كلنبوي على إيساغوجي
الحمد لله الذي خصص نوع الإنسان من جنس الحيوان، باكتساب المجهول من المعلوم تصوراً وتصديقًا، والصلوة على محمد بقاطع الحجة وساطع البرهان، وعلى آله وأصحبه أجمعين.
وبعد، فلما التمس بعض أصحابي في أثناء المذاكرة للرسالة الأثيرية الميزانية أن اكتب لهم شرحاً يحل عقد ألفاظه ومبانيه ويوضح الغوامض من معانيه، ولم ينفعني التعلل بقصور باعي وقله متاعي، فشرعت إجابة لأقوالهم بصحف هادية في الآخرة والأولى ﴿يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ﴾ ساقية إلى النجاة عن الداهية والطامة الكبرى اللهم اجعلنا من الواصلين إلى الحق بالحق واغفر لنا ولوالدينا ولجميع الطالبين.
قال الشيخ 1 الإمام العلامة قدوة الحكماء وأسوة العلماء أثير الدين الأبهري غشيه الغفران والرضوان الكبرى في مفتتح الرسالة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ) تيمناً باسمه العظيم وتبركاً بذكره الغنيم وامتثالاً لما قاله حبيبه الحليم وهو «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» والباء متعلق بمحذوف مؤخر يقدر في كل مقام فعل يناسبه فيقدر في مقام التصنيف باسم الله أصنف وفي مقام القراءة باسم الله اقرأ وهكذا وإنما يقدر مؤخراً لأنه أهم وأدل على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود لأن وجود الله تعالى مقدم على كل شيء واسمه مقدم على التصنيف كيف لا وفيه إشعار بأنه لا يتم الفعل ولا يعتد به شرعاً ما لم يصدر باسمه تعالى لما سبق من الحديث وعلى هذا يكون الباء للاستعانة ولك أن تجعله للمقابلة 2 فيكون الظرف حالاً من ضمير الفعل المحذوف والتقدير متبركاً باسم الله أشرع في تأليف هذا الكتاب ثم بعد ما تمين بالتسمية أتى بالتحميد فقال (نَحْمَدُ اللهَ) أداء لشكر بعض ما أنعم عليه الرب الحميد واقتداء لأسلوب الكتاب المجيد وعملاً بما وقع عليه الإجماع من السلف وامتثالًا لما جاء من حضرة الرسالة معدن الحمد والشرف وهو كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع وما يتوهم من التنافي بين الحديثين فدفوع إما بحمل البدء في أحدهما أو كليهما على الإضافي أو العرفي وإما بحمله على معنى التقديم يقال بدأ الشيء إذا قدمه صرح به بعض المحققين ناقلاً عن العرب والحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري ونعمة أو غيرها والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه ويقال له حمداً عرفاً فبينهما عموم وخصوص من وجه وفي التعريف تصريح تعالى بكون المحمود عليه اختيارياً وما شاع من الحمد على الصفات الغير الاختيارية ففي الحمد له إيماء إلى أنه تعالى فاعل مختار فيتضمن الرد على من يقول بالإيجاب كالفلاسفة.
وما قيل من أن المحمود عليه لا يجب أن يكون اختيارياً وإن وجب كون المحمود مختاراً فليس على ما ينبغي ولعل مراده أن يقول لا يجب أن يكون اختيارياً بنفسه هذا.
وعدل المصنف رحمه الله عن الجملة الاسمية إلى الفعلية تنبيهاً على عجزه عن استدامة الحمد المفهومة من الاسمية واختار الفعل المضارع ليدل على الاستمرار والتجدد واختار هذه الصيغة على الحكاية عن نفسه مع أنها تدل على حمده بخصوصه تنبيهاً على أنه وحده عاجز وقاصر عن حمده تعالى كما هو حقه كما قال النبي عليه السلام «سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»، فأدرج حمده في تضاعيف محامد سائر المؤمنين لعله يصير مقبولاً ببركتها وعلى هذا المنهاج ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ولهذه الحكمة العظمية والفائدة الجليلة شرعت الجماعة في الصلوة.
والله اسم لذات واجب الوجود المستجمع جميع صفات الكمال ونعوت صفات الجلال والجمال المتقدس عن جميع صفات النقص وسمات العجز واختلف في أنه مشتق ووصف في أصله ثم غلب عليه الاسمية أو هو اسم علمي لا اشتقاق له أصلاً والذاهبون إلى الأول على أقوال مختلفة متعددة في مأخذه والذاهبون إلى الثاني أيضًا على اختلاف في أنه اسم عربي أم هو اسم عجمي والحاصل أن هذه اللفظة الجليلة تحير فيها العقلاء كما تحيروا في مسماها وإنما أتى باسم الذات ولم يأت باسم من أسماء الصفات حيث لم يقل نحمد الخالق أو الرازق أو غيرهما للاستلذاذ والتبرك به ولئلا يتوهم اختصاص استحقاقه الحمد بوصف دون وصف وللتنبيه على الاستحقاق الذاتي المحمد فسر بعضهم الاستحقاق الذاتي بالاستحقاق بجميع الصفات والاستحقاق الوصفي بالاستحقاق بعضها وبعضهم فسر الأول باستحقاقه تعالى بصفاته الذاتية والثاني باستحقاقه بصفاته الفعلية وإنما فسروهما بهذين التفسيرين لما سبق من وجوب كون المحمود عليه اختيارياً إما بنفسه أو بآثاره المترتبة عليه والذاتي من حيث هو ليس كذلك أفاده بعض المحققين وبعد التنبيه على استحقاقه الذاتي بلفظة الجلالة أراد أن ينبه على استحقاقه الوصفي بعض عظائم صفاته الفعلية.
فقال (عَلَى تَوْفِيقِهِ) التوفيق جعل الله تعالى فعل عبده موافقاً لما يحبه ويرضاه وقيل التوفيق عند الأشعري وأكثر الصحابة خلق القدرة على الطاعة وقال إمام الحرمين هو خلق الطاعة قال المحقق الدواني قلت الظاهر ما قاله الإمام فإن القدرة على الطاعة محققة في كل مكلف اللهم إلا أن يكون المراد القدرة المؤثرة القريبة التي هي مع الفعل كما هو مذهب أهل السنة من أن الاستطاعة مع الفعل وهو على خلاف ما عرفه بعض المتأخرين من أنه جعل السبب موافقاً للمسبب انتهى.
أقول فإذا كان مراد الأشعري بالقدرة في تعريفه ما مع الفعل فهو وتعريف الإمام والتعريف الذي ذكرناه أولاً كلها 3 متحدة بحسب التحقق بل الاختلاف في الأخيرين إنما هو في المفهوم ثم تعريف بعض المتأخرين أيضاً يساوي سائر التعريفات بحسب التحقق إذا المراد بالسبب هو سبب الخير والطاعة والمراد بالمسبب هو الطاعة بدليل أن التوفيق المطلق لا يستعمل إلا في الخير وجعل سبب الطاعة موافقاً لها إنما هو بخلقها فتأمل ثم أن كلاً منها يجوز أن يراد ههنا فالمعنى على الأول نحمد الله على جعله فعلنا موافقاً لما يحبه ويرضاه حيث هدانا للإيمان والإسلام وجعلنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وعلى الثاني على خلقه قدرتنا على الطاعة وعلى الثالث على خلقه طاعتنا وعلى الرابع على جعله سبب طاعتنا من العقل والنظر الصحيح موافقاً لها ومآل كلها واحد كما لا يخفى (وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ) السؤال الطلب على وجه التضرع والابتهال والهداية الدلالة وقبل الدلالة الموصلة إلى البغية ذكره البيضاوي وقيل الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب وقيل الهداية خلق الاهتداء واستعمالها في الدلالة مجاز وفي مختار الصحاح هديته الطريق هداية أي عرفته والمراد منها هذه الدلالة والتعريف لإضافتها إلى الطريق وطريق الله تعالى هو الإيمان وما يتفرع عليه من الأعمال الصالحة وسؤال الهداية اليد تعالى ههنا إما طلب الدوام والثبات عليه وأمّا طلب الترقي والتدرج إلى أن بلغ إلى قصوى مراتب الكمالات التي هي مرتبة المشاهدة والوصول والواو إِمّا عاطفة فتكون جهة المسئلة معطوفة على جهة الحمدلة وإمّا حالية فتكون حالاً من الضمير المستكن في نحمد والتقدير نحمد الله على توفيقه سائلين منه الدوام والثبات على طريقة أو الترقي والتدرج في مراتب الكمالات.
ثم لما وجب الصلوة على النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم عقلاً لتوسطه 4 بيننا وبين الله تعالى وتسببه في طرفنا بنعمة الإيمان الذي يقتضي الفلاح والنجاة من النيران والدخول والخلود في دار الجنان ومشاهدة جمال الرحمن ولمعاونتهم 5 له عليه الصلاة والسلام في ظهور الإسلام وشيوعه.
وشرعاً لقوله تعالى ﴿يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾.
ولما بين النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة عليه حين سئل عنه بقوله «قولوا اللهم صل على محمد» الحديث 6 ولما روي عنه ﷺ أنه قال «كل كلام لم يصدر بالصلوة على فهو أبتر» أراد المص رح إرداف التحميد بالصلوة عليه وعلى آله سالكاً إلى نهج تحميده فقال (وَنُصَلَّي عَلَى مُحَمَّدِ وَعِتْرتِهِ) الصلوة الدعاء وإذا أضيف إلى الله تعالى تكون بمعنى الرحمة باعتبار غايتها التي هي من الأفعال لا باعتبار مبدأها الذي هو من الانفعالات وعترة الرجل نسله ورهطه الأدنون كذا في الصحاح الجوهري والمراد هو الآل والأصحاب ولو قال نصلى ونسلم على محمد وأصحابه ممتثلاً لظاهر ما نزل وموافقاً لما اشتهر لكان أولى وأظهر.
(وَأَمَّا بَعْدُ) أما كلمة فيها معنى الشرط أصلها مهما يكن من شيء فحذفت مهما يكن من شيء وأقيمت هي مقامه فلتضمنها معنى الابتداء لزم دخولها على الاسم ولتضمنها معنى الشرط غلب دخول الفاء في جوابها قضاء بحق ما كان وإبقاء له على قدر الإمكان.
وبعد ظرف من الظروف المكانية لكن استعير ههنا للزمان على ما اشتهر في الألسنة وقال بعض الفضلاء فيه بحث لأن أصحاب اللغة قالوا هو من الظروف الزمانية ولو كان في الأصل من الجهات الست لبينوه سيما صاحب الصحاح انتهي وهو مبني على الضم لكون المضاف إليه منوياً والتقدير أما بعد زمن الحمدلة والصلوة على النبي عليه السلام (فَهذِهِ) جواب أما أي فأقول هذه والمشار إليه بهذه العبارات المستحضرة في الذهن سواء قدمت الديباجة على التأليف أو أخرت وسواء كانت الرسالة عبارة عن أي احتمال من الاحتمالات التي سنذكرها.
وذلك لأن الغرض وصف نوع تلك العبارات بكونه رسالة وتسميتها بها سواء وجد ذلك النوع في ضمن هذا الشخص أو غيره من الأشخاص ولا جرم أن ذلك النوع ليس له وجود عيني في الخارج فلا تكون الإشارة إلا على الصور الذهنية تنزيلاً لها منزلة الأمور الحسية (رِسَالَةٌ) اعلم أن الرسالة والكتاب وما جعل جزء منهما من الفصول والأبواب إما عبارة عن الألفاظ والمعاني أو النقوش أو الألفاظ والمعاني أو الألفاظ والنقوش أو المعاني والنقوش أو الألفاظ والمعاني والنقوش فهذه الاحتمالات سبعة ذكرها الشريف العلامة في حاشية المطول وزاد بعضهم ما زاد.
