انتقل إلى المحتوى

ما العمر ما طالت به الدهور

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​مَا العُمْرُ ما طالَتْ به الدّهُورُ​ المؤلف أبو فراس الحمداني


مَا العُمْرُ ما طالَتْ به الدّهُورُ،
العمرُ ما تمَّ بهِ السرورُ ‍!
أيامُ عزي، ونفاذِ أمري
هي التي أحسبها منْ عمري
مَا أجْوَرَ الدّهْرَ عَلى بَنِيهِ!
وأغدرَ الدهرَ بمنْ يصفيهِ !
لوْ شئتُ مما قدْ قللنَ جدَّا
عَدَدْتُ أيّامَ السّرُورِ عَدّا
أنعتُ يوماً، مرَّ لي بـ " الشامِ "،
ألذَّ ما مرَّ منَ الأيامِ
دَعَوْتُ بِالصَّقّارِ، ذاتَ يَوْمِ،
عندَ انتباهي، سحراً من نومي
قلتُ لهُ : اخترْ سبعةً كباراً
كُلٌّ نَجِيبٌ يَرِدُ الغُبَارَا
يَكُونُ لِلأرْنَبِ مِنْهَا اثْنَانِ،
وخمسةٌ تفردُ للغزلانِ
وَاجْعَلْ كِلابَ الصّيْدِ نَوْبَتَينِ
ترسلُ منها اثنينِ بعدَ اثنين
و لاَ تؤخرْ أكلبَ العراضِِ!
فَهُنّ حَتْفٌ لِلظِّبَاءِ قَاضِ
ثم تقدمتُ إلى الفهادِ
وَالبَازيَارِينَ بِالاسْتِعْدَادِ
وقلتُ : إنًَّ خمسةً لتقنعُ
وَالزُّرّقَانِ: الفَرْخُ وَالمُلَمَّعُ
و أنتَ، يا طباخُ، لا تباطا!
عجلْ لنا اللباتِ والأوساطا !
ويا شرابي البلقسياتِ
تَكُونُ بِالرّاحِ مُيَسَّرَاتِ
بِالله لا تَسْتَصْحِبُوا ثَقِيلا!
واجتنبوا الكثرةَ والفضولا !
ردوا فلاناً، وخذوا فلانا!
وَضَمّنُوني صَيْدَكُمْ ضَمَانَا!
فاخترتُ، لمَّـا وقفوا طويلا،
عشرينَ، أو فويقها قليلا
عِصَابَةٌ، أكْرِمْ بِهَا عِصَابَهْ،
معروفةٌ بالفضلِ والنجابه
ثُمّ قَصَدْنَا صَيْدَ عَينِ قَاصِرِ
مَظِنّةَ الصّيْدِ لِكُلّ خَابِرِ
جئناهُ والشمسُ، قبيلَ المغربِ
تَختالُ في ثَوْبِ الأصِيلِ المُذهَب
وَأخذَ الدُّرّاجُ في الصّيَاحِ،
مُكْتَنِفاً مِنْ سَائِرِ النّوَاحي
في غَفْلَةٍ عَنّا وَفي ضَلالِ،
ونحنُ قدْ زرناهُ بالآجالِ
يَطْرَبُ للصُّبْحِ، وَلَيسَ يَدرِي
أنَّ المنايا في طلوعِ الفجرِ
حَتى إذَا أحْسَسْتُ بِالصّبَاحِ
ناديتهمْ : " حيَّ على الفلاحِ ! "
نحنُ نصلي والبزاةُ تخرجُ
مُجَرَّدَاتٍ، وَالخُيُولُ تُسْرَجُ
فقلتُ للفهادِ : فامضِ وانفردْ
وَصِحْ بنا، إنْ عنّ ظبيٌ، وَاجتَهِدْ
فلمْ يزلْ، غيرَ بعيدٍ عنا،
إليهِ يمضي ما يفرُّ منا
وَسِرْتُ في صَفٍّ مِنَ الرّجالِ،
كَأنّمَا نَزْحَفُ لِلْقِتَالِ
فما استوينا كلنا حتى وقفْ
لَمّا رَآنَا مَالَ بِالأعْنَاقِ
ثمَّ أتاني عجلاً، قالَ : ألسبقْ !
فقُلتُ: إن كانَ العِيانُ قد صَدَقْ
سِرْتُ إلَيْهِ فَأرَاني جَاثِمَهْ
ظَنَنْتُهَا يَقْظَى وكَانَتْ نائِمَهْ
ثُمّ أخَذتُ نَبَلَةً كانَتْ مَعي،
وَدُرْتُ دَوْرَيْنِ وَلَمْ أُوَسَعِ
حتى تمكنتُ، فلمْ أخطِ الطلبْ،
لكلِّ حتفٍ سببٌ منَ السببْ
وَضَجّتِ الكِلابُ في المَقَاوِد،
تَطْلُبُهَا وَهْيَ بِجُهْدٍ جَاهِدِ
وَصِحْتُ بِالأسْوَدِ كَالخُطّافِ
ليسَ بأبيضٍ ولا غطرافِ
ثمَّ دعوتُ القومَ : هذا بازي !
فأيكمْ ينشطُ للبرازِ ؟
فقالَ منهمْ رشأٌ : " أنا، أنا! "
وَلَوْ دَرَى مَا بِيَدي لأذْعَنَا!
فَقُلْتُ: قَابِلْني وَرَاءَ النّهْرِ،
أنْتَ لِشَطْرٍ وَأنَا لِشَطْرِ!
طارتْ لهُ دراجةٌ فأرسلا
أحْسَنَ فِيهَا بَازُهُ وَأجمَلا
عَلَّقَهَا فَعَطْعَطُوا، وَصَاحُوا،
و الصيدُ منْ آلتهِ الصياحُ !
فقلتُ : ما هذا الصياحُ والقلقْ ؟
أكُلُّ هذا فَرَحٌ بِذا الطَّلَقْ؟
فقالَ : إنَّ الكلبَ يشوي البازا
قَد حَرَزَ الكَلْبُ، فَجُزْ، وَجَازَا
فلمْ يزلْ يزعقُ : يا مولائي !
وَهْوَ كَمِثْلِ النّارِ في الحَلْفَاءِ
طارتْ، فأرسلتُ فكانتْ سلوى
حَلّتْ بِهَا قَبْلَ العُلُوّ البَلْوَى
فَمَا رَفَعْتُ البَازَ حَتى طَارَا
آخَرُ عَوْداً يُحْسِنُ الفِرَارَا
أسودُ، صياحٌ، كريمٌ، كرَّزُ،
مُطرَّزٌ، مُكَحَّلٌ، مُلَزَّزُ
عليهِ ألوانُ منَ الثيابِ
مِنْ حُلَلِ الدّيبَاجِ وَالعُنّابي
فلمْ يزلْ يعلو وبازي يسفلُ
يحرزُ فضلَ السبقِ ليسَ يغفلُ
يَرْقُبُهُ مِنْ تَحْتِهِ بِعَيْنِهِ،
وَإنّمَا يَرْقُبُهُ لِحيْنِه
حتى إذا قاربَ، فيما يحسبُ،
معقلهُ ؛ والموتُ منهُ أقربُ
أرْخَى لَهُ بِنَبْجِهِ رِجْلَيْهِ،
والموتُ قدْ سابقهُ إليهِ
صِحْتُ وَصَاحَ القَوْمُ بالتّكْبيرِ،
وغيرنا يضمرُ في الصدورِ
ثمّ تَصَايَحْنَا فَطَارَتْ وَاحِدَهْ
شيطانةٌ منْ الطيورِ ماردهْ
من قربٍ فأرسلوا إليها
وَلَمْ تَزَلْ أعْيُنُهُمْ عَلَيْهَا
فَلَمْ يُعَلِّقْ بَازُهُ وَأدّى
مِنْ بَعْدِ مَا قَارَبَهَا وَشَدّا
صحتُ : أهذا البازُ أمْ دجاجهْ ؟
ليتَ جناحيهِ على دراجهْ
فاحمرتِ الأوجهُ والعيونُ
وَقَالَ: هَذا مَوْضِعٌ مَلْعُونُ
إنْ لزَّها البازُ أصابتْ نبجا
أوْ سقطتْ لمْ تلقَ إلاَّ مدرجا
اعدلْ بنا للنبجِ الخفيفِ
وَالمَوْضِعِ المُنْفَرِدِ المَكْشُوفِ
فقثلتُ : هذي حجةٌ ضعيفةْ
وغرَّةٌ ظاهرةٌ معروفهْ
نحنُ جميعاً في مكانٍ واحدِ،
فَلا تُعَلِّلْ بِالكَلامِ البَارِدِ!
قصَّ جناحيهِ يكنْ في الدارِ
معَ الدباسي، ومعَ القماري !
وَاعْمِدْ إلى جُلْجُلِهِ البَدِيعِ،
فاجعلهُ في عنزٍ منَ القطيعِ!
حتى إذا أبْصَرْتُهُ، وَقد خَجِلْ،
قُلتُ: أرَاهُ، فارِهاً، على الحَجَلْ
دعهُ، وهذا البازُ فاطردْ بهِ
تَفَادِياً مِنْ غَمّهِ وَعَتْبِهِ!
وقلتُ للخيلِ، التي حولينا :
تَشَاهَدُوا كُلُّكُمُ عَلَيْنَا!
بِأنّهُ عَارِيَةٌ مَضْمُونَه،
يُقِيمُ فِيهَا جَاهَهُ وَدِينَهْ
جئتُ ببازٍ حسنٍ مبهرجِ
دُونَ العُقَابِ وَفُوَيقَ الزُّمَّجِ
زينٍِ لرائيهِ، وفوقَ الزينِ،
يَنْظُرُ مِنْ نَارَيْنِ في غَارَيْنِ
كأنَّ فوقَ صدرهِ والهادي
آثَارَ مَشْيِ الذَّرّ في الرّمَادِ
ذِي مِنْسَرٍ فَخْمٍ وَعَيْنٍ غائِرَهْ،
وفخذٍ ملءَ اليمينِ وافرهْ
ضَخْمٍ، قَرِيبِ الدَّسْتَبَانِ جِدّا
يَلْقَى الّذِي يَحمِلُ مِنهُ كَدّا
وَرَاحةٍ تَغْمُرُ كَفّي سَبْطَهْ
زَادَ عَلى قَدْرِ البُزَاةِ بَسْطَهْ
سُرّ، وَقالَ: هاتِ! قلتُ: مَهْلا!
احلفْ على الردِّ‍!"فقالَ:كلاَ!
أما يميني، فهي عندي غاليهْ
وكلمتي مثلً يميني وافيه
قُلْتُ: فَخُذْهُ هِبَةً بِقُبْلَة !
فَصَدّ عَني، وَعَلَتْهُ خَجْلَهْ
فلمْ أزلْ أمسحهُ حتى انبسطْ
وَهَشّ للصّيدِ قَلِيلاً، وَنَشَطْ
صحتُ بهِ :اركبْ ‍! فاستقلَّ عنْ يدِ
مُبادِراً أسرَعَ مِنْ قَوْلِ: قَدِ!
وَضَمّ ساقَيهِ وَقَالَ: قَدْ حَصَلْ!
قلتُ لهُ:"الغدرةُ منْ شرِّ العملْ ‍!"
سرتُ، وسارَ الغادرُ العيارُ
ليسَ لطيرٍ معنا مطارُ
ثمَّ عدلنا نحونهرِ الوادي،
وَالطّيْرُ فِيهِ عَدَدُ الجَرَادِ
أدَرْتُ شَاهِينَيْنِ في مَكَانِ
لكثرةِ الصيدِ معَ الإمكانِ
دارا علينا دورةً وحلقا،
كِلاهُمَا، حَتى إذَا تَعَلّقَا
تَوَازَيَا، وَاطّرَدَا اطّرَادا،
كالفارسينِ التقيا أو كادا
ثَمّتَ شَدَّا فَأصَابَا أرْبَعَا
ثَلاثَةً خُضْراً، وَطَيْراً أبْقَعَا
ثمَّ ذبحناها، وخلصناهما
وَأمْكَنَ الصّيْدُ فَأرْسَلْنَاهُمَا
فَجَدّلا خَمْساً مِنَ الطّيُورِ،
فَزَادَني الرّحْمَنُ في سُرُورِي
أربعةً منها أنيسيانِ
وَطَائِراً يُعْرَفُ بالِبَيْضَاني
خَيْلٌ نُنَاجِيهِنّ كَيْفَ شِينَا
طيعةٌ، ولجمها أيدينا
وهيَ إذا ما استصعبَ القيادهْ
صَرّفَهَا الجُوعُ عَلى الإرَادَهْ
تَسَاقَطَتْ مَا بَيْنَنَا مِنَ الفَرَقْ
حتى أخذنا ما أردنا منها
ثُمّ انْصَرَفْنَا رَاغِبِينَ عَنْهَا
إلى كراكيَّ بقربِ النهرِ
عشراً نراها، أو فويقَ العشرْ
لَمّا رآها البَازُ، من بُعْدٍ، لَصَقْ
وَحَدّدَ الطّرْفَ إلَيْهَا وَذَرَقْ
فدارَ حتى أمكنتْ ثمَّ نزلْ
فَحَطّ مِنْهَا أفْرَعاً مِثلَ الجَمَلْ
ما انحطَّ إلاَّ وأنا إليهِ
ممكناً رجليَّ منْ رجليهِ
جلستُ كيْ أشبعهُ إذا هيهْ
قد سَقطَتْ من عَن يَمينِ الرَابِيَهْ
فَشلْتُهُ أرْغَبُ في الزّيَادَة،
وَتِلْكَ للطّرَادِ شَرُّ عَادَة
لَمْ أَجْزِهِ بِأحْسَنِ البَلاءِ،
أطَعتُ حِرْصِي، وَعَصَيْتُ دَائي
فلمْ أزلْ أختلها وتختتلْ،
وإنما نختلها إلى أجلْ
عمدتُ منها لكبيرٍ مفردِ
يمشي بعنقٍ كالرشاءِ المحصدِ
طارَ، وما طارَ ليأتيهِ القدرْ،
وهلْ لما قدْ حانَ سمعٌ أوْ بصرْ ‍! ؟
حتى إذا جدلهُ كالعندلِ،
أيقنتُ أنَّ العظمَ غيرُ الفصلِ
ذَاكَ، عَلى مَا نِلْتُ مِنهُ، أمْرُ
عثرتُ فيهِ وأقالَ الدهرُ ‍!
صحتُ إلى الطباخِ : ماذا تنتظر؟
انزِلْ عنِ المهرِ، وَهَاتِ ما حَضَرْ
جَاءَ بِأوْسَاطٍ، وَجُرْدِ تَاجِ،
منْ حجلِ الصيدِ ومنْ دراجِ
فما تنازلنا عنِ الخيولِ،
يمنعنا الحرصُ عنِ النزولِ
وَجِيءَ بِالكَأسِ وَبالشّرَابِ،
فَقُلتُ: وَفّرْهَا على أصْحابي!
أشْبَعَني اليَوْمَ وَرَوّاني الفَرَحْ،
فقدْ كفاني بعضُ وسطٍ وقدحْ
ثمَّ عدلنا نطلبُ الصحراءَ،
نَلْتَمِسُ الوُحُوشَ وَالظّبَاءَ
قَدْ صَدَرَتْ عَنْ مَنهَلٍ رَوِيِّ،
منْ غبرِ الوسميِّ والوليِّ
ليسَ بمطروقٍ ولا بكيِّ،
ومرتعٍ مقتبلٍ جنيّ
مرَّ عليهِ غدقُ السحابِ
بواكفٍ، متصلِ الربابِ
مازالَ في خفضٍ، وحسنِ حالِ
حَتى أصَابَتْهُ بِنَا اللّيَالي
سِرْبٌ حَمَاهُ الدّهْرُ مَا حَمَاهُ
لَمّا رَآنَا ارْتَدّ مَا أعْطَاهُ
بادرتُ بالصقارِ والفهادِ
حَتى سَبَقْنَاهُ إلى المِيعَادِ
فَجَدَّلَ الفَهْدُ الكَبِيرَ الأقْرَنَا،
شدَّ على مذبحهِ واستبطنا
وجدَّلَ الآخرُ عنزاً حائلاً
رَعَتْ حمى الغَوْرَينِ حَوْلاً كاملا
ثُمّ رَمَيْنَاهُنّ بِالصّقُورِ
فَجِئْنَهَا بِالقَدَرِ المَقْدُورِ
أفْرَدْنَ مِنها في القَرَاحِ وَاحِدَة
قدْ ثقلتْ بالخصرِ وهيَ جاهدهْ
مَرّتْ بِنَا، وَالصّقْرُ في قَذالِهَا
يُؤذِنُهَا بِسيِّءٍ مِنْ حَالِهَا
ثمَّ ثناها وأتاها الكلبُ
هما، عليها، والزمانُ إلبُ
فَلَمْ نَزَلْ نَصِيدُهَا وَنَصْرَعُ
حَتى تَبَقّى في القطِيعِ أرْبَعُ
ثمَّ عدلنا عدلةً إلى الجبلْ
إلى الأراوي، والكباشِ والحجلْ
فَلَمْ نَزَلْ بِالخَيْلِ وَالكِلابِ
نحوزها حوزاً، إلى الغيابِ
ثمَّ انصرفنا، والبغالُ موقرهْ،
في لَيلَةٍ، مثلِ الصّبَاحِ، مُسفِرَهْ
حتى أتينا رحلنا بليلِ،
وَقَدْ سُبِقْنَا بِجِيَادِ الخَيْلِ
حتى عددنا مئةً وزيدا
فلمْ نَزَلْ نَقلي، وَنشِوي، وَنصُبْ،
حَتى طَلَبْنَا صَاحِياً فَلَمْ نُصِبْ
شُرْباً، كمَا عَنّ، مِنَ الزِّقَاقِ
بغيرِ ترتيبٍ، وغيرِ ساقِ
فَلَمْ نَزَلْ سَبْعَ لَيَالٍ عَدَدا
أسعدَ مَن رَاحَ، وَأحظَى مَن غَدا