أخف من المنسوخ قال الله جل وعلا ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ثم في ظاهر الرواية المعتبر عشرة دراهم من النقرة المضروبة حتى روى ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى إذا سرق نقرة لاتساوى عشرة دراهم مضروبة فلاقطع عليه وروى الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى أن المعتبر عشرة دراهم من النقد الغالب بعد أن تكون الفضة فيها غالبة على الغش وأما ما يغلب عليه الغش فهو من الفلوس لامن الدراهم والاول أصح لما بينا أن شرط العقوبة يراعى وجوده بصفة الكمال فإذا كانت الدراهم مغشوشة فالغش ليس من الفضة في شئ ولو أوجبنا القطع عليه كان ايجاب القطع في موضع الشبهة وما يندرئ بالشبهات لا يستوفى مع الشبهة فلهذا اعتبرنا عشرة دراهم من النقرة المضروبة ثم المعتبر عشرة دراهم من وزن سبعة فانه هو المعتبر في وزن الدراهم في غالب البلدان وقد بينا تفسير ذلك فيما أمليناه من شرح الافرار وعن ابن مسعود وابن عباس وابراهيم رضوان الله عليهم أجمعين قالوا إذا أصاب من الحدود فيها القتل قتل وألغي ما سوى ذلك معناه ما سوى ذلك من الحدود التي حق لله تعالى فأما ما فيه حق العباد كحد القذف والقصاص في الطرف فلابد من استيفائه مقدما لمراعاة من له الحق وفى حقوق الله تعالى القتل أهم وفى معنى الزجر أتم فيبدأ به ثم لا فائدة في الجلد
[ 139 ] والقطع بعده بهذا استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في أن قاطع الطريق إذا استحق قتله لا يشتغل بقطع يده ورجله وأبو حنيفة رحمه الله يقول إن المراد في الحدود لافي حد واحد وحد قاطع الطريق واحد ولا تداخل في أجزاء حد واحد فللامام إن يقطع يده ورجله ثم يقتله لتحقيق معنى التغليظ وعن عمر رضي الله عنه انه قال أيما قوم شهدوا على حدلم يشهدوا بحضرته فانما شهدوا على ضغن قال الحسن رحمه الله في حديثه ولا شهادة لهم والمراد الحدود التى هي محض حق الله تعالى والشهادة عليها بطريق الحسبة من غير أن ينبني على خصومة في الحد كالزنا والسرقة وشرب الخمر وأما حد القذف فالشهادة عليه تنبني على الدعوى والخصومة في الحد فلا يمتنع قبولها بتقادم العهد وعن على رضى الله عنه في رجل أخذ وقد نقب البيت ولم يأخذ المتاع قال لاحد عليه وبه نأخذ فان سبب وجوب الحد ما لم يتم لا يجب الحد وتمام السرقة باخراج المال من الحرز وهذا لان الحد يتعلق بما هو المقصود من كل نوع ولهذا لم يجب حد الزنا الا بالايلاج في الفرج والمقصود في السرقة اخراج المال دون هتك الحرز فان أخذ قبل اخراج المال فقد انعدم ما هو المقصود فلا حد عليه وعن رافع بن خديج رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله ﷺ لاقطع في ثمر ولافي كثر وبه نقول فالثمر اسم الرطب المعلق على الاشجار وهو مما يتسارع إليه الفساد ولاقطع عندنا في سرقة ما يتسارع إليه الفساد (فان قيل) المراد ثمار المدينة فانها على رؤس الاشجار وهى لا تكون محرزة لقصر الحيطان (قلنا) رسول الله ﷺ نص على المعنى المانع من وجوب الحد والقطع وهو كون المسروق ثمرا وفي الحمل على ما قلتم تعطيل هذا السبب واحالة الحكم إلى سبب آخر فأما الكثر فقد قبل المراد به الجمار هكذا قال يحيى ابن سعيد وقال غيره هو الودى وهو النخل الصغار وقد حكي أن غلاما سرق وديا فغرسه في أرض مولاه فأتي به مروان فأمر بقطعه فجاء مولاه إلى رافع بن خديج رضى الله عنه فأخبره بذلك فقال لاقطع عليه فسأله أن يأتي معه مروان فقال إليه وقد روى الحديث أن النبي ﷺ قال لاقطع في ثمر ولافي كثر فدرأ الحد مروان وعن الحسن رحمه الله قال رسول الله ﷺ لاقطع في الطعام المهيأ للاكل فان ذلك مما يتسارع إليه الفساد ولا يمكن ادخاره وأما الحنطة ونحوها يتعلق بسرقتها القطع بعد تمام الاحراز وقبل تمام الاحراز لا يتعلق بها القطع لما روى أن النبي ﷺ سئل عن جريسة
[ 140 ] الجبل فقال هي ومثلها والنكال وإذا جمعها المراح ففيها القطع وفى رواية ففيها غرم مثله وجلدات نكال وفي رواية فإذا آواها الجرين وبلغ ثمن المجن ففيها القطع وقيل المراد لاقطع في عام السنة وهي زمان القحط لان الضرورة تبيح التناول من مال الغير بقدر الحاجة فيمنع ذلك وجوب القطع لما روى عن مكحول رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال لاقطع في مجاعة مضطر وذكر عن الحسن عن رجل قال رأيت رجلين مكتوفين ولحما فذهبت معهم إلى عمر رضى الله عنه فقال صاحب اللحم كانت لنا ناقة عشراء ننتظرها كما ينتظر الربيع فوجدت هذين قد اجتزراها فقال عمر رضى الله عنه هل يرضيك من ناقتك ناقتان عشراوان مربعتان فانا لانقطع في العذق ولافي عام السنة وكان ذلك في عام السنة والعشراء هي الحامل التي أتى عليها عشرة أشهر وقرب ولادتها فهي أعز ما يكون عند أهلها ينتظرون الخصب والسعة بلبنها كما ينتظرون الربيع وقوله فانا لانقطع في العذق منهم من يروى في العرق وهو اللحم والاشهر العذق وهو الكباسة ومعناه لاقطع في عام السنة للضرورة والمخمصة وقد كان عمر رضى الله عنه في عام السنة يضم إلى أهل كل بيت أهل بيت آخر ويقول لن يهلك الناس على انصاف بطونهم فكيف نأمر بالقطع في ذلك وعن على رضى الله في الخلسة قال تلك الدعارة المغالبة لاقطع فيها وفي رواية الغالبة فهذا منه منه إشارة إلى ان القطع انما يتعلق بفعل السرقة والخلسة لا تكون سرقة فان المختلس يستدير صاحب المتاع ولا يسارق عينه وعن إبراهيم قال لاقطع على سارق الحر الصغير وان سرق مملوكا قطع وبه نأخذ والحر ليس بمال بخلاف المملوك وفى الصغير يتحقق فعل السرفة ؟ وفيه اختلاف لابي يوسف رحمه الله تعالى نبينه وعن على رضى الله عنه في السارق تقطع يده اليمنى فان عاد قطعت رجله اليسرى فان عاد استودعته السجن انى لاستحى من الله تعالى ان لاأدع له يدا يأكل بها ورجلا يمشى عليها وذكر في الاصل أنه عرض السجون فاتي برجل قد قطعت يده ورجله وقد سرق فقال ما ترون فيه قال بعضهم تقطع يده اليسري فقال ليس ذلك عليه فبأى شئ يستنجي ويرفع لقمته وقال بعضهم تقطع رجله اليمني فقال ما ذاك عليه فبأي شئ يمشى إلى حاجته قال إبراهيم رحمه الله تعالى وقد اختلف أصحاب رسول الله ﷺ فمنهم من قال أقطعه حتى آتى على قوائمه كلها يريد به قول أبى بكر وعمر رضي الله عنهما ومنهم من قال أقطع يده ورجله ثم أحبسه يريد به قول على وابن مسعود رضي الله عنهما قال
[ 141 ] هذا أحب إلى وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى لان القطع شرع زاجرا لامتلفا وفى تفويت منفعة الجنس اتلاف حكمي على ما أشار إليه على رضى الله عنه وسيأتى بيان هذا الفصل وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أضاف أبو بكر الصديق رضى الله عنه أقطع اليد والرجل فكان يصلى بالليل فقال له أبو بكر رضي الله عنه من قطعك فقال يعلى بن أمية باليمن قال أبو بكر رضى الله عنه ماليلك بليل سارق ثم اغار على حلي لاسماء فسرقه ثم أصبح يدعو مع القوم على من سرق أهل البيت الصالح وفى رواية كان يقول اللهم أظهر فلم يقم القوم حتي أتى بصائغ بالمدينة عنده الحلى فقال أتانى به هذا الاقطع واعترف فقال أبو بكر رضي الله عنه لعزته بالله أعز على من سرقته وفى رواية ما أجهلك بالله فقال عمر رضى الله عنه والله لا أبرح حتى يقطع فقطعت يده اليسرى وقد ذكرنا في كتاب الاكراه أنه كان أقطع اليد فقطع أبو بكر رضى الله عنه رجله اليسرى وليس لحكاية الحال عموم فعند اختلاف الرواية فيه يضعف الاستدلال به والاشكال في الحديث انه كان ضيفا عند أبي بكر رضى الله عنه والضيف إذا سرق من بيت المضيف لا يقطع لانه مأذون بالدخول في الحرز ولكن تأويله ان بيت الضبافة لابي بكر رضى الله عنه كان منفصلا عن بيت العيال فلم يكن الضيف مأذونا في بيت العيال فلهذا قطعه وفيه دليل على انه لا يعتمد على ظاهر حال الرجل في دعائه وصلاته وقد كان يصلى بالليل ثم كان مقصوده السرقة لا الصلاة وتمام فوائد الحديث نبينه في الاكراه ان شاء الله تعالى وذكر عن يزيد بن خصيف رضي الله عنه قال أتى النبي ﷺ بسارق فقال أسرقت ما أخاله سرق فقال نعم قال رسول الله ﷺ اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به ففعلوا به ذلك فقال تب إلى الله فقال تبت إلى الله تعالى ففال اللهم تب عليه وفيه دليل على أن الامام مندوب إلى الاحتيال لدرء الحد وتلقين المقر الرجوع ويدل عليه ما رواه عن أبى الدرداء أنه أتى بسارق أو بسارقه فقال أسرقت قولى لاوعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنه أتى بسوداء يقال لها سلامة فقال أسرقت قولى لا قالوا أتلقنها قال جئتموني بأعجمية لا تدري ما يراد بها حين تفسر فاقطعها وفيه دليل على أن المقر بالسرقة إذا رجع درئ عنه الحد وان الرجل والمرأة في ذلك سواء وان للامام أن ينيب غيره منابه ليستوفى الحد لا بحضرته فانه عليه الصلاة والسلام قال اذهبوا به فاقطعوه وفيه دليل على أن القطع للزجر لا للاتلاف لانه أمر بالحسم بعد القطع
[ 142 ] وهو دواء واصلاح يتحرز به عن الاتلاف وفيه دليل على ان التطهير لا يحصل بالحد إذا كان مصرا على ذلك ولانه خزى ونكال وانما التطهير والتكفير به في حق التائب فانه دعاه إلى التوبة بقوله ﷺ تب إلى الله وفيه دليل على ان التوبة لا تتم بقوله تبت فانه ﷺ قال اللهم تب عليه وتمام التوبة بالندم على ما كان منه والعزم على ان لا يعود إليه من بعد مع الوجل فيما بين ذلك (قال) وان شهد شاهدان على رجل بالسرقة سئلا عن ماهيتها وكيفيتها لان مبهم الاسم محتمل فان من يستمع كلام الغير سرا يسمى سارقا قال الله تعالى الامن استرق السمع ويقال سرق لسان الامير ومن لا يعتدل في الركوع والسجود يسمى سارقا قال ﷺ ان أسوأ الناس سرقة من يسرق من صلاته فيستفسرهما عن الماهية والكيفية لها ولان المسروق قد يكون مالا متقوما وقد يكون غير مال وقد يكون محرزا أو غير محرز وقد يكون نصابا وما دونه فلابد أن يسألهما عن الماهية والكيفية وينبغي أن يسألهما متى سرق وأين سرق كما بيناه في الزنا لان حد السرقة لايقام بعد تقادم العهد ولا يقام على من باشر السبب في دار الحرب فيسألهما عن ذلك ولم يذكر السؤال ممن سرق لان المسروق منه حاضر يخاصم والشهود يشهدون بالسرقة منه ولا حاجة إلى السؤال عن ذلك فإذا بينوا جميع ذلك والقاضى لايعرف الشاهدين حبسه حتى يسأل عنهما لانه صار متهما بارتكاب الحرام فيحبس ولا يمكن التوثق بالكفيل لانه لاكفالة في حقوق الله تعالى ولا يتمكن من القضاء قبل ظهور عدالتهما لان القطع يتعذر تلافيه عند وقوع الغلط فيه فلهذا حبسه فان زكيا وقيمة المسروق نصاب كامل والمسروق منه غائب لم يقطع الا بحضرته وكان ابن أبى ليلى رحمه الله تعالى يقول لا حاجة إلى حضرة المسروق منه وتقبل الشهادة على السرقة وحبسه كالزنا لان المستحق بكل واحد منهما حد هو خالص حق الله تعالى والشافعي رحمه الله يقول إذا أقر السارق بالسرقة فلا حاجة إلى حضرة المسروق منه لقطعه فأما إذا قامت البينة عليه بذلك فلابد من حضوره عند الشهادة لان الشهادة تنبنى على الدعوي في المال فما لم يحضر هو أو نائبه لاتقبل شهادته وان غاب بعد ذلك لا يتعذر استيفاء القطع وعندنا لابد من حضرة المسروق منه في الاقرار والشهادة جميعا عند الاداء وعند القطع لان ظهور فعل السرقة لا يكون الا به فلابد من أن يكون المسروق مملوكا لغير السارق فإذا قطع قبل حضوره
[ 143 ] كان استيفاء الحد مع الشبهة لجواز أن يرد اقراره فيبقى المال مملوكا لمن في يده أو كان أقر له بالملك بعد شهادة الشهود أو أنه كان ضيفا عنده ولا معتبر بحضور وكيله عند الاستيفاء لان الوكيل قائم مقامه وشرط الحد لا يثبت بما هو قائم مقام الغير (قال) وإذا حضر المسروق منه والشاهدان غائبان لم يقطع حتي يحضرا في قول أبى حنيفة الاول رحمه الله تعالى وفى قوله الآخر وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقطع وكذلك بعد موت الشهود وقد ذكر في كتاب الحدود أنه يقام الحد بعد غيبة الشهود وموتهم الا الرجم خاصة وقد بينا ذلك الا ان هناك لم يذكر قول أبى حنيفة الاول رحمه الله تعالى وانما ذكره ههنا وهو القياس في كل عقوبة لان الاستيفاء مع غيبة الشهود استيفاء مع الشبهة لجواز ان يكونا رجعا عن الشهادة أو ابتليا بما يسقط شهادتهما ورجوع الشاهد في العقوبات بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من الاستيفاء ولكنه رجع عن هذا فقال الغيبة والموت لا تقدح في عدالة الشاهد والشرط بعد الاداء عدالته فلهذا لا يمتنع الاقامة لغيبته وموته الا الرجم فالمعتبر فيه البداية بالشهود وذلك ينعدم بعد موتهم ثم بين أن العارض في شهود السرقة بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من استيفاء القطع وهو غير مانع من استرداد عين المسروق لانه محض حق العبد فتتأكد الشهادة فيه بنفس القضاء ولان المال يثبت بالشبهات بخلاف الحد ولهذا قبلت شهادة النساء مع الرجال والشهادة على الشهادة في السرقة بالمال دون القطع (قال) وإذا سرق الرجل ثوبا يساوى عشرة من رجلين قطع لان المسروق نصاب كامل فلا يختلف مقصود السارق بتعدد المسروق منه أو اتحاده (قال) وان سرق رجلان ثوبا يساوى عشرة من رجل لم يقطعا لان سرقة كل واحد منهما نصف النصاب فان عند تعدد السراق لا يصيب كل واحد منهم الاشئ يسير قل ما يرغب فيه ولا تقطع اليد في الشئ التافه بخلاف الاول فان السارق واحد والنصاب كامل يرغب الواحد في أخذه سواء كان المالك واحدا أو جماعة وان كانت قيمة الثوب بحيث يبلغ نصيب كل واحد من السارقين منه عشرة درهم فانه يقطع كل واحد منهما لان التعاون مما يزيد رغبة السارق في الاجتراء على فعل السرقة فالحاجة إلى شرع الزاجر في هذه الحالة أظهر وهو نظير الصداق فانه لو تزوج امرأتين على ثوب يساوى نصيب كل واحدة منهما عشرة دراهم كانت التسمية صحيحة في حقهما ولو كانت قيمة الثوب عشرة فلكل واحدة نصف الثوب وخمسة لان البضع لا يتملك
[ 144 ] على واحدة منهما الا بنصاب كامل فكذلك ههنا لا يقطع اليد من كل واحد منهما ما لم تبلغ سرقته نصابا كاملا (قال) ويقطع السارق من المستودع والمضارب والمستعير والغاصب والمرتهن عندنا وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يقطع بخصومة هؤلاء ما لم يحضر المالك والكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى ينبنى على ان لهؤلاء حق الخصومة في الاسترداد عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالي ليس لهم ذلك عند جحود من في يده ما لم يحضر المالك وقد بينا هذا في الوديعة فأما الكلام مع زفر رحمه الله تعالى يتحقق في هذه المسألة هو يقول خصومة هؤلاء تقوم مقام خصومة المالك فلا يستوفى القطع بمثله كما لا يستوفى بخصومة وكيل المسروق منه وهذا لانه استوفى مع تمكن الشبهة فان المالك إذا حضر ربما يقر بالملك له أو انه كان مأذونا في الاخذ من جهته وما يندرئ بالشبهات لا يستوفى مع تمكن الشبهة ألا ترى أن القصاص في النفس لا يستوفى بخصومة المستودع عند غيبة المالك لهذا المعنى فأما الاب أو الوصي فقد قيل على قول زفر رحمه الله لا يستوفى القطع بخصومتهما أيضا لاعتبار معنى النيابة وقيل انه يستوفى لانه ليس فيه تمكن الشبهة في الحال فان اقرار الصغير بالملك للسارق لغو ولهذا ملك الاب استيفاء القصاص في الطرف والنفس جميعا وملك الوصي استيفاء القصاص في الطرف في احدي الروايتين توضيحه أن المال مضمون على السارق وفي استيفاء القطع اسقاط الضمان وصاحب اليد إذا لم يكن مالكا لا يملك اسقاط الضمان فلا يستوفى القطع بخصومته (وحجتنا) فيه أن السرقة تمت موجبة للقطع فيستوفي القطع بخصومة المسروق منه كالمالك والاب والوصى ان سلم وبيانه أن المالك لو حضر وخاصم يستوفي القطع بالاتفاق وتأثيره ان بعد تمام الفعل موجبا للقطع الشرط ظهوره عند الامام بلاشبهة وقد ظهر بخصومة هؤلاء لان أيديهم صحيحة وصاحب اليد الصحيحة إذا أزيلت يده كان له حق الخصومة في الاعادة لان اليد مقصود كالملك ألا ترى أن الغاصب يضمن بتفويت اليد ولان صاحب اليد وان كان أمينا فلا يتمكن من أداء الامانة الا بيده وان كان ضامنا فلا يتمكن من اسقاط الضمان عن نفسه الا بيده فكانت اليد مقصودة له ولاشك في حق المرتهن أن اليد مقصودة لان موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء حقا للمرتهن وكل من كان خصما في اثبات ازالة يده يكون خصما في اثبات سبب الازالة كمن ادعى عينا في يد انسان أنه له اشتراه
[ 145 ] من فلان الغائب وأقام البينة على ذلك قبلت بينته حتى إذا حضر الغائب وأنكر البيع لم يلتفت إلى ذلك لانه لما كان خصما في اثبات الملك لنفسه كان خصما في اثبات سببه وسبب الازالة ههنا السرقة فيظهر بخصومته عند الامام بلاشبهة لانه أصل في هذه الخصومة وانما يخاصم باعتبار حقه لا باعتبار ملك الغير ألا ترى أنه يستغنى عن اضافة الخصومة إلى غيره فانه يقول سرق مني وأزال يدى بخلاف الوكيل وإذا ظهرت السرقة بلاشبهة استوفي الامام القطع حقا لله تعالى ولا يمتنع الاستيفاء لتوهم اعتراض اقرار من المالك إذا حضر ألا ترى أن المالك إذا حضر وغاب المودع يستوفي القطع وان كان يتوهم أن يحضر المودع فيقر أنه كان ضيفا عنده وهذا لان المؤثر شبهة يتوهم وجودها في الحال فاما ما يتوهم اعتراضها لا يعتبر ألا ترى أن القطع يستوفى بالاقرار وان كان يتوهم اعتراض الرجوع من المقر وصاحب اليد بهذه الخصومة انما يقصد احياء حق المالك لا اسقاطه ولكن الامام إذا استوفى القطع حقا لله تعالى فمن ضرورته سقوط الضمان على ما نبينه فلا يصير به المودع مسقطا للضمان بل القطع مشروع بطريق الزجر فإذا علم السارق أنه لا يقطع بخصومة المودع في حال غيبة المالك يجترئ على سرقة الوديعة فلتحقيق الزجر يستوفي القطع بخصومته ويكون ذلك من الحفظ حكما كما أن الله تعالى وصف القصاص بأنه حياة وهو امانة في الحقيقة ولكن فيه حياة بطريق الزجر فأما القصاص انما لا يستوفى بخصومة المودع لتمكن شبهة عفو من المالك في الحال ولان اليد فيما تناوله من الايداع له وهو المالية ووجوب القصاص باعتبار معنى النفسية وذلك لا يتناوله الايداع بخلاف الخصومة في السرقة فانه يكون في المال باعتبار معنى المالية فيكون المودع أصلا بنفسه ولان الحرز الذي هو المودع لاأثر له في القصاص بخلاف القطع فانه لا يجب الا بهتك الحرز وأخذ المال وكل واحد منهما جناية تصلح سببا للعقوبة فكان المودع باعتبار هذا المعنى كالمودع لانه صاحب أحد وصفي السبب فكما أن المالك أصل في الخصومة المظهرة للسرقة بلاشبهة فكذلك المودع وأما إذا سرق من السارق فان كان الاول لم تقطع يده فهو بمنزلة الغاصب يقطع الثاني بخصومة الاول وان كان الاول قد قطعت يده فالسرقة بعد لم تتم موجبة للقطع لانه لا معتبر بيد السارق الاول بعدما قطعت يده فانه ليس بيد أمانة ولايد ضمان ولايد ملك ولهذا لا يكون له حق الخصومة في الاسترداد ولو حضر المالك
[ 146 ] لم يكن له أن يستوفى القطع من الثاني بخلاف ما نحن فيه على مابينا (قال) وإذا اشهد كافران على مسلم وكافر بسرقة ثوب فشهادتهما باطلة في جميع ذلك الا أنه يقضى على الكافر بنصف الثوب للمدعى لانهما شهدا بسرقة واحدة ولم تظهر شهادتهما في حق المسلم لانها ليست بحجة عليه فلا تظهر في حق الكافر أيضا لان شهادتهما حجة في فعل يختص به الكافر لافي فعل بشاركه المسلم فيه وقد تقدم في الزنا نظيره وأما في حق الثوب فنصفه في يد المسلم فشهادتهما ليست بحجة فيه ونصفه في يد الكافر فشهادتهما حجة عليه فيقضي بشهادتهما على الكافر بنصف الثوب للمدعى فان كان المشهود عليهما كافرين فأسلم أحدهما قبل القضاء فكذلك الجواب وان أسلم احدهما بعد القضاء فكذلك الجواب في حق القطع فأما في حق الثوب فللمدعى أن يسترده كله لان شهادتهما في ملك الثوب تأكدت بالقضاء (قال) ويستحب لشاهدي السرقة أن لا يشهدا عليه بذلك ليندرئ به الحد عندنا لما جاء في الحديث ادرؤا الحدود ما استطعتم وهذا خطاب لكل من تمكن من ذلك ولانه بالامتناع من أداء الشهادة يقصد ابقاء الستر عليه وانه مندوب إليه ولكن هذا إذا رد السارق المتاع فان أبى ذلك وقال صاحب المتاع إذا يذهب متاعى وسعهما أن يشهدا أنه متاع هذا أخذه هذا من غير أن يذكر السرقة لانهما ندبا إلى الستر عليه ونهيا عن كتمان الشهادة التى تتضمن ابطال حق المسلم فالطريق الذى يعتدل فيه النظر من الجانبين هذا وهو أن يشهدا بلفظ الاخذ دون السرقة ليكون الآخذ مجبرا على رد العين حال قيامها وعلى رد القيمة عند هلاكها فيتوصل صاحب المتاع إلى حقه ولا ينهتك ستر الآخذ وهما صادقان في هذه الشهادة فالسارق أخذ المتاع لا محالة وكل من كان في يده شئ أو في بيته فأخذه إنسان وسع الشاهدان أن يشهدا أنه لفلان الذى كان في يديه لانه لا طريق لمعرفة الملك الا اليد لانه وان عاين الشراء فالمشترى لا يملك الا باعتبار ملك البائع ولا يعرف ملكه الا باعتبار يده وكذلك الاحتطاب والاحتشاش وسائر الاسباب انما يوجب الملك باعتبار اليد وهذا لان إحراز الشئ يكون باليدو بالاحراز يثبت الملك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يسعه أن يشهد له بالملك ولو رآه في يده الا أن يراه يتصرف فيه ولا يمنعه أحد منه لان الايدى قد تتنوع قد تكون يد ملك وقد تكون يد أمانة وقد تكون يد غصب ولكنا نقول لا معتبر بهذه الزيادة فاليد مع التصرف تتنوع أيضا ألا ترى أن الوكيل
[ 147 ] والمضارب متصرف وفي الكتاب قال الشاهد يبنى على الظاهر فان ما وراءه غيب لا يعلمه الا الله تعالى ألا ترى أنه لو تزوج امرأة بين يدى الشهود كان لهم أن يشهدوا بالنكاح بينهما وان كان من الجائز أنها كانت منكوحة الغير أو وقعت الفرقة بينهما بعد العقد وشهود الدين يسعهم أن يشهدوا عليه بعد زمان ولعل البراءة وقعت عنه بالاستيفاء أو الابراء (قال) ومن نقب البيت فأدخل يده وأخذ المتاع وذهب به لم يقطع وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الاملاء انه يقطع لانه أخذ مالا محرزا على وجه السرقة وهو كما لو دخل البيت وأخرج المتاع وهذا لان المقصود أخذ المال لادخول الحرز وبناء الحكم على ما هو المقصود ألا ترى أنه لو سرق من الجوالق وأدخل يده وأخرج المتاع قطعت يده فكذلك في البيت وجه ظاهر الرواية ماروى عن علي رضى الله عنه اللص إذا كان ظريفا لا يقطع قيل وكيف ذلك قال ان ينقب البيت فيدخل يده ويخرج المتاع من غير أن يدخله ولان هتك الحرز معتبر لايجاب القطع وشرط الحد وسببه يراعي وجوده بأكمل الجهات وأكمل جهة هتك الحرز في البيوت ان يدخلها فلا يلزمه القطع بدون ذلك بخلاف الجوالق فالدخول فيه لا يتأتى وهو ليس بمعتاد أيضا فيتم هتك الحرز بادخال اليد واخراج المتاع منه وكمال أخذ المال مقصود فدخول الحرز كذلك ألا ترى أن من الجهال من يقصد ذلك اظهارا للجلادة من نفسه والاستخفاف بصاحب الحرز وان لم يكن به قصد الي أخذ ماله (قال) وان دخل الحرز وجمع المتاع ولم يخرجه حتى أخذ لم يقطع لان تمام السرقة باخراج المال من الحرز فمقصود السارق لايتم الا به وقبل تتميم السبب لا يلزمه القطع وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقطع لان سرقته قد تمت بأخذ المال المحرز والخروج بعد ذلك ليس تتميم فعل السرقة بل للنجاة من صاحبه وهو كحد الزنا يجب بنفس الايلاج وان أخذ على ذلك قبل أن ينزع نفسه ولكنا نقول هناك يحصل مقصوده في الايلاج وههنا يحصل مقصوده في صرف المسروق إلى شهواته وحاجاته وذلك يكون بعد الاخراج فلا يقطع إذا أخذ قبل أن يخرج (قال) فان ناول صاحبا له على الباب لم يقطع واحد منهما لان الذى وقف خارج البيت لم يدخل الحرز والآخر لم يخرج المال ألا ترى أنه خرج من الحرز وليس معه في يده مال حقيقة ولا حكما إذ المال في يد الآخذ منه فلا يقطع واحد منهما وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال ان كان الخارج أدخل يده حتي تناول المتاع فالقطع عليهما وان كان الداخل أخرج يده مع المتاع حتى أخذ الخارج منه
[ 148 ] فالقطع على الداخل دون الخارج لان الداخل قد تم منه هتك الحرز فصار المال مخرجا بفعله ومعاونته فعليه القطع على كل حال فأما الخارج فان أدخل يده فقد وجد منه اخراج المال من الحرز وذلك يوجب القطع عليه عنده وان لم يدخل يده ولكن أخرج الآخر يده إليه فانما أخذ متاعا هو غير محرز فلا يقطع (قال) فان رمى بالثياب إلى الطريق ثم خرج وأخذها من الطريق قطع عندنا وعند زفر رحمه الله لا يقطع لانه خرج ؟ من الحرز ولامال في يده فهو كما لو ناول صاحبا له من خارج فانما فارق هذا الاول في الاخذ من السكة وذلك غير موجب للقطع عليه ولكنا نقول خرج والمال في يده حكما فتتم سرقته كما لو كان في يده حقيقة بيانه أن يده تثبت عليه بالاخذ ثم بالرمي إلى الطريق لم تزل يده حكما لعدم اعتراض يد أخرى على يده ألا ترى أن من سقط منه مال فأخذه انسان ليرده على صاحبه ثم رده إلى موضعه لم يضمن لانه في ذلك الموضع في يد صاحبه حكما فرده إلى ذلك الموضع بمنزلة رده على صاحه وإذا ثبت بقاؤه حكما وقد تقرر ذلك بالاخذ من الثاني فكان مستوجبا القطع فهذه مبالغة في الحيلة من السارق ليكون مستعدا لدفع صاحب البيت في بيته ان يدركه فلا يشغل يده بالمتاع وقد يحول ذلك بينه وبين الدفع واكتسابه زيادة حيلة لا يكون مسقطا للقطع عنه فأما إذا ناول غيره فقد زالت يده حقيقة وحكما باعتراض يد أخرى قبل خروجه من الحرز فلهذا لم يلزمه القطع (قال) ولو رمى به إلى السكة ثم لما خرج لم يجده بأن كان أخذه غيره وذهب به لم يقطع لان فعله هذا كان تضييعا للمال لاتتميما لفعل السرقة وكما ثبتت يد الغير عليه بالاخذ زالت يده حكما فقد خرج ولامال في يده (قال) ولو كان في البيت نهر جار ورمى بالمتاع في النهر حتى أخرجه الماء ثم خرج فأخذه فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى لاقطع عليه لانه ما أخرج المتاع وانما خرج به الماء بخلاف الاول فهناك هو الذي أخرجه بالرمي به إلى خارج والاصح أنه يلزمه القطع لان جري الماء به كان بسبب القائه في النهر فيصير الاخراج مضافا إليه من هذا الوجه وهو زيادة حيلة منه ليكون متمكنا من دفع صاحب البيت فلا يجوز أن يجعل مسقطا للحد عنه (قال) ولو حمل المتاع على ظهر دابة وساق الدابة حتى أخرجها فعليه القطع لان فعل الدابة مضاف إلى سائقها ألاتري أن ما وطئت دابته فضمانه على سائق الدابة فتتم سرقته باخراج المال على ظهر الدابة (قال) وان دخل جماعة الدار فجمعوا المتاع وحملوه على ظهر رجل
[ 149 ] منهم فكان هو الذي خرج به وقد خرجوا معه أو بعده في فوره أو خرجوا قبله ثم خرج هو في فورهم ففي القياس يقطع الحمال وحده وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى وفى الاستحسان عليهم القطع وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وجه القياس أن فعل السرقة انما يتم من الحمال باخراج المتاع فأما الآخرون لم يوجد اخراج المتاع منهم حقيقة ولا حكما فلا يلزمهم القطع وبيان ذلك أنهم خرجوا ولا شئ في أيديهم حقيقة ومن طريق الحكم المتاع في يد الحمال حتى لو نازعوه كان القول قوله ويده معتبرة في ايجاب القطع عليه ولا يمكن اعتبار تلك اليد بعينها في ايجاب القطع على الآخرين بخلاف ما إذا حملوه على ظهر الدابة لان فعل الدابة هدر فيبقي الاخراج مضافا إلى سوق الدابة فكانوا مخرجين له ولانه لايد للدابة على المتاع فيبقى في يد الاخذين حكما إلى ان أخرجوه على ظهر الدابة وجه الاستحسان انهم اشتركوا في هتك الحرز وصار المال مخرجا بمعاونتهم فيلزمهم القطع كما لو أخرجوه على ظهر الدابة وهذا لان هذه زيادة حيلة معروفة بين السراق أن يباشر حمل المتاع واحد منهم وأصحابه يكونون مستعدين لدفع صاحب البيت عنه وعن أنفسهم فلا يجوز ان يكون ذلك مسقطا للحد عنهم والمسألة مع الشافعي رحمه الله تعالى انما تنبني على الردء في قطع الطريق أنه هل تلزمه العقوبة على ما نبينه فان الآخرين كالردء للحمال الا أن زفر رحمه الله تعالى قد يفرق بينهما فيقول حد قطاع الطريق بسبب المحاربة والردء مباشر للمحاربة لان المحاربة في العادة هكذا تكون فانهم لو اشتغلوا جميعا بالقتال فإذا وقعت الهزيمة عليهم لاتستقر قدمهم وإذا كان بعضهم ردءا فإذا وقعت الهزيمة على المباشرين للحرب التجؤا إلى الردء فلهذا كانت العقوبة عليهم بخلاف السرقة فالحد ههنا انما يجب بمباشرة فعل السرقة وذلك في اخراج المال من الحرز فإذا كان المخرج من يؤاخذ بحكم فعله لم يجب القطع على غيره (قال) وان دخل البيت وأخرج المتاع بعضهم دون البعض فالقطع على من دخل البيت وأخرج ان عرف بعينه وان لم يعرف فعليهم التعزير ولا يقطع واحد منهم لان فعل السرقة انماتم من بعضهم وهو غير معروف بعينه فيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنهم (قال) وإذا شهد شاهدان على رجل بالسرقة فقال السارق هذا متاعي كنت استودعته فجحدني أو اشتريته منه أو قال هو أمرنى به درئ عنه القطع في جميع ذلك لان المسروق منه قد صار خصما له فانه ادعى عليه مالو أقربه لزمه ويتمكن من اثباته عليه بالبينة وان طلب
[ 150 ] يمينه كان له أن يستحلفه عليه وبعدما آل الامر إلى الخصومة لا يستوفى الحد الواجب لله تعالى وقد بينا هذا في حد الزنا وهذا لانه إذا امتنع عن اليمين يقضى عليه بالنكول ولو حلف لو قلنا بأنه يقطع كان استيفاء الحد باليمين ولايجوز استيفاء الحد باليمين والشافعي رحمه الله تعالى يقول لا يجوز أن يسقط الحد بمجرد الدعوى لان ذلك لا يعجز عنه سارق فيؤدى ذلك إلى سد باب هذا الحد ولكنا نقول قد أمرنا بدرء الحد عنه الشبهة والشبهة تتمكن بمجرد دعواه بدليل تمكنه من الخصومة وهو نظير المقر إذا رجع يدرأ عنه الحد وما من مقر الا ويتمكن من الرجوع ثم كان ذلك معتبرا في ايراث الشبهة (قال) وان سرق باب دار أو مسجد لم يقطع لانه ظاهر غير محرز ولاقطع في سرقة مال غير محرز ولان بالباب يصير ما في البيت محرزا فسارق الباب يكون سارقا للحرز دون المحرز فهو كسرقة الحارس وكذلك لو سرق ثوبا قد سقط على حائط إلى السكة فانه غير محرز فان الحائط غير محرز بل به يحرز مافى داخل البيت فما على ظاهر الحائط لا يكون محرزا أيضا وكذلك ان سرق خشبة أو ساجة في السكة وكذلك لو سرق ثوبا من حمام أوبيت انسان أذن له في دخوله أو حانوت تاجر في السوق قد أذن للناس في دخوله والاصل في جنس هذه المسائل ان المال يكون محرزا بالمكان تارة وبالحائط أخرى وكل مكان هو معد لحفظ الامتعة فيه فهو حرز وما لم يكن معدا مبنيا لذلك لا يكون حرزا والاحراز بالحافظ انما يعتبر فيما ليس بمحرز بالمكان فأما فيما كان محرزا بالمكان لا يعتبر الاحراز بالحافظ لانه بدونه محرز فانما يتحقق الاحراز فيما ليس محرزا إذا عرفنا هذا فنقول الحانوت حرز حتى لو سرق منه ليلا استوجب القطع وإذا فتح التاجر باب الحانوت بالنهار وأذن للناس بالدخول فيه والمعاملة معه فكل من دخل كان داخلا باذن صاحبه وذلك شبهة مانعة من وجوب القطع لان كل داخل بحكم الاذن بمنزلة صاحب الدار والحانوت فينعدم هتك الحرز من هذا الوجه ويستوى ان كان صاحب الحانوت هناك يحفظ متاعه أو لا يكون لان الحافظ غير معتبر فيما هو محرز بالمكان وكذلك البيت المأذون بالدخول فيه أو الدار الواحدة إذا أذن له بالدخول في بعض بيوتها وبستوى ان سرق من ذلك البيت أو من بيت آخر فيها أو من صندوق مقفل لان الكل حرز واحد ألا ترى أن السارق ما لم يخرج المسروق من الدار لا يستوجب القطع بخلاف ما إذا كانت احدى الدارين تنفصل عن الاخرى لان كل واحدة منهما
[ 151 ] حرز على حدة ألاتري أن المودع إذا أمر بحفظ الوديعة في دار فحفظها في دار أخرى فهلكت كان ضامنا بخلاف ما إذا أمر بحفظها في بيت فحفظها في بيت آخر من تلك الدار فإذا كان مأذونا في دخول بيت منها تنعدم الحرزية في حقه فلا يقطع سواء كان صاحب الدار هناك أولم يكن وكذلك الحمام فانه حرز في نفسه حتى لو سرق منه ليلا يقطع وبالنهار هو مأذون بالدخول فيه فيمتنع وجوب القطع عليه سواء كان هناك حافظ أو لم يكن فأما الصحراء فليس بحرز في نفسه وانما يصير المال محرزا فيه بالحافظ فإذا كان هناك حافظ يجب القطع على السارق والا فلا قطع عليه وكذلك المسجد فانه ما بنى للاحراز وحفظ الامتعة به فانما يكون المتاع فيه محرزا بالحافظ فإذا لم يكن مع المال حافظ فلاقطع عليه سرق منه ليلا أو نهارا فإذا كان هناك حافظ فعليه القطع لحديث صفوان رضى الله عنه فانه كان نائما في مسجد رسول الله ﷺ متوسدا بردائه فجاء سارق فسرقه فاتبعه حتى أخذه وجاء به إلى رسول الله ﷺ فأمر بقطعه (قال) ولو كابر انسانا ليلا حتى سرق متاعه ليلا فعليه القطع لان سرقته قد تمت حين كابره ليلا فان الغوث بالليل قل ما يلحق صاحب البيت وهو عاجز عن دفعه بنفسه فيكون تمكنه من ذلك بالناس والسارق استخفي فعله من الناس بخلاف ما إذا كابره في المصر نهارا حتي أخذ منه مالا فانه لا يلزمه القطع استحسانا لان الغوث في المصر بالنهار يلحقه عادة فالآخذ مجاهر بفعله غير مستخف له وذلك يمكن نقصانا في السرقة قال ﷺ لاقطع على مختلس ولا منتهب ولا خائن (قال) وإذا سرق رجلان من رجل ثوبا واحدهما أب المسروق منه لم يقطع واحد منهما أما الاب فللتأول له في مال ولده بظاهر قوله ﷺ أنت ومالك لابيك ولانه قد يدخل بيته من غير استئذان عادة فلا يكون بيته حرزا في حقه والسرقة فعل من السارق فإذا امتنع وجوب القطع على أحدهما للشبهة يمتنع وجوبه على الآخر للشركة وهو نظير ما قلنا في الاب والاجنبي إذا اشتركا في قتل الولد لم يجب القصاص على واحد منهما (قال) ومن سرق من ذى رحم محرم منه لم يقطع عند علمائنا وقال الشافعي رحمه الله في الوالدين والمولودين كذلك وفى غيرهم يجب القطع لانه ليس بينهما ولاد ولا جزئية فلا تتمكن الشبهة لاحدهما في مال صاحبه كبنى الاعمام والدليل عليه قبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه وجواز وضع الزكاة فيه ولان الثابت بهذه القرابة بينهما
[ 152 ] حرمة النكاح وذلك لايمنع وجوب القطع كما لو سرق من أخيه من الرضاعة وهذا على أصله مستقيم فانه يقول لا يتعلق بهذه القرابة استحقاق النفقة بحال ولا استحقاق العتق عليه عند دخوله في ملكه (وحجتنا) فيه قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية فالله تعالى رفع الجناح على الداخل في بيت الاخوة والاعمام والاكل منه فظاهر هذا يقتضى الاباحة والظاهر وان ترك لقيام الدليل يبقى شبهة ألا ترى أنه عطف بيوت الاخوة والاعمام على بيوت الآباء والاولاد وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه ولا يدخل عليه قوله تعالي في آخر الآية أو صديقكم لان الصداقة لا تبقي مع السرقة فلانعدام السبب عند السرقة تنتفي الشبهة هناك فأما الاخوة تبقي مع السرقة كالابوة والمعنى فيه أن بينهما قرابة محرمة للنكاح فكانت كالولاد وتأثيره أن البعض يدخل بيت البعض من غير استئذان ولا حشمة ولهذا ثبت حل النظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة بهذه القرابة كما في الولاد فينتقص معنى الحرزية في حقهم وهو على أصلنا مستقيم لانه يتعلق استحقاق النفقة بهذه القرابة والعتق عند دخوله في الملك فذلك دليل على ثبوت الحق لبعضهم في مال البعض من وجه وأدنى الشبهة تكفي لدرء الحد وان كان أحد السارقين ذا رحم محرم من المسروق منه أو شريكا له يدرأ الحد عنه بالشبهة ويدرأ عن الآخر للشبهة للشركة لما بينا أنها سرقة واحدة فلا يكون بعضها موجبا للعقوبة وبعضها غير موجب كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا في القتل (قال) ولاقطع على سارق المصحف عند علمائنا رحمهم الله تعالى وقال الشافعي رحمه الله تعالى عليه القطع لانه سرق مالا متقوما من حرز لاشبهة فيه فان الجلد والبياض مال متقوم قبل أن يكتب فيه القرآن يجب القطع بسرقته فكذلك بعدما كتب فيه ألا ترى أنه يجوز بيعه وشراؤه وانه لو كان المكتوب فيه شيئا آخر لم تنتقص ماليته فإذا كتب فيه القرآن أولى وفي الكتاب علل وقال لان فيه القرآن فلا قطع فيه وفى هذا التعليل إشارة إلى أن في المصاحف قرآنا كما هو مذهب أهل السنة وتأثيره أن لكل واحد تأويلا في أخذ المصحف للقراءة فيه والنظر لازالة اشكال وقع في كلمة فالقطع لا يجب مع تمكن الشبهة توضيحه أن المقصود مافى المصحف لاعين الجلد والبياض ولا يمكن ايجاب القطع عليه باعتبار هذا المقصود لان ذلك ليس بمال فيصير ذلك شبهة كمن سرق آنية من خمر لا يلزمه القطع وان كانت الآنية تساوي نصابا لان المقصود ما فيه وهو ليس بمال وكذلك
[ 153 ] ان كان المصحف مفضضا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يقطع في هذه الحالة لان ما عليه من الفضة ليس من المصحف في شئ فهو كالمنفصل يتعلق القطع بسرقته ووجه ظاهر الرواية أن المقصود مافى المصحف دون ما على جلده من الفضة وإذا لم يكن ايجاب القطع باعتبار ما هو المقصود يعتبر ذلك شبهة في درء الحد كمن سرق ثوبا خلقا قد صر في الثوب دينار ولم يعلم السارق لا يلزمه القطع لان ما هو المقصود ليس بنصاب فلا يلزمه القطع باعتبار غيره (قال) ولاقطع على سارق الخبز واللحم والفاكهة والرمان والعنب والبقول والرياحين والحناء والوسمة سواء سرق من شجره أو من غير شجره عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه القطع في هذا كله وهو رواية عن أبى يوسف رحمه الله تعالى لانه سرق مالا متقوما من حرز لاشبهة فيه ودليل المالية والتقوم جواز البيع والشراء فيها ووجوب ضمان القيمة على غاصبها ومتلفها ودليل الحرزية أنه لو سرق مالا آخر من هذا الموضع يقطع وكل مكان هو حرز معتاد لمال فانه يتم احرازه بذلك المكان على وجه لا يبقى فيه شبهة (وحجتنا) ظاهر قول النبي ﷺ لاقطع في ثمر ولافي كثرو بالاجماع المراد بالثمار الرطبة لانه يتسارع إليها الفساد ولان في مالية هذه الاشياء نقصانا لان المالية بالتمول وذلك بالصيانة والادخار لوقت الحاجة ولا يتأتى ذلك فيما يتسارع إليه الفساد فيتمكن النقصان في ماليتها وفى النقصان شبهة العدم ولانه تافه جنسا ولان الناس يتساهلون به فيما بينهم فيلتحق بالتافه قدرا وهو ما دون النصاب والاصل فيه حديث عائشة رضى الله عنها كانت لا تقطع الايدى في الشئ التافه (قال) وكذلك لاقطع في الحرض والجص والنورة والزرنيخ عندنا لان هذه الاشياء توجد مباح الاصل في دار الاسلام غير مرغوب فيه فلا يتعلق القطع بسرقته عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه يتعلق القطع بسرقة كل مال تبلغ قيمته نصابا الا التراب والسرجين وهو رواية عن أبى يوسف رحمه الله تعالى لانه سرق مالا متقوما من حرز لاشبهة فيه وقررنا هذا في المسألة الاولى وبأن كان يوجد جنسه مباحا لا يتمكن فيه شبهة بعد الاحراز كالذهب والفضة واللؤلؤ والفيروزج يتعلق القطع بسرقتها وان كان يوجد جنسه مباحا ولانه لو سرق سريرا أو كرسيا يلزمه القطع والخشب غير مصنوع يوجد مباحا ثم وجوب القطع باعتبار العين لا باعتبار الصنعة ولا يفترق الحال بينهما قبل الصنعة وما بعده في حكم القطع (وحجتنا) فيه ظاهر قوله ﷺ الناس
[ 154 ] شركاء في ثلاثة في الكلا والماء والنار وقد أثبت بين الناس شركة عامة في هذه الاشياء وذلك شبهة في المنع من وجوب القطع بها وان انقطعت الشركة باحرازها وإذا علم الحكم في هذه الاشياء وهى توجد مباح الاصل بصورتها غير مرغوب فيها فكذلك كل ما يوجد مباح الاصل في دار الاسلام غير مرغوب فيه والمعني فيه أنه تافه جنسا ألا ترى أن الانسان قد يتمكن من أخذه ولا يرغب فيه فيكون نظير التافه قدرا يقرره ان التافه لايتم احرازه ألا ترى أن الخشب تكون مطروحة في السكك عادة وكذلك الجص والزرنيخ والنورة والناس لا يحرزونها كما يحرزون سائر الاموال لتفاهتها والنقصان في الحرزية يمنع من وجوب القطع فأما الذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر فقد روى هشام عن محمد رحمهما الله تعالي أنه إذا سرقها على الصورة التى توجد مباحا لا يقطع وهو المختلط بالحجر والتراب وفى ظاهر المذهب يجب لانه ليس بتافه جنسا فان كل من يتمكن من أخذه لا يتركه عادة وكذلك احرازه يتم عادة فأما المصنوع من الخشب فهولا يوجد بصورته مباحا فلم يكن تافها جنسا ولا يبعد أن لا يتعلق القطع بعين الشئ ثم يتعلق بالمصنوع منه كما قال هو في التراب لا يقطع بسرقته ثم يتعلق بسرقة المصنوع منه من الطوابق والكيزان ونحوهما (قال) ولا يقطع بسرقة النبيذ واللبن لان ذلك مما يتسارع إليه الفساد وكذلك في سرقة الخمر والخنزير والسكر أما فيما بين المسلمين هذا حرام ولكل واحد تأول أخذه للاراقة وأما في حق أهل الذمة وان كان مالا متقوما ولكنه مما يتسارع إليه الفساد وانعدام المالية والتقوم فيه في حق المسلم يصير شبهة والقطع يندرئ بالشبهات (قال) ولاقطع في الدف وما أشبهه من الملاهي أما عندهما فلانه ليس بمال متقوم حتى لا يضمن متلفه وعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى وان كان يجب الضمان على المتلف باعتبار معنى آخر فيه سوى اللهو والمقصود التلهى به ولا يمكن اعتبار القطع باعتبار المقصود ولان للآخذ تأويلا في أخذه لانه يقصد به النهى عن المنكر وهو استعماله للنلهى فيصير ذلك شبهة (قال) ولاقطع في البازى والصقر وسائر الطيور ولافى الوحوش من الصيود لحديث عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه قال لاقطع في الطير ولان هذا يوجد مباح الاصل بصورته غير مرغوب فيه ولا يتم احرازه في الناس عادة ولان فعله اصطياد من وجه والاصطياد مباح وظاهر قوله ﷺ الصيد لمن أخذه يورث شبهة والقطع يندرئ بالشبهة وكذلك الفهد والكلب فان الفهد من جنس
[ 155 ] الصيود والكلب صياد فلما لم يجب القطع بسرقة الصيد فكذلك بسرقة الصياد وبين العلماء رحمهم الله تعالى اختلاف ظاهر في مالية الكلب وجواز بيعه وظاهر نهي رسول الله ﷺ عن ثمن الكلب يورث الشبهة (قال) فان سرق التمر من رؤس النخل في حائط محرز أو حنظة في سنبلها لم تحصد فلاقطع عليه لقوله ﷺ لاقطع في ثمر ولا كثر ولان الثمار مادامت في رؤس الاشجار فانه يتسارع إليها الفساد ألا ترى أنها لو تركت كذلك فسدت ولا يتم معني الاحراز فيها ولا في الحنطة في سنبلها فانها زرعت في ذلك الموضع لمقصود آخر سوى الاحراز والدليل عليه قوله ﷺ فما آواه الجرين ففيه القطع وفى هذا بيان أن الثمار ما لم تجذ والزرع ما لم يحصد لا يجب القطع بسرقته وكذلك ان كان سرق النخلة بأصولها لقوله ﷺ ولاكثر والمراد صغار النخل فإذا لم يجب القطع في الصغار من الاشجار فكذلك في الكبار وهذا لانه بالانبات في موضع لا يقصد احرازه فان معنى الحرز لايتم فيه عادة فان احراز الثمر في حظيرة عليها باب أو حصدت الحنطة وجعلت في حظيرة فسرق منها قطع للحديث ولان الاحراز قدتم فانه انما جمعه صاحبه في هذا الموضع ليكون محرزا محفوظا وكذلك ان كانت في الصحراء وصاحبها يحفظها لان الصحراء ليس يحرز بنفسه فيتم الاحراز بالحافظ ويستوى ان كان الحافظ منتبها أو نائما عندهما لان حفظ المال في الصحراء كذلك يكون عادة والآخذ يسارق عين الحافظ وكذلك المسافر ينزل في الصحراء فيجمع متاعه ويبيت عليه فيسرق منه قطع ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال في هذا اللفظ إشارة إلى أنه انما يكون محرزا به في حال نومه إذا كان موضوعا بين يديه والا لا يكون محرزا به في حال نومه لان النائم كالغائب لا يتأتى منه الحرز والاصح انه يلزمه القطع على كل حال لان المعتبر هو الاحراز المعتاد لا أقصى ما يتأتى والاحراز المعتاد يتأتى بهذا المقدار فان الناس يعدون النائم عند متاعه حافظا له ألا تري أن المودع والمستعير لا يضمن بمثله وهما يضمنان بالتضييع ومالايكون محرزا يكون مضيعا (قال) وكذلك ان كان في فسطاط قد جمع متاعه فيه لان نصب الفسطاط في الصحارى كبناء البيوت في الامصار ويكون مافى الفسطاط محرزا بالفسطاط وبالحافظ عنده (قال) وان سرق الفسطاط بعينه لم أقطعه لانه ظاهر ولم يحرزه صاحبه انما احرز صاحبه الامتعة به ووجوب القطع بسرقة المحرز لا بسرقة الحرز وهذا لو كان الفسطاط منصوبا فان
[ 156 ] كان ملفوفا بين يديه يجب القطع بسرقته لانه متاع محرز بالحافظ كسائر الامتعة وكذلك ان سرق الجوالق من ظهر الدابة مع ما في الجوالق لم يقطع لانه ظاهر غير محرز فان صاحب الجوالق يحرز بالجوالق ما فيه ولا يقصد احراز الجوالق فان شق الجوالق وسرق ما فيه قطع لانه سرق مالا محرزا وقد بينا أن المعتبر في الاحراز ما هو المعتاد فإذا اعتاد احراز المتاع بالجوالق كان الجوالق حرزا له فإذا شقه وأدخل يده فيه وأخرج المتاع فقد تم منه هتك الحرز وأخذ المال فيلزم القطع ثم في كل موضع كان المال محرزا بالحافظ فإذا أخذ السارق كما أخذ يلزمه القطع وفى كل موضع كان محرزا بالمكان فإذا أخذ قبل أن يخرجه من ذلك المكان لم يقطع لان فعله في المحرز بالحافظ يتم بنفس الاخذ وهو ازالة اليد باثبات اليد لنفسه على وجه السرقة فأما المحرز بالمكان فلاتتم سرقته فيه الا باخراج المال من الحرز وقد بينا أن الدار كلها حرز واحد فما لم يخرج المتاع منها لا يلزمه القطع (قال) وإذا قطع السارق ردت السرقة إلى صاحبها لان المسروق منه واجد عين ماله ومن وجد عين ماله فهو أحق به فان لم يقد وعليها فلاضمان على السارق عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو ضامن لقيمتها وقال مالك ان كان السارق صاحب مال يؤمر بأداء الضمان في الحال وان لم يكن له شئ فلا ضمان عليه في الحال ولا بعد ذلك واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بقول النبي ﷺ على اليد ما أخذت حتي ترد فقد أوجب على الآخذ ضمان المأخوذ إلى غاية الرد وقد وجد منه الاخذ ههنا فيكون ضامنا وهو المعني في المسألة فانه أخذ مال الغير بغير حق فيكون ضامنا له كالغاصب ولاشك أنه بالاخذ ضامن حتى إذا سقط الحد بشبهة كان ضامنا للمال فلو سقط الضمان انما يسقط باستيفاء القطع والقطع حد واجب لله تعالى فاستيفاؤه لا يسقط الضمان الواجب الحق العبد ولان وجوب الضمان عليه بنفس الاخذ ووجوب القطع باتمام فعل السرقة بالاخراج والحقان إذا وجبا بسببين فاستيفاء أحدهما لا يسقط الآخر كما لو قتل انسانا ومزق عليه ثيابه لا يسقط عنه ضمان الثياب باستيفاء القصاص ولانهما حقان اختلفا محلا ومستحقا وسببا لان محل القطع اليد ومستحقه هو الله تعالى وسببه السرقة ومحل الضمان الذمة ومستحقه المسروق منه وسببه ادخال النقصان عليه بأخذ ماله فوجوب أحدهما لايمنع وجوب الآخر كالدية مع الكفارة في القتل والجزاء مع القيمة في الصيد المملوك في الحرم وشرب خمر الذمي على أصلكم فانه يوجب الحد حقا لله تعالى
[ 157 ] والضمان للذمي (وحجتنا) فيه قوله تبارك وتعالى جزاء بما كسبا فقد نص على أن القطع جميع موجب فعله لما بينا أن في لفظ الجزاء إشارة إلى الكمال فلو أجبنا الضمان معه لم يكن القطع جميع موجب الفعل فكان نسخا لما هو ثابت بالنص وعن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال لاغرم على السارق بعدما قطعت يده وفى رواية لاغرم على السارق فيما قطعت يمينه فيه وفي رواية إذا قطعت يد السارق لم يغرم والمعني فيه أن القطع عقوبة تندرئ بالشبهات والضمان غرامة تثبت مع الشبهات فلا يجمع بينهما بسبب فعل واحد كالقصاص مع الدية وتأثيره وهو أن الفعل الواحد صار بكماله معتبرا في حق مايندرئ بالشبهات فلا يبقي شئ منه ليعتبر في حكم الضمان وبدون الفعل لا يجب الضمان ولا معني لما قال الموجود منه فعلان الاخذ والاخراج لان الاخراج تتميم لما هو المقصود بالاخذ فلا يأخذ حكم فعل آخر والاخراج بدون الاخذ لا يتحقق والخلاف ثابت فيما إذا سرق الثوب من تحت رأس نائم والاخذ والاخراج هنا حصل بفعل واحد ثم الفعل وان تعدد صورة فالوجوب باعتبار حرمة المحل وهو بالسرقة ماهتك الا حرمة واحدة هي من خالص حق الله تعالى وبيان ذلك ان القطع لا يجب الا بسرقة مال متقوم محرز والقطع خالص حق الله تعالى فلا يجب الا باعتبار جعل ما يجب به القطع لله تعالى لان ما يجب باعتبار ما هو حق العبد يكون للعبد عقوبة كانت أو غرامة كالقصاص ولما وجب القطع لله تعالى عرفنا انه يجب باعتبار انه صار الله تعالى وإذا صارت المالية والتقوم في هذا المحل لله تعالى لم يبق للعبد فالتحق في حق العبد بمالا قيمة له ولكن هذا لا يتصور الا باستيفاء القطع لان ما يجب الله تعالى فتمامه بالاستيفاء فكان حكم الاخذ مراعي ان استوفى به القطع تبين ان حرمة المحل في ذلك الفعل كان لله تعالى فلا يجب الضمان للعبد وان تعذر استيفاء القطع تبين ان حرمة المالية والتقوم كان للعبد فيجب الضمان له توضيحه ان العقوبة التى تندرئ بالشبهات لا تجب الا بفعل حرام لعينه وانما يكون فعل السارق حراما لعينه إذا لم يبق المحل محترما لحق العبد فأما إذا كانت حرمة المالية والتقوم لحق العبد فأخذه حرام لغيره وهو حق المالك ومثل هذا الفعل لا يوجب العقوبة كشرب عصير الغير انما الموجب للعقوبة فعل هو حرام لعينه كشرب الخمر ولا يتحقق ذلك الا بجعل المالية والتقوم في هذا المحل لله تعالي خالصا وإذا صار لله تعالى لم يبق للعبد كالعصير إذا تخمر لم يبق فيه المالية والتقوم لحق
[ 158 ] العبد ولا يدخل عليه الدية مع الكفارة لان الكفارة ليست بعقوبة تندرئ بالشبهات ولانها جزاء الفعل من غير اعتبار وصف المحل فيبقى المحل محترما لحق العبد ووجوب الكفارة لا يستدعى فعلا هو حرام العين ألا تري أنها تجب في الخطأ وكذلك الجزاء مع القيمة في الصيد المملوك فانه لا معتبر بالمالية والتقوم في ايجاب الجزاء ولهذا يجب الجزاء بقتل صيد نفسه والكفارة بقتل عبد نفسه وكذلك في شرب الخمر لا معتبر بالمالية والتقوم في ايجاب الحد ولهذا يجب الحد على من شرب خمر نفسه فبقيت المالية والتقوم في المحل حقا للذمي لان مع بقائه الفعل محرم العين بما حدث من صفة الخمر في المحل ولا يدخل على هذا الملك فانه يبقي للمسروق منه حتى يرد عليه لان وجوب القطع باعتبار المالية والتقوم في المحل فأما الملك صفة المالك والفعل يكون محرم العين مع بقاء الملك ألا ترى أن فعله في شرب خمر نفسه يكون محرم العين مع بقاء الملك وليس من ضرورة انعدام المالية والتقوم في حقه انعدام الملك كالشاة إذا ماتت بقى ملك صاحبها في جلدها وان لم تبق المالية والتقوم وإذا ثبت أن المالية والتقوم صار حقا لله تعالى خالصا فلو وجب الضمان انما يجب لله تعالى وقد وجب القطع لله تعالى ولايجمع بين الحقين لمستحق واحد كالقصاص مع الدية ثم روى أبو يوسف عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجب الضمان على السارق إذا تلف المال في يده أو أتلفه وروي الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يضمن إذا أتلفه لان انعدام المالية والتقوم حقا للعبد انما كان في فعل السرقة لافيما سواه ألا ترى ان بيع المسروق منه وهبته العين من السارق أو من غيره صحيح والاتلاف فعل آخر فلا يظهر حكم المالية والتقوم حقا لله تعالى في هذا الفعل حتى يجب الضمان على المتلف كما لو أتلفه غيره وهذا لان العين باق على ملك صاحبه بعد القطع فاما ان يكون أمانة أو مضمونا وكيف ما كان فهو مضمون بالاتلاف وجه رواية أبى يوسف رحمه الله تعالى أن الاتلاف اتمام للمقصود بالسرقة فكما لا تبقى المالية والتقوم حقا للعبد في أصل السرقة بعد القطع فكذلك فيما يكون اتماما للمقصود به بخلاف ييع المسروق منه وهبته فانه ليس باتمام للمقصود بالسرقة بل هو تصرف آخر ابتداء وروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أن السارق لا يضمن في الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى يفتى بأداء الضمان لان المسروق منه قد لحقه النقصان والخسران من جهته بسبب هو متعد فيه ولكن تعذر على القاضى القضاء بالضمان لما اعتبر المالية والتقوم في
[ 159 ] حق استيفاء القطع فلا يقضى بالضمان ولكنه يفتى برفع النقصان والخسران الذى الحق به فيما بينه وبين الله تعال (قال) ولاقطع على النباش في قول ابى حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله يقطع والاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فعمر وعائشة وابن مسعود وابن الزبير رضوان عليهم أجمعين قالوا بوجوب القطع وابن عباس رضى الله عنه كان يقول لاقطع عليه وعليه اتفق من بقى في عهد مروان من الصحابة على ماروى ان نباشا أتى به مروان فسأل الصحابة رضى الله عنهم عن ذلك فلم يبينوا له فيه شيئا فعزره اسواطا ولم يقطعه وبهذا تبين فساد استدلال من يستدل بالآية لايجاب القطع عليه فان اسم السرقة لو كان يتناوله مطلقا لما احتاج مروان إلى مشاورة الصحابة رضى الله عنهم مع النص وما اتفقوا على خلاف النص فأما من اوجب القطع استدل بقوله ﷺ من نبش قطعناه والمعنى فيه انه سرق مالا كامل المقدار من حرز لاشبهة فيه فيقطع كما لو سرق لباس الحى وهذا لان الآدمى محترم حيا وميتا وبيان هذه الاوصاف فاما السرقة فهو أخذ المال على وجه الخفية وذلك يتحقق من النباش وهذا الثوب كان مالا قبل ان يلبسه الميت فلا تخنل صفة المالية فيه بلبس الميت فاما الحرز فلان الناس تعارفوا منذ ولدوا احراز الاكفان بالقبور ولا يحرزونه بأحصن من ذلك الموضع فكان حرزا متعينا له باتقاق جميع الناس ولا يبقي في احرازه شبهة لما كان لا يحرز بأحصن منه عادة والدليل عليه أنه ليس بمضيع حتى لا يضمن الاب والوصي إذا كفنا الصبى من مال الصبي وما لا يكون محرزا يكون مضيعا (وحجتنا) فيه قوله ﷺ لاقطع على المختفى وهو النباش بلغة أهل المدينة كما جاء في حديث آخر من اختفي ميتا فكأنما قتله وقوله ﷺ من نبش قطعناه لا يصح مرفوعا بل هو من كلام زياد ألا ترى أنه قال في ذلك الحديث من قتل عبده قتلناه ومن جدع أنفه جدعناه ولئن صح أن النبي ﷺ قطع نباشا أو أحدا من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين فانه يحمل على أنه كان ذلك بطريق السياسة وللامام رأى في ذلك والمعنى فيه أن وجوب القطع بسرقة مال محرز مملوك وجميع هذه الاوصاف اختلف في الكفن فأما السرقة فهو اسم أخذ المال على وجه يسارق عين صاحبه ولا تتصور مسارقة عين الميت وانما يختفى النباش باعتبار أنه يرتكب الكبيرة كالزاني وشارب الخمر والدليل عليه أنه ينفي هذا الاسم عنه باثبات غيره فيقال نبش وما سرق فأما المالية فانها عبارة عن
[ 160 ] التمول والادخار لوقت الحاجة وهذا المقصود يفوت في الكفن فان الكفن مع الميت يوضع في القبر للبلى ولهذا يوضع في أقرب الاماكن من البلاء واليه أشار الصديق رضي الله تعالى عنه فقال اغسلوا ثوبي هذين فكفنوني فيهما فانهما للمهل والصديد والحى من الميت أحوج إلى الجديد فأما انعدام صفة المملوكية فلان المملوك لا يكون الا لمالك والكفن ليس بملك لاحد لانه مقدم على حق الوارث ولا يصير مملوكا ألا ترى أن القدر المشغول بحاجة الميت بعد الكفن وهو الدين لا يصير ملكا للوارث فالكفن أولى وليس بملك للميت لان الموت مناف للمالكية فان المالكية عبارة عن القدرة وأدنى درجاته باعتبار صفة الحياة فعرفنا أن الوصف مختل أيضا فأما الحرزية فنقول الكفن غير محرز لان الاحراز بالحافظ والميت لا يحرز نفسه فكيف يحرز غيره والمكان حفرة في الصحراء فلا يكون حرزا ألا ترى أنه لا يجعل حرزا لثوب آخر من جنس الكفن ومن ضرورة كونه حرز الثوب أن يكون حرز الثوب آخر من جنسه وكذلك لا يكون حرزا قبل وضع الميت فيه وقوله ان الناس تعارفوا أحراز الكفن في القبر فليس كذلك بل انما يدفنون الميت للمواراة عن أعين الناس وما يخاف عليه من السباع لا للاحراز ألا ترى أن الدفن يكون في ملا من الناس ومن دفن مالا على قصد الاحراز فانه يخفيه عن الناس وإذا فعله في ملا منهم على قصد الاحراز ينسب إلى الجنون ولا نقول انه مضيع ولكنه مصروف إلى حاجته وصرف الشئ إلى الحاجة لا يكون تضييعا ولا احرازا كتناول الطعام والقاء البذر في الارض لا يكون تضييعا ولا احرازا واختلف مشايخنا رحمهم الله فيما إذا كان القبر في بيت مقفل قال رحمه الله والاصح عندي انه لا يجب القطع سواء نبش الكفن أو سرق مالا آخر من ذلك البيت لان بوضع القبر فيه اختلت صفة الحرزية في ذلك البيت فان لكل واحد من الناس تأويلا للدخول فيه لزيارة القبر فلا يجب القطع على من سرق منه شيئا لان صفة الكمال في شرائط القطع معتبر وكذلك يختلفون في قاطع الطريق إذا أخذ الكفن من تابوت في القافلة ولم يأخذ شيئا آخر فمنهم من قال يقام عليه الحد لانه محرز بالقافلة قال رحمه الله تعالى والاصح عندي انه لا يجب القطع لاختلاف صفة المالكية والمملوكية في الكفن من الوجه الذى قررنا (وقال) ولاقطع على المخلس ؟ لانعدام فعل السرقة لانه مجاهر بفعله ولا يسارق عين صاحبه واما الطرار فهو على وجهين فاما ان تكون الدارهم مصرورة في داخل الكم اوفى ظاهر الكم
[ 161 ] فان كانت مصرورة في داخله فان طر الصرة يقطع لانه بعد القطع يبقى المال في الكم حتى يخرجه وان حل الرباط لم يقطع لانه إذا حل الرباط يبقى المال خارجا من الكم فلم يوجد اخراج المال من الكم والحرز وان كان مصرورا ظاهرا فان طر لم يقطع لانعدام الاخراج من الحرز وان حل الرباط يقطع لان الدراهم يبقى في الكم بعد حل الرباط حتي يدخل يده فيخرجه وتمام السرقة باخراج المال من الحرز وعن أبي يوسف رحمه الله انه قال استحسن أن أقطعه في الاحوال كلها لان المال محرز بصاحبه والكم تبع له وفرق أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى بين الطرار والنباش فقالا اختصاص الطرار بهذا الاسم لمبالغة في سرقته لان السارق يسارق عين حافظه في حال نومه وغفلته عن الحفظ والطرار يسارق عين المنتبه في حال اقباله على الحفظ فهو زيادة حذق منه في فعله فعرفنا أن فعله أتم ما يكون من السرقة فيلزمه القطع فأما النباش لا يسارق عين المقبل على حفظ المال أو القاصد لذلك بل يسارق عين من يهجم عليه من غير أن يكون له قصد إلى حفظ الكفن وذلك دليل ظاهر على النقصان في فعل السرقة فهذا لا يلزمه القطع (قال) وان سرق صبيا حرا لم يقطع لانه ليس بمال ووجوب القطع يختص بسرقة مال متقوم وكذلك لو كان عليه حلى كثير وقال أبو يوسف رحمه الله يقطع لان قيمة الحلي نصاب كامل لو سرقه وحده يلزمه القطع فكذا مع الصبى ولان المقصود الحلى دون الصبي وجه ظاهر الرواية أن الحلى تبع للصبى والاصل يقطع بسرقته فالتبع مثله ولا أن له تأويلا في أخذه فانه يقول كان يبكى فأخذته لاسكنه أو أحمله إلى موضع أهله قال ألا ترى أنه لو سرق ثوبا لا يساوي عشرة دراهم ووجد في جيبه عشرة دراهم مصرورة لم يعلم بها لم أقطعه وان كان يعلم بها فعليه القطع وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى أن عليه القطع في الاحوال كلها لان سرقته قد تمت في نصاب كامل ولكنا نقول السارق انما قصد اخراج ما يعلم به دون مالا يعلم به وإذا كان قصده أخذ الثوب نظر إلى قيمة الثوب وهو ليس بنصاب كامل وإذا كان عالما بالدراهم فقصده أخذ الدراهم (قال) ولو سرق جرابا فيه مال أوجوا لقا فيه مال أو كيسا فيه مال قطع لانه وعاء يوضع فيه المال فمقصود السارق المال دون الوعاء فأما القميص ونحوه من الثياب ليس بوعاء للمال فكان قصده سرقة الثوب الا أن يكون عالما بالمال المصرور فيه فحينئذ يعلم أن قصده المال دون الثوب لما اختاره من بين سائر الثياب مع العلم (قال) وان سرق عبدا فان كان بالغا أو
[ 162 ] صبيا يعقل ويتكلم لا يقطع لان هذا خداع لاسرقة ولان من يعبر عن نفسه له يد على نفسه وذلك مانع من تقرير يد السارق عليه وان كان لا يعبر عن نفسه ويتكلم قطع فيه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه استحسن ان لا أقطعه لان المملوك من جنس الحر فان الجنسية لاتتبدل بالرق وإذا كان لا يقطع بسرقة جنسه من الاحرار يصير ذلك شبهة ولان احرازه لم يتم فان الصغير الذى لا يعقل يخرج إلى السكة وقد يوضع في السكة ويترك حرا كان أو مملوكا وما لا يتم احرازه عادة فهو تافه في حكم القطع وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا هو مال متقوم لايد له في نفسه فهو بمنزلة الدابة والكارة يتعلق القطع بسرقته والتافه ما يوجد جنسه مباح الاصل في دار الاسلام غير مرغوب وذلك لا يوجد في المماليك خصوصا في الصغار منهم (قال) فان سرق شاة من مرعاها لم يقطع لانها غير محرزة والمقصود من تركها من المرعى الرعى دون الاحراز وان سرقها من دار قطع لانها محرزة بالدار كسائر الاموال وكذلك الابل والبقر والفرس والحمار والبغل فان كانت تأولي بالليل إلى حائط قد بنى لها عليه باب يغلق عليها ومعها من يحفظها أو ليس معها حافظ فكسر الباب ودخل وسرق منه بقرة فآواها أو ساقها أو ركبها حتى أخرجها قال يقطع لما روينا انه ﷺ قال إذا جمعها المراح ففيها القطع ولانها بالليل تجمع في المراح للاحراز والحفظ ثم المذهب عندنا أن المكان الذى هو حرز لمال يكون حرزا لما آخر حتى لو سرق ثياب الراعى من هذا الموضع يقطع وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى المراح حرز للدواب دون غيرها من الاموال لان المعتبر في احراز كل مال ما هو المعتاد ومعتاد احراز الدواب بالمراح دون سائر الاموال الا ترى انه بابه قد يكون بحيث يمنع خروج الدواب ولا يمنع دخول الناس فيه فلهذا لا يقطع إذا سرق منه مالا آخر (قال) وإذا شهد شاهدان انه سرق بقرة واختلفا في لونها فقال احدهما بيضاء وقال الآخر سوداء فعلى قول ابى حنيفة رحمه الله تعالى تقبل هذه الشهادة وعندهما لاتقبل قال الكرخي رحمه الله في لونين متشابهين كالحمرة والصفرة تقبل عنده فأما فيما لا يتشابه كالسواد والبياض لاتقبل الشهادة بالاتفاق والاصح ان الكل على الخلاف فهما يقولان اختلفا في المشهود به على وجه لا يمكن التوفيق فلا تقبل الشهادة كما لو شهد احدهما انه سرق ثورا والآخر انه سرق انثى أو شهد احدهما انه سرق بقرة والآخر أنه سرق بعيرا والدليل عليه ان في الغصب لو اختلف الشهود
[ 163 ] في لون البقرة لم تقبل مع ان الثابت به مما لا يندرئ بالشبهات وهو الضمان ففي السرقة التى يتعلق بها مايندرئ بالشبهات أولى ولا معني لقول من يقول لعله كان أحد شقى البقرة أبيض والآخر اسود لان تلك بلقاء لا سوداء ولا بيضاء وابو حنيفة رحمه الله تعالى يقول اختلفا فيما لم يكلفا نقله والتوفيق ممكن فتقبل الشهادة كما لو اختلف شهود الزنا في الزانيين في بيت واحد وبيان الوصف انهما لو سكتا عن بيان لون البقرة لم يكلفهما القاضى بيان ذلك ولهذا تبين انه ليس من صلب الشهادة والاختلاف فيما ليس من صلب الشهادة إذا كان علي وجه يمكن التوفيق لايمنع قبول الشهادة وههنا التوفيق ممكن بأن كان أحد جانبيها ابيض والآخر اسود وقوله هذه تسمى بلقاء نعم ولكن في حق من يعرف اللونين اما في حق من لايعرف الا احدهما فهو علي ذلك اللون وشهود السرقة يتحملون الشهادة من بعيد في ظلمة الليل فلا يتمكنون من ان يقتربوا من السارق ليتأملوا في جانب البقرة وبه فارق الغصب فان الغاصب مجاهر بما يصنع فالشاهد يتمكن من التأمل ليقف على صفة المغصوب فلهذا لا يشتغل بالتوفيق هناك وهذا بخلاف البقرة والبعير فان الاختلاف هناك في صلب الشهادة وبخلاف الذكر والانثى فانه لا يوقف على هذه الصفة الا بعد القرب منها وعند ذلك لا يشتبه ولا حاجة إلى التوفيق (قال) ولو شهدا أنه سرق ثوبا فقال أحدهما هروى وقال الآخر مروى فقد ذكر هذه المسألة في نسخ أبي سليمان على الخلاف أيضا وفى نسخ أبى حفص قال لاتقبل هذه الشهادة عندهم جميعا ووجه الفرق لابي حنيفة رحمه الله أن الهروي والمروى جنسان مختلفان وبيان الجنس من صلب الشهادة فكان هذا اختلافا في صلب الشهادة وذلك مانع من قبول شهادتهما وان اختلفا في الوقت لم تجز الشهادة عندهم جميعا لان السرقة فعل والفعل الموجود في وقت غير الموجود في وقت آخر فإذا اختلفا في الزمان والمكان يمتنع قبول شهادتهما كما في الغصب والقتل (قال) وإذا سرق ثوبا فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه فان كان لا يساوي عشرة دراهم بعدما شقه لم يقطع بالاتفاق لان المعتبر كمال النصاب عند تمام السرقة وتمامه بالاخراج من الحرز فإذا لم تكن قيمته نصابا عند الاخراج لم يلزمه القطع بخلاف مالو شقه بعد الاخراج فانتقصت قيمته من النصاب وذلك لان سرقته تمت في نصاب كامل ثم التعيب تفويت جزء من الثوب ولو استهلك الكل بعدما أخرجه من الحرز لم يسقط القطع فكذلك إذا فوت جزءا منه بخلاف ما قبل الاخراج
[ 164 ] فانه لو استهلكه في الحرز لم يلزمه القطع فكذلك إذا فوت جزءا منه وهذا لان ما استهلك مضمون عليه في ذمته ولا يتصور اتمام فعل السرقة فيما هو دين لان اتمام فعل السرقة بالاخراج وذلك في الدين لا يتحقق فاما إذا لم تنتقص العين بفوات شئ منه بعد الاخراج وانما انتقصت قيمته من النصاب بنقصان السعر فلا قطع عليه عندنا وروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه يقطع وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالي لان السرقة تمت في نصاب كامل فالنقصان بعد ذلك لايمنع استيفاء القطع كالنقصان في العين ولكنا نقول كما ان النصاب يشترط لايجاب القطع فيشترط بقاؤه إلى وقت الاستيفاء كالثبات على الاقرار والشهادة وقد انعدم ذلك لان نقصان السعر فتور رغائب الناس فيه وذلك لا يكون مضمونا على أحد فانما يقطع باعتبار هذا العين فقط وقيمته دون النصاب خلاف مااذا كان النقصان في العين لانه يتقرر الضمان عليه بقدر ما فات من العين فانما يقطع باعتبار هذا العين فيما صار دينا في ذمته وهو نصاب كامل فاما إذا شق الثوب في الحرز ثم أخرجه وهو يساوى عشرة فان كان هذا العيب يمكن نقصانا يسيرا فعليه القطع بالاتفاق ولان حق صاحب الثوب في تضمين النقصان وليس له ان يضمنه القيمة إذا كان العيب يسيرا فأما إذا كان النقصان فاحشا فان اختار أخذ الثوب وبتضمين النقصان فعليه القطع وان اختار أن يضمنه قيمة الثوب وسلم له الثوب فلا قطع عليه في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يقطع في الوجهين جميعا وذكر ابن سماعة رحمه الله تعالى هذا الخلاف على قلب هذا ولكن ما ذكر في الاصل أصح وجه قول أبى يوسف رحمه الله تعالى ان سبب الملك قد انعقد له في الثوب قبل اتمام فعل السرقة وانعقاد سبب الملك يمكن شبهة كما لو اشترى ثوبا على ان البائع بالخيار ثم سرقته منه وبيان ذلك أنه ثبت للمالك خيار تضمين القيمة اياه والمضمونات تملك بالضمان فعرفنا ان سبب الملك انعقد له قبل الاخراج وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان تمت سرقته في نصاب كامل فعليه القطع كما لو كان النقصان يسيرا وبيان ذلك ان شق الثوب من السارق عدوان محض فلا يصلح سببا للملك انما يكون سبب الملك ما هو مشروع وهو يقرر الضمان عليه وهذا الملك يثبت شرطا لتقرر الضمان كيلا يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد فاما ان يكون العدوان سبب المملك فلا إذا ثبت هذا فإذا اختار المالك تضمينه قبل ان يقطع فقد صار
[ 165 ] مملكا للثوب منه وذلك مسقط للقطع كما لو ملكه بالبيع أو الهبة وان اختار استرداد الثوب فلم يحدث السارق فيه ملكا ولاسبب ملك فيبقى القطع عليه (قال) وإذا سرق شاة فذبحها في الدار وأخرجها فلاقطع عليه لانها صارت لحما واللحم مما يتسارع إليه الفساد واتمام فعل السرقة فيما يتسارع إليه الفساد غير موجب للقطع وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لهذه العلة ولثبوت حق التضمين للمالك فان له أن يضمنه قيمة الشاة ويملكه ذلك اللحم فكان ذلك شبهة في اسقاط القطع عنه (قال) وإذا قطعت يد السارق ورد المتاع على صاحبه ثم سرقه مرة أخرى لم يقطع عندنا استحسانا وعن أبى يوسف انه يقطع وهو القياس وهو قول الشافعي لانه سرق مالا كامل المقدار من حرز لاشبهة فيه وبهذه الاوصاف قد لزمه القطع في المرة الاولى فكذلك في المرة الثانية وهذا لانه تعذر رد المتاع على المسروق منه وهذه العين في حق السارق كعين أخرى في حكم الضمان حتى لو غصبه أو أتلفه كان ضامنا وكذلك في حكم القطع ألا ترى أنه لو باعه المسروق منه من انسان فسرقه من المشترى أو باعه ثم اشتراه ثم منه ثانيا يقطع فكذلك قبل البيع والشراء والدليل عليه انه لو سرق غزلا فقطعت يده ثم نسجه المالك ثم سرقه ثانيا يقطع وكذلك الحنطة إذا طحنها كذلك لو كانت بقرة فولدت عند المسروق منه ثم سرق ولدها يقطع والولد جزء منها فإذا كان يقطع بسرقة جزء منها فكذلك بسرقتها والدليل عليه أنه لو سرق من حرز فقطعت يده فخرب ثم أعيد ذلك الحرز فسرق منه مرة أخرى قطع فكذلك المال ولان هذا حد لله تعالى خالصا فيتكرر بتكر الفعل في محل واحد كحد الزنا فان من زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى لزمه الحد بخلاف حد القذف فانه حق المقذوف عندي وخصومته في الحد غير مسموعة في المرة الثانية لان المقصود اظهار كذب القاذف ودفع العار عن المقذوف وقد حصل ذلك بالمرة الاولى (وحجتنا) فيه نوعان من الكلام أحدهما مابينا أن صفة المالية والتقوم لم يبق في هذا العين حقا للمسروق منه بعدما قطعت يد السارق بدليل أنه لو تلف في يده أو أتلفه لم يضمن فبعد ذلك وان ظهرت المالية والتقوم في حقه بالاسترداد يبقي ما سبق مورثا شبهة والقطع يندرئ بالشبهات وهو نظير ما يوجد مباح الاصل في دار الاسلام إذا أحرزه انسان صار مالا متقوما له ومع ذلك لم يقطع السارق فيه باعتبار الاصل فهذا مثله فأما باعه ثم اشتراه فقد قيل لا يلزمه القطع أيضا
[ 166 ] ولئن سلمنا فان الملك هناك يتجدد بتجدد السبب والمالية والتقوم باعتبار الملك فجعل متجددا أيضا بخلاف ما قبل البيع والشراء هذا لان اختلاف أسباب الملك كاختلاف الاعيان ألا ترى أن بريرة كان يتصدق عليها وهى تهديه إلى رسول الله ﷺ فقال هو لها صدقة ولنا هدية والمشترى إذا باع من غيره ثم اشتراه ثم وجد به عيبا لم يرده على البائع الاول فدل أن تبدل سبب الملك كتبدل العين فأما الغزل إذا نسجه فهو في حكم عين آخر فلهذا لو فعله الغاصب كان الثوب مملوكا له فانما سرق في المرة الثانية عينا أخرى وعلى هذا الحرز فانه إذا أعيد الحرز كان هذا حرزا متجددا غير الاول لان الحرز ليس بعبارة عن عين الجدار بل هو عبارة عن التحفظ والتحصن وكذلك حد الزنا فانه يجب باعتبار المستوفى فالمستوفي مثلا شئ والمستوفى في المرة الثانية غير المستوفي في المرة الاولى فلهذا لزمه الحد مع أن هناك حرمة المحل لا تسقط في حقه باستيفاء الحد منه في المرة الاولى بخلاف المالية والتقوم الذى هو حق المالك في العين فانه يسقط اعتباره باستيفاء القطع من السارق ولان هذا حد لا يستوفى الا بخصومة فلا يتكر بتكرر الخصومة من واحد في محل واحد كحد القذف وبيانه أن الشهود لو شهدوا بالسرقة من غير خصم لا يثبت القطع بالاتفاق وتأثيره أن في خصومته في المرة الثانية نوع شبهة لانه قد استوفي بخصومته مرة ما هو جزاء سرقة هذا العين فيمكن شبهة في خصومته في المرة الثانية وذلك مانع من القطع الذى يندرئ بالشبهات غير مانع من الضمان الذى يثبت مع الشبهات بخلاف حد الزنا فانه لا تعتبر الخصومة فيه (قال) والسارق تقطع في المرة الاولى يده اليمني فان سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فان سرق بعد ذلك لم يقطع عندنا استحسانا ولكن يعزر ويحبس حتى تظهر توبته وعند الشافعي رحمه الله تعالى في المرة الثالثة تقطع يده اليسرى وفى المرة الرابعة تقطع رجله اليمني ثم يحبس بعد ذلك وعند أصحاب الظواهر في المرة الخامسة يقتل وحجته قوله تبارك وتعالى فاقطعوا أيديهما واسم اليد يتناول اليسرى كما يتناول اليمنى بدليل آية الطهارة ولا معنى لاستدلالكم بقراءة ابن مسعود رضى الله عنه وهو قوله تعالي فاقطعوا أيديهما لان بهذه القراءة ينبغي ان تقطع رجله اليمني ثم عندكم إذا سرق وهو مقطوع اليد اليسرى أو مقطوع الابهام من اليد اليسرى لم تقطع يده اليمني وبالقراءتين وبالاجماع صار قطع اليمني مستحقا من السارق فلا يجوز تركه بالرأى وفي حديث أبى هريرة رضى الله عنه ان
[ 167 ] النبي صلي الله عليه وسلم قال إذا سرق السارق فاقطعوه فان عاد فاقطعوه إلى ان قال في الخامسة فان عاد فاقتلوه وفى رواية مفسرا في المرة الاولى ذكر اليد اليمني وفى الثانية الرجل اليسرى وفى الثالثة اليد اليسرى وفى الرابعة الرجل اليمنى وروى المعلى أنه قطع من السارق هكذا وقد بينا حديث أبى بكر وعمر رضى الله عنهما والمعني فيه ان اليد اليسرى يد باطشة فتقطع في السرقة كاليمني وهذا لان سرقته بالبطش والمشى يتأتى فقطعت هذه الاعضاء للزجر لتفويت ما به تتأتي السرقة وذلك موجود في اليد اليسرى والرجل اليمني وربما يقولون المتناول للسرقة متناول فيها كاليد اليمنى والرجل اليسرى وكل عقوبة تتعلق باليد اليمنى تتعلق باليد اليسرى كالقصاص والدليل عليه أنه إذا أخطأ الحداد فقطع اليسرى مكان اليمنى لم يضمن وكان مستوفيا للحد حتى لا يضمن السارق المسروق واستيفاء الحد من غير محله لا يتحقق فتبين ان اليسري محل الا أنه لا يصار إليها في المرة الثانية مراعاة للترتيب المشروع وكان المعنى في شرع هذا الترتيب ان يكون الحد زاجرا له بالتنقيص له من بطشه ومشيه فان لم يحصل الانزجار به فالزجر بالتفويت يتحقق به الانزجار (وحجتنا) فيه قراءة ابن مسعود رضى الله عنه فاقطعوا ايمانهما قال ابراهم النخعي ان من قراءتنا والسارقون والسارقات فاقطعوا ايمانهما وهذه القراءة من القراءة المشهورة بمنزلة المقيد من المطلق فيصير كانه قال فاقطعوا ايمانهما من الايدى فلا يتناول الرجل أصلا ولا يتناول اليسرى والدليل عليه أنه في المرة الثانية لا تقطع يده اليسرى ومع بقاء المنصوص لا يجوز العدول إلى غيره فلو كان النص متناولا لليد اليسرى لم يجز قطع الرجل مع بقاء اليد والايدي وان ذكرت بلفظ الجمع فالاصل ان ما يوجد من خلق الانسان تذكر تثنيته بعبارة الجمع قال الله سبحانه وتعالى فقد صفت قلوبكما يقال ملات بطونهما ولان الجمع المضاف إلى الجماعة يتناول الفرد من كل واحد يقال ركب القوم دوابهم فيصير معني الآية فاقطعوا يدا من كل سارق وسارقة وكان ينبغي باعتبار هذا الظاهر أن لا يقطع الرجل اليسرى منهما ولكن ثبت ذلك بدليل الاجماع ولا يجوز الاعتماد على الآثار المروية فقد قال الطحاوي تتبعنا هذا الآثار فلم نجد لشئ منها أصلا ثم يحتمل انه كان هذا في الابتداء فقد كان في الحدود تغليظا في الابتداء ألا ترى أنه قطع الايدي والارجل من العرنيين وسمل أعينهم ثم انتسخ ذلك باستقرار الحدود وقيل كان ذلك الرجل مرتدا على ما قال جابر رضى الله عنه في حديثه أتى رسول الله صلى
[ 168 ] الله عليه وسلم بسارق فقال اقتلوه فقيل انما سرق يارسول الله اقطعوه ثم ذكر هكذا في كل مرة إلى أن قال في المرة الخامسة ألم أقل لكم اقتلوه فقد عرف رسول الله ﷺ بطريق الوحي وجوب القتل عليه ولما خاف أن يظن ظان أن موجب السرقة القتل أمر بقطعه حتى تبين لهم ذلك في المرة الخامسة فأمر بقتله فلما كان مستوجبا للقتل يباح قطع الاعضاء منه وقد بينا أن الصحابة رضى الله عنهم اختلفوا في هذه المسألة اختلافا ظاهرا واختلافهم يورث شبهة ثم أخذنا بقول علي رضي الله عنه لانه حاجهم بالمعنى حيث قال انى لا ستحيى من الله أن لاأدع له يدا يبطش بها ورجلا يمشى عليها وفي هذا بيان أن القطع انما شرع زاجرا لامتلفا وفى استيفاء الاعضاء الاربعة اتلاف حكما أو شبهة الاتلاف والشبهة تعمل عمل اتلاف فيما يندرئ بالشبهات وبيان الوصف أن الامام مأمور بالتحرز عن الاتلاف عند اقامة الحد بحسب الامكان ألاتري أنه لا يقيم في الحر الشديد والبرد الشديد ولا في حالة المرض كيلا يؤدي إلى الاتلاف وانه مأمور بالحسم بعد القطع كيلا يؤدي إلى الاتلاف وأنه يقطع في المرة الثانية الرجل اليسري واليد إلى اليد أقرب ألا تري أن في باب الطهارة لا يتحول إلى الرجل الا بعد الفراغ من اليدين وانما شرع الترتيب هكذا للتحرز عن الاتلاف الحكمى فدل أنه شرع زاجرا لا متلفا وفي قطع الاعضاء الاربعة اتلاف للشخص حكما فان فيه تفويت منفعة الجنس على الكمال وبقاء الشخص حكما ببقاء منافعه فلهذا يتعلق بقطع اليدين من العبد كل قيمة النفس ولهذا لا يجوز اعتاق مقطوع اليدين في الكفارة فعرفنا أنه استهلاك حكما وفيه شبهة الاتلاف والشبهة كالحقيقة فيما يندرئ بالشبهات وهذا بخلاف القصاص فالمستحق هناك اعتبار المساواة دون التحرز عن الاتلاف الا تري ان الاتلاف الحقيقي يستحق به إذا كان المساواة فيه بخلاف ما نحن فيه فاما الحداد انما لا يضمن إذا قطع اليسرى لانه عوضه من جنس ما فوت عليه ما هو خير له منه والاتلاف بعوض لا يكون سببا لوجوب الضمان وانما اسقطنا ضمان المسروق لتحقيق معنى التعويض ولان الحداد مجتهد فاعتمد ظاهر النص فيما صنع فنفذ اجتهاده ولم يكن ضامنا وهذا هو الجواب عما قاله انه إذا كان مقطوع اليد اليسرى في الابتداء عندكم لا تقطع يده اليمني قلنا اليد اليمني محل بالنص ولكن للاستيفاء شرط وهو أن لا يكون على وجه يفوت منفعة الجنس وقد انعدم هذا الشرط إذا كان
[ 169 ] مقطوع اليد اليسرى فلانعدام الشرط لا تقطع اليمني في هذه الحالة كما إذا كان مريضا لا تقطع يده اليمنى مع وجود المحل لانعدام الشرط فربما ينضم ألم القطع إلى ألم المرض فيؤدى إلى الاتلاف وكذلك في الحر الشديد والبرد الشديد فهذا مثله (قال) وان شهد شاهدان على رجل بالسرقة فقطعت يده ثم أتيا بانسان آخر وقالا هذا السارق الذى شهدنا عليه ولكنا أخطأنا بذلك لم تجز شهادتهما على هذا وضمنا دية يد الاول هكذا روى عن على رضى الله عنه أنه أتى برجل شهد عليه رجلان بالسرقة فقطع يده ثم أتيا بآخر فقالا وهمنا يا أمير المؤمنين انما السارق هذا فقال لا أصدقكما على الثاني وأغرمكما دية اليد ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وبه يستدل الشافعي رحمه الله تعالى في وجوب القصاص على الشهود وقطع اليدين بيد واحدة ولكنا نقول انما ذكر هذا اللفظ على سبيل ؟ التهديد ولم يكن كذبا منه لانه عقله بشرط لا سبيل إلى معرفته وقد صح عن علي رضى الله عنه أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة ذكره محمد في كتاب الرجوع والمعنى أنهما شهدا على أنفسهما بالغفلة وتناقص كلامهما في الشهادة على الثاني فقد رجعا عن الشهاة على الاول فكانا ضامنين لما استوفى بشهادتهما وان لم يرجعا ولكنهما وجدا عبدين كانت دية اليد على بيت المال لان هذا خطأ من الامام لما استوفاه لله تعالي فان رجعا عن شهادتهما بعد الحكم بالسرقة قبل أن تقطع يده أو قالا شككنا في شهادتنا درئ الحد ولكن السرقة تسلم للمشهود له لان رجوعهما بعد القضاء مبطل للقضاء فيما كان عقوبة لتمكن الشبهة أو فيما كان حقا لله تعالى لان تمامه بالاستيفاء فأما فيما هو حق العبد فالشهادة تتأكد بنفس القضاء والرجوع لا يبطل حق المقضى له والمال حق المسروق منه ولهذا لا يبطل حقه برجوعهما بعد القضاء وان لم يرجعا عند الحاكم ولكن شاهدين شهدا عليهما بالرجوع قبل القطع أو بعده فلا معتبر بهذه الشهادة وتقطع يد السارق لان الرجوع عن الشهادة معتبر بالشهادة والشهادة في غير مجلس الحكم لا توجب شيئا فكذلك الرجوع فانما شهد هذين على رجوع باطل (قال) وإذا شهد رجلان وامرأتان على رجل بسرقة مال لم يقطع وأخذ بالمال وكذلك الشهادة على الشهادة لان في شهادة النساء ضرب شبهة من حيث ان الغالب عليهن الضلال والنسيان واليه أشار الله تعالى تبارك وتعالى في قوله ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى فلا يثبت بشهادتهما ماكان يندرئ بالشبهات وهو السرقة الموجبة للقطع
[ 170 ] ولكن يثبت به أخذ المال لان الثابت به رد العين ووجوب الضمان وهو مما يثبت مع الشبهات وكذلك في الشهادة على الشهادة ضرب شبهة من حيث ان الكلام إذا تداولته الالسن يتمكن فيه زيادة ونقصان (قال) وإذا شهد شاهدان على رجلين انهما سرقا من هذا الرجل ألف درهم واحد الرجلين غائب قطع الحاضر وهذا قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قولهما وفى قوله الاول لا يقطع ذكر القولين بعد هذا في الاقرار إذا أقر أنه سرق مع فلان الغائب لم يقطع في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى الاول وهو قول زفر رحمه الله تعالى ويقطع المقر في قوله الآخر وهو قولهما وقد بينا نظيره في الحدود إذا أقرأنه زني بغائبة وجه قوله الاول ان الغائب لو حضر ربما يدعي شبهة يدرأ بها القطع عن نفسه وعن الحاضر فلو قطعنا الحاضر قطعناه مع الشبهة وذا لا يجوز كقصاص مشترك بين حاضر وغائب لا يكون للحاضر ان يستوفيه حتى يحضر الغائب وجه قوله الآخر ان السرقة ظهرت على الحاضر بالبينة أو بالاقرار فيستوفى الامام حقا لله تعالى وهذا لان السراق يحضرون وقل ما يحضرون بل في العادة يهربون وبعضهم يوجد وبعضهم لا يوجد فلو لم يقطع الحاضر أدى إلى سد باب هذا الحد وما من شبهة يدعيها الغائب الا والحاضر يتمكن من أن يدعى ذلك وقد بينا أن بالشبهة التي يتوهم اعتراضها لا يمتنع الاستيفاء بخلاف القصاص فالشبهة هناك توهم عفو موجود من الغائب في الحال فان جاء الغائب بعد ذلك لم يقطع بالشهادة الاولى حتى تعاد تلك البينة عليه أو غيرها فيقطع حينئذ لان تلك البينة في حق الغائب قامت بغير محضر من الخصم فان الحاضر لا ينتصب خصما عنه إما لان النيابة في الخصومة في الحد لا تجري أو لانه ليس من ضرورة ثبوت السرقة على الحاضر ثبوتها على الغائب فلهذا يشترط اعادة البينة على الغائب ليقطع (قال) وان كان القاضى يعرف شهود الحدود والقصاص انهم أحرار مسلمون غير أنه لايعرف عدالتهم ولا يطعن فيهم السارق حبسه حتى يسأل عنهم لانه صار متهما بارتكاب الكبيرة فيحبس ولا تقطع يده قبل السؤال عن الشهود لان هذا شئ لو وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه وتلافيه فعلى الحاكم أن يسأل عن الشهود صيانة لقضاء نفسه طعن الخصم فيه أو لم يطعن وهذا لان الشبهة متمكنة في شهادتهم قبل التزكية ومع تمكن الشبهة لا يقدم على استيفاء مايندرئ بالشبهات فأما في غير الحدود والقصاص مما لا يندرئ بالشبهات فالقاضي يقضى عند أبي حنيفة رحمه الله قبل أن يسأل عنهم الا أن يطعن الخصم فيهم أو
[ 171 ] يستريب فيهم وعندهما لا يقضي ما لم يسأل عنهم على كل حال لانه مأمور بالقضاء بالشهادة العادلة فما لم تظهر العدالة عنده لا يجوز له أن يقضى شرعا كما في الحدود وهذا لانه مأمور بالتوقف في خبر الفاسق منهي عن العمل به فانما ينتفي الفسق عنهم بالتزكية فما لم يظهر ذلك عنده بالسؤال لا يحل له أن يقضى لان قبل السؤال ثبوت عدالتهم بالظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق لا لاثبات الاستحقاق به وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله ﷺ المسلمون عدول بعضهم على بعض وهكذا روى عن عمر رضي الله عنه فيما كتب به إلى أبى موسى الاشعري رضي الله عنه فقد عدل رسول الله ﷺ كل مسلم باسلامه فتعديل صاحب الشرع اياه لا يختلف عن تعديل المزكى فيتمكن القاضى من القضاء الا أن يطعن الخصم فهو أيضا معدل باسلامه على لسان صاحب الشرع فللتعارض احتاج الامام إلى السؤال ولهذا يتبين ان هذا ليس بقضاء بالظاهر بل بدليل موجب له وهو اسلامه فالمسلم يكون منزجرا عن ارتكاب مايمتقد الحرمة فيه حتي يظهر خلافه ثم المستحق بشهادتهما مال إذا وقع فيه الغلط أمكن تداركه بالرد فلا يجب على القاضى الاستقصاء فيه للقضاء بخلاف الحدود وبهذا تبين ان السؤال عن الشهود هناك لحق المدعى فانما يشتغل به عند طلبه فاما قبل الطلب لو اشتغل القاضى به كان ذلك منه انشاء لخصومة وهو مأمور بفصل الخصومة لا بانشائها فكان ذلك اعانة منه لاحد الخصمين وهو منهى عن ذلك (قال) وإذا شهد الشهود على رجل بحد هو خالص حق الله تعالى بعد تقادم العهد لم تقبل شهادتهم وقد بينا هذا في كتاب الحدود وذكرنا حد التقادم في حد الزنا والسرقة فاما في شرب الخمر فكذلك الجواب عند محمد وعند أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى حد التقادم زوال رائحة الخمر حتي لايقام عليه إذا شهدوا بعد زوال رائحة الخمر أو أقر هو بذلك فمحمد رحمه الله تعالي يقول هذا حد ظهر سببه عند الامام فلا يشترط لا قامته بقاء أثر الفعل كحد الزنا والسرقة وهذا لان وجود الرائحة لا يمكن ان يجعل دليلا فقد يتكلف لزوال الرائحة مع بقاء أثر الخمر في بطن الشارب وقد توجد رائحة الخمر من غير الخمر فان من استكثر من أكل السفرجل والتفاح يوجد منه رائحة الخمر قال القائل يقولون لى انكه شربت مدامة * فقلت لهم لابل أكلت السفرجلا فكان هذا شاهد زور ألا ترى أنه لايقام الحد لوجود الرائحة ما لم يشهد الشهود عليه بالشرب
[ 172 ] أو يقر به وهما احتجا بحديث ابن مسعود رضى الله عنه أنه أتى ؟ بشارب الخمر قال مزمزوه وترتروه واستنكهوه فان وجدتم رائحة الخمر فحدوه فقد شرط لاقامة الحد وجود الرائحة والمعنى فيه ان حد الخمر ضعيف من الوجه الذى بينا أنه لانص فيه فلا يقام الا على الوجه الذى ورد الاثر به وانما ورد الاثر باقامة الحد على من كان الخمر في بطنه ولوجود الخمر في بطنه علامة وهو وجود الرائحة منه فلا يقضي الا بظهور تلك العلامة كالمرأة إذا ادعت الولادة ما لم تشهد القابلة بذلك لا يقضي القاضى به ثم زوال رائحة الخمر بعد الشرب لا يكون الا بمضي زمان وقد بينا أنه لانص في حق التقادم ففيما أمكن اعتبار التقادم لمعنى في الفعل كان المصير إليه أولى من المصير إلى غيره ووجود رائحة الخمر من غير الخمر نادر ولايكون مستداما أيضا فلا يعتبر ذلك ولكن هذا إذا كان بحضرة الامام فأما إذا كانوا بالبعد منه فجاؤا به بعد زوال الرائحة لبعد المسافة فالصحيح انه لا يمتنع استيفاء الحد بشهادتهم لانه لم يوجد منهم تفريط وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا ألاتري أن الامام إذا علم أن الشارب تكلف لازالة الرائحة لا يمتنع من اقامة الحد عليه فهذا مثله (قال) وإذا قطعت يد السارق وقد قطع الثوب قميصا ولم يخطه أو صبغه اسودأ وباعه من رجل أو وهبه منه وهو بعيبه في يده فانه يرد على المسروق منه لان القطع نقصان وكذلك السواد في الثوب نقص والبيع والهبة من السارق باطل لانه حصل في ملك الغير بغير أمر صاحبه فكما يكون للمسروق منه أن يأخذه إذا وجده في يد السارق فكذلك إذا وجده في يد المشترى منه فان كان خاط الثوب فلا سبيل للمسروق منه عليه لما اتصل بالثوب من وصف متقوم هو حق السارق ألاتري أن الغاصب لو قطع الثوب وخاطه لم يتمكن المغصوب منه من أخذ الثوب منه بعد ذلك فهذا مثله الا أن هناك يكون الغاصب ضامنا للثوب بمنزلة مالو أتلفه أو أتلف في يده وههنا لا يكون ضامنا لانه لو تلف في يده أو أتلفه بعد القطع لا يضمن فكذلك إذا احتبس عنده بما اتصل به من الوصف حقا له فأما إذا صبغه أحمر أو أصفر فعلى قول أبى حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ينقطع حق المسروق منه في الاسترداد وعند محمد رحمه الله لا ينقطع ولكنه يأخذ الثوب ويعطى السارق ما زاد الصبغ فيه لان عين الثوب قائم بعد الصبغ ومن وجد عين ماله فهو أحق به بالنص ثم الصبغ لو حصل من الغاصب لم ينقطع به حق المغصوب منه في الاسترداد فكذلك من السارق الا أن ما اتصل به من الصبغ مال متقوم من الصباغ
[ 173 ] وهو وصف والثوب أصل والوصف تبع للاصل فكان لصاحب الاصل أن يأخذه فيعطيه ما زاد الصبغ فيه كما في الغاصب ولو أراد أن يسلم له الثوب ويضمنه قيمة ثوبه أبيض لم يكن له ذلك بخلاف الغصب لان عند تسليم الثوب له يجعله في حكم المستهلك ولو استهلك المغصوب حقيقة كان ضامنا له ولو استهلك المسروق حقيقة لم يكن ضامنا فباعتبار هذا المعنى يقع الفرق بينهما في هذا الجانب فأما عند اختيار الاخذ فلا فرق بين الغاصب والسارق ومن حيث أن كل واحد منها جان وان مراعاة حقه بأداء قيمة الصبغ إليه ممكن فلا ضرورة في قطع حق صاحب الثوب عن الثوب وجه قولهما أن الوصف الذى اتصل بالثوب متقوم حقا للسارق فينقطع به حق المسروق منه في الاسترداد كالخياطة وهذا لان هذا حق ضعيف له مقصور على العين ألاتري أنه لا يتعدى إلى بدل العين عند الاستهلاك ومثل هذا الحق يبطل بالصبغ كحق الواهب في الرجوع وترجيح الاصل عند مساواة الحقين في القوة فأما الضعيف لا يظهر في مقابلة القوى بخلاف الغاصب فان حق المغصوب منه قوى يسري إلى بدل العين فيستقيم الترجيح هناك باعتبار الاصل والتبع واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى في الامالى بحرف آخر فقال لو بقي الثوب على ملك المسروق منه بعد الصبغ تعذر استيفاء القطع من السارق لانه يصير شريكا في العين بملكه في الصبغ وافتران الشركة بالسرقة يمنع وجوب القطع فاعتراضها بعد السرقة يمنع الاستيفاء وبالاجماع يستوفى القطع من السارق فعرفنا أنه لم يبق حق المسروق منه في الثوب (فان قيل) هذا فاسد فانه إذا جعل السارق متملكا للثوب يمنع استيفاء القطع منه أيضا (قلنا) نعم ولكن يجعل الثوب في حكم المستهلك فانما يقطع بسرقة ما قد صار مستهلكا لا باعتبار ما هو مملوك له في الحال كما إذا خاط الثوب فأما مع بقاء حق الاخذ له لا يمكن جعله مستهلكا فيتقرر معنى الشركة وعلى هذا الطريق نقول لو صبغه بعدما قطعت يده لا يتعذر على المسروق منه الاسترداد لانه لا تأثير للشركة بعد استيفاء القطع والدليل على اعتبار معني الشركة أن في المغصوب لو اختار المغصوب منه بيع الثوب استقام ذلك وضرب صاحب الثوب في الثمن بقيمة الثوب أبيض والآخر بقيمة الصبغ وهذا لا يكون الا بعد ثبوت الشركة بينهما في المبيع وعلى هذا الخلاف لو كان المغصوب سويقا قلته بسمن لان السمن زيادة في السويق من غير أن يكون مبدلا للعين حتى لا ينقطع به حق المغصوب منه فهو
[ 174 ] كالصبغ في الثوب في جميع ما ذكرنا وان كان المسروق دراهم فسبكها أو صاغها قلنا كان للمسروق منه أن يأخذها لان الصنعة بانفرادها لا تتقوم في الذهب والفضة فلا تثبت الشركة باعتبارها بينهما وقد ذكر الخلاف في الجامع الصغير في الغصب أنه عند أبي حنيفة رحمه الله لا ينقطع به حق المغصوب منه عن استرداد العين وعندهما ينقطع فكذلك في السرقة والاصح أنه على ذلك الخلاف ومنهم من يفرق لابي يوسف رحمه الله تعالى فيقول هناك لو اعتبرنا حق الغاصب في الصنعة لم يبطل به حق المغصوب منه أصلا ولكنه يضمنه مثل المغصوب وههنا لو اعتبرنا ذلك بطل به حق المسروق منه لانه لا يتمكن من تضمين السارق والعين متقوم من كل وجه والصنعة تتقوم تبعا للاصل وان كانت لاتتقوم منفردة عن الاصل فكان ابقاء حق المسروق منه في العين أولى فان كانت السرقة صفرا فجعلها قمقمة أو حديدا فجعله درعا لم يأخذه لان للصنعة قيمة في هذه الاعيان ولهذا يخرج بالصنعة من أن يكون مال الربا فلابد من اعتبارها حقا للسارق ثم هذه الصنعة لو وجدت من الغاصب انقطع بها حق المغصوب منه عن استرداد العين فكذلك إذا وجدت من السارق وكذلك كل شئ من العروض وغيرها إذا كان قد غيره عن حاله فان كان التغيير بالنقصان فللمسروق منه أن يأخذ كما للمغصوب منه الا ان المغصوب منه يضمن الغاصب النقصان والمسروق منه لا يضمنه النقصان اعتبارا الاتلاف الجزء باتلاف الكل وان كان التغيير زيادة فيه فان كان على وجه لو حصل من الغاصب لا يتمكن المغصوب منه من أخذ العين بعد ذلك فكذلك المسروق منه لا يتمكن من أخذه وان كان على وجه لا يتعذر على المغصوب منه استرداد العين فهو على الخلاف الذى بينا (قال) وان كانت السرقة شاة فولدت أخذهما جميعا المسروق منه لان الولد زيادة متولدة من العين وكما يتمكن من استرداد العين قبل انفصال هذه الزيادة فكذلك بعدهما ألا ترى أن المغصوب منه يتمكن من الاسترداد بعد الولادة وان حق الواهب لا ينقطع في الرجوع بالولادة وهذا بخلاف السمن والصبغ فالزيادة هناك في ملك السارق يثبت باعتبارها معنى الشركة وههنا الزيادة في ملك المسروق منه فلا يثبت باعتبارها للسارق شركة (قال) وإذا قطع في صوف أو كتان أو قطن فرده على صاحبه فصنع منه ثوبا ثم سرقه فعليه القطع لان العين تتبدل بالصنعة والثوب في حكم الحادث بالنسج ألا ترى أنه لو وجد هذا من الغاصب كان الثوب مملوكا له فسرقته لذلك بعد
[ 175 ] صنعته بمنزلة سرقته مالا آخر (قال) فان كان السارق أشل اليد اليمنى واليد اليسرى صحيحة قطعت اليمني لان اليمنى لو كانت صحيحة وجب قطعها بسبب السرقة فإذا كانت شلاء أولى وهذا بخلاف ما إذا كانت يده اليسرى شلاء فانه لا تقطع يده اليمنى لان شرط استيفاء القطع ان لا يكون مفوتا منفعة الجنس وفى قطع اليمنى إذا كانت اليسري شلاء تفويت منفعة البطش وإذا كانت اليسري صحيحة فليس في قطع اليمنى تفويت منفعة البطش ولا تقطع الرجل اليسرى أيضا لان فيه تفويت منفعة المشى فان اليد اليسري إذا كانت شلاء فقطعت رجله اليسرى لا يمكنه المشي بعصى بخلاف مااذا كانت يده اليسرى صحيحة (فان قيل) التفويت لا يكون باستيفاء اليد اليمنى بل بالشلل في اليسرى (قلنا) لا كذلك فالحكم إذا كان ثابتا بعلة ذات وصفين يحال به على آخرهما وجودا وآخرهما قطع اليد اليمنى ههنا فكان التفويت مضافا إليه وكذلك إذا كانت رجله اليمنى شلاء لم تقطع يده اليمني ولارجله اليسرى لان فيه تفويت منفعة الجنس وهو المشى فانه لا يمكنه المشى بعده بعصى فان كانت رجله اليسرى شلاء قطعت يده اليمني لانه ليس فيه تفويت فانه يتمكن من المشى بعصى إذا كانت يده اليسرى صحيحة (قال) وإذا حبس السارق ليسأل عن الشهود فقطع رجل يده اليمنى عمدا فعليه القصاص لان بمجرد الشهادة قبل اتصال القضاء بها لا تسقط حرمة يده فالقاطع استوفي يدا متقومة من نفس محترمة فعليه القصاص وقد بطل الحد عن السارق لفوات المحل وهو ضامن قيمة المسروق لان سقوط ذلك لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى ولم يوجد ذلك وكذلك إذا كان قطع يده اليسرى لانه يتعذر استيفاء الحد بعده لما فيه من تفويت منفعة البطش (قال) فان حكم عليه بالقطع في السرقة فقطع رجل يده اليمني من غير اذن الامام فلا شئ عليه لانه سقطت قيمة يده بقضاء الامام عليه بالقطع فالقاطع استوفى يدا لاقيمة لها فلم يكن ضامنا ولكن الامام يؤدبه على ذلك لانه أساء الادب حين قطعه قبل أن يأمر الامام به وان أمر القاضى الحداد بقطع يده اليمني فأخطأ وقطع يده اليسرى فهو ضامن في القياس لان بالقضاء بالقطع في اليد اليمنى لم تخرج اليد اليسرى من أن تكون محترمة متقومة فقطعها خطأ قبل القضاء وبعده سواء وفى الاستحسان لا شئ عليه لان فعله حصل في موضع الاجتهاد فان المنصوص عليه قطع اليد من السارق وقد قطع اليد واجتهد وان أخطأ فلا
[ 176 ] ضمان عليه إذا كان فعله في موضع الاجتهاد يوضحه انه وان فوت عليه اليسرى فقد عوض اليمني لانه لا تقطع يده اليمنى بعد هذا وما عوضه من جنس ما فوت عليه فهو خير له مما فوت عليه لان منفعة البطش في اليد اليمنى أظهر والاتلاف بعوض لا يوجب الضمان وان تعمد ذلك فان كان السارق أخرج يده اليسرى فقال اقطعها فلا ضمان عليه بالاتفاق لانه قطعها باذن صاحب اليد ألاتري أن من قطع يد الغير باذنه من غير أن يكون قطعه مستحقا بالسرقة لم يكن ضامنا شيئا فهذا أولي وان لم يكن أمره فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أخذا بالقياس ههنا وقالا يضمن الحداد لانه جان فيما صنع متعد فيكون ضامنا كما لو قطع رجله أو أنفه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ بالاستحسان لما بينا أن الحداد مجتهد وفعله حصل في موضع الاجتهاد بخلاف مالو قطع رجله أو أنفه ولانه عوضه من جنس ما فوت عليه ما هو خير منه والاتلاف بعوض لا يوجب الضمان على المتعدى كالشهود إذا شهدوا عليه ببيع مال بمثل قيمته فأما إذا قطع أنفه فلم يعوضه مما أتلف عليه شيئا لان القطع في اليد لا يسقط عنه بذلك وان قطع رجله اليسرى فلم يعوضه شيئا لان القطع لا يسقط عنه بهذا وان قطع رجله اليمنى فلم يعوضه من جنس ما فوت عليه لان منفعة البطش ليست من جنس منفعة المشى (قال) وإذا حكم عليه بالقطع بشهود في السرقة ثم انفلت ولم يكن حكم عليه حتى انفلت فأخذ بعد زمان لم يقطع لما بينا أن حد السرقة لايقام ؟ بحجة البينة بعد تقادم العهد والعارض في الحدود بعد القضاء قبل الاستيفاء كالعارض قبل القضاء وان اتبعه الشرط وأخذوه من ساعته قطعت يده لان مجرد الهرب ليس بمسقط للحد عنه ولانه لم يتمكن ههنا تهمة التهاون والتقصير في الطلب من أحد (قال) وإذا ردت السرقة إلى صاحبها قبل أن يرفع السارق إلى الامام رفع إليه لم يقطع لان توبته قد تحققت برد المال وقد نص الله تعالى في السرقة الكبرى على سقوط الحد بالتوبة قبل قدرة الامام عليه ففي الصغرى أولى ولان الامام لا يتمكن من اقامة الحد عليه الا بعد ظهور السرقة عنده ولا تظهر إذا رد المال قبل أن يرفع إليه لان السرقة لا تظهر عنده الا بالخصومة في المال ولا خصومة بعد استرداد المال ولانا قد بينا أن الخصومة شرط وانعدام الشرط قبل القضاء يمنع القاضى من القضاء بالقطع وإذا كانت اصبعان من اليسرى مقطوعة لم تقطع يده اليمنى في السرقة لان قطع الاصبعين ينقص من البطش باليد اليسرى أو يفوت بمنزلة
[ 177 ] الشلل فقطع اليد اليمنى بعد ذلك يكون تفويتا لمنفعة الجنس وكذلك ان كانت الابهام وحدها مقطوعة لان منفعة البطش منها تفوت بقطعها كما تفوت بالشلل وإذا كانت أصبع واحدة سواها مقطوعة قطعت اليد اليمنى لان قطع الاصبع الواحدة سوي الابهام لا يفوت منفعة البطش من اليسري فقطع اليد اليمنى في هذه الحالة لا يفوت عليه منفعة البطش وان كانت رجله اليمني مقطوعة الاصابع فان كان لايستطيع القيام والمشى عليها قطعت يده وان كان لايستطيع أن يمشى عليها لم تقطع وكذلك ان كان المقطوع من رجله اليسرى أصبعين لان فيه تفويت منفعة المشى عليه (قال) وكل شئ درأت فيه الحد ضمنته السرقة ان كانت مستهلكة وإذا قطعت لم أضمنه وان كانت قائمة رددتها لبقاء الملك فيها لصاحبها (قال) وإذا سرق سرقات لم يقطع بها الا يد واحدة لان مبني الحدود على التداخل ومعنى الزجر يتم بقطع يد واحدة فان حضروا جميعا قطعت يده بخصومتهم ولم يضمن شيئا من السرقات المستهلكة لان في حق كل واحد منهم قد استوفى الحد بخصومته بعدما ظهرت السرقة فكأنه ليس معه غيره وان حضر أحدهم قطعت يده بخصومته على قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ولا يضمن شيئا من سرقاته المستهلكة وعندهما هو ضامن للسرقات كلها الا السرقة التى قطعت يده بالخصومة فيها وذكر ابن سماعة رحمه الله تعالى في نوادره هذا الخلاف على عكس هذا وما ذكره في الاصل أصح وجه قولهما ان الاخذ الموجب للضمان متقرر في حق كل واحد منهم حتى لو سقط الحد بشبهة كان ضامنا لكل واحد منهم ماله فانما سقط الضمان لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى وانما وجد ذلك في حق الذى خاصم خاصة لان القطع في سرقته دون غيره من السرقات فان الشرط الخصومة المظهرة للسرقة ولم يوجد ذلك في حق الباقين لان الحاضر ليس بخصم عنهم ولانه ما خاصم الافي سرقته فيجعل في حقهم كأنه تعذر اقامة الحد للشبهة فبقي الضمان واجبا لهم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول في حق السارق حضور أحدهم كحضورهم فانه لا يقطع به الايد واحدة في الاحوال كلها وكما لا يضمن شيئا لو حضروا فكذلك إذا حضر بعضهم وهذا لان الحد هو المستحق عليه بكل شئ سرقه والمقام عليه حد واحد بالاتفاق فيكون مسقطا ضمان السرقات كلها ألا ترى أنه لو أقر بالسرقة والمسروق منه غائب فاجتهد الامام وقطع يده لم يضمن للمسروق منه شيئا وان حضر فصدقه (قال) وان شهد شاهد أنه نقب بيت هذا وأخرج منه كارة لا يدريان
[ 178 ] ما فيها لم يقطع لان المشهود به مجهول وشرائط وجوب الحد بمثل هذه الشهادة المجهولة لا تثبت ولم يشهدوا للمسروق منه بالملك في شئ أيضا فالمخرج من بيته قد يكون ماله وقد يكون مال لمخرج وان قالوا نشهد أنه سرق منه هذا المتاع فإذا هو ثياب مختلفة تساوى مالا عظيما قطع لانهم شهدوا بفعل السرقة في معلوم فان الاعلام بالاشارة إلى العين أبلغ من الاعلام بالتسمية ولان الشاهد لا يتمكن عند تحمل الشهادة من أن يقتص ما سرقه ليتأمل كل ثوب منه ولا يكلف أداء الشهادة بما ليس في وسعه (قال) وان كان للسارق دين على المسروق منه لم يبطل القطع عنه بخلاف ما يقوله بعض الناس أن قيام الدين عليه له سبب لاستحقاق ماله ألا ترى أن مال المديون لا يكون نصاب الزكاة بطريق انه كالمستحق لصاحب الدين بدينه وسبب الاستحقاق يورث شبهة في درء الحد عنه ولكنا نقول محل الدين الذمة ولا تعلق له بالمال خصوصا في حال صحة المديون حتى يملك التصرف في ماله كيف شاء ومع من شاء ببدل وبغير بدل وانما تعلق الدين بالمال من حيث أن قضاء الدين يكون به فأما قبل القضاء فلا حق لصاحب الدين في مال المديون الا أنه إذا كان الدين من جنس ما أخذه كان فعله استيفاء ولصاحب الدين أن يستوفى جنس حقه إذا ظفر به فلا يلزمه القطع لذلك فأما إذا كان من خلاف جنس حقه ففعله ليس باستيفاء ولكنه سرقة موجبة للحد عليه فان قال انما أردت أن آخده رهنا بحقي أو قضاء لحقي درئ عنه الحد لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى فان ابن أبى ليلى رحمه الله كان يقول وان ظفر بخلاف جنس حقه كان له أخذه لوجود المجانسة باعتبار صفة المالية ومن العلماء من يقول يأخذه رهنا بحقه والاختلاف المعتبر يمكن شبهة وهذا لان فعله كان في موضع الاجتهاد لا ينفك عن شبهة وان كان هو مخطئا في ذلك التأويل عندنا (قال) وان سرق الحربى المستأمن في دار الاسلام لم يقطع وهو ضامن الا على قول أبى يوسف وابن أبى ليلي رحمه الله تعالى فانهما يقولان يقطع ولا ضمان عليه وقد بينا نظيره في كتاب الحدود (قال) وإذا أشكل على الامام قيمة المسروق واختلف أهل العلم فقال بعضهم قيمتها عشرة دراهم وقال بعضهم أدنى لم يقطع لان كمال النصاب شرط يراعى وجوده حقيقة وذلك ينعدم عند اختلاف المقومين فيه وقد بينا حديث عمر حين قضى بالقطع على السارق فقال عثمان رضى الله عنه سرقته لا تساوي الا ثمانية دراهم فدرأ القطع عنه (قال) وان كان أراها واحدا منهم فقال هي تساوى عشرة
[ 179 ] دراهم لم يقطعها حتى يريها لآخر منهم لان الحجة الحكمية لا تتم بقول واحد وشرط القطع يعتبر ثبوته بالحجة الحكمية فلهذا لا يكتفي بقول الواحد حتي يراها غيره فان اجتمع اثنان على ذلك ولم يرها أحد بعد ذلك قطعه لان سبب الحد يثبت بشهادة اثنين فكذلك شرطه يثبت بقولهما في الحكم فيستوفى القطع الا أن يقول آخر لا يساوي ذلك فحينئذ للمعارضة تتمكن الشبهة كما لو أقر بالسرقة ثم رجع (قال) فان سرق دينارا أو مثقال ذهب لا يساوي عشرة دراهم لم يقطع لقيام الدليل على ان نصاب السرقة يتقدر بعشرة دراهم وغير المنصوص يقام مقام المنصوص عليه باعتبار القيمة فإذا لم تبلغ قيمته نصابا لم يتم شرط القطع ولايقال الدينار كان مقوما بعشرة على عهد رسول الله ﷺ لان ذلك شئ يختلف باختلاف الاوقات والامكنة في قلة الوجود وكثرة الوجود وليس هذا الحكم شرعيا ليصار في معرفته إلى ماكان في عهد رسول الله ﷺ (قال) ولو شهدوا ان هذا سرق ولم يعرفوا اسمه قطع ولو يضرهم أن كانوا لا يعرفون اسمه لانهم عرفوه بالاشارة إليه فهو أبلغ من ذكر الاسم والنسبة ولانه انما يحتاج إلى ذكر الاسم والنسبة لتعريف الغائب به وهو حاضر فلا يقدح في شهادتهم أن لا يعرفوا اسمه (قال) وان قال السارق صاحب البيت اذن لى في دخولي أو قال كنت ضيفا عنه درئ عنه القطع لانه لو ثبت ما ادعاه لم يكن فعله موجبا للقطع فبمجرد دعواه تتمكن الشبهة كما لو ادعى ملك العين لنفسه وهذا لانه إذا آل الامر إلى الخصومة والاستحلاف فلا يستحسن اقامة القطع معه (قال) وان كان القوم في دار واحدة كل رجل في مقصورة وباب عليه مغلق دون مقصورة صاحبه فنقب رجل منهم على صاحبه فسرق منه قال لا يقطع الا أن تكون دارا عظيمة فيقطع وقد بينا ان الدار العظيمة كالمحلة فكل مقصورة منها حرز على حدة ومن يسكن بعض المقاصير يتم منه فعل السرقة في مقصورة صاحبه فاما إذا كانت دارا صغيرة فبيوت هذه الدار كلها حرز واحد وان كان يغلق على كل بيت منها باب فمن يسكن بعض هذه البيوت فهو متمكن من الدخول في الحرز شرعا قيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنه ولهذا قلنا في الدار الصغيرة لو أخذ مع المتاع في صحن الدار لا يقطع ما لم يخرجه إلى السكة بخلاف الدار العظيمة فان السارق إذا أخذ من مقصورة منها إذا أخذ في صحن الدار يقطع (قال) وإذا أجر الرجل منزله من رجل وهو في منزل آخر فسرق المؤاجر من المستأجر متاعه من ذلك الموضع قطع في قول أبى حنيفة رحمه الله
[ 180 ] وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لاقطع لقيام ملكه في الحرز ووجوب القطع باعتبار هتك الحرز وأخذ المال ثم لو سرق العين الذى أجره من المستأجر لم يقطع لقيام ملكه في العين فكذلك إذا سرق من البيت الذى أجره وهذا لان له نوع تأويل في الدخول لينظر هل استرم شئ منه فيرم ذلك أهل خرب المستأجر شيئا منه فيمنعه من ذلك وأبو حنيفة رحمه الله يقول سرق ملك الغير من حرز صاحب الملك فيلزمه القطع كما لو باع منزله ثم سرق منه متاع المشترى وهذا لان الحرز ليس بعبارة عن عين الجدار ولكنه عبارة عن التحفظ بها وذلك صار للمستأجر خالصا لاحق للآجر فيه في مدة الاجازة بخلاف المال الذى آجره لان وجوب القطع باعتبار العين والعين باق على ملكه والدليل عليه انه لو حدث الملك للسارق في المال بعد تمام فعل السرقة يسقط القطع عنه ولو حدث له الملك في الحرز لم يسقط القطع عنه فكذلك إذا اقترن بالسبب ولم يذكر في الكتاب أن المستأجر إذا سرق متاع الآجر من منزله ففي بعض النوادر ذكر أنه على الخلاف أيضا والاصح أنه إذ ؟ كان المنزل المؤاجر حرزا على حدة والمنزل الذي يسكنه المؤاجر حرزا على حدة فانه يلزمه القطع عندهم لانه لا تأويل للمستأجر في منزل المؤاجر ولا شبهة وقد ذكر الخلاف في بعض نسخ الاصل وتأويل ذلك فيما إذا كانت صغيرة أجر منزلا منها من انسان حتى يكون الكل في حكم حرز واحد فحينئذ لا يلزمه القطع عندهما ولكن إذا كان التأويل هذا فكذلك ينبغى على قول أبى حنيفة رحمه الله كما لو باع منزلا منها من انسان فهذا فصل مشتبه ولكن الجواب الصحيح فيه ما بينا ثم ذكر في الاصل ما يقطع فيه ومالا يقطع من الاعيان وذكر في الجملة أنه يقطع في الحناء والوسمة وقد ذكر قبل هذا أنه لا يقطع فيهما فتأويل ما ذكر قبل هذا في الرطب منه قبل أن يحرزه صاحبه احرازا تاما وتأويل ما ذكر ههنا في اليابس منه فهو نظير الثمار لا يقطع في الرطب ويقطع في الفواكه اليابسة الافي رواية عن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال مالا يقطع في رطبه لا يقطع في يابسه لان العين على حاله بعد اليبس فيصير ذلك شبهة وقد بينا أنه يقطع في اللؤلؤ والياقوت والزمرذ والفيروزج الا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى فانه يقول هذا من الاحجار ولاقطع في الحجر ولكنا نقول انما لا يقطع في الحجر لمعنى التفاهة وما يكون من أعز الاموال يرغب فيه من يتمكن منه لا يكون تافها (قال) ولا يقطع في الزجاج أما جوهر الزجاج فلانه يوجد مباح الاصل بصورته في دار الاسلام غير
[ 181 ] مرغوب فيه فأما المعمول منه فمن أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول يجب فيه القطع بمنزلة المعمول من الخشب لان هذا لا يوجد بصورته مباحا والاصل فيه أنه لا يجب لان هذا مما يتسارع إليه الكسر فهو في معنى ما يتسارع إليه الفساد ولان الصنعة فيه لاتغلب على الاصل عادة وعلى هذا الاصل قال لا يقطع في البوارى والقصب لان القصب يوجد مباح الاصل غير مرغوب فيه ثم الصنعة لاتغلب على الاصل من حيث أنه لا يتضاعف قيمته بالصنعة ويكون نافها بعد الصنعة في الاستعمال والبسط في المواضع المحرزة وغير المحرزة بخلاف المعمول من الخشب فالصنعة هناك تغلب على الاصل ألا ترى أن القيمة تزداد بالصنعة أضعافا وذكر أن في العاج يجب القطع وكذلك في الابنوس لان هذا مما لا يوجد مباح الاصل في دار الاسلام ولانه لا يكون تافها فان من يتمكن من أخذه لا يتركه عادة وعلى هذا يجب القطع في الصندل والعنبر وما أشبهه لانه لا يوجد مباح الاصل في دار الاسلام غير مرغوب فيه وانما يوجد ذلك في دار الحرب وذلك لا يمكن شبهة في الاموال لان الاموال كلها في دار الحرب على الاباحة (قال) وإذا شهد شاهدان أنه سرق من هذا العبد كذا وكذا يقطع وكذلك السارق من أهل الذمة ومن مال اليتيم لانه لا تأويل له في مال هؤلاء ولا شبهة والسرقة تظهر بخصومة العبد والذمى ووصى اليتيم عند الامام بلا شبهة (قال) ولا يقطع السارق من مال الحربى المستأمن عندنا استحسانا وفى القياس يقطع وهو قول زفر رحمه الله لان ماله محرز بدارنا فانه معصوم كمال الذمي وجه الاستحسان أن العصمة بالاحراز بالدار واحراز المستأمن لايتم ألا ترى أن احراز المال تبع لاحراز النفس ولا يتم احراز نفسه بدار الاسلام حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب فكذلك لايتم احراز ماله ولانه بقي حربيا حكما حتى يبقى النكاح بينه وبين زوجته في دار الحرب ومال الحربى مباح الاخذ الا أنه يتأخر اباحة الاخذ بسبب الامان إلى أن يرجع إلى دار الحرب فيصير ذلك شبهة في اسقاط القطع عن السارق بخلاف الذمي فانه يتم احراز نفسه بعقد الذمة ويخرج به من أن يكون حربيا من كل وجه (قال) رجل من أهل العدل أغار في عسكر أهل البغى ليلا فسرق من رجل منهم مالا فجاء به إلى الامام العدل قال لا يقطعه لان لاهل العدل أن يأخذوا أموال أهل البغي علي أي وجه يقدرون على ذلك ويمسكوه إلى أن يتوبوا أو يموتوا فيرد على ورثتهم فتتمكن الشبهة في أخذه بهذا الطريق وكذلك لو أغار رجل من أهل البغى في عسكر أهل
[ 182 ] العدل لم يقطع أيضا لان أهل البغى يستحلون أموال أهل العدل وتأويلهم وان كان فاسدا فإذا انضم إليه المنعة كان بمنزلة التأويل الصحيح ألا ترى أنه لا يضمن الباغي ما أتلف من مال العادل بهذا الطريق فكذا لا يلزمه القطع (قال) ولو أن رجلا من أهل دار العدل سرق مالا من آخر وهو ممن يشهد عليه بالكفر ويستحل ماله ودمه قطعته لان التأويل ههنا تجرد عن المنعة ولا معتبر بالتأويل بدون المنعة ولهذا لا يسقط الضمان به فكذلك القطع وهذا لانه تحت حكم أهل العدل فيتمكن امام أهل العدل من استيفاء القطع منه بخلاف الذى هو في عسكر أهل البغى فان يد امام أهل العدل لا تصل إليه فلهذا افترقا (قال) وإذا أقر السارق بالسرقة مرة واحدة قطعت يده وفى قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى لا يقطع ما لم يقر مرتين وكذلك الخلاف في الاقرار بشرب الخمر وذكر بشر رجوع أبى يوسف إلى قول أبى حنيفة رحمهما الله تعالى وحجتهما ماروى عن على رضي الله عنه ان رجلا أقر بالسرقة عنده مرتين فقطع يده وهذا لانه حد لله تعالى خالصا فيعتبر عدد الاقرار فيه بعدد الشهادة كحد الزنا ولهذا روى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى انه شرط اقرارين في مجلسين مختلفين وابو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى استدلا بما روى عن النبي ﷺ أنه أتى بسارق فقال أسرقت ما أخاله سرق فقال سرقته فأمر بقطعه ولم يشترط عدد الاقرار فيه ولان ما ثبت بشهادة شاهدين من العقوبات يثبت باقرار واحد كالقصاص وقد بينا ان الزنا مخصوص من بين نظائره وفى الكتاب علل فقال لو لم أقطعه في المرة الاولى لم أقطعه في المرة الثانية لان المال صار دينا عليه بالاقرار الاول فهو بالاقرار الثاني يريد اسقاط الضمان عن نفسه بقطع يده فيكون متهما في ذلك وان كان المال قائما بعينه رددته بعد الاقرار الاول قبل الاقرار الثاني فكيف يلزمه القطع بالاقرار بعد رد المال ألا ترى ان بالشهادة لا يلزمه القطع بعد رد المال فبالاقرار أولى وان رجع قبل ان يقطع درئ القطع لانه ليس ههنا من يرد جحوده إذ القطع من حق الله تعالى فيتحقق التعارض بين الخبرين فأما في حق المال لا يصح رجوعه لان المسروق منه يكذبه في الرجوع والمال حقه (قال) فان شهد شاهدان على اقراره وهو منكر أو هو ساكت لايقر ولا ينكر لم أقطعه لان الاقرار غير ملزم اياه حتى يتمكن من الرجوع عنه فلا يمكن اثباته بالبينة وسكوته كانكاره فان البينة لاتقبل الاعلى المنكر وانكاره بمنزلة
[ 183 ] الرجوع أو أقوى منه ولكن عليه الضمان لان رجوعه في حق الضمان باطل فكذلك انكاره (قال) وإذا أقر العبد بسرقة مال فهو على وجهين اما ان يكون مأذونا له أو محجورا عليه وكل وجه على وجهين اما ان يكون المال مستهلكا أو قائما بعينه في يده فان كان العبد مأذونا أقر بسرقة مال مستهلك فعليه القطع في قول علمائنا الثلاثة وقال زفر رحمه الله تعالى لاقطع عليه ولكن يضمن المال وان كان المال قائما بعينه في يده تقطع يده ويرد المال على المسروق منه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى يرد المال ولا يقطع يده لان اقراره في حق المال يلاقى حقه فانه يلاقى كسبه أو ذمته وهو منفك الحجر عنه في ذلك فأما في حق القطع يلاقى نفسه والفك بحكم الاذن لم يتناوله ألا ترى أنه لو أقر برقبته لانسان كان اقراره باطلا فكذلك اقراره بما يوجب استحقاق نفسه أو جزء منه يكون باطلا وجه قول علمائنا رحمهم الله تعالى ان وجوب الحد باعتبار أنه آدمى مخاطب لا باعتبار أنه مال مملوك والعبد في هذا كالحر فاقراره فيما يرجع إلى استحقاق الحر كاقرار الحر فلهذا لا يملك المولى الاقرار عليه بذلك وما لا يملك المولى على عبده فالعبد فيه ينزل منزلة الحر كالطلاق يوضحه أنه لاتهمة في اقراره لان ما يلحقه من الضرر باستيفاء العقوبة منه فوق ما يلحق المولى والاقرار حجة عند انتفاء التهمة عنه (قال) فان كان العبد محجورا عليه فأقر بسرقة مستهلك قطعت يده الاعلى قول زفر رحمه الله تعالى لان فيما كان العبد مبقى على أصل الحرية المأذون والمحجور عليه فيه سواء وان أقر بسرقة مال قائم بعينه في يده فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقطع يده ويرد المال إلى المسروق منه وعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى تقطع يده والمال للمولى وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى لا تقطع يده والمال للمولى اما محمد رحمه الله تعالى يقول اقرار المحجور عليه بالمال باطل لان كسبه ملك مولاه وما في يده كانه في يد المولى ألا ترى أنه لو أقر فيه بالغصب لا يصح فكذلك بالسرقة وإذا لم يصح اقراره في حق المال بقى المال على ملك مولاه ولا يمكن أن يقطع في هذا المال لانه ملك لمولاه ولافي مال آخر لانه لم يقر بالسرقة فيه والمال أصل ألا ترى أن المسروق منه لو قال أبغى المال تسمع خصومته ولو قال أبغي القطع ولا أبغي المال لا تسمع خصومته وكذلك قد يثبت المال ولا يثبت القطع ولا يتصور أن يثبت القطع قبل أن يثبت المال فإذا لم يصح اقراره فيما هو الاصل لم يصح فيما ينبني عليه أيضا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أقر بشيئين بالقطع والمال للمسروق منه
[ 184 ] واقراره حجة في حق القطع دون المال ماكان اقراره فيه حجة لان أحد الحكمين ينفصل عن الآخر ألا ترى أنه قد يثبت المال دون القطع وهو ما إذا شهد به رجل وامرأتان فكذلك يجوز أن يثبت القطع دون المال كما إذا أقر بسرقة مال مستهلك وهذا لانا لا نقبل اقراره في تعيين هذا المال فيبقي المسروق مستهلكا ويجوز أن تقطع يده وان لم يقبل اقراره في تعيين المال كالحر إذا قال الثوب الذى في يد زيد أنا سرقته من عمرو فقال زيد هو ثوبي فانه تقطع يد المقر وان لم يقبل اقراره في ملك ذلك العين للمسروق منه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لابد من قبول اقراره في حق القطع لما بينا أنه في ذلك مبقى على أصل الحرية ولان القطع هو الاصل ألا ترى أن القاضى يقضى بالقطع إذا ثبتت السرقة عنده بالبينة ثم من ضرورة وجوب القطع عليه كون المال مملوكا لغير مولاه لاستحالة أن يقطع العبد في مال هو مملوك لمولاه وبثبوت الشئ يثبت ماكان من ضرورته كما لو باع أحد ولدى التوأم فأعتقه المشترى ثم ادعى البائع نسب الذى عنده يثبت نسب الآخر منه ويبطل عتق المشتري فيه للضرورة فهذا مثله بخلاف الحر فان المال هناك لغير السارق وهو ذو اليد ولا يستحيل أن يقطع في مال الغير فأما ههنا يستحيل أن يقطع العبد في مال هو مملوك لمولاه فوزان هذا من ذاك أنه لو أقر بسرقة مال من انسان فقال المقر له هو مالك لاحق لى فيه أو قال المقر له هذا المال لمولاك لاحق لى فيه ولو قال ذلك لا تقطع يده بالاتفاق ولابد من القضاء عليه بالقطع لما قلنا فيقضى برد المال على المقر له بالسرقة (قال) واقرار الصبي بالسرقة باطل ثم ؟ بلوغه قد يكون بالعلامة وقد يكون بالسن فأما البلوغ بالعلامة فالغلام بالاحتلام أو بالاحبال وأقل المدة في ذلك اثنى عشرة سنة وفى الجارية بالحيض أو بالحبل أو الاحتلام وأدنى المدة في ذلك تسع سنين وعند عدم ذلك فعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى يحكم ببلوغهما إذا بلغا خمس عشرة سنة وعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى التقدير في الجارية بسبع عشرة سنة وفى الغلام في احدى الروايتين بثمان عشرة سنة وفى الرواية الاخرى بتسع عشرة سنة وهو الاصح باعتبار أنه زاد على أدني المدة سبع سنين وأدنى المدة التى اعتبرها الشرع بقوله ﷺ مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا وقد بينا المسألة فيما أمليناه من شرح الوكالة (قال) وإذا أقر بالسرقة عند العذاب أو عند الضرب أو عند التهديد بالحبس فاقراره باطل لحديث ابن عمر
[ 185 ] رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمين ان جوعت أو خوفت أو أوثقت وقال شريح رحمه الله تعالى القيد كره والسجن كرة والوعيد والضرب كره وهذا لان الاقرار انما يكون حجة لترجيح جانب الصدق فيه فلما امتنع من الاقرار حتى هدد بشئ من ذلك فالظاهر أنه كاذب في اقراره وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله تعالى افتوا بصحة اقرار السارق بالسرقة مع الاكراه لان الظاهر ان السراق لا يقرون في زماننا طائعين وسئل الحسن بن زياد رحمه الله تعالى أيحل ضرب السارق حتي يقر فقال ما لم يقطع اللحم ولا يتبين العظم وأفتى مرة بجواز ضربه ثم ندم واتبع السائل إلى باب الامير فوجده قد ضرب السارق وأقر بالمال وجاء به فقال ما رأيت جورا أشبه بالحق من هذا وان أقر طائعا ثم قال المتاع متاعى أو قال استود عينه أوقال أخذته رهنا بدين لى عليه درأت القطع عنه لان ما ادعاه محتمل فقد آل الامر إلى الخصومة والاستحلاف وقد بينا ان صاحب الدين إذا سرق خلاف جنس حقه على سبيل الرهن بحقه لا يلزمه القطع ويستوى ان كان دينه حالا أو مؤجلا وكذلك إذا أخذ جنس حقه والدين مؤجل وهذا استحسان وكان ينبغى في القياس ان يقطع لانه لاحق له في أخذ المال قبل حلول الاجل ولكنه استحسن فقال التأجيل لا ينفي وجوب أصل المال انما يؤخر حق الاستيفاء فيكون وجوب الدين عليه شبهة (قال) ويستحب للامام ان يلقن السارق حتى لايقر بالسرقة لما روينا ان النبي ﷺ أتى بسارق فقال أسرقت ما أخاله سرق وهذا لان هذا احتيال من الامام لدرء الحد عنه وهو مندوب إليه وإذا ثبتت السرقة في البرد الشديد والحر الشديد الذى يتخوف عليه الموت ان قطعه حبسه حتى ينكشف الحر والبرد لان القطع يستوفي على وجه يكون القطع زاجرا لامتلفا وإذا كان لا يتخوف عليه الموت ان قطع لم يؤخر لقوله ﷺ لا ينبغي لوال ثبت عنده الحد ان لا يقيمه وان حبس إلى فتور الحر والبرد فمات في السجن فضمان المسروق دين في تركته لانه تعذر استيفاء القطع (قال) وإذا اجتمع في يده قطع في السرقة والقصاص بدئ بالقصاص وضمن السرقة لانه ان كان القصاص في النفس فقد بينا أنه إذا اجتمع في النفس وما دونه يقتل ويترك ما سوى ذلك وان كان القصاص في اليد اليمنى فقد اجتمع في اليد حقان أحدهما لله تعالى والآخر للعبد فيقدم حق العبد لحاجته إلى ذلك وكذلك ان كان القصاص في اليد اليسرى أوفى الرجل اليمنى أوفى الرجل اليسرى يبدأ
[ 186 ] باستيفاء القصاص وإذا استوفى تعذر استيفاء القطع فيضمن المسروق فان قضى بالقصاص فعفي عنه صاحبه أو صالحه قطعت يده في السرقة لان القطع في السرقة كان مستحقا وقد سقط ماكان مقدما عليه وهو القصاص وان لم يصالحه حتى مضى زمان وهما يتراضيان فيه على الصلح ثم صالحه درأت القطع في السرقة لتقادم العهد فان ذلك مانع من استيفاء القطع بحجة البينة وان كان القصاص في الرجل اليسرى بدئ بالقصاص ثم يحبس حتى يبرأ ثم تقطع يده في السرقة وكذلك ان كان القصاص في شجة في رأسه لان الامام لو والي في الاستيفاء بالضرب ربما يموت لتضاعف الآلام عليه فليتحرز عن ذلك بجهده ولهذا قلنا بأنه يحبس حتي يبرأ ثم يقام عليه الحد (قال) وإذا حكم على السارق بالقطع ببينة أو باقرار ثم قال المسروق منه هذا متاعه أو قال لم يسرقه مني انما كنت أودعته أو قال شهد شهودي بزور أو قال أقر هو بالباطل بطل القطع عنه لانقطاع خصومته وقد بينا أن بقاء الخصومة إلى وقت استيفاء القطع شرط وان المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء في الحد كالمقترن بأصل السبب وهذا بخلاف رد المال بعد القضاء لان رد المال منه للخصومة فالمقصود بالخصومة استرداد المال والمنتهى يكون متقررا في نفسه فكانت خصومته قائمة باعتبار قيام يده في المال وان قال قد عفوت لم يبطل القطع لان العفو اسقاط فانما يصح من صاحب الحق والقطع حق لله تعالى لاحق للمسروق منه فيه والاصل فيه ماروى عن رسول الله صلي الله عليه وسلم تجافوا العقوبة بينكم فإذا انتهي بها إلى الامام فلا عفي الله عنه ان عفي عنه فأما إذا وهب المسروق منه المال من السارق أو باعه منه فان كان قبل قضاء القاضى بالقطع سقط القطع عنه لانقطاع خصومته وان كان بعد القضاء فكذلك عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى إنه لا يسقط القطع عنه وهو قول الشافعي رحمه الله وحجتهما حديث صفوان رضي الله عنه فانه كان نائما في مسجد رسول الله ﷺ متوسدا بردائه فجاء سارق وسرق رداءه فاتبعه حتي أخذه فجاء به إلى رسول الله ﷺ فأمر بقطعه فقال أنقطعه ؟ بسبب ردائي وهبتها له فقال رسول الله ﷺ هلا قبل أن تأتيني فهذا يدل على أن الهبة بعد القضاء لا تسقط القطع ولان هذا حد لله تعالى خالصا فإذا وجب بتقرر سببه لا يمتنع استيفاؤه لملك عارض في المحل كحد الزنا فان من زنى بامرأة ثم تزوجها لم يسقط الحد عنه وهذا لان
[ 187 ] وجوب القطع باعتبار الملك والعصمة وقت السرقة والهبة توجب ملكا حادثا ولا أثر لها فيما وجب القطع باعتباره بخلاف ما إذا أقر بالملك للسارق لان في اقراره احتمال الصدق وبهذا الاحتمال تبين أن الملك كان للسارق عند السرقة وذلك مانع تقرر فعل السرقة بخلاف ما إذا كانت الهبة قبل المرافعة لان هناك لا يظهر عند الامام لانقطاع حق المسروق منه فأما الآن فقد ظهرت السرقة عنده وتمكن من استيفاء القطع حقا لله تعالى فلا يمتنع الاستيفاء باعتراض الملك في المحل كما لا يمتنع الاستيفاء باعتراض الملك في الحرز أو برد المال بعد القضاء (وحجتنا) فيه أن انتفاء ملك السارق عن المسروق شرط لوجوب القطع عليه وما يكون شرطا لوجوب القطع عليه يراعى قيامه إلى وقت الاستيفاء لان المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء كالمقترن بأصل السبب بدليل العمى والخرس والردة والفسق في الشهود والدليل عليه أن انتفاء الابوة لما كان شرطا لوجوب القصاص يشترط بقاؤه إلى وقت الاستيفاء حتى أن المعترض من الابوة بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من الاستيفاء كالمقترن بأصل السبب وهذا لان وجوب القطع باعتبار العين والملك وان كان حادثا ههنا فالعين الذى وجد فعل السرقة فيه عين ذلك ولو اتحد الملك بأن أقر المسروق منه له بالملك أو أثبت السارق ملكه بالبينة لم يقطع فكذلك إذا اتحدت العين واختلف الملك لانه تتمكن شبهة باعتبار اتحاد العين وقد بينا اختلاف الروايات في حد الزنا وبعد التسليم العذر واضح فان وجوب الحد باعتبار ما استوفي من العين وذلك المستوفي مثلا شئ وههنا وجوب القطع باعتبار العين وملكه حدث في ذلك العين وبخلاف الحرز فانه عبارة عن التحرز والتحصن وقد فات ذلك فانما حدث الملك له في حرز آخر وبخلاف رد المال لان الرد منه للخصومة فان ما هو المقصود يحصل بالرد والمنتهى في حكم المتقرر فأما الهبة تقطع الخصومة لانه ماكان يخاصم ليهب منه وما يفوت المقصود بالشئ لا يكون منهيا له فأما حديث صفوان رضى الله عنه فقد ذكر في بعض الروايات عفوت عنه والحديث حكاية حال لاعموم له ثم معنى قوله ﷺ هلا قبل أن تأتيني به كيلا ينهتك ستره ألا ترى أن ماروى أن وجه رسول الله ﷺ تغير فقال صفوان رضي الله عنه كانه شق عليك ذلك يا رسول الله قال وكيف لا يشق على وكأنكم أعوان الشياطين على أخيكم المسلم فعرفنا أنه كره هتك الستر عليه ولم يرو مشهورا انه قطع
[ 188 ] يده بعد هبته وان روى ذلك فيحتمل أن السارق لم يقبل الهبة ولما انهتك ستره استحب أن يطهره رسول الله ﷺ باقامة الحد عليه فلم يقبل الهبة لذلك وعندنا إذا لم يقبل الهبة السارق لا يسقط القطع (قال) فان أقر بالسرقة والمسروق منه غائب ففي القياس يقطع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لانه أقر بوجوب الحد عليه حقا لله تعالى فيستوفيه الامام منه وفي الاستحسان لا بقطع للشبهة فان المسروق منه إذا حضر ربما يكذبه في الاقرار وقد بينا (قال) ولا يقطع السارق من بيت المال حرا كان أو عبدا لان له فيه شركة أو شبهة شركة فان مال بيت المال مال المسلمين وهو أحدهم فانه إذا احتاج يثبت له الحق فيه بقدر حاجته وفى الكتاب روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه أتى برجل قد سرق من المغنم فدرأ عنه الحد وقال ان له فيه نصيبا ولانه ليس لهذا المال مالك متعين ووجوب القطع على السارق لصيانة الملك على المالك ولهذا لا يقطع بسرقة مال لامالك له (قال) ولا يقطع السارق من امرأة ابنه أو زوج ابنته أو زوج أمه أو امرأة أبيه إذا سرق من المنزل المضاف إليه لان له أن يدخل منزل أبيه وأمه ومنزل ابنه وابنته من غير استئذان ولا حشمة فلا يتم معنى الحرزية في حقه في منازلهم فلهذا لا يلزمهم القطع فأما إذا سرق مال هؤلاء من غير منزل ولده أو والده أو سرق من ابن امرأته أو من أبويها فلا قطع عليه في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا وفى قولهما يقطع وهو القياس وهو الخلاف في الاختان والاصهار كلهم سواء على ما ذكرنا هما يقولان لاشبهة للبعض في ملك البعض ولا تأويل ولافي حرزه فكانوا بمنزلة الاجانب الا أن بينهما محرمية ثابتة بالمصاهرة ولا تأثير للمحرمية في المنع من وجوب القطع كالمحرمية الثابتة بالرضاع وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول بين الاختان والاصهار مباسطة في دخول بعضهم في منزل البعض من غير استئذان فتتمكن شبهة في الحرزية وأدنى الشبهة تكفى في المنع من وجوب القطع كما لو سرق من منزل أبيه مال امرأته يوضحه أن اقامة المضاف مقام المضاف إليه أصل في الشرع وامرأة الابن مضاف إليه ولو سرق الاب من المضاف إليه لا يقطع فكذلك إذا سرق من المضاف باعتبار اقامة المضاف إليه يوضحه أن الابن جزء من أبيه ولو سرق الابن مال هذه المرأة من منزلها لم يقطع فكذلك أبوه وهذا بناء على أصل علمائنا رحمهم الله تعالى أن أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر لم يقطع والشافعي
[ 189 ] رحمه الله تعالى يقول ان سرق من بيت يسكنان فيه فكذلك الجواب وان سرق من حرز آخر لصاحبه يقطع بناء على أصله أن فيما وراء حقوق النكاح هما كالاجانب حتي تقبل شهادة أحدهما لصاحبه وعندنا بسبب الزوجية يثبت معنى الاتحاد بينهما ولهذا لاتقبل شهادة أحدهما لصاحبه وتباسط كل واحد منهما في مال صاحبه كتباسط الولد في مال والده فكما أن ذاك مانع من وجوب القطع عليه فكذلك هذا (قال) وان أقر بسرقة مع صبى أو معتوه لم يقطع وكذلك لو شهدت عليه الشهود بذلك لانها سرقة واحدة فإذا لم يوجب القطع على احدهما للشبهة لا يوجب على الآخر للشركة بخلاف ما إذا زنى بصبية لان فعله هناك ليس من جنس فعلها لتحقق الشركة في الفعل بل هو الفاعل وهى محل الفعل وعن أبى يوسف رحمه الله قال ان كان الصبى هو الذى حمل المتاع فلا قطع على واحد منهما لانه مقصود بالفعل وان كان الحامل للمتاع هو البالغ فعليه القطع ولا معتبر بفعل الصبي فاني أستقبح أن أدرأ القطع لهذا فيتطرق السراق به إلى اسقاط القطع لان كل سارق لا يعجز عن أن يستصحب صبيا أو معتوها مع نفسه وكذلك ان كان مع أخرس لاقطع على واحد منهما أما الاخرس فلتمكن الشبهة في حقه لانه لو كان ناطقا ربما يدعى شبهة يدرأ بها الحد عن نفسه وأما الناطق فلاجل الشركة (قال) ولو سرق خمرا في ظرف وقيمة الظرف نصاب لاقطع عليه لان المقصود الخمر وهى حرام الا أن يشرب الخمر في الحرز ثم يخرج الظرف وهو مما يقطع في جنسه فحينئذ يلزمه القطع وهذه المسألة ذكرها في الاصل لايضاح الفصل الاول ان وجوب القطع باعتبار العين والفعل ثم إذا كان أحد العينين مما لا يقطع بسرقته يصير ذلك شبهة في اسقاط الحد فكذلك إذا كان أحد الفاعلين ممن لا يجب عليه القطع (قال) وقد بينا أن القطع يستوفي بخصومة الغائب والمودع والمستعير وان كان المالك هو الذي حضر فقد ذكر في الجامع الصغير أنه يقطع السارق وذكر ابن سماعة رحمه الله في نوادره إذا حضر المالك وغاب المسروق منه لم يقطع بخصومته حتى يحضر المسروق منه فعلى هذا قيل مراده مما ذكر في الجامع الصغير إذا حضرا جميعا وقيل بل فيه روايتان وجه رواية الجامع ان المالك هو الاصل في هذه الخصومة لان بها يحيي ملكه وحقه فلا معتبر بغيبة غيره مع حضوره وجه رواية النوادر ان المسروق منه غيره والشرط حضور المسروق منه ألا ترى أنه لا يستوفى بخصومة وكيله لانه غير المسروق منه فكذلك المالك ههنا وهذا لان المسروق منه
[ 190 ] إذا حضر ربما يدعى أنه كان ضيفا عنده فلهذا النوع من الشبهة لا يستوفى القطع وكاسب الربا يقطع السارق منه بخصومته لانه مالك للمكسوب وهو ملك معصوم وان كان حراما وقد بينا الكلام في السارق من السارق فان كان السارق من المودع ذا رحم محرم منه لم يقطع بخصومته ولا بخصومة المالك كما لو سرق مال المودع وهذا لان المسقط للحد عن ذى الرحم المحرم الشبهة في الحرز من حيث ان بعضهم يدخل على البعض من غير حشمة ولا استئذان وفي هذا لا يفترق بين أن يسرق ماله أو مال أجنبي وديعة عنده (قال) ولا يقطع السارق من امرأة المبتوتة المعتدة منه في منزل على حدة لان العدة حق من حقوق النكاح فتعمل عمل حقيقة النكاح في ايراث الشبهة ولانه قد يدخل عليها إذا أتاها بالنفقة والسكنى عليها فمن هذا الوجه تصير السكني كالمضاف إليه وان سرق بعد انقضاء العدة قطع لانه لم يبق بينهما حق ولا علاقة فصارت في حقه كما قبل أن يتزوجها وكما يقطع بعد انقضاء العدة إذا سرق منها فكذلك من أبويها لان المانع في حال قيام النكاح دخول بعضهم على بعض من غير استئذان عادة وقد زال ذلك بارتفاع النكاح بحميع علائقه (قال) ولا يقطع السارق من امرأة قد تزوجها بعد سرقته لان العارض بعد وجوب الحد قبل استيفائه كالمقترن بأصل السبب ولو كان النكاح قائما بينهما وقت السرقة لم يقطع وان لم تزف إليه فكذلك إذا اعترض النكاح وعن أبى يوسف قال إذا تزوجها قبل القضاء بالقطع فكذلك الجواب لان القاضى لا يسمع خصومتها في حكم الحد وهى منكوحته فأما إذا تزوجها بعد القضاء بالقطع لايمنع استيفاء القطع لان الزوجية عينها لا تمنع القطع بل معنى الشبهة من حيث أنه يدخل عليها من غير استئذان وهذا لا يوجد في زوجية معترضة بعد القضاء بالقطع (قال) ولو سرق من امرأته ثم أبانها ولم يدخل بها فلا قطع عليه لان الشبهة في الحرزية كانت موجودة وقت السرقة فلم يكن أصل فعله موجبا للقطع ثم لا يصير موجبا بعد ذلك وإذا سرق من أمه من الرضاعة أو من أخته فعليه القطع لانه لاسبب بينهما سوى المحرمية ولا تأثير للمحرمية في المنع من وجوب القطع كالمحرمية بسبب المصاهرة بعد ارتفاع النكاح أو بسبب المصاهرة الثابتة بالزنا أو بالتقبيل من شهوة لا تؤثر في اسقاط القطع وعن أبى يوسف رحمه الله قال اذا سرق من أمه من الرضاعة فلا قطع عليه لانه يدخل عليها من غير استئذان عادة بخلاف أخته من الرضاعة وغيرها وهذا بعيد فان الامية من الرضاعة لو كانت مؤثرة في اسقاط
[ 191 ] القطع لكانت الاختية مؤثرة فيه كما لو كانت بالنسب (قال) وان أقر الرجل بالسرقة ثم هرب لم يطلب وان كان في فوره ذلك لان هربه دليل رجوعه ولو رجع عن الاقرار لم يقطع فكذلك إذا هرب والاصل فيه قول رسول الله ﷺ لماعز حين أخبر بالهرب فقال هلا خليتم سبيله ولكنه إذا أتى به بعد ذلك كان ضامنا للمال كما لو رجع عن اقراره فانه يسقط القطع به دون الضمان (قال) وإذا أقر أنه سرق من هذا مائة ثم قال وهمت انما سرقت من هذا الآخر لم يقطع لانه رجع عن اقراره بالسرقة من الاول وتناقض كلامه في اقراره بالسرقة من الآخر والتناقض كالرجوع في ايراث الشبهة ويقضى لكل واحد منهما بمائة لان بالرجوع والتناقض يبطل اقراره في حق الحد دون المال وقد أقر بسرقة مائة درهم من كل واحد منهما وصدقه كل واحد منهما في ذلك فكان ضامنا له وان قال ذلك الشهود قبل القضاء للاول لم يقض عليه بقطع ولامال لانهم رجعوا عن شهادتهم بالسرقة من الاول وتناقض كلامهم بالسرقة من الثاني حين شهدوا أولا بسرقة هذه المائة بعينها من الاول والرجوع عن الشهادة قبل القضاء والتناقض فيها مانع من القضاء بالمال والحد جميعا (قال) وان كانت الشهود أربعة فثبت اثنان على الشهادة للاول به ورجع اثنان فشهدوا على هذا الآخر لاقطع عليه لواحد منهما للشبهة التى دخلت من حيث أن الراجعين شهدوا بسرقة ذلك المال بعينه من الآخر فيكون ذلك معارضا لشهادة الثابتين على السرقة من الاول فيمتنع وجوب القطع عليه بشهادة الثابتين للمعارضة وبشهادة الراجعين للتناقض ويقضي بالمال للاول لبقاء حجة كاملة على الشهادة في حق المال وتأثير المعارضة في ايراث الشبهة ولكن المال يثبت مع الشبهات ولا يقضي للآخر بشئ للتناقض من الشهود في حق الآخر لان ذلك مانع من القضاء بالمال (قال) رجل أقرانه سرق من هذا مائة درهم ثم جاء آخر فقال لم يسرقها هذا ولكني أنا سرقتها فقال المسروق منه كذبت فانه يقطع الاول بخصومته لانه صدقه في اقراره بالسرقة منه فأما اقرار الثاني فقد بطل بتكذيب المسروق منه اياه فصار كالمعدوم فان قال المسروق منه لم يسرقها الاول فقد علمت وذكرت أن هذا الآخر هو الذى سرقه لم يقطع الآخر ولا الاول لان دعواه على الاول براءة منه للآخر
[ 192 ] ودعواه على الآخر براءة منه للاول ولانه قد تناقض كلامه والخصومة من المناقض غير مسموعة وشرط القطع الخصومة فلهذا لا يقطع واحد منهما ولا يضمن الاول السرقة أيضا لانه قد أبرأه منها بالدعوى على الآخر فصار مكذبا له في اقراره وقد كذب الآخر في اقراره قبل هذا فلا ضمان له على واحد منهما ألا تري أنه لو أقر بأنه سرق منه فقال المقر له كذبت ثم قال له صدقت أنت سرقتها لم يكن له أن يضمنه شيئا وان لم يقل كذبت ولكنه قال صدقت ثم قال آخر أنا سرقتها فقال له صدقت لم يقطع واحد منهما لمعنى التناقض ويضمن الآخر دون الاول لانه بتصديق الآخر صار مكذبا للاول مبرئا له عما أقر به (فان قيل) فكذلك هو بتصديق الاول صار مكذبا للآخر قلنا نعم لكن وجد من الآخر الاقرار له بعد ذلك التكذيب فيصح تصديقه في ذلك كمن أقر لانسان بمال ثم فكذبه أقر له ثانيا به فصدقه كان له أن يأخذ المال وان كان ذلك في شهادة لم يضمن واحد منهما شيئا لان الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء ولا يقضى القاضى بها الا إذا ترتبت على خصومة صحيحة وقد سقط اعتبار خصومته للتناقض ولانه صار مكذبا كل فريق بتصديق الآخر كالمدعى إذا أكذب شاهده لم تقبل شهادته له (قال) رجل قال لآخر سرقت منك كذا وكذا فقال كذبت لم تسرق منى ولكنك غصبته غصبا وانما أردت بذكر السرقة أن تبرأ من الضمان ففي القياس لا شئ عليه لانه كذبه ثم ادعى عليه غصبا مبتدأ فبطل اقراره بالتكذيب ولم يثبت ما ادعاه بغير حجة ولكنه استحسن فقال له أن يضمنه لان كلامه موصول وفي آخره بيان ان مراده التكذيب في جهة السرقة لا في أصل المال المضمون عليه والبيان المغير صحيح إذا كان موصولا بالكلام ثم المقر له انتدب بما صنع إلى ماندب إليه في الشرع من ابقاء الستر على المسلم والاحتيال لدرء العقوبة عنه فلا يكون ذلك مسقطا حقه في المال وان قال سرقت منك كذا فقال الطالب غصبته غصبا فهو مستهلك فعليه ضمانه لانه كما صدقه في الاقرار بملك أصل المال له فقد صدقه في ايجاب الضمان في ذمته لان الغصب والسرقة كل واحد منهما سبب للضمان والاسباب مطلوبة لاحكامها لا لاعيانها فمع التصديق في الحكم لا يعتبر التكذيب في السبب وان قال غصبتك كذا فقال سرقته منى فله أن يضمنه لانه صدقه فيما أقر له به وادعى زيادة جهة السرقة ولم يثبت له تلك الزيادة بدعواه فعليه ضمان القيمة والقول في مقدار القيمة قول الضامن مع يمينه لانكاره الزيادة التى يدعيها الطالب وان قال سرقت
[ 193 ] من فلان وفلان ثوبا واحدهما غائب لم يكن للحاضران يقطعه ولكن يقضي له بنصف الثوب ان كان قائما وبنصف قيمته ان كان مستهلكا لان التصديق من الغائب لم يعرف فإذا حضر ربما يكذبه فيبقى نصف الثوب على ملكه فلو قطعناه لقطعناه فيما هو شريك فيه وذلك لا يجوز وهذا بخلاف مالو قال زنيت بفلانة وفلانة فكذبته احداهما وصدقته الاخرى يقام عليه الحد لان فعله بكل واحدة منهما متميز عن فعله بالاخرى وهنا انما أقر بفعل واحد في ثوب بينهما ولم يثبت باقراره السرقة في نصيب الغائب قبل تصديقه فلا يمكن القضاء بالسرقة في نصيب الحاضر خاصة لان فعل السرقة في نصف الثوب شائعا لا يتحقق منفردا عن النصف الآخر فلهذا لم يقطع فإذا تعذر استيفاء القطع ظهر حكم المال فيقضى للحاضر بما أقر له به وذلك نصف الثوب ان كان قائما ونصف قيمته ان كان مستهلكا فان كانا حاضرين فقال أحدهما كذبت لم تسرقه ولكنك غصبته أو استودعنا كه أو أعرناكه أو قال هو ثوبك لاحق لنا فيه لم يقطع في شئ من ذلك اما للشركة له في الثوب باقرار أحدهما له بالملك أو الانتفاء فعل السرقة عن نصيب أحدهما بتكذيبه لانه لا يتحقق فعل السرقة في نصيب الآخر من الثوب منفردا ولكن يقضى بنصف الآخر أو بنصف قيمته ان كان مستهلكا لما بينا أن في حق الثاني ينبنى القضاء على ما أقر له وان كان ذلك ببينة واحدهما غائب فقضي للحاضر بنصف الثوب أو بنصف قيمته ثم جاء الغائب وادعي السرقة يقضى له بمثل ذلك لان أحد الشريكين في اثبات الملك قائم مقام صاحبه ولكن لا يقطع السارق لان القاضى حين قضى بنصف الثوب للاول أو بنصف قيمته فقد درأ القطع عنه في نصيبه إذا ؟ القاضى لا يشتغل بالضمان الا بعد درء الحدولانه بالضمان ملك ذلك النصف واعتراض الملك في البعض كاعتراضه في الجميع في اسقاط الحد عنه وان كان الآخر حاضرا وقت الخصومة فقال الثوب وديعة أو عارية لنا عندك لم يقض له بشئ لانه أكذب شهوده فانهم شهدوا بالسرقة واكذاب المدعى شاهده يبطل الشهادة في حقه وليس للآخر أن يشاركه في تلك الخصومة لانه أبطل حق نفسه باكذابه شهوده وصار كما لو أبرأه عن نصيبه من الضمان وبعد الابراء لا يبقى له حق مشاركة الآخر فيما يقبض (قال) رجلان أقرأنهما سرقا هذا الثوب من هذا الرجل والرجل يدعى ذلك فلما أمر الحاكم بقطعهما قال احدهما الثوب ثوبنا لم نسرقه قال يدرأ القطع عنهما لان المعترض
[ 194 ] من دعوى الملك من احدهما كالمقترن بالسبب ألاتري انها ؟ لو ادعيا جميعا الملك بعد القضاء كان شبهة في درء الحد بمنزلة المقترن بالسبب فكذلك إذا ادعى ذلك احدهما وهذا لان الحد وجب عليهما في شئ واحد وقد آل الامر إلى الخصومة والاستحلاف في ذلك الشئ ولو كان احدهما قال سرقنا هذا الثوب من هذا الرجل وقال الآخر كذبت لم نسرقه ولكنه لفلان قال يقطع المقر بالسرقة في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمهم الله أحب إلى أن لا يقطع واحد منهما وكذلك لو قال احدهما سرقناه وقال الآخر لم أسرق معك ولا أعرفك ولا أعرف هذا الثوب فهو على الخلاف وقد كان أبو يوسف رحمه الله تعالى أو لا يقول كقول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ثم رجع وجه قول أبى يوسف رحمه الله تعالى أن المقر منهما أقر بسرقة شئ واحد وقد تعذر ايجاب القطع على واحد منهما لانكاره فصار كما لو تعذر ايجاب الحد عليه لدعواه الملك لنفسه فيكون شبهة في درء الحد عنهما وجه قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن المقر أقر بالفعل الموجب للعقوبة على نفسه وعلى غيره وقد انعدم أصل الفعل في حق الآخر لتكذيبه فلا يوجب ذلك شبهة في الفعل الثابت في حق المقر باقراره ولا في موجبه كما لو قال قتلت أنا وفلان فلانا وقال الآخر أنا ما قتلت فالقصاص واجب على المقر وكذلك لو قال زنيت أنا وفلان بفلانة وكذبه الآخر كان على المقر الحد بخلاف ما لو ادعى الآخر الملك فان أصل الفعل ثبت هناك مشتركا لاتفاقهما ثم امتنع وجوب القصاص على احدهما للشبهة فيمتنع وجوبه على الآخر للشركة كما في المقرين بالقتل إذا زعم احدهما أنه كان مخطئا وقد ذكر في الحدود أنه إذا أقر أنه زنى بامرأة وكذبته انه لاحد عليه عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يقام عليه الحد فمحمد رحمه الله تعالى يسوى بين الفصلين ويقول تكذيب المكذب لا يؤثر في حق المقر وأبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول هناك يقام الحد عليه وههنا لايقام لان فعلها في الزنا ليس من جنس فعله فان فعله ايلاج وفعلها تمكين وهي في الحقيقة محل الفعل والمباشر هو الرجل فانتفاؤه في جانبها بتكذيبها ؟ لا يمكن شبهة في الرجل وههنا الفعل من السارقين واحد والمشاركة بينهما تتحقق فانتفاؤه عن احدهما بانكاره يمكن شبهة في حق الآخر كما في القتل إذا اشترك الخاطئ مع العامد وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بينهما أيضا فيقول هناك لايقام عليه الحد وهنا يقام على المقر منهما لان فعل الزنا من الرجل لا يتصور
[ 195 ] بدون المحل وقد انعدم المحل بتكذيبها فأما فعل السرقة من المقر يتحقق بدون الآخر فانتفاء الفعل في حق الآخر بانكاره لايمنع تقرر الفعل في حق المقر موجبا للقطع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب قطاع الطريق) (قال) رضي الله عنه وإذا قطع قوم من المسلمين أو من أهل الذمة على قوم من المسلمين أو من أهل الذمة الطريق فقتلوا وأخذوا المال قال يقطع الامام أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى من خلاف أو يصلبهم ان شاء وانما شرطنا ان يكونوا قوما لان قطاع الطريق محاربون بالنص والمحاربة عادة من قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم ولان السبب هنا قطع الطريق ولا ينقطع الطريق الا بقوم لهم منعة وشرط ان يكونوا من المسلمين أو من أهل الذمة ليكونوا من أهل دارنا على التأبيد فانهم إذا كانوا من أهل الحرب مستأمنين في دارنا ففي اقامة الحد عليهم خلاف وقد بيناه وشرط ان يقطعوا الطريق على قوم من المسلمين أو من أهل الذمة لتكون العصمة المؤبدة ثابتة في مالهم فانهم إذا قطعوا الطريق على المستأمنين لايقام عليهم الحد لانعدام العصمة المؤبدة في مالهم وقد بينا ذلك في السرقة الصغرى فهو مثله في السرقة الكبرى ثم قد بينا في أول الكتاب ان حد قطع الطريق على الترتيب بحسب جنايتهم عندنا وهو قول ابن عباس وابراهيم رضى الله عنهما وعند مالك رحمه الله تعالى هو على التخيير وهو قول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى ولم نأخذ بذلك لان الذى أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا قدهم بالمعصية والقتل والقطع اغلظ العقوبات فلا يجوز اقامته على من هم بالمعصية ولم يباشر والقطع جزاء أخذ المال كما في السرقة الصغري الا ان ذاك دخله نوع تخفيف من حيث أنه يخفي فعله وهذا يغلظ بالمجاهرة ولهذا وجب قطع عضوين منه من أعضائه ثم من هم بالسرقة الصغرى ولم يأخذ المال لايقام عليه القطع فكذلك من هم بأخذ المال ههنا ولم يأخذ فان قتلوا وأخذوا المال فعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى الامام فيهم بالخيار ان شاء قطع أيديهم وأرجلهم ثم قتلهم وان شاء قتلهم من غير قطع وان شاء صلبهم وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الامام يصلبهم أخذا فيه بقول ابن عباس رضى الله عنهما ولانه اجتمع عليه
[ 196 ] العقوبة في النفس وما دونه حقا لله تعالى فيكون الحكم فيه ان يدخل ما دون النفس في النفس كما إذا اجتمع حد السرقة والشرب والرجم وهذا لان المقصود الزجر وذلك يتم باستيفاء النفس فلا فائدة بالاشتغال بما دونه ولابي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان احدهما ان مبنى هذا الحد على التغليظ لغلظ جريمتهم والقطع ثم القتل أقرب إلى التغليظ فكان للامام أن يختار ذلك لكونه أقرب إلى ما لاجله شرع هذا الحد والثاني ان السبب الموجب للقطع هو أخذ المال وقد وجد منهم والسبب الموجب للقتل وهو قتل النفس قد وجد منهم وانما يثبت الحكم بثبوت السبب والكل حد واحد ولا تداخل في الحد الواحد كالجلدات في الزنا انما التداخل في الحدود (فان قيل) هذا فاسد لان للامام ان يقتلهم ويدع القطع (قلنا) لا بطريق التداخل بل لانه ليس عليه مراعاة الترتيب في أجزاء حد واحد فكان له أن يبدأ بالقتل لذلك ثم إذا قتله فلا فائدة في اشتغاله بالقطع بعده فلا يشتغل كالزاني إذا ضرب خمسين جلدة فمات فانه يترك ما بقى لانه لا فائدة في اقامته ثم في ظاهر الرواية هو مخير في الصلب ان شاء فعله وان شاء لم يفعله واكتفي بالقتل وعن أبى يوسف رحمه الله قال ليس للامام أن يدع الصلب لان المقصود به الاشهار ليعتبر غيره فينزجر فلا يتركه وجه ظاهر الرواية أن معنى الزجر يتم بالقتل ولم ينقل في شئ من الآثار أن النبي ﷺ صلب أحدا ألا ترى أنه لم يفعله بالعرنيين مع المبالغة والاستقصاء في عقوبتهم حتى سمل أعينهم (قال) وإذا أراد أن يصلب ففي ظاهر الرواية يصلبهم أحياء ثم يطعن تحت ثناؤتهم ؟ الايسر ليموتوا فان المقصود الزجر وذلك انما يحصل إذا صلبهم أحياء لابعد موتهم وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أنه لا يصلبهم أحياء لانه مثلة ونهى رسول الله ﷺ عن المثلة ولو بالكلب العقور ولكنه يقتلهم فيه يتم معنى الزجر والعقوبة في قتلهم ثم يصلبهم بعد ذلك للاشتهار حتى يعتبر بهم غيرهم وفى الصحيح من المذهب يتركهم على الخشب ثلاثة أيام ثم يخلى بينهم وبين أهاليهم لانه لو تركهم كذلك تغيروا وتأذى بهم المارة فيخلى بينهم وبين أهاليهم بعد ثلاثة أيام لينزلوهم فيدفنوهم (قال) وإذا وجد منهم القتل وأخذ المال فلامعتبر بالجراحات في تعلق الارش والقصاص بها لانهم استوجبوا أتم ما يكون من الحد فيسقط اعتبار ما دون ذلك من الجراحات وعفو الاولياء في ذلك باطل لان هذا حد يقام لحق الله تعالى واسقاط الاولياء انما يعمل فيما هو حقهم
[ 197 ] ويكون استيفاؤه إليهم أو يستوفي بطلبهم فاما ما يستوفيه الامام لله تعالى فلا عفو فيه للاولياء ولا للامام أيضا لانه ليس بصاحب الحق بل هو نائب في الاستيفاء فهو في العفو كغيره والاصل فيه ماروينا لا ينبغي لوالى حد ثبت عنده حق الله تعالى الا اقامه ثم المذهب عندنا أن الواجب عليهم الحد وعند الشافعي رحمه الله تعالى القتل الواجب عليهم القصاص متحم لا يعمل فيه عفو الولى لان هذا قتل لا يستحق الا بالقتل والقتل المستحق بالقتل يكون قصاصا الا أنه تأكد بانضمام حق الشرع إليه فلا يعمل فيه الاسقاط كالعدة ولكنا نقول القطع والقتل المستحق بالقتل في قطع الطريق كله حد واحد ثم القطع حق الله تعالى فكذلك القتل ألا ترى أن الله تعالى سماه جزاء والجزاء المطلق ما يجب حقا لله تعالى بمقابلة الفعل فاما القصاص واجب بطريق المساواة وفيه معنى المقابلة بالمحل والدليل عليه أن الله تعالى جعل سبب هذا القتل ما قال في قوله تعالى يحاربون الله ورسوله وما يجب بمثل هذا السبب يكون لله تعالى وسماه خزيا بقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا فعرفنا أنه حد واحد لله تعالى (قال) فان كان فيهم عبد أو امرأة فالحكم فيه كالحكم في الرجال الاحرار أما العبد فلانه مخاطب محارب وهو في السرقة الصغرى يستوى بالحر فكذلك في الكبرى والمرأة كذلك في ظاهر الرواية وهو اختيار الطحاوي رحمه الله فانه قال في كتابه الرجال والنساء في حق قطاع الطريق سواء كما يستويان في سائر الحدود وهذا لان الواجب قتل وقطع وفي القطع الواجب جزاء الرجل والمرأة سواء كالسرقة وفي القتل الواجب جزاء الرجل المرأة سواء كالرجم وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أن حد قطع الطريق لا يجب على النساء لان السبب هو المحاربة وانقطاع الطريق بهم والمرأة بأصل الخلقة ليست بمحاربة كالصبى ألا ترى أن في استحقاق ما يستحق بالمحاربة وهو السهم من الغنيمة لا يسوى بين الرجل والمرأة فكذلك في العقوبة المستحقة بالمحاربة ولكن يدخل على هذا العبد فانه لا يساوي الحر في استحقاق السهم ثم يساويه في حق هذا الحد وفي الصبيان والمجانين لانعدام الاهلية للعقوبة بعدم التكليف لا يثبت الحكم وذلك لا يوجد في حق النساء وذكر هشام في نوادره عن أبى يوسف رحمهما الله تعالى أنه إذا قطع قوم من الرجال الطريق وفيهم امرأة فباشرت المرأة القتل وأخذت المال دون الرجال فانه يقام الحد عليهم ولا يقام عليها وقال محمد رحمه الله تعالى يقام عليها ولا يقام عليهم وذكر ابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أنه يدرأ
[ 198 ] عنهم جميعا لكون المرأة فيهم وجعل المرأة فيهم كالصبي ولو كان معهم صبى أو مجنون لايقام على واحد منهم فكذلك المرأة ومحمد رحمه الله تعالى يقول الردء تبع للمباشر في المحاربة والرجال لا يصلحون تبعا للنساء في التناصر والمحاربة وانما يقام عليها جزاء المباشرة ولا يقام على الرجال وأبو يوسف رحمه الله يقول انما يتأتى هذا الفعل منها بقوتهم فان بنيتها لا تصلح للمحاربة بدون الرجال فكأنهم فعلوا ذلك فيقام الحد عليهم لا عليها لان المانع من الاقامة عليها معنى فيها لافى فعلها وهو ان بنيتها لا تصلح للمحاربة بخلاف الصبى فان المانع معنى في فعله وهو ان فعله لا يصح موجبا للعقوبة وقد تحقق الاشتراك في الفعل بينهم وبينه فلا يقام الحد على واحد منهم (قال) والمباشر وغير المباشر في حد قطاع الطريق سواء عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالي لايقام الحد الا على من باشر القتل وأحد المال لانه جزاء الفعل فلا يجب الاعلى من باشر الفعل كحد الزنا ألا ترى أنهم لو لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا لم يقم الحد على واحد منهم ففي حق الذين لم يأخذوا يجعل كأنهم جميعا لم يأخذوا (وحجتنا) فيه ان هذا حكم متعلق بالمحاربة فيستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق السهم في الغنيمة وتأثيره أنهم جميعا مباشرون السبب وهو المحاربة وقطع الطريق هكذا يكون في العادة لانهم لو اشتغلوا جميعا بالقتال خفي عليهم طريق الاصابة لكثرة الزحمة ولا يستقرون ان زلت قدمهم فانهزموا فإذا كان البعض ردءا لهم التجؤا إليهم وتنكسر شوكة الخصوم برؤيتهم وكذلك في العادة انما يتولى أخذ المال الا صاغر منهم والاكابر يترفعون عن ذلك وانقطاع الطريق يكون بهم جميعا فعرفنا أنهم مباشرون للسبب فأما أخذ المال والقتل شرط فيه وإذا صار الشرط موجودا بقوتهم وباشروا السبب بأجمعهم قلنا يقام الحد عليهم (قال) وان أصابوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ولم يقتلوا لانهم باشروا أخذ المال فيقام عليهم جزاؤه وقد بينا ان القتل شرط لوجوب القطع عليهم والحكم بعد وجود السبب لا يثبت قبل وجود الشرط (قال) فان لم يوجدوا ؟ طلبوا إلى ان يوجدوا أو ينقطع إذا هم ويأمن المسافرون منهم في طرقهم وذلك نفيهم من الارض في تأويل بعضهم فان قتلوا ولم يصيبوا مالا قتلوا ولم تقطع أيديهم وأرجلهم لان جزاء أخذ المال لايتم الا بأخذ المال (قال) فان قتلوا وأخذوا المال ثم تابوا فردوا المال إلى أهله ثم أتى بهم الامام لم يقطعهم ولم يقتلهم لقوله تعالى الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وقد بينا ان تمام توبته في رد المال لينقطع به خصومة صاحب المال
[ 199 ] فان الامام لا يقيم الحد الا بخصومة صاحب المال في ماله وقد انقطعت خصومته بوصول المال إليه قبل ظهور الجريمة عند الامام فيسقط الحد ولكنه يدفعهم إلى أولياء القتلي فيقتلونهم أو يصالحونهم وهذا لان في التوبة انما يسقط ماكان حقا لله تعالى فأما ماكان حقا للعبد فلاوليائه واليه أشار الله تعالى في قوله ان الله غفور رحيم وقد كان السبب الموجب للقتل متقررا ممن باشر القتل منهم وهو تعمده قتل نفس بغير حق الا أن استحقاق القتل عليهم حدا كان مانعا من ظهور القود فإذا سقط ذلك زال المانع فظهر حكم القود والقود انما يجب على من باشر القتل دون الردء (قال) وللولي الخيار ان شاء عفي وان شاء صالح على مال وان شاء استوفى القتل لقوله ﷺ من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية وقال ﷺ لولى القتل أتعفو فقال لا فقال أتأخذ الدية فقال لا فقال أتقتل فقال نعم فعرفنا أنه يتخير بين هذه الاشياء ومن باشر منهم الجراحات ففيما يمكن اعتبار المساواة فيها يجب القصاص وفيما لا يمكن يجب الارش كما لو كانت الجراحات منهم من غير قطع الطريق وهذا لان سقوط اعتبار حكم الجراحات بوجود اقامة الحد فإذا زال ذلك ظهر حكم الجراحات كما إذا استهلك السارق المال سقط حكم التضمين لوجود اقامة القطع فإذا سقط القطع ظهر حكم التضمين (قال) وإذا قطعوا الطريق وأخافوا السبيل ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا حبسوا حتى يتوبوا بعدما يعزرون وفى الكتاب يقول عوقبوا فكأنه كره اطلاق لفظ التعزير على ما يقام عليهم قبل التوبة لما في التعزير من معنى التطهير وهو المراد من قوله تعالى أو ينفوا من الارض يعنى يحبسون وقد بينا ذلك وهذا أولى مما قاله الشافعي رحمه الله تعالى أن المراد الطلب ليهربوا من كل موضع لان العقوبة بالحبس مشروع فالاخذ بما يوجد له نظير في الشرع أولى من الاخذ بما لا نظير له وفى هذا الموضع يطالبون بموجب الجراحات التى كانت منهم من قصاص أو أرش لانه لايقام عليهم الحد وسقوط اعتبار حكم الجراحات لوجود اقامة الحد فإذا انعدم ذلك وجب اعتبار الجراحات في حق العبد فان تابوا وفيهم عبد قد قطع يدحر دفعه مولاه أوفداه كما لو فعله في غير قطع الطريق وهذا لانه لاقصاص بين العبيد والاحرار فيما دون النفس فيبقي ؟ حكم الدفع أو الفداء فان كانت فيهم امرأة فعلت ذلك فعليها دية اليد في مالها لانه لاقصاص بين الرجال
[ 200 ] والنساء في الاطراف فعليها الدية والفعل منها عمدا لا تعقله العاقلة فكان في مالها (قال) وإذا أخذهم الامام قبل أن يتوبوا وقد أصابوا المال فان كان يصيب كل واحد منهم من المال المصاب عشرة دراهم فصاعدا فعليهم الحد عندنا وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى الشرط أن يكون نصيب كل واحد منهم عشرين درهما فصاعدا لان التقدير بالعشرة في موضع يكون المستحق بأخذ المال قطع عضو واحد وههنا المستحق قطع عضوين ولا يقطع عضوان في السرقة الا باعتبار عشرين درهما ولكنا نقول هذا حد هو جزاء على أخذ المال فيستدعي مالا خطيرا وقد بينا أن العشرة مال خطير فيستحق به اقامة الحد كما يستحق به القطع بالسرقة ثم تغلظ الحد ههنا باعتبار تغلظ فعلهم باعتبار المحاربة وقطع الطريق لا باعتبار كثرة المال المأخوذ ففي النصاب هذا الحد وحد السرقة سواء وان كان لا يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم درئ الحد عنهم الا على قول مالك رحمه الله وهكذا مذهبه في الصغرى فانه يعتبر أن يكون المأخوذ في نفسه نصابا كاملا سواء أخذه الواحد أو الجماعة ولكنا نقول اقامة الحد على كل واحد منهم باعتبار ما يصيبه من المال فلابد من ان يكون خطيرا في نفسه وما دون النصاب حقير تافه وإذا كان نصيب كل واحد منهم تافها لايقام عليهم الحد كما لو كان المأخوذ في نفسه نافها ثم يضمنون المال إذا درئ الحد عنهم والامر في القصاص في النفس وغيرها إلى الاولياء ان شاؤا استوفوا وان شاؤا عفوا وقد طعن عيسي رحمه الله تعالى في هذه المسألة فقال يقتلهم الامام حدا لانهم لو قتلوا ولم يأخذوا شيئا من المال قتلهم الامام حدا لاقصاصا والردء والمباشر فيه سواء فكذلك إذا أخذوا مع القتل مالايبلغ نصيب كل واحد منهم نصابا اما لان ما دون النصاب لما لم يتعلق به حكم فوجوده كعدمه أو لانه تتغلظ جنايتهم بأخذ شئ من المال وما يغلظ الجناية لا يكون مسقطا للحد ولكن ما ذكر في الكتاب أصح لان وجوب الحد عليهم باعتبار ما هو المقصود والظاهر أنهم يقصدون بقطع الطريق أخذ المال وانما يقدمون على القتل ليتمكنوا من أخذ المال فإذا لم يأخذوا المال عرفنا أن مقصودهم لم يكن المال وانما كان القتل فأوجبنا عليهم الحد قتلا بالقتل الموجود منهم وان أخذو المال عرفنا أن مقصودهم كان أخذ المال وان اقدامهم على القتل كان للتمكن من أخذ المال فباعتبار ما هو المقصود لا يمكن ايجاب الحد عليهم إذا كان ما يصيب كل واحد منهم ما دون النصاب فلهذا قال محمد رحمه الله تعالى يدرأ الحد عنهم ويبقى حكم القصاص
[ 201 ] (قال) وإذا قطعوا الطريق في المصر أو مابين الكوفة والحيرة أو مابين قريتين على قوم مسافرين لم يلزمهم حد قطاع الطريق وأخذوا برد المال وأديروا وحبسوا والامر في قتل من قتل منهم أو جرح إلى الاولياء وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه يقام عليهم حد قطاع الطريق وهو قول الشافعي رحمه الله لان السبب قد تقرر وهو أخذ المال والقتل على وجه المحاربة والمجاهرة وجريمتهم بمباشرة ذلك في المصر أغلظ من جريمتهم بمباشرة ذلك في المفازة لان تغلظ الجريمة باعتبار المجاهرة والاعتماد على مالهم من المنعة وهذا في المصر أظهر واعتبر هذا الحد بحد السرقة فانه لافرق هناك بين مباشرة السبب في المصر وفى المفازة فهذا مثله (وحجتنا) فيه أن سبب وجوب الحد ما يضاف إليه وهو قطع الطريق وانما ينقطع بفعلهم ذلك في المفازة لافي جوف المصر ولا فيما بين القري فالناس لا يمتنعون من التطرق في ذلك الموضع بعد فعلهم وبدون السبب لا يثبت الحكم ولان السبب محاربة الله ورسوله وذلك انما يتحقق في المفازة لان المسافر في المفازة لايلحقه الغوث عادة وانما يسير في حفظ الله تعالى متعمدا على ذلك فمن يتعرض له يكون محاربا لله تعالى فاما في المصر وفيما بين القرى يلحقه الغوث من السلطان والناس عادة وهو يعتمد ذلك بالتطرق في هذه المواضع فيتمكن باعتباره معنى النقصان في فعل من يتعرض له من حيث محاربة الله تعالى ورسوله ﷺ فلا يقام عليه الحد وهو نظير المختلس من السارق في أنه لايقام عليه حد السرقة لانه بقدر ما جاهر يتمكن النقصان في فعل السرقة وقد قال بعض المتأخرين ان أبا حنيفة رحمه الله تعالى أجاب بذلك بناء على عادة أهل زمانه فان الناس في المصر وفيما بين القرى كانوا يحملون السلاح مع أنفسهم فثبت مع ذلك تمكن دفع القاصد من قطع الطريق وأخذ المال والحكم لا ينبني على نادر وكذلك فيما بين الحيرة والكوفة كان يندر ذلك لكثرة العمران واتصال عمران أحد الموضعين بالموضع الآخر فاما اليوم فقد ترك الناس هذه العادة وهى حمل السلاح في الامصار فيتحقق قطع الطريق في الامصار وفيما بين القرى موجبا للحد وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال ان قصده في جوف المصر أو بين القرى بالسلاح يقام عليه حد قطاع الطريق وان قصده بالحجر والخشب فان كان ذلك بالنهار لايقام عليه حد قطاع الطريق وان كان بالليل يقام عليه ذلك لان السلاح لا يلبث والظاهر أنه يأتي عليه قبل ان يلحقه الغوث فاما الخشب والحجر لا يكون مثل السلاح في
[ 202 ] ذلك والظاهر أن الغوث يلحقه بالنهار في المصر قبل ان يأتي عليه ذلك فأما في الليل الغوث يبطئ فالى أن ينتبه الناس ويخرجوا قد أتى عليه فلهذا ثبت في حقه حكم قطع الطريق (قال) وان بيتوا على مسافرين في منازلهم في غير مصر ولا في مدينة فكابروهم وأخذوا المال فالحكم فيهم كالحكم في الذين قطعوا الطريق لان السبب قد تحقق منهم وهو المحاربة وقطع الطريق إذ لافرق في ذلك بين ان يفعلوا في مشيهم أو في حال نزولهم لانهم في حفظ الله تعالى في الحالين فانما يتمكن هؤلاء منهم لمنعتهم وشوكتهم في الحالين فان نزل المسافرون منزلا في قرية ففعلوا ذلك بهم لم يلزمهم حد قطاع الطريق لان الذين نزلوا القرية بمنزله أهل القرية في ان بعضهم يغيث البعض فلا يتحقق قطع الطريق بما فعل بهم وكذلك ان أغار بعض النازلين في القرية على البعض فقتلوا وأخذوا المال فالحكم فيهم كالحكم في الذى فعل ذلك في جوف المصر قال نزل رجل في بيت أوفى فسطاط فاغلق عليه بابه وضم إليه متاعه فجاء رجل وسرق من فسطاطه أو بيته شيئا فالحكم فيه ما هو الحكم في السارق في المصر (قال) وما قتل به قطاع الطريق من حديد أو حجر أو عصى أو سوط فهذا كله سواء لان هذا حكم ينبنى على المحاربة فيكون بمنزلة استحقاق السهم بالغنيمة وثبوت صفة الشهادة فلا يفترق الحال في ذلك بين القتل بالسلاح وغيره فهذا مثله بخلاف القصاص فانه يعتمد العمدية والمماثلة وذلك يختلف بالسلاح وغيره (قال) وإذا أخذ قاطع الطريق ويده اليسرى شلاء أو مقطوعة لم يقطع منه شئ وقتل أو صلب لما بينا في السرقة الصغرى أنه لا يستوفى القطع على وجه يؤدى إلى تفويت منفعة الجنس وقد طعن عيسى في هذا الفصل وقال اعتبار ذلك المعني في السرقة للتحرز عن الاستهلاك الحكمى أو شبهة الاستهلاك ولا معني لذلك ههنا فان اتلافه حقيقة قد صار مستحقا لانه يقتل ويصلب بعد القطع فكيف يمنع استيفاء القطع لشلل في يده اليسرى ولكنا نقول مع هذا القطع جزاء أخذ المال فلا يستوفى على وجه يكون متلفا له حكما ألاتري أنه لم يشرع قطع عضوين منه من شق واحد للتحرز عن الاتلاف الحكمى وانما يشرع قطع اليد والرجل من خلاف لكيلا يؤدى إلى الاتلاف حكما وهذا لانه لا يستحق اتلافه مرتين فإذا كانت تفويت منفعة الجنس اتلافا ثم قتله كان اتلافا مرتين وان كانت اليمنى منه مقطوعة قطعت الرجل اليسرى وقتل أو صلب وان كان أشل اليمني قطعها مع الرجل اليسرى وقد بينا نظيره في السرقة فكذلك
[ 203 ] في قطع الطريق (قال) وان كان في المقطوع عليهم الطريق ذو رحم محرم من القطاع أو شريك له مفاوض لم يلزمهم حكم القطع لانه امتنع وجوب القطع على ذى الرحم المحرم للشبهة فيمتنع وجوبه على الباقين للشركة وقد بينا ذلك في السرقة فكذلك في قطع الطريق وكان الشيخ أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول تأويل المسألة إذا كان في المال المأخوذ لذى الرحم المحرم شركة للجميع وللشريك المفاوض لان مال ذى الرحم المحرم في حكم العقوبة كما له فشركته بمنزلة شركة أحد قطاع الطريق في المال المأخوذ فأما إذا أخذوا مع ذلك مالا كثيرا لاشركة فيه لذى الرحم المحرم منه يلزمهم القطاع باعتبار ذلك المال كما لو سرقوا من حرز ذى الرحم المحرم من أحدهم مالا ومن حرز أجنبي آخر مالا بخلاف مااذا سرقوا من حرز ذي الرحم المحرم من أحدهم ماله ومال غيره لان الشبهة هناك في الحرز ولا معتبر بالحرز في قطع الطريق فكل واحد حافظ لماله محرز له والاصح أن الجواب في الكل واحد لان مال جميع القافلة في حق قطاع الطريق كشئ واحد فانهم قصدوا أخذ ذلك كله بفعل واحد فإذا تمكنت الشبهة في بعض ذلك المال في حقهم فقد تمكنت الشبهة في جميعه بخلاف السرقة من حرز ثم من حرز لان كل واحد من الفعلين هناك منفصل عن الآخر حقيقة وحكما ووزان هذا من ذلك أن لو قطعوا الطريق على قوم فيهم ذو الرحم المحرم من أحدهم ثم قطعوا الطريق على قوم أجانب وأخذوا المال وهذا في حكم القطع دون القتل حتى لو قتلوا أحدهم يقتلون لان المحرم كالاجنبي في القتل (قال) وإذا شهد أحد الشاهدين عليهم بمعاينة قطع الطريق وشهد الآخر على اقرارهم بالقطع لم تجز الشهادة لاختلاف المشهود به لان الفعل غير القول وان قال الشاهدان قطع الطريق علينا وعلى أصحابنا هو وأصحابه وأخذوا المال منا لم يجز شهادتهما لانهما يشهدان لانفسهما وشهادة المرء لنفسه دعوى وكذلك ان شهدا أنه قطع الطريق على والدهما أو ولدهما لم تجز شهادتهما لانهما يشهدان لابيهما وهذا لان الحد وان كان استيفاؤه إلى الامام فلابد من خصومة صاحب المال وفيما كان الخصم أب الشاهد أو ابن الشاهد لا شهادة له ولان شهادته لابيه كشهادته لنفسه وان شهدوا أنه قطع الطريق على رجل من عرض الناس له ولى يعرف أو ليس له ولى يعرف لم يقم الامام عليهم الحد الا بمحضر من الخصم لما بينا ان السبب لا يثبت بالشهادة عنده الا إذا ترتبت على خصومة الخصم (قال) فان قطعوا الطريق في دار الحرب على تجار
[ 204 ] مستأمنين أو في دار الاسلام في موضع قد غلب عليه عسكر أهل البغى ثم أتى بهم إلى الامام لم يمض عليهم الحد لانهم باشروا السبب حين لم يكونوا تحت يد الامام وفى موضع لا يجرى فيه حكمة وقد بينا ان ذلك مانع من وجوب الحد حقا لله تعالى لانعدام المستوفى فان استيفاء ذلك إلى الامام ولا يتمكن من الاستيفاء إذا كانوا في موضع لا تصل إليهم يده (قال) وإذا رفع قوم من قطاع الطريق إلى القاضى فرأى تضمينهم المال وسلمهم إلى أولياء القود فصالحوهم علي الديات ثم رفعوا بعد زمان إلى قاض اخر لم يقم عليهم الحد اما لتقادم العهد أو لانعدام الخصم وقد سقطت خصومتهم بما وصل إليهم أو لقضاء الاول فيهم بما قضى فان ذلك نافذ لحصوله في موضع الاجتهاد ومن العلماء من يقول يتقرر الضمان عليهم ووجوب القود بالقتل وان كان متحتما وقضاء القاضى في المجتهدات نافذ (قال) وإذا قضى القاضى على قطاع الطريق بقطع الايدى والارجل والقتل وحبسوا لذلك فذهب رجل بغير اذن الامام فقتل منهم رجلا لم يكن عليه شئ لان الامام أحل دمهم حين قضى عليهم بالقتل ومن قتل حلال الدم لا شئ عليه كمن قتل مرتدا أو مقضيا عليه بالرجم وكذلك لو قطع يده لانه لما سقطت حرمة نفسه اقتضى ذلك سقوط حرمة أطرافه ضرورة ويتم بقية الحد لان ما فعله ذلك الرجل من اقامة الحد وان افتات فيه على رأى الامام ففعله في ذلك كفعل الامام لانه رجل من المسلمين والامام بمنزلة جماعة من المسلمين في استيفاء هذا الحد وان أخطأ الامام حين قدم إليه فقطع يده اليسرى فلا شئ عليه لان دمه حلال فانه يقتله بعد القطع فلا عصمة في طرفه ولانه مجتهد فيما صنع وقد بينا نظيره في الحداد (قال) وإذا أقر القاطع بقطع الطريق مرة واحدة أخذ بالحد الاعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى كما في السرقة وان أنكره بعد ذلك درئ عنه الحد لرجوعه عن الاقرار وأخذ بالمال والقود لان رجوعه عن الاقرار فيما هو حق العبد باطل (قال) وإذا قطع الطريق وأخذ المال ثم ترك ذلك وأقام في أهله زمانا لم يقم الامام عليه الحد استحسانا وفي القياس يقام عليه لان الحد لزمه بارتكاب سببه ولكن استحسن لتوبته وتحوله عن تلك الحالة قبل أن يقدر عليه والاصل فيه ماروى أن الحارث بن زيد قطع الطريق ثم ترك ذلك وتاب فكتب على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه إلى ؟ عامله بالبصرة أن الحارث بن زيد كان من قطاع الطريق ؟ وقد ترك وتحول عنه فلا تعرض له الا بخير (قال) وإذا قطعوا
[ 205 ] الطريق على قوم من أهل الحرب مستأمنين في دار الاسلام لم يلزمهم الحد لما بينا أن السبب المبيح في مال المستأمن قائم وهو كون مالكه حربيا وان تأخر ذلك إلى رجوعه إلى دار الحرب ولكنهم يضمنون المال ودية القتلي لبقاء الشبهة في دم المستأمن بكونه متمكنا من الرجوع إلى دار الحرب وهذا مسقط للعقوبة ولكنه غير مانع من وجوب الضمان الذى يثبت مع الشبهة لقيام العصمة في الحال ولكن يوجعون عقوبة لتخويفهم الناس بقطع الطريق كما إذا لم يصيبوا مالا ولا نفسا (قال) وإذا قطعوا الطريق على قافلة عظيمة فيها مسلمون ومستأمنون أقيم عليهم الحد الا أن يكون القتل وأخذ المال وقع على أهل الحرب خاصة فحينئذ لا يجب الحد كما لو لم يكن معهم غيرهم فأما إذا وقع القتل وأخذ المال على المسلمين وأهل الحرب يقام عليهم الحد كما لو لم يكن أهل الحرب معهم وهذا بخلاف مااذا كان في القافلة ذو رحم محرم من أحدهم لما بينا أن مال ذى الرحم في حقه في حكم الحد كماله فيمكن ذلك شبهة في فعلهم فأما مال المستأمنين ليس كماله وانما لم يكن أخذ مال المستأمنين موجبا للعقوبة عليه لبقاء شبهة الاباحة في ماله وذلك غير موجود في حق المسلمين وأهل الذمة فيقام عليهم الحد باعتبار نفوس المسلمين ومالهم ويجعل كأنهم لم يتعرضوا للمستأمنين بشئ (قال) وإذا حرم قاطع الطريق حين يأتي به الامام لم يدرأ عنه الحد بذلك لان احرامه لو افترن بالسبب لم يمنع وجوب الحد عليه فكذلك إذا اعترض وكذلك لو كان ذميا فأسلم وهذا الحد معتبر بسائر الحدود حكما وكما أن احرامه واسلامه لا يمنع اقامة سائر الحدود دار الحرب ولكنهم يضمنون المال ودية القتلي لبقاء الشبهة في دم المستأمن بكونه متمكنا من الرجوع إلى دار الحرب وهذا مسقط للعقوبة ولكنه غير مانع من وجوب الضمان الذى يثبت مع الشبهة لقيام العصمة في الحال ولكن يوجعون عقوبة لتخويفهم الناس بقطع الطريق كما إذا لم يصيبوا مالا ولا نفسا (قال) وإذا قطعوا الطريق على قافلة عظيمة فيها مسلمون ومستأمنون أقيم عليهم الحد الا أن يكون القتل وأخذ المال وقع على أهل الحرب خاصة فحينئذ لا يجب الحد كما لو لم يكن معهم غيرهم فأما إذا وقع القتل وأخذ المال على المسلمين وأهل الحرب يقام عليهم الحد كما لو لم يكن أهل الحرب معهم وهذا بخلاف مااذا كان في القافلة ذو رحم محرم من أحدهم لما بينا أن مال ذى الرحم في حقه في حكم الحد كماله فيمكن ذلك شبهة في فعلهم فأما مال المستأمنين ليس كماله وانما لم يكن أخذ مال المستأمنين موجبا للعقوبة عليه لبقاء شبهة الاباحة في ماله وذلك غير موجود في حق المسلمين وأهل الذمة فيقام عليهم الحد باعتبار نفوس المسلمين ومالهم ويجعل كأنهم لم يتعرضوا للمستأمنين بشئ (قال) وإذا حرم قاطع الطريق حين يأتي به الامام لم يدرأ عنه الحد بذلك لان احرامه لو افترن بالسبب لم يمنع وجوب الحد عليه فكذلك إذا اعترض وكذلك لو كان ذميا فأسلم وهذا الحد معتبر بسائر الحدود حكما وكما أن احرامه واسلامه لا يمنع اقامة سائر الحدود فكذلك هذا الحد (قال) وإذا قتله رجل في حبس الامام قبل أن يثبت عليه شئ ثم قامت البينة بما صنع فعلى قاتله القود لان العصمة والتقوم لا يرتفع بمجرد التهمة ما لم يقض القاضى بحل دمه فانما قتل نفسا محقونة فعليه القود ثم القاضي لا يقضي عليه بحل دمه بعد ما قتل لفوات المحل فوجود هذه البينة كعدمها الا ان يكون القاتل هو ولي المقتول الذى قتله هذا في قطع الطريق فحينئذ لا يلزمه شئ لانه استوفى حق نفسه على مابينا ان السبب الموجب للقود قد تقرر وانما يمتنع ظهوره إذا ظهر استحقاق نفسه حدا ولم يظهر ذلك قبل اقامة البينة عليه فكان الولى مستوفيا حقه فلا يلزمه شئ والله أعلم * * * تم الجزء التاسع