والمختار أنها عن الألفاظ العينة الدالة على المعاني المخصوصة فتح يكون إطلاق الاسم الموضوع بإزاء الكتاب كالمفتاح أو بإزاء أجزائه المقدمة والفنون والأبواب والفصول على المعاني أو النقوش مثلاً مجازاً (فِي عِلْمِ المَنْطِقِ) ويسمى علم الميزان أيضاً أما التسمية بالأول فلأن النطق باطنياً كان أو ظاهرياً يقوى ويكمل بهذا الفن فسمي باسم مشتق منه.
وأما بالثاني فلأن هذا الفن بالنسبة إلى العلوم كالميزان بالنسبة إلى الموزونات الحسية 7 (أَوْرَدْنَا فِيهَا) أي في الرسالة صفةً للرسالة أو استئناف بياني فتبصر (مَا يَجِبُ) وجوباً عادياً أو ادعائياً (اسْتِحْضَارُهُ لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ) أي علم كان سوى المنطق فلا يلزم كونه آلة لنفسه وهذه العبارة صريحة في أن آليته ليست مخصوصة بعلم دون علم بل هو آلة لجميع العلوم آليها ومألّيها ففيها حثٌّ وإغراء على تعلم هذا الفن وإيماء إلى أنه ينبغي بل يجب للطالب أن يشمر ساقي الجد في تحصيله وحفظه لا سيما ما في هذه الرسالة (مُسْتَعِيناً بِاللهِ) حال من الضمير المتصل في أوردنا والظاهر مستعينين إلا أنه تساهل في العبارة نظراً إلى الواقع وإغماضاً عن ظاهر اللفظ (إِنَّهُ مُفِيضُ الْخَيْرَ وَالْجُودِ) ما في هذه الخطبة الصنعة البديعة التي هي مراعاة النظير لا يخفى على اللبيب الخبير.
*تمهيد* اعلم أن كل علم مسائل كثيرة تضبطها جهة وحدة ذاتية أو عرضية الأولى كونها باحثة عن الأعراض الذاتية لشيء واحد حقيقي أو اعتباري باعتبارها تعد تلك المسائل الكثيرة علماً واحداً.
والثانية تابعة للأولى مثل كونها آلة واستتباعها غاية فمن أراد تحصيل شيء من العلوم ينبغي له أن يعرفه بكلتا الجهتين أو أحديهما ليقف على مسائله إجمالاً فيأمن من فوات شيء مما يعينه بصرف الهمة إلى ما لا يعينه.
وأن يعرف موضوعه ليتميز عنده تميزاً تاماً ذاتياً فيحصل له زيادة بصيرة في شروعه.
وأن يعرف غايتها ليجزم بأن ليس سعيه عبثاً فيزداد جداً ونشاطاً في تحصيله.
فنقول في تعريف المنطق باعتبار الجهة الأولى أنه يبحث فيه عن أحوال المعلومات التصورية والتصديقية من حيث صحة إيصالها إلى مجهول كذلك.
وباعتبار الجهة الثانية آلة قانونية أو علم بها تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر أو ملكة تعصم الذهن إلخ وضمّن في التعريف الأول الموضوع وهو المعلومات التصورية والتصديقية المقيدة بصحة الإيصال وفي الثاني الغاية وهي العصمة عن الخطأ في الفكر ولكونه باحثاً عن أحوال المعلومات التصورية والتصديقية كان له قسمان تصورات وتصديقات ولكل منهما مبادئ ومقاصد فبادئ التصورات الكليات الخمس ومقاصدها القول الشارح ومبادئ التصديقات القضايا وأحكامها ومقاصدها القياس وله صورة ومادة.
وهو بحسب المادة خمسة أقسام تسمى الصناعات الخمس وهي البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة فانحصر أبواب المنطق في تسعة.
ولما كان التصديق متوقفاً على التصور شرطاً أو شطراً قدم مباحث التصورات على التصديقات.
ثم لما كانت المقاصد موقوفة على المبادئ قدم كلاً من المبادئين على مقاصديهما وقد رتب المصنف رحمه الله تعالى الأبواب على وفق ما أشرنا إليه فصدر الرسالة بباب الكليات فقال (إِيسَاغُوجِي) أي الباب الأول في مبادئ التصورات وهي إيساغوجي أي الكليات الخمس وهو لفظ يوناني سميت الكليات الخمس به تسمية لها باسم المشبه به 8 حيث كان في الأصل اسماء لورد له خمس ورقات على ما هو المشهور 9.
اعلم أن نظر المنطقيين إنما يتعلق إلى المعاني قصدا وبالذات وأما إلى الألفاظ فإنما يتعلق بها تبعاً وبالعرض لكن لما جرت العادة إلى توقف إفادة المعاني واستفادتها على الألفاظ بل على دلالتها صدروا كتبهم بحثي الألفاظ والدلالة.
فالمصنف رحمه الله تعالى صدر باب إیساغوجي ببيان أقسام اللفظ مع الدلالة ليكون مقدمة لما هو المقصود وقدم أقسام الدلالة لعدم اعتبار اللفظ بدونها فقال (اللَّفْظْ الدَّالُّ بالوُضِعِ) اللفظ في اللغة الرمي وفي الاصطلاح ما يتلفظ به الإنسان قليلاً كان أو كثيراً مهملا كان أو موضوعاً والدلالة كون الشيء بحيث ينفهم منه شيء آخر والشيء الأول يسمى دالاً والثاني مدلولاً.
والوضع تعيين شيء لشيء بحيث متى أطلق أو أحس الأول فهم منه الثاني.
ثم الدلالة إما لفظية أو غير لفظية والأولى تنقسم إلى عقلية كدلالة اللفظ المسموع من وراء الجدار على وجود اللافظ وإلى طبيعية كدلالة أخ على وجع الصدر وإلى وضعية كدلالة زيد على مسماه وأما الثانية 10 فالمشهور أن الطبيعية لا توجد فيها.
وقيل إنها أيضاً ثلاثة عقلية كدلالة العالم على وجود الواجب تعالى ووضعية كدلالة الدوال الأربع على مداولاتها وطبيعية كدلالة تغير لون العاشق عند رؤية المعشوق على العشق وهذه بأسرها غير مرادة ههنا بل المراد هو الدلالة اللفظية الوضعية لا العقلية ولا الطبيعية لعدم انضباطهما واختلافهما بسبب اختلاف العقول والطبائع بخلاف الوضعية فإن العقول كلها مستوية الإقدام فيها بعد العلم بالوضع ولهذا قال اللفظ الدال بالوضع (يَدُلُّ تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ) وضعاً شخصياً كان أو نوعياً فيدخل فيه الدلالة على المعنى المجازي كما هو المذهب المنصور ولفظ التمام لمجرد التأكيد ولتحسين المقابلة وإلا فلا حاجة إليه (بالمُطابَقَةِ) أي دلالة ملتبسة أو مسماة بالمطابقة وإنما سميت مطابقة لتوافق اللفظ والمعنى حينئذ من قولهم طابق النعل بالنعل إذا توافقتا (وَ) يدل (عَلَى جُزْئِهِ) أي جزء ما وضع له حال كونه تابعاً لما وضع له ومتحققاً في ضمنه دلالة ملتبسة (بِالتَّضَمُّنِ) سميت به لوجودها في ضمن المطابقة بسبب وجود الجزء في ضمن ما وضع له (إِنْ كَانَ لَهُ جُزْءٌ) احتراز عما لم يكن له جزء كالواجب تعالى والنقطة فلا يتحقق التضمن فيه حينئذ.
فالمطابقة لا تستلزم التضمن والتضمن يستلزمها وأما استلزامها الالتزام فقد اختلف فيه والحق أنها لا تستلزمه وأما الالتزام فيستلزم المطابقة قطعاً ولا يستلزم التضمن وأما استلزام التضمن إياه فمظنة خلاف والحق عدم الاستلزام أيضاً (وَ) يدل (عَلَى مَا يُلاَزِمُهُ) أي ما وضع له (فِي الذَّهْنِ) متعلق بلازم دلالة مسماة (بِالاِلْتِزَامِ) سميت به لكونها دلالة على اللازم.
والملازمة في اللغة امتناع انفكاك الشيء عن الشيء.
وفي الاصطلاح كون الشيء مقتضياً للأخر فالشيء الأول يسمى ملزوماً والثاني لازماً والنسبة بينهما ملازمة ولزوماً وتلازماً ويقيد تارة بقولنا في الخارج فتسمى ملازمة خارجية كالفردية للثلاثة وأخرى بقولنا في الذهن فتسمى ذهنية.
والمعتبر في الدلالة الالتزامية هو هذه ولذا قيد المصنف بقوله في الذهن كيف ولو اعتبر الملازمة الخارجية لزم عدم تحقق الدلالة الالتزامية بدونها واللازم باطل لتحققها في الأعدام المضافة إلى ملكاتها مع أن بينهما تضاداً في الخارج فضلاً عن التلازم فإن الجهل مثلاً يدل على العلم التزاماً إذ هو عبارة عن عدم العلم عما شأنه أن يعلم مع أن بينهما معاندة في الخارج.
فإن قلت الجهل إن كان عبارة عن عدم العلم فالعلم جزء مفهومه فيكون تضمناً لا التزاماً.
قلت الجهل موضوع للعدم المضاف إلى العلم من حيث هو مضاف والعلم خارج عن الموضوع له وإن كانت الإضافة داخلة فيه وكذا الكلام في سائر الأعدام.
قال السيد العلامة إذا أخذ المضاف من حيث ذاته فالمضاف إليه والإضافة كلاهما خارجان وإذا أخذ من حيث هو مضاف فالإضافة داخلة والمضاف إليه خارج هذا ثم أراد المصنف توضيح الدلالات الثلاث بالتمثيل فقال (كَالْإِنْسَانِ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الحَيَوَانِ النَّاطِقِ بِالمُطَابَقَةِ) لكونه تمام ما وضع له وتوافق الدال والمدلول (وَعَلَى أَحَدِهِمَا) أي على الحيوان وحده أو على الناطق وحده فالأولى على كل واحد منهما فافهم (بِالتَّضَمُّنِ) لكونه جزء ما وضع له وتحققه في ضمن المجموع (وَعَلَى قابِلِ العِلْمِ وَصِنَعَةِ الْكِتَابَةِ بِالاِلْتِزَامِ) لخروجهما عن الموضوع له ولزومهما في الذهن.
فإن قلت كثيراً ما نتصور الإنسان ولم يخطر ببالنا أنه قابل للعلم وصنعة الكتابة فكيف يكون لازماً للإنسان.
قلنا الفرض كاف للتمثيل فاللزوم ههنا مبني على الفرض ولذا تراهم يقولون المناقشة في المثال ليست من دأب المحصلين.
وههنا سؤال مشهور وهو أن كلاً من تعريفات الدلالات الثلاث ينتقض بالأخريين فيما إذا وضع اللفظ بالاشتراك للكل وجزئه ولازمه كما صوروه في لفظ الشمس ويدفع بأن الحيثية معتبرة في التعريفات الاصطلاحية ذكرت أو لم تذكر فلا انتقاض.
ولما فرغ عن بيان أقسام دلالة اللفظ شرع في بيان أقسامه فقال:
* ثُمَّ اللَّفْظُ * ثم للتراخي في الرتبة واللفظ جار على حديث إعادة الشيء معرفة أي اللفظ الدال بالوضع (إِمَا مُفْرَدٌ) قد يطلق المفرد ويراد به ما يقابل المثنى والمجموع وهو الواحد وقد يطلق ويراد به ما ليس بمضاف وقد يطلق ويراد به ما يقابل الجملة وقد يطلق ويراد به ما ليس بمركب وهو المراد ههنا بقرينة المقابلة (وَهُوَ الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) بأن لا يكون له جزء أصلاً سواء كان المعناه جزء نحوق علماً للشخص أو لا نحوق علماً لما صدق عليه النقطة أو بأن يكون له جزء لا يكون له معنى سواء كان المعناه جزء(كَالإِنْسَانِ) أولاً كالنقطة أو بأن يكون له جزء ومعنى لكن لا يدل على جزء المعنى نحو عبد الله علماً أو يدل على جزء المعنى لكن لا يكون دلالته مرادة كالحيوان الناطق علماً لشخص الإنسان كذا قالوا.
وأظن أن الفرق بين عبدالله علماً وبين الحيوان الناطق على الشخص الإنسان تحكم إلا يرى أن علماء النحو منهم المحقق الجامي عرفوه بأنه ما لا يدل جزؤه على جزء معناه وتركوا قيد عدم الإرادة (وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ) يرادفه المركب على ما هو الحق والقول كما قاله غير قائل (وَهُوَ الَّذِي لاَ يَكُونُ كَذلِكَ) أي الذي يراد بالجزء منه دلالة على جزء معناه فافهم (كَرامِي الْحِجَارَةِ) فإن الرمي يدل على ذات لها الرمي والحجارة تدل على أفراد من نوع الحجر فيكون مركباً وقدم المفرد على المؤلف لكون المفرد جزء المؤلف لفظاً ومعنى والجزء مقدم على الكل طبعاً مع أن المقصود هو التقسيم والتعريف تبعي والتقسيم يعتبر فيه جانب الإفراد دون المفهوم وقد نظر صاحب الشمسية إلى المفهوم فقدم المؤلف بناء على كون مفهومه وجودياً.
ولك أن تقول قدم المفرد لكون المؤلف غير مبحوث عنه في هذا الباب فذكر المؤلف ههنا إنما هو استيفاء الأقسام.
ثم أن لكل منهما أقساماً لا بأس أن نشير إليها إجمالاً.
فتقول اما المفرد فإن دل على معنى في نفسه بلا اقتران بأحد الأزمنة فاسم ومع الاقتران فكلمة وإن لم يدل بنفسه بل احتاج في دلالته إلى ضمنية فأداة ثم الاسم إن كان معناه واحداً متشخصاً بحيث لا يقبل الشركة في التصور فجزئي حقيقي وإن كان واحداً غير متشخص بحيث يقبل الشركة فيه فكلى كما سيفصلها المصنف.
والكلي إن استوت افراده الذهنية أو الخارجية في حصوله فيها وصدقه عليها فتواطئ كالشمس والإنسان وإلا فشكك كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن وإن كان متعدداً فإن وضع بإزاء كل من المعاني على السوية فمشترك وإن وضع الواحد منها ونقل إلى الباقي فإن ترك الأول فنقول عرفي إن كان الناقل عرفاً عاماً واصطلاحي إن كان خاصاً وشرعي إن كان شرعاً.
وإن لم يترك الأول فإن استعمل فيه فحقيقة وأن استعمل في المنقول إليه فجاز وأمَّا المركب فإن أفاد المخاطب فائدة تامة بحيث يصح السكوت عليه فتام وإلا فناقص.
ثم التام إن احتمل الصدق والكذب فقضية وإلا فإنشاء وإلا نشاء ان لم يدل على طلب بحسب الوضع فتنبيه كالنداء والتمني والعرض وإن دل بحسب الوضع فاستفهام وإن دل على طلب غيره فمع الخضوع سؤال ودعاء مطلقاً ومع التساوي التماس مطلقاً ومع الاستعلاء أمر إن كان المطلوب فعلاً ونهى إن كان كفا عنه.
وأما غير التام فهو أيضاً إما تقييدي كالحيوان الناطق أو اضافي كغلام زيد أو غيرهما كالرجل
(وَالمُفْرَدُ إِمَّا كُلِّىٌّ) الكلية والجزئية وما سيأتي من الذاتية والعرضية أوصاف للمعاني أولاً وبالذات واللفظ ثانياً وبالعرض فتقسيم اللفظ إليها مجاز وإنما فعل المصنف ذلك تسهيلاً للمبتدئ (وَهُوَ) أي المفرد الكلى (الَّذِي) أي اللفظ الذي (لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ) أي ذلك في المفهوم من حيث هو متصور مع قطع النظر عن البرهان والوجود الخارجيين اللذين يمنعان عن الشركة ويدلان على الوحدة والجزئية فيشمل الكلي المنحصر في شخص كالواجب تعالى والشمس فإن تصور مفهوم الواجب من حيث هو متصور مع قطع النظر عن البرهان التوحيدي لا يمنع الشركة فى ذلك وكذا مفهوم الشمس مع قطع النظر عن الوجود الخارجي لا يمنع الشركة أيضاً ويشتمل أيضاً على الكليات الفرضية من نحو اللاشيء وشريك الباري فان امثال ذلك وإن لم يكن لها فرد في الخارج فضلاً عن وقوع الشركة إلا أن نفس تصور مفهوماتها لا يمنع الشركة بين افرادها الفرضية من نحو اللاشيء وشريك الباري فان امثال ذلك وإن لم يكن لها فرد فى الخارج فضلاً عن وقوع الشركة إلا أن نفس تصور مفهوماتها لا يمنع الشركة بين افرادها الفرضية وإنما يتكلف في إدخال امثال هذه الأشياء بناء على أن قواعدهم عامة شاملة على الموجودات والمعدومات
وإنما قال نفس تصور مفهومه ولم يقل نفس تصوره لما عرفت أن مورد القسمة هو اللفظ لا المفهوم وبهذا يندفع توهم لزوم المفهوم للمفهوم (كَالإِنْسَانِ) فإن مفهومه الحيوان الناطق وتصور هذا المفهوم لا يمنع عن وقوع الشركة بين كثيرين وهو ظاهر (وَإِمَّا جُزْئِيٌ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ ذلِكَ) أي عن وقوع الشركة فيه (كَزَيْدٍ) فإن مفهومه الحيوان الناطق مع التعين والتشخص وهو من حيث هو متصور مانع عن وقوع الشركة فيه وهذا جزئي حقيقي لا يبحث عنه في هذا الفن وإنما ذكروه في هذا المقام تكميلاً للأقسام وتصويراً المفهوم الكلي على التمام ولهذا ولما علمت مما مر قدم الكلي عليه.
اعلم أن الجزئي كما يطلق على هذا المعنى كذلك يطلق على كل أخص تحت الأعم ويسمى الجزئي الإضافي وهو أعم مطلقاً من الحقيقي لإن كل جزئي حقيقي فهو إضافي من غير عكس كلي.
أمَّا بيان الأول فلان كل شخص مندرج تحت الماهية الكلية وأمَّا الثاني فلجواز كون الجزئي الاضافي كلياً كالإنسان فإنه جزئي إضافي لدخوله تحت الحيوان.
ولما فرغ من مباحث الألفاظ شرع في بيان إيساغوجي فقال (وَالْكُلِّىُّ إِمَّا ذَاتِيٌّ) الذاتي يطلق تارة على ما هو داخل واخرى على ما ليس بخارج إمَّا بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز والثاني هو المراد ههنا (وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) أي لا يخرج عن حقيقة جزئياته (كَالحَيَوَانِ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ) فإنه ليس بخارج عن حقيقتهما بل داخل.
فالكلي إما أن يكون نفس ماهية ما تحته من الأفراد أو داخلاً فيها أو خارجاً عنها والأول هو النوع والثاني هو إمَّا أن يكون تمام المشترك بينه وبين نوع آخر وهو الجنس أولاً وهو الفصل والثالث إمَّا مخصوص بحقيقة واحدة وهو الخاصة أولاً وهو العرض العام.
واذ قد عرفت ما هو المراد من الذاتي عرفت أنه لا يرد أن يقال أن النوع عين الذات فكيف يكون ذاتياً فلا حاجة إلى أن يجاب عنه بأن الذات كما يطلق على نفس الحقيقة كذلك يطلق على ما صدقت عليه من الجزيئات فيراد الثاني فيصح النسبة ولا إلى أن يقال يجوز أن يراد أعم منها فيراد فيما عدا النوع الماهية وفي النوع الأفراد وبما عرفت أيضاً من أن الدخول مؤول بعدم الخروج لا يرد سؤال المنافات بين التعريف والتقسيم (وَ) الكلي (وَإِمَّا عَرَضِيٌّ وَهُوَ الَّذِي) يكون ملتبساً (بخَالِفُهِ) أي خلاف الذاتي وهو الذي يخرج عن حقيقة جزئياته (كَالضَّاحِكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ) فإنه خارج عن حقيقة الإنسان وقد عرفت آنفاً أن الذاتي منحصر في الثلاثة مع وجه الانحصار.
ولك في وجه الانحصار وجه آخر وهو أنه إمَّا مقول في جواب ما هو أو جواب أي شيء هو في ذاته الثاني الفصل والأول إمَّا بحسب الشركة فقط أو بحسب الشركة والخصوصية معاً الثاني النوع والأول الجنس وهذا اجمال ما فصله المص بقوله (وَالذَّاتيُّ) المعهود الذى هو ما لا يكون خارجاً عن حقيقة جزئياته (إِمَا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ فَقَط) وفي بعض النسخ المحضة بدل فقط ومؤديهما واحد وفي بعض النسخ لم يقع شيء منها ولا ضير فيه إذا الحصر مستفاد من قسمه (كَالحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ) فإن الحيوان إمَّا أن يقع جواباً لقولنا ما الإنسان وما الفرس مثلاً لا الإنسان فقط ولا لما الفرس وحده فإن السؤال عن أحدهما إنَّما هو عن تمام ماهيته وليس الحيوان تمام ماهية كل منهما بل تمام الماهية المشتركة بينهما (وَهُوَ) أي الذاتي المقول في جواب ما هو بحسب الشركة المحضة (الجْنْسُ وَيُرْسَمُ بِأَنَّهُ كُلِّيٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلفِين بِالحقائِقِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ) قوله كلي جنس شامل للكليات وقوله مقول ليتعلق به قوله على كثيرين وقوله على كثيرين ليوصف بقوله مختلفين بالحقائق وهو احتراز عن النوع خاصته والفصل القريب وقوله في جواب ما هو احتراز عن الفصل البعيد وخاصة الجنس والعرض العام فلكل من القيود فائدة فمن قال كلي زائد لا طائل تحته إذ مقول على كثيرين يغني عنه فقد أتى بزائد لا طائل تحته
وقد تقرر أنه لا يجب أن يكون جميع قيود التعريف منحصراً في الجامع والمانع بل قد يكون بعضها لمجرد تحقيق المقام وكشف المرام ومن ذلك تراهم يقولون أن التعريفات وقيودها إنما هي لكشف الماهيات والاحترازات تابعة هذا قيل وجه ما قال المصنفون في تعريفات الكليات ويرسم دون ويحد هو أنه يجوز أن يكون لها ماهيات وراء تلك المفهومات ملزومات مساوية لها فتكون رسوماً لا حدوداً
واعترض عليه بأنه لا يلزم مما ذكر إلا عدم العلم بكونها حدوداً ولا يلزم منه العلم بكونها رسوماً فالأولى بل الصواب أن يقال ويعرف.
وقيل إنَّما كانت هذه المفهومات رسوماً لأن المقولية عارضة للكليات والتعريف بالعرضي رسم وذلك لأن الجنس مثلاً في نفسه هو الكلي الذاتي المختلفات الحقيقة سواء قيل عليها أو لم يقل وأمَّا المقولية وكونه صالحاً فما يعرض له بعد تقومه ورد بأن ذلك هو الجنس الطبيعي ولا كلام فيه وإنما الكلام في الجنس المنطق ومنشأ الغلط هو الاشتباه بين العارض والمعروض وعدم الفرق بين الكلي الطبيعي المعروض وبين الكلي المنطقي العارض وقيل والحق انها حدود إذ لا ماهية الجنس مثلاً وراء هذا المعنى ضرورة أنا لا نعنى يكون الحيوان جنساً إلا كونه مقولاً على الكثيرة المختلفة الحقيقة وكذا الكلام في البواقي.
اقول كيف لا يكون هذا حقاً إذا المفهومات اللغوية والاصطلاحية أمرها في غاية السهولة لأن اللفظ إذا وضع في اللغة أو في الاصطلاح لمعنى فما هو داخل في مفهومه فهو ذاتي جنس إن كان مشتركاً وفصل إن كان مميزاً وما هو خارج عنه فهو عرضي له فلا اشتباه بين حدودها ورسومها المسماة بالحدود والرسوم الاسمية ففهومات الكليات كلها ذاتيات لأنها حصلت أو لا فوضعت اسماؤها بإزائها فتكون حدوداً اسمية لها ومن ادعى لها ماهيات ورائها فعليه البيان.
والقول بأنه يجوز أن يكون لها ماهيات وراء تلك المفهومات ولا نعلمها كالقول بأنه يجوز أن يكون فى حضرتنا جبال شاهقة لا نراها كما لا يخفى.
وأمَّا الاشتباه والالتباس في الماهيات الحقيقية الوجودية في الأعيان فأمرها في غاية الصعوبة دونه خرط القناد إذا تمييز بين ذاتياتها وعرضياتها في نهاية التعسر بل هو غير مقدور للبشر وإنما هو شأن خالق القوي والقدر وسيأتي ما يتعلق بهذا في أواخر الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
ومما ينبعي أن ينبه عليه أن الجنس قريب إن كان الجواب عن الماهية وعن بعض ما يشاركها عين الجواب عنها وعن جميع ما يشاركها فيه كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان وبعيد إن كان الجواب عنها وعن بعض ما يشاركها فيه غير الجواب عنها وعن البعض الآخر ويكون هناك جوابان إن كان بعيداً بمرتبة كالجسم النامي بالنسبة إلى الإنسان وثلاثة اجوبة أن بمرتبتين كالجسم المطلق بالنسبة إليه وأربعة أن بثلاث مراتب كالجوهر وهكذا فمبدأ المراتب يسمى الجنس السافل ومنتهاها يسمى الجنس العالي وجنس الأجناس وما بينهما يسمى الجنس المتوسط فهذه مراتب ثلاث المجنس باعتبار الترتيب فإن لم يكن مرتباً بأن لا يكون فوقه ولا تحته جنس كالعقل إن لم نفرض الجوهر جنساً له فهو المسمى بالجنس المفرد فاحفظه (وَالذَّاتيُّ إِمَا مَقُولٌ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ مَعًا) أو بحسب الخصوصية المحضة وكلة مع إذا استعملت مفردة تنون وتكون من الأحوال المؤكدة مثل جميعاً فهي بمعناه حقيقة كما هو عند البعض أو مجازاً كما هو مقتضى قول بعضهم فليس المراد بالمعية ههنا المعية الزمانية بل مطلق الاجتماع فلا يرد ما يتوهم 11 (كَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو) وغيرهما مثلاً إذا قيل ما زيد يقال في جوابه الإنسان وإذا قيل ما زيد وما عمرو أيضاً وهكذا إلى غير النهاية وهذا معنى كونه مقولاً بحسب الشركة والخصوصية معاً (وَهُوَ) أي ما يقال في جواب ما هو على المنوال المذكور (النَّوْعُ) الحقيقي كما هو المتبادر عند الاطلاق وهو إن كان متعدد الأشخاص في الخارج كالإنسان فهو مقول بحسب الشركة والخصوصية وإن لم يكن متعدد الأشخاص فيه بل كان منحصراً في شخص واحد كالشمس فهو مقول بحسب الخصوصية المحضة ولهذا قلنا أو بحسب الخصوصية المحضة ليشتمل عليهما شمو لا ظاهراً فتأمل (وَيُرْسَمُ) أي النوع الحقيقي (بِأَنَّهُ كُلَّيٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ) اختلافاً خارجياً أو ذهنياً فيشمل النوع المنحصر في الشخص والنوع المعدوم كالعنقاء (دُونَ الحَقِيقَةِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ) قوله كلي مقول على كثيرين سبق بيانه وقوله مختلفين بالعدد دون الحقيقة احتراز عن الجنس وخاصته والعرض العام والفصول البعيدة (وَقوله فِي جَوَابِ مَا هُوَ) احتراز عن الفصل القريب وخاصة النوع وتخصيص قوله مختلفين بالعدد دون الحقيقة بالاحتراز عن الجنس فقط وكذا تخصيص الاختلاف في الحقيقة فيما سبق بإخراج النوع فقط واسناد البواقي إلى القيد الاخير في الموضعين تحكم كيف وفي ذلك اخراج لما قد خرج ومأوجه به الشريف العلامة وغيره من أنها أو فرض عدم خروجها بالأول لخرجت بالأخير قطعاً فاسند الكل إليه فما لا يشفي العليل ولا يدفع به التحكم.
فإن قلت ما هو سؤال عن الذات والحقيقة وقد صرحوا بأنه إنما يكون بعد الثبوت فيلزم تخصيص التعريف بالنوع الخارجي ويجب أن يقال إنه كلي مقول على واحد أو على كثيرين إلخ مشيراً إلى النوع المنحصر في شخص وإلى النوع الغير المنحصر فيه كما فعله صاحب الشمسية.
قلت قد صرح السيد العلامة قدس سره بأن ما هو سؤال عن الماهية وهى أعم من أن تكون موجودة في الخارج كالإنسان والفرس وغيرهما من الموجودات الخارجية أولاً وكيف يجوز التخصيص بالنوع الخارجي مع وجوب انحصار الكلي في الخمسة فإن المفهومات التي لم يوجد شيء من إفرادها التي هي تمام ماهياتها كالعنقاء مثلاً لا تندرج في غير النوع قطعاً فلو أخرجت عنه لم يحصر الكلي في الأقسام الخمسة لا يقال المعتبر في الكلي أن يكون موجوداً في الخارج ولو في ضمن فرد واحد لأنّا نقول قد سبق أن مفهوم الكلي بتناول الموجود والمعدوم والممكن والممتنع 12 نعم المقصود الأصلي أولاً معرفة أحوال الموجودات إذ لا كمال يعتد به في معرفة أحوال المعدومات إلا أن قواعد الفن شاملة للموجودات والمعدومات معاً ممكنات أو ممتنعات كما مر إليه الإشارة فالمقصود الأصلي من الفن أن يستعمل في معرفة أحوال الموجودات وقد يستعمل في معرفة أحوال المفهومات الاعتبارية وبيان أحوالها وأحكامها فإن هذه المعرفة قد يحتاج إليها في معرفة أحوال الموجودات الحقيقية ولذا قبل لو لا الاعتبارات لبطلت الحكمة إلى هنا كلامه قدس سره وههنا أبحاث شريفة فلتطلب من حواشي الشمسية لمولانا داود عليه رحمة الودود ثم إنه قد اعترض على التعريف بأنه منقوض بالجنس لأن كل قيد إنَّما يخرج ما ينافيه لا ما يجامعه في الجملة ولا ثم المنافاة بين المقولية على مختلفة الحقيقة وبين المقولية على متفقتها فإن الجنس يصدق عليه أنه مقول على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة في جواب ما هو إذ الحيوان مثلاً يقال في جواب ما زيد وعمرو وما هذا الفرس وما ذاك الفرس فلا بد من زيادة قيد فقط بعد قوله مختلفين بالعدد دون الحقيقة حتى يصبح الاحتراز به عن الجنس 13 فيتم التعريف جمعاً ومنعاً وأجيب عنه بوجوه ثلاثة الأول أن صحة الجواب بالجنس ناظرة إلى اشتمال السؤال على الحقيقتين المختلفتين وإلى جعل المتفقتين في حكم الواحدة والثاني أن المتبادر من المقولية المقولية صراحة والحيوان في المثال المذكور ليس بمقول على المتفقتين بالحقيقة صراحة وأصالة بل مقول عليها ضمناً وتبعاً والثالث أن قوله دون الحقيقة يفيدان الاختلاف بالحقيقة مانع عن كونه مقولاً عليها وهو ليس كذلك في الجنس 14 فيصح الاحتراز به بلا زيادة قيد فقط ولإرادته في النية فيتم التعريف بدونه جمعاً و منعاً هذا ثم إن النوع كما يطلق على ما ذكر كذلك يطلق على كل ماهية يقال عليها وعلى غيرها الجنس في جواب ما هو قولاً أولياً ويسمى النوع الإضافي وهو إمَّا أعم الأنواع كالجسم المطلق فيسمى النوع العالي أو أخصها وهو النوع الحقيقي كالإنسان فيسمى النوع السافل ونوع الأنواع أو أعم بالنسبة إلى ما تحته وأخص بالنظر إلى ما فوقه كالحيوان والجسم النامي فيسمى النوع المتوسط فهذه أيضاً مراتب ثلاثة للنوع باعتبار الترتيب وإن لم يكن مرتباً بأن لا يكون فوقه ولا تحته نوع كالعقل إن فرض الجوهر جنساً له فهو النوع المفرد فلكل من الجنس والنوع مراتب ثلاثة باعتبار الترتيب وواحدة بعدمه ثم إن النوع السافل يباين جميع مراتب الأجناس لأنه نوع حقيقي هو يمتنع كونه جنساً وأن الجنس العالي يباين جميع مراتب الأنواع لأنه ليس فوقه جنس فيمتنع كونه نوعاً وإن كل نوع أعم مما تحته مطلقاً وكل جنس كذلك وهو ظاهر (وَ) الكلي (إِمَّا غَيْرُ مَقُولٍ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بَلْ) هو (مَقُولٌ فِي جَوَابِ أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) والمقول في جوابه شيئان المميز الذاتي وهو المميز عن المشارك في الجنس والمميز العرضي وهو المميز عن المشارك في العرض العام فإن قيل السؤال بأي شيء هو في ذاته فالمقول هو الأول (وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الشَّيْءَ عمَّا يُشَاركُهُ فِي الجْنْسِ كَالنَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإنْسَانِ وَهُوَ) أي المميز عن المشارك في الجنس (الْفَصْلُ) وإن قيل أي شيء هو في عرضه فالمقول في جوابه هو الثاني وهو الذي يميز الشيء عما يشاركه في العرض العام وهو الخاصة وإن قيل أي شيء هو بلا تقييد فالمقول في جوابه يصح أن يكون فصلاً وخاصة والعرض العام لا يصلح الجواب أصلاً لا لما هو ولا لأي هو لأن الأول إنما يطلب تمام الماهية والثاني إنما يطلب المميز كما عرفت ولا شك أن العرض العام من حيث هو عرض عام لا يصلح لشيء منهما (وَيُرْسَمُ) أي الفصل (بِأَنَّهُ كُلَّيُّ) جنس (يُقَالُ عَلَى الشَّيْءِ فِي جَوَابِ أَيَّ شَيْءٍ هُوَ) يخرج الجنس والنوع والعرض العام (فِي ذَاتِهِ) يخرج الخاصة وهو أعني الفصل قريب أن ميز الماهية عن مشاركاتها في الجنس القريب كالناطق وبعيد أن ميزها عن المشاركات في الجنس البعيد وله مراتب في البعد بحسب مراتب الجنس وإنما نبهنا على أقسام الجنس والفصل والنوع إجمالاً مع أن الشراح لم يتعرضوا لذلك لعموم الفائدة ولتوقف القول الشارح على ذلك.
اعلم أن ظاهر كلام المص ههنا مبني على مذهب القدماء فإنهم ذهبوا إلى أن الفصل إنما يميزها عن المشاركات في الجنس حتى قالوا إن ما يكون له فصل يكون له جنس لا محالة بناء على امتناع تركب الماهية من أمرين متساويين أو أمور متساوية ووجوب انحصار الذاتي في الجنس والفصل وتبعهم الشيخ في الشفاء لكن لما لم يتم برهانهم على ذلك عدل عنه في إشاراته وتبعه المتأخرون فجوزوا تركب الماهية من أمرين متساويين وقسموا الفصل إلى ما يميز الشيء عن المشاركات في الجنس وعن المشاركات في الوجود وذلك لأنه إن تركب ماهية من أمرين متساويين أو أمور متساوية فكل من تلك الأمور يكون فصلاً فيميزها عما يشاركها في الوجود إذ لا جنس ح فالطالب بأي شيء هو يطلب ما لا يكون تمام المشترك بين الماهية وغيرها ويميزها عما يشاركها فيما أضيف إليه لفظ أي مثلاً أي حيوان هو سؤال عما يميزه عن المشاركات في الجنس وأي وجود هو سؤال عما يميز عن المشاركات في الوجود على ما أفاده السعد العلامة في شرح الشمسية ومن أراد التفصيل فليرجع إليه وإلى المطولات لا يقال أن تركب الماهية من أمور متساوية وإن لم يقم البرهان على امتناعه على زعم المتأخرين إلا أنه مما لم يتحقق في الخارج فما معنى جعل الفصل عاماً على التمييزين لأنَّا نقول قد عرفت غير مرة أن قواعدهم عامة شاملة للموجودات والمعدومات.
فيجب التعميم بناءً على مذهبهم.
ولما فرغ عن الكلي الذاتي شرع في الكلي العرض فقال (وَأَمَّا) الكلي (الْعَرَضِيُّ فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ انْفِكَاكُهُ عَنِ المَاهِيَّةِ) إما من حيث هي هي كالانقسام بمتساويين للأربعة وإما من حيث الوجود كالسواد للحبشي (وَهُوَ) أي الممتنع انفكاكه عن الماهية سواء كان من حيث هي أو من حيث الوجود (الْعَرَضُ الَّلاَزِمُ) واللازم إما بيّن وهو الذي يكفي تصوره مع تصور ملزومه والنسبة بينهما في جزم اللزوم بينهما كالانقسام بمتساويين للأربعة وإما غير بيّن وهو الذي لا يكفي تصوره مع تصور الملزوم والنسبة في الجزء باللزوم وهو إما نظري يفتقر إلى الدليل كتساوي الزوايا الثلاث القائمتين للمثلث فإن الذهن يفتقر في جزم اللزوم بينهما إلى إقامة برهان هندسي كما بين في محله وإما بديهي يحتاج إلى أمر آخر من الحس أو الحدس أو التجربة أو نحوها كالحرارة للنار فإن الجزم باللزوم بينهما يحتاج إلى الحس ولا يكفي فيه مجرد تصور الطرفين والنسبة هذا و للبين معنى آخر وهو الذي يلزم من تصور الملزوم تصوره وهذا هو المعتبر في الدلالة الالتزامية والمعنى الأول أعم كذا قالوا فتأمل (أَوْ لَا يَمْتَنِعَ) انفكاكه عن الماهية (وَهُوَ الْعَرَضُ المَفَارِقُ) أعم من أن يكون مفارقاً بالقوة كالفقر الدائم أو بالفعل وح قد يكون سريع الزوال كحمرة الخجل وقد يكون بطيئاً كالشباب (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي من اللازم والمفارق (إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الخَاصَّةُ كَالضَّاحِكِ بِالْقُوَّةِ) مثال العرض اللازم الخاصة (وَالْفِعْلِ) أي وكالضاحك بالفعل مثال العرض المفارق الخاصة (لْلإِنْسَانِ وَتُرْسَمُ بِأَنَّهَا كُلِّيَةٌ) جنس تأمل (تُقًالُ عَلَى مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ) يخرج الجنس والعرض العام والفصول البعيدة (قَوْلاً عَرَضِيًا) يخرج النوع والفصل القريب ويجوز أن يراد بالمقولية ههنا معنى الحمل وأن يراد بها المقولية في الجواب وهو الأولى فتأمل (وَإِمَّا أَنْ يَعُمَّ) عطف على قوله إما أن يختص (عَلَى حَقَائِقَ فَوْقَ وَاحِدَةٍ وَهْوَ) أي العام على الحقائق المختلفة (الْعَرَضُ الْعَامُّ كَالمُتَنَفِّسِ بِالْقُوَّةِ) مثال اللازم العام (وَالْفِعْلِ) مثال للمفارق العام (لْلإِنْسَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانَاتِ) كالفرس والبقر وغيرهما (وَيُرسَمُ بِأَنَّهُ كُلَّيٌّ) جنس (يُقَالُ) أي يحمل (عَلَى مَا) أي على أفراد داخلة (تَحْتَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ) يخرج النوع والفصل القريب والخاصة (قَوْلاً عَرَضِيًا) أي حملاً عرضياً لا ذاتياً يخرج الجنس والفصول البعيدة
فإن قلت تقسيم العرضي أولاً إلى اللازم والمفارق تم تقسيم كل منهما إلى الخاصة والعرض العام يخرج أقسام العرضي إلى أربعة فتكون الكليات سبعة لا خمسة والإجماع منعقد على انحصارها في الخمسة فالواجب على المص أن يقسم أولاً إلى الخاصة والعرض العام ثم يقسم كلاً منهما إلى اللازم والمفارق حتى بظهر انحصار الكلى في خمسة.
قلنا اللازم انقسم إلى الخاصة والعرض العام باعتبار الاختصاص بماهية واحدة وعدم الاختصاص بها والمفارق انقسم إليهما بهذا الاعتبار أيضاً فعلم أن مفهوم الخاصة في اللازم والمفارق ما يختص بحقيقة واحدة وأن مفهوم العرض العام ما يعم الحقائق فرجع محصول الأقسام الأربعة إلى معنيين مطلقين يوجد كل منهما فى اللازم والمفارق فصار الكلي العرضي في هذين المعنيين وظهر انحصار الكلي في الخمسة فالمص نظر إلى زبدة الأقسام فنسامح في التقسيم كما فعله صاحب الشمسية.
بقي شيء وهو أن تعريفات الكليات كل منها منقوض جمعاً ومنعاً فإن الملون جنس للأسود والأحمر ونوع للمكيف وفصل للكثيف وخاصة للجسم وعرض عام للحيوان فيصدق تعريف كل من الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام على كل منها في هذه المادة.
والجواب أن الأمور التي تختلف باختلاف الاعتبارات كالمفهومات الاصطلاحية يعتبر في تعريفاتها قيود الحيثية ذكرت أو لم تذكر كما سبق إليه الإشارة.
فالجنس كلي مقول على كثيرة مختلفة الحقيقة في جواب ما هو من حيث هو كذلك وقس عليه البواقي فالملون من حيث كونه مقولاً على مختلفة الحقيقة التي هي الأسود والأحمر جنس لا يصدق عليه النوع والفصل والخاصة والعرض العام ومن حيث كونه مقولاً على متفقة الحقيقة وهي أفراد المكيف في جواب ما هو نوع لا يصدق عليه الجنس والفصل والخاصة والعرض العام وعلى هذا فقس ولا محذور في كون الشيء الواحد أشياء كثيرة بحيثيات مختلفة واعتبارات متغايرة فاحفظه فإنه ينفعك في مواضع كثيرة جداً.
الباب الثاني في مقاصد التصورات وهي (القَوْلُ الشَّارِحُ) ويسمى التعريف والمعرف بكسر الراء أيضاً وهو ما يكون تصوره بطريق النظر والاكتساب موصلاً إلى تصور الشيء أو امتيازه عما عداه فخرَّج الملزومات بالنسبة إلى لوازمها المبينة لعدم كونها بطريق الاكتساب وأو لتقسيم المحدود لا للشك في الحد حتى يرد أن التعريف والتحديد ينافيه الإبهام والترديد وتعريف المعرف لا يستلزم اللبس إما لعدم احتياجه إلى معرف آخر لبداهة أجزائه أو لكونه معلوماً بوجه آخر من الوجوه وإما لأنه من الأمور الاعتبارية فينقطع بالقطاع الاعتبار وما قيل من أنه لا يستلزم اللبس لأن معرف المعرف عين المعرف فردود بأنه ليس كذلك بل فرد من أفراده وإنما سمي قولاً لتركبه غالباً عند قوم ودائماً عند آخرين وشارحاً لشرحه الماهية وبيانها.
ثم ما ذكرنا من التعريف إنما هو عند المتأخرين وأما القدماء فقالوا هو ما يكون تصوره سبباً لاكتساب تصور الشيء أعم من أن يكون بالكنه أو بوجه يميزه عن جميع ما عداه أو عن بعضه قال السيد العلامة اعلم أن المتأخرين اعتبروا المساواة في التعريف وحكموا بأن الأعم والأخص لا يصلحان له أصلاً والصواب أن المعتبر فيه كونه موصلاً إلى تصور الشيء سواء كان بالكنه أو بالوجه سواء كان التصور بالوجه يميزه عن جميع ما عداه أو عن بعضها إذ لا يمكن كون الشيء متصوراً مع عدم امتيازه عن شيء مما عداه وأما الامتياز عن الكل فلا يجب ثم إنه لا شك أنه كما يكون التصور بالكنه كسبياً كذلك التصور بالوجه سواء كان مع الامتياز عن الكل أو عن البعض يكون كسبياً فتصور الشيء بوجه ما أعم أو أخص إذا كان كسبياً لا يكتسب إلا بأحدهما فهما يصلحان للتعريف إلا أن المتأخرين لما رأو أن التصور الذي يفيد الامتياز عن بعض الأغيار في غاية النقصان لم يلتفتوا إليه وشرطوا المساواة واخرجوا الأعم والأخص عن صلاحية التعريف بهما وأما المباين فلما كان أبعد من الأعم والأخص كان أولى بعدم الاعتبار وأقدم بالإخراج عن الصلاحية مع أن الظاهر أنه لا يفيد تمييزاً أصلاً وإن احتمل احتمالاً بعيداً أن يكون مميزاً في الجملة انتهى ملخصاً.
ثم القول الشارح إما حداً ورسم وكل منهما إما تام أو ناقص فالأقسام أربعة أما (الحَدُّ) فهو (قَوْلٌ) جنس شامل للرسم (دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ) يخرجه فإن دل على الكنه مجموع الذاتيات فتام وببعضها فناقص ولذا قال (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ) أي المركب من جنس الشيء وفصله القريبين هو الحد التام لأنه الدال على الكنه بمجموع الذاتيات أما كونه حداً وتسميته به فلمنعه الأغيار والحد في اللغة المنع وأما كونه تاماً فلاشتماله على جميع الذاتيات (وَالحَدُّ النَّاقِصُ وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ بَعِيدِ وَفَصْلِ قَرِيبِ كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ) أما كونه حداً فلما مرّ وأما كونه ناقصاً فلنقصان الذاتيات فيه واعلم أنهم اختلفوا في أن التعريف بالفصل وحده وبالخاصة وحدها هل هو جائز أم لا فذهب بعضهم إلى عدم الجواز وإلى وجوب أن يكون لكل تعريف جامع ليستغرق الإفراد ومانع ليخرج الأغيار وبعضهم إلى الجواز قائلاً بأن المقصود من التعريف إما الاطلاع على الذاتيات كلاً أو بعضاً وإما التميز عن جميع ما عداه والفصل يصلح لهما والخاصة وإن لم تصلح للأول إلا أنها صالحة للثاني والظاهر أن المصرح اختار الأول فلم يقل هنا والفصل فقط وفي تعريف الرسم الناقص أو الخاصة فقط وما قاله الفناري من أنه إنما لم يقل في هذين الموضعين كذلك لأن الناطق مركب معنى والاعتبار للمعاني فإن كان معناه جسم أو جوهر له النطق كان كالجسم الناطق بعينه فيكون حداً ناقصاً وإن كان معناه شيء له النطق أو نحوه لم يكن حداً بل رسماً لأن الشيئية عارضة وكذا إن كان معنى الضاحك حيوان له الضحك فرسم تام وإن كان شيء له الضحك فرسم ناقص فمع ما فيه من البعد والخلل من وجوه ينافيه ما صرحوه من أن الفصل وحده كالناطق فقط حد ناقص عند من جوز التعريف به والخاصة وحدها كالضاحك فقط رسم ناقص عند من جوز التعريف بها فقط ولم يفصل أحد غير هذا الشارح ونحوه بالترديد في معناهما ولم يقل أحد أيضاً أن الناطق ليس بفصل فقط بل فصل مع جنس أو عرض عام وأن الضاحك ليس بخاصة فقط بل خاصة مع جنس أو عرض عام فتأمل (وَالرَّسْمُ التَّامُّ هْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ وَخَوَاصِّهِ الَّلاَزِمَةِ) قيد الخاصة باللازمة لأن الفارقة أخص من ذي الخاصة والتعريف بالخواص مع كونه غير جائز عند المتأخرين لا يكون رسماً تاماً بالاتفاق (كَالحَيَوانِ الضَّاحِكِ فِي تَعْرِيْفِ الْإِنْسَانِ) وإنما يكون رسماً لأن الخارج اللازم للشيء أثره فسمی رسماً یقال رسم الدار أي أثرها وعلامتها وأما كونه تاماً فلمشابهته الحد التام في اشتماله على الجنس القريب وتقييده بأمر مختص بالماهية المعرفة (وَالرَّسْمُ النَّاقِصُ وَهَوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِنَا فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ إِنَّهُ مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ) يخرج الماشي على الأقدام الأربعة (عِرِيضُ الْأَظْفَارِ) يخرج مدور الأظفار (بَادِي الْبَشَرَةِ) يخرج مستور البشرة بالشعر (مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ) يخرج نحني القامة (ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ) يخرج جميع ما عداه وما يقال من أن بعض القيود مستغن عن البعض غير وارد إذ الغرض التمثيل ولا يناقش فيه على أن التعريف إنما هو لكشف الماهيات والاحترازات تابعة كما عرفت وكلما ازداد القيود ازداد الكشف وقويت المعرفة فأنى يكون البعض مستغنياً عن البعض هكذا قالوا.
ولما كان المراد من التعريف أما الاطلاع على الذاتيات أو إفادة التميز عن جميع ما عدا المعرف والعرض العام لا يصلح لشيء منهما لم يصلح أن يقع معرفاً ولا جزء معرف فهو ساقط عن درجة الاعتبار وإنما ذكر في باب الكليات استيفاء للأقسام.
واعترض عليهم السيد العلامة بأنّا لا نسلم أن كل قيد فهو وإما للتميز أو الاطلاع على الذاتي بل ربما يفيد اجتماع العوارض زيادة إيضاح للماهية وسهولة اطلاع عليها وكثيراً ما يضعون العوارض العامة مواضع الأجناس وأيضاً الفصل البعيد مع الفصل القريب أو مع الخاصة خارج عما ذكر مع أنه يفيد الاطلاع على الذاتي.
والسيد العلامة بأن تمييز الشيء قد يكون عن جميع ما عداه وقد يكون عن بعضه كما مرّ والعرض العام يفيد التمييز الثاني فينبغي أن يعتبر في التعريفات.
وأيضاً قد يكون الاطلاع على الشيء بما هو عرض عام له مطلوباً وإن كان هذا الاطلاع عليه دون الاطلاع بما هو ذاتي له فإن تصور الشيء قد يكون بوجوه متفاوتة بعضها الكل من بعض.
ثم قال قدس سره فالصواب أن المركب من العرض العام والخاصة رسم ناقص لكنه أقوى من الخاصة وحدها وأن المركب منه ومن الفصل حد ناقص لكنه لكل من الفصل وحده وكذلك المركب من الفصل والخاصة حد ناقض لكنه أكمل من العرض العام والفصل انتهى.
فالضبط على هذا أن المركب من الجنس والفصل القريبين حد تام والفصل وحده أو مع الجنس البعيد أو مع الفصل البعيد أو مع الخاصة أو مع العرض العام حد ناقص والجنس القريب مع الخاصة رسم تام والخاصة وحدها أو مع الجنس البعيد أو مع الفصل البعيد أو مع العرض العام رسم ناقص.
ويخالفه مخالفة ظاهرة ما قاله الفناري من أن التعريف بمجرد الذاتيات فبمجموعها حد تام وبعضها حد ناقص والتعريف لا مجرد الذاتيات فبالجنس القريب والخاصة رسم نام وبغيره رسم ناقص فعلى هذا العرض العام مع الفصل أو الخاصة والخاصة مع الفصل أو مع الجنس البعيد والجنس البعيد مع الخاصة كل منها رسم ناقص انتهى وكذا ما نقلناه سابقاً فتأمل فيهما واختر ما هو الأوجه منهما.
*تذييل* اعلم أن الماهية إمَّا أن يكون لها تحقق وثبوت في الخارج مع قطع النظر عن اعتبار العقل أولاً والأولى الماهية الحقيقية أي الموجودة في الأعيان والثابتة فى نفس الأمر ولا بد من احتياج بعض الأجزاء إلى بعض إذا كانت مركبة والثانية الماهية الاعتبارية أي الكائنة بحسب اعتبار العقل كما إذا اعتبر الواضع عدة أمور فوضع بإزائها اسماً من غير احتياج الأمور بعضها إلى بعض كالجنس الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثيرة المختلفة الحقيقة في جواب ما هو والنوع الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثيرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو ولا يجب أن يكون كلها مركبة بل يجوز أن يكون البعض منها بسيطة كالماهيات الحقيقية.
ثم الحق أنها إنما يقول لها الأمور الاعتبارية لا الماهيات الاعتبارية.
إذا تمهد هذا فتقول ما يتعقله الواضع ليضع بإزائه اسماً إما أن يكون لها ماهية حقيقية أولاً وعلى الأول إما أن يكون متعقله نفس حقيقة ذلك الشيء أو وجودها واعتبارات منه فتعريف الماهية الحقيقية لمسمى الاسم من حيث أنها ماهية حقيقية تعريف حقيقي يفيد تصوير الماهية في الذهن بالذاتيات كلها أو بعضها فيكون حداً حقيقياً تاماً أو ناقصاً أو بالعرضيات أو بالمركب منهما فيكون رسماً حقيقياً تاماً أو ناقص لكن الاطلاع على ذاتياتها وعرضياتها والتميز بينهما متعسر بل متعذر.
وتعريف مفهوم الاسم وما تعقله الواضع فوضع الاسم بإزائه يكون تعريفاً اسمياً يفيد تبيين ما وضع الاسم بإزائه بلفظ أشهر كقولنا الغضنفر الأسد أو بلفظ يشتمل على تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالاً كقولنا الجنس كلي مقول إلخ وهذه يتيسر الاطلاع على ذاتياتها وعرضياتها والتمييز بينهما بلا صعوبة إذ ما هو داخل في الموضوع له فهو ذاتي وما هو خارج عنه فهو عرضي وقد مرّ إشارة إجمالية إلى ذلك في تعريف المعدومات لا يكون إلا اسمياً إذ لا حقائق لها بل هي مفهومات واعتبارات وتعريف الموجودات قد يكون اسمياً وقد يكون حقيقياً إذ لها مفهومات وحقائق كذا في التلويح
*تنبیه* اعلم أن أرباب العربية والأصول كثيراً ما يستعملون الحد بمعنى المعرف وكثير من الناس يغلطون بسبب الغفلة عن اختلاف الاصطلاحين فلا تغفل ولا تحبط
ومما يجب أن ينبه عليه هو أنه يجب الاحتراز في التعريف عن أشياء منها تعريف الشيء بما يساويه في المعرفة والجهالة ومنها تعريف الشيء بما لا يعرف إلا بذلك الشيء وهو الدور سواء كان بمرتبة أو بمراتب ومنها استعمال الألفاظ المشتركة والمجازية إلا أن وجوب الاحتراز عنهما عند أهل المعقول وأما عند الأدباء والأصوليين فيجوز استعمالهما في التعريف إذ قامت قرينة ظاهرة دالة على تعيين المراد بل الصحيح أن الأمر كذلك بإجماع الفريقين واتفاقهما صرح به بعض المحققين وإنما يجب الاحتراز عن هذه الأشياء لئلا يفوت الغرض
الباب الثالث في بيان مبادي التصديقات وهي (القضايَا) وأحكامها ولما توقف معرفة أقسام الشيء وأحكامه على معرفة ذلك الشيء عرف المص القضية أولاً فقال (الْقَضِيَّةُ) وهي تارة تطلق على المعقولة وأخرى على الملفوظة إما بالاشتراك أو بأن يكون حقيقة في الأولى مجازاً في الثانية تسمية للدال باسم المداول على ما اختاره السيد العلامة (قَوْلٌ) هو مرادف للمركب جنس شامل المركبات تامة أو ناقصة إخباراً أو إنشاء وهو يطلق أيضاً تارة على المعقول وأخرى على الملفوظ اشتراكاً أو حقيقة ومجازاً فإن جعلنا التعريف ههنا للقضية المعقولة يكون بمعنى المركب المعقول وإن جعلناه للملفوظة فبمعنى المركب الملفوظ ولا يجوز أن يراد كلاهما معاً إذ المعنيان المشتركان وكذا المعنى الحقيقي والمجازي لا يجتمعان في الإرادة في إطلاق واحد على ما بيَّن في موضعه (يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ فِيهِ) فصل يخرج الإنشائيات والمركبات الناقصة لأن احتمال الصدق والكذب من خواص الفضية كما هو الحق وهو المشهور وعليه الجمهور.
ولم يفرق بعضهم بينها وبين المركب التقييدي في احتمال الصدق والكذب باعتبار أنه يشير إلى النسبة الخبرية ورد بأن إطلاق احتمال الصدق والكذب على المركب التقييدي بمجرد ما يشير إليه يقتضي صحة إطلاق احتمالهما على الإنشائي باعتبار ما يستلزمه من النسبة الخبرية ولم يقل به أحد فتأمل.
ثم إن احتمل الصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى محصل مفهوم القضية ومجرد ماهيتها وهو ثبوت شيء لشيء أو سلبه عنه مع قطع النظر عن خصوصية ذلك المفهوم وخصوصية القائل والمخاطب فلا يخرج عنها قول الله وقول الرسول وما هو بديهي الصدق والكذب فإنّا إذا قطعنا النظر عن خصوصية القضية وخصوصية القائل وغيرهما من الخصوصيات ولاحظنا محصل مفهومها وجدناه إما ثبوت شيء لشيء أو سلبه عنه وذلك يحتمل الصدق والكذب بلا مرية.
ثم إن الصدق والكذب مطابقة الحكم وعدم مطابقته للواقع وتوضيحه أن الشيئين اللذين أوقع بينهما نسبة حكمة لابد وأن يكون بينهما مع قطع النظر عما في الذهن من النسبة التامة المفهومة من اللفظ نسبة ثبوتية بأن يكون هذا ذاك أو سلبية بأن يكون هذا ليس ذاك فهذه النسبة تسمى الواقع والخارج ونفس الأمر فموافقة النسبة الذهنية المفهومة من الكلام تلك النسبة الخارجية بأن تكونا ثبوتتين أو سلبيتين صدق وعدمها بأن تكون إحديهما الثبوتية والأخرى سلبية كذب هذا ما عليه الجمهور وهو الحق والمذهب المنصور.
وقيل الصدق والكذب مطابقة الحكم وعدمها للاعتقاد وقيل لمواقع والاعتقاد جميعاً وكل منهما مردود وقد بيَّن في المطولات ثم إن الصدق والكذب وصفان للقضية أولاً وبالذات والقائل ثانياً وبالعرض فلو عرفها بأنها قول يحتمل الصدق والكذب لكان أخصر وأولى فافهم.
ثم لما عرف القضية وبينها أراد أن بين أقسامها فقال (وَهِيَ) أي القضية (إِمَّا حَمْلِيَّةٌ) أن انحل طرفاها إلى مفردين بالفعل أو القوة (كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ) وزيد قائم يضاده زيد ليس بقائم (أوَ شَرطِيَّةٌ) إن لم ينحل طرفاها إلى مفردين لا بالفعل ولا بالقوة وسيأتي عن قريب تحقيق هذا الانحلال وعدمه (مُتَّصِلَةٌ) وهي التي حكم فيها بصدق قضية أو لا صدقها على تقدير صدق قضية أخرى سواء تحقق صدق أحد النقيضين أو لا وسواء كان على تقدير اللزوم أو على تقدير الاتفاق (كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ) فإنه حكم في هذه القضية بصدق وجود النهار على تقدير صدق طلوع الشمس لزوماً سواء تحقق وجود الليل أو لا وهذه موجبة والسالبة ليس إن كانت الشمس طالعة فالليل موجود فحكم فيها بعدم صدق وجود الليل على تقدير صدق طلوع الشمس لزوماً سواء تحقق وجود النهار أو لا وسيأتي أمثلة الاتفاقية (وَإِمَّا مُنْفَصِلَةٌ) وهي التي حكم فيها بالتنافي بين القضيتين أو بعدمه في الصدق والكذب معاً أو في الصدق وحده أو في الكذب فقط (كَقَوْلِنَا العَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَ) العدد (وَإِمَّا فَرْدٌ) فحكم فيها بالتنافي بين القضيتين وهما إلى العدد زوج والعدد فرد في الصدق والكذب جميعاً لأن كون العدد زوجاً وكونه فرداً لا يجتمعان ولا يرتفعان وسيأتي تفاصيل أقسام الشرطية وموجباتها وسوالبها وأمثلة كل منهما إن شاء الله تعالى ثم إن معنى الانحلال حذف الأدوات الدالة على الحكم الذي به يكون القضية قضية فإذا حذفنا عن قولنا زيد هو عالم وقولنا زيد هو ليس بعالم لفظ هو الدال على الإيجاب وليس الدال على السلب بقي زيد وعالم وهما مفردان بالفعل وإذا حذف عن قولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار وموجود وعن قولنا العدد إما زوج وإما فرد لفظتي أن والفاء الدالتين على الاتصال ولفظة إما الدالة على الانفصال بقي الشمس طالعة والنهار موجود والعدد زوج والعدد فرد وكل منها قضية لا مفرد ولما كان المفرد ههنا أعم من أن يكون بالفعل أو بالقوة دخل في الحملية نحو زيد عالم يضاده وزيد ليس بعالم ونحو الشمس طالعة يلزمه النهار موجود وزيد قائم قضية فإن كلاً منها يمكن التعبير عن طرفيها بلفظين مفردين بأن يقال هذا ذاك أو الموضوع محمول أو نحو ذلك وأورد عليه أن الشرطية أيضاً تنحل إلى مفردين بالقوة بأن يقال هذا ملزوم لذاك وهذا معاند لذاك مثلاً فيندرج الشرطيات كلها في الحملية فلا تكون تعريف الحملية مانعاً ولا تعريف الشرطية صادقاً على فرد من أفرادها.
وأجاب عنه السيد العلامة بأن المعنى بالمفرد ما يمكن التعبير عنه بلفظ مفرد حال كونه جزأ من تلك القضية وعند إفادة حكمها والحمليات تتحل إلى شيئين يمكن أن يعبر عنهما بلفظين مفردين كهذا ذاك والموضوع محمول حال كون هذين اللفظين موضوعاً ومحمولاً وحال كونهما مفيدين حكم أصل القضية التي قبل الانحلال بخلاف الشرطية فإن قولنا هذا ملزوم لذاك أو معاند له وإن كانا مفردين لكنهما ليسا مقدماً وتالياً ولا يفيدان الحكم الاتصال أو الانفصال الذي في أصل القضية قبل الانحلال والتعبير عن طرفيها بالمقدم والتالي أيضاً لا يفيد أن الحكم الاتصال أو الانفصال فالشرطية لا تنحل بطرفيها إلى شيئين يمكن التعبير عنهما الفظين مفردين عند قصد إفادة الحكم الذي فيها (وَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الحَمْلِيَّةِ) كزيد فى قولنا زيد كاتب والمراد بالأولية ما هو بالطبع وبحسب الرتبة لا ما هو بحسب الذكر فيدخل فيه الجملة الفعلية كضرب زيد والجملة الاسمية التي أخر موضوعها نحو في الدار رجل (يُسَمَّى مَوْضُوعًا) لوضعه لأن يحكم عليه شيء ويقال له المحكوم عليه أيضاً (وَ) الجزء (وَالثَّانِي) منها بحسب الرتبة نحو كاتب وضرب وفي الدار في الأمثلة المذكورة يسمى (مَحْمُولاً) لوضعه لأن يحمل على شيء ويقال له المحكوم به أيضاً (اعلم) أن أجزاء القضية ثلاثة المحكوم عليه والمحكوم به والنسبة التي بها يرتبط المحكوم به بالمحكوم عليه وهي الحكم بثبوته له أو بنفيه عنه كذا قيل والحق أنها أربعة المحكوم عليه والمحكوم به والنسبة التي هي مورد الإيجاب والسلب والحكم الذي هو إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة فإنّا إذا تعقلنا زيداً وكاتباً مثلاً والنسبة أعني مجرد مفهوم كون الكاتب ثابتاً لزيد أو غير ثابت له لا يحصل القضية ويظهر ذلك فى الشك فإنه بتعقل الطرفين والنسبة بينهما من غير حكم ثم إذا زال الشك وأدرك الذهن أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة أعني أن المحمول ثابت الموضوع أو ليس بثابت له تحصل القضية بلا مرية
والنسبة كما تطلق على مورد الإيجاب والسلب كذلك تطلق على الحكم فمن جعل الأجزاء ثلاثة فقد غفل عن هذا فذهب إلى اتحاد النسبتين ولما كان مقصود المص بيان الأجزاء اللفظية اقتصر على بيان المحكوم عليه وبه وسكت عن الجزئين الآخرين
فإن قيل الأجزاء اللفظية ثلاثة الموضوع والمحمول والرابطة التي تدل على الحكم والنسبة كهو في زيد هو عالم فلم لم يذكر الثالث.
قلنا كأنه نظر إلى أن الرابطة كثيراً ما يترك ذكرها فاقتصر على ما هو أكثر ذكراً (وَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الشَّرْطِيَّةِ) نحو إن كانت الشمس طالعة في قولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود (يُسَمَّى مُقَدَّمًا) لتقدمه.
والمراد بالأولية والتقدم ههنا هو الرتبي سواء تقدم في الذكر أيضاً كما في المثال المذكور أو تأخر كما في قولنا النهار موجود إن كانت الشمس طالعة.
وتقدير الجزاء فى أمثال هذا على ما هو مذهب البصريين إنما هو لأمر لفظي لا يساعده مقاصد هذا الفن (وَ) الجزء (الثَّانِي) من الشرطية كالنهار موجود في المثالين المذكورين (يُسَمَّى تَاليًا) لتلوه وتبعيته للمقدم (وَالْقَضِيَّةُ) تقسيم ثان للقضية مطلقاً إلا أن المص بنی ظاهر الكلام على الحملية حيث أتى بجميع الأمثلة منها وترك التعرض لإيجاب الشرطية وسلبها وخصوصها وحصورها وإهمالها وسننبه على كل منها على سبيل الإيجاز إن شاء الله تعالى فالقضية الحملية (إِمَّا مُوجَبَةٌ) وهي التي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع (كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ) إذ حكم فيه بثبوت الكتابة لزيد (وَإِمَّا سَالِبَةٌ) وهي التي حكم فيها بنفي المحمول عن الموضوع (كَقَوْلِنَا زَيْدٌ لَيْسَ بِكاتِبٍ) إذ حكم فيه بنفي الكتابة عن زيد (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي من الحملية الموجة والحملية السالبة (إِمَّا مَخْصُوصَةٌ) وهي التي موضوعها جزئي حقيقي ويقال لها شخصية أيضاً (كَمَا ذَكَرْنَا) وهو مثال زيد كاتب وزيد ليس بكاتب (وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ مُسَوَّرَةٌ) وهي التي موضوعها كلي بيّن فيها أن الحكم على جميع الأفراد بأداتها وسورها مأخوذ من سور البلد (كَقَوْلِنَا كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ) مثال للموجبة الكلية المسورة وسورها كل وأجمعون وطرا وقاطبة وكافة وعامة والألف واللام في مقام الاستغراق (وَ) كقولنا (وَلاَ شَيْءَ) أو لا واحد (مِنَ الْإِنْسَانِ بِكاتِبٍ) مثال للسالبة الكلية المسورة وسورها لا شيء ولا واحد (وَإِمَّا جُزْئِيَةٌ مُسَوَّرَةٌ) وهي التي موضوعها كلي بيّن فيها أن الحكم على بعض الأفراد بأداتها وسورها (كَقَوْلِنَا بَعْضُ الْإِنْسَانِ) أو واحد من الإنسان (كَاتِبٌ) مثال الجزئية المسورة وسورها بعض وواحد (وَ) كقولنا (وَبَعْضُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِكاتِبٍ) مثال للجزئية المسورة وسورها بعض ليس وليس بعض وليس كل (وَإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ كَذلِكَ) بأن لا يكون موضوعها جزئياً حقيقياً أو كلياً بين فيها كمية الأفراد كلا أو بعضاً (وَتُسَمَّى مُهْمَلَةً) لإهمال بيان الكمية بعدم ذكر السور (كَقَوْلِنَا الْإِنْسَانُ كَاتِبٌ) مثال للموجبة المهملة (وَ) كقولنا الإنسان (لَيْس بِكاتِبٍ) مثال للسالبة المهملة والمهملة في قوة الجزئية لتلازمهما ثبوتاً وانتفاءً لأنه كما اثبت الحكم على الإفراد في الجملة ثبت عليها مطلقاً وكلما انتفى انتفى.
ووجه الحصر أن الحكم في كل من الموجبة والسالبة إمّا على موضوع معين أو لا فالأول هي المخصوصة والثاني إما أن ببين فيها كمية الإفراد كلاً أو بعضاً فإن كان الأول فمحصورة كلية أو جزئية وإن كان الثاني فمهملة فالقسمة مثلثة لا مربعة.
واعلم أن المص رحمه الله تعالى اقتفى أثر القدماء ههنا حيث ثلّث القسمة وطرح الطبيعية عنها كما فعلوا كذلك إما لعدم استعمالها في العلوم أو اقلتها وإما لكونها داخلة في الشخصية لأن نفس الماهية من حيث أنها صورة حاصلة في الذهن جزئي وإما لكونها داخلة في المهملة من حيث أنه حكم فيها على كلى أهمل بيان كمية الأفراد.
ورد عليهم بأن في كل من الوجوه نظراً.
أما الأولى ففيه أنه يجب ان يكون قواعد الفن عامة.
وأما الثاني ففيه أن الحكم على الماهية ليس من حيث إنها صورة شخصية كيف وجميع المحصورات بهذا الاعتبار موضوعها مشخص.
وأما الثالث ففيه أن المهملة في قوة الجزئية والطبيعية كما لا تصدق كلية كذلك لا تصدق جزئية إذ لا يصدق في قولنا الإنسان نوع بعض أفراد الإنسان نوع كما لا يصدق كل أفراده نوع فلذا عدل عنه المتأخرون حيث ربعوا القسمة فقالوا إن كان الموضوع جزئياً مشخصاً فشخصية وإن كان كلياً فإن بيّن كمية الأفراد فمحصورة وإلا فإن صلحت لأن تصدق كلية أو جزئية بأن يكون الحكم على إفراد الموضوع مع إهمال بيان كميتها فمهملة وإن لم يصلح لذلك بأن لا يكون الحكم على إفراد الموضوع بل على نفس الطبيعة مطلقة كقولنا الإنسان حيوان ناطق أو مقيدة بالعموم كقولنا الحيوان من حيث عمومه جنس والإنسان من حيث عمومه نوع فطبيعية ولم يتعرض المص أيضاً للعدول والتحصيل والجهات لقلة حدودها ولكونها محوجة إلى طوال أبحاث لا يسعها الرسالة مع أنه إنما التزم فيها ما يجب استحضاره للمبتدئ وهذه المباحث ليست من ذلك كما لا يخفى هذا.
والقضية الشرطية أيضاً إما موجبة أو سالبة وكل منهما إما مخصوصة أو شخصية وهي التي حكم فيها بالاتصال أو الانفصال في زمان معين على حال معينة وإما كلية مسورة وهي التي حكم فيها بالاتصال أو الانفصال في جميع الأزمان على جميع الأحوال والأوضاع الممكنة الاجتماع مع المقدم بذكر السور وإما جزئية وهي التي حكم فيها في بعض الأزمان على بعض الأحوال والأوضاع وإما مهملة وهي التي بيّن فيها كمية الأزمان كلاً أو بعضاً بإهمال السور.
فالأزمنة والأوضاع في الشرطية بمنزلة إفراد الموضوع في الحملية ووجه الحصر هو أنه إما أن يكون الحكم في زمان معين أو لا الأول مخصوصة والثاني إما أن يبين فيه كمية الأزمان بعضاً أو كلا أو لا الأول محصورة كلية أو جزئية والثاني مهملة.
وسور الموجبة الكلية في المتصلة كلما ومهما ومتى.
وفي المنفصلة دائماً.
وسور السالبة الكلية فيهما ليس البتة وسور الموجبة الجزئية فيهما قد يكون.
وسور السالبة الجزئية في المتصلة قد لا يكون وليس كلما وليس متى وليس مهما.
وفي المنفصلة قد لا يكون وليس دائماً والأمثلة غير خفية والتفصيل مبسوط في المطولات.
ولما فرغ عن بيان أقسام مطلق القضية أو القضية الحملية أراد أن يبين أقسام القضية الشرطية المتصلة والشرطية المنفصلة وقدم المتصلة فقال (وَالمُتَّصِلَةُ) قد سلف تعريفها على إطلاقها (إِمَّا لُزُومِيَّةٌ) وهي التي حكم فيها بصدق التالي أو لا صدقه على تقدير صدق المقدم لعلاقة موجبة لذلك كالعلية وهي أعم من أن يكون المقدم علة للتالي (كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَت الشَّمْسُ طَالِعًة فالنَّهَارُ مَوْجُودٌ) أو بالعكس كقولنا إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة أو يكون المقدم والتالي معلولي علة واحدة كقولنا إن كان النهار موجوداً فالعالم مضيء وكالتضايف وهو كون الشيئين بحيث يلزم من تعقل أحدهما تعقل الآخر كالأبوة والبنوة كقولنا إن كان زيد أبا عمر وفعمر وابنه وبالعكس وقد يقال إنه من قبيل كون المقدم والتالي معلولي علة واحدة وهي التولد في هذا المثال وما ذكر من جميع الامثلة موجبات ومثال السالبة ليس إن كانت الشمس طالعة فالليل موجود (وَإِمَّا اتَّفَاقِيَّةٌ) وهي التي حكم فيها بصدق التالي أو لا صدقه على تقدير صدق المقدم لا لعلاقة أو لاعتبارها بل لمجرد توافق الجزئين في الصدق (كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا فَالْحِمَارُ نَاهِقٌ) وكقولنا ليس إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار عالم فإن قلت الاتفاقية مشتملة على العلاقة لأن المعية في الوجود أمر ممكن فلا بد علة تقتضيه.
قلت نعم إلا أنهم لما لاحظوا المقدم فإن اطلعوا على أمر يقضي صدق التالي على تقدير صدقه ظاهراً واعتبروا ذلك الأمر سموا المتصلة لزومية والاتفاقية ثم إن الاتفاقية على ما فسرناها لابد من صدق طرفيها ويسمى اتفاقية خاصة وقد تطلق على التي فيها بصدق التالي على تقدير صدق المقدم لا لعلاقة سواء توافقا في الصدق أو لا كقولنا إن كان الخلاء موجوداً فالإنسان ناطق هذه اتفاقية عامة لكونها أعم من الأولى (وَالمُنْفَصِلَةُ) قد سبق أيضاً تعريفها على الإطلاق (إِمَّا حَقِيقِيَّةٌ) وهي التي حكم فيها بالتنافي أو عدمه بين القضيتين في الصدق والكذب معاً كما هو حقيقة الانفصال (كَقَوْلِنَا الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ) فإنه حكم فيه بأن هذا العدد زوج وهذا العدد فرد لا يصدقان ولا يكذبان مقابل أن صدق إحديهما كذب الأخرى لا محالة وهذا معنى التنافي في الصدق والكذب معاً.
وهذا مثال للموجبة.
ومثال السالبة ليس هذا الإنسان كاتباً أو تركياً فحكم فيه بنفي التنافي بين هذا الإنسان كاتب وهذا الإنسان تركي في الصدق والكذب جميعاً فالسالبة الحقيقية أعم من الموجبة الحقيقية لأن طرفاها قد يصدقان وقد يكذبان وقد يصدق أحدهما ويكذب الآخر بخلاف الموجبة وأعم أيضاً من مانعتي الجمع والخلو سالبتين أو موجبتين لما ذكر وقوله (وَهِيَ مَانِعَةُ الجَمْعِ وَالْخَلَوِّ مَعًا) وكذا قوله فقط في الأخيرين مما لا حاجة إليه ولعله أشار بذلك إلى التعريفات فافهم (وَإِمَّا مَانِعَةُ الجَمْعِ فَقَطْ) وهي التي حكم فيها بتنافي القضيتين أو بعدمه في الصدق فقط مع إمكان اجتماعهما على الكذب في الموجبة وعلى الصدق في السالبة (كَقَولِنَا هذَا الشَّيْءُ إِمَّا حَجَر أَوْ شَجَر) مثال للموجبة فإنه حكم فيها بأن هذا حجر وهذا شجر لا يصدقان مع جواز كذبها بأن يكون إنساناً مثلاً وهذا معنى الحكم بالتنافي في الصدق فقط ومثال السالبة ليس إما أن يكون هذا الشيء لا حجراً ولا شجراً فحكم فيه بيَّن هذا الشيء لا حجر وهذا الشيء لا شجر بنفي التنافي في الصدق فقط لأنهما يصدقان معاً ولا يكذبان كيف ولو كذبا لكان الشيء حجراً وشجراً معاً وهو مح (وَإِمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ) وهي التي حكم فيها بالتنافي بين الجزئين أو برفعه في الكذب فقط مع إمكان اجتماعهما على الصدق في الموجبة وعلى الكذب في السالبة (كَقَوْلِنَا زَيْدٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَحْر وَإِمَّا أَنْ لاَ يَغْرَقَ) مثال الموجبة فإنه حكم فيها بين زيد فى البحر وزيد لا يغرق بالتنافي في الكذب فقط فيجوز صدقهما ويمنع كذبهما معاً كيف وإن كذبا يلزم أن لا يكون في البحر وأن يغرق وهو مح ومثال السالبة ليس إما أن لا يكون زيد في البحر وإما أن يغرق فهما لا يصدقان معاً وقد يكذبان.
تنبه اعلم أن كل مادة صدق فيها موجبة منع الجمع كذب فيها سالبته وصدق فيها سالبة منع الخلو وكل مادة صدق فيها موجبة منع الخلو كذب فيها سالبته وصدق سالبة منع الجمع وعلى هذا المنوال الكلام من جانب سالبتيهما فتفطن وأن كل شيئين بصدق بين عينيهما منع الجمع يصدق بين نقيضيهما منع الخلو وبالعكس إذا توافقا في الإيجاب والسلب وأما إذا اختلفا فيهما فالصادقة السالبة المتفقة في النوع والأمثلة المذكورة إشارة إلى كل من ذلك فتبصر.
ثم إن كلاً من المنفصلات الثلاثة إما عنادية أو اتفاقية فالعنادية ما حكم فيه بالتنافي لعلة موجبة وذلك بأن يأخذ مع الشيء نقيضه أو مساوي نقيضه كما في الحقيقية وإما ما هو أخص من نقيضه كما في مانعة الجمع أو ما هو أعم من نقيضه كما في مانعه الخلو وأمثلتها ما مرّ في المتن والاتفاقية ما حكم فيه بالتنافي بمجرد اتفاق الجزئين في ذلك بلا أمر موجب وذلك بأن لا يؤخذ مع الشيء نقيضه أو مساوي نقيضه كما في الحقيقية الاتفاقية ولا ما هو أخص من نقيضه کما ما في مانعة الجمع الاتفاقية ولا ما هو أعم من نقيضه كما في مانعة الخلو الاتفاقية مثال الحقيقية الاتفاقية قولنا هذا إما أسود أو لا كاتب للشخص الأسود الكاتب ومثال مانعة الجمع الاتفاقية قولنا هذا إما لا أسود أو لا كاتب للشخص المذكور ومثال مانعة الخلو الاتفاقية قولنا هذا إما أسود أو كاتب لهذا أيضاً.
ثم اعلم أن كلاً من مانعة الجمع والخلو بالمعنى المذكور مباين للحقيقية وقد تطلقان على ما هو أعم منها فيراد بمانعة الجمع ما حكم فيه بالتنافي في الصدق مطلقاً سواء حكم به في الكذب أيضاً أو لا ويراد بمانعة الخلو ما حكم فيه بالتنافي في الكذب مطلقاً سواء حكم به في الصدق أو لا أيضاً هذا.
ولما كان ما سبق من أمثلة المنفصلات كلها ذي جزئين والحال أنه يجوز أن يكون المنفصلة ذات جزئين فصاعداً بيَّنه بقوله (وَقَدْ تَكُونُ المُنْفَصِلاَتُ ذَوَاتِ أَجْزَاءٍ ثَلَاثَةٍ) فصاعداً (كَقَوْلِنَا الْعَدَدُ إِمَّا زَائِدٌ أَوْ مُسَاوٍ أَوْ نَاقِصٌ) مثال للحقيقية ومثال مانعة الجمع قولنا هذا الشيء إما حجر أو شجر أو حيوان ومانعة الخلو مثل هذا الشيء إما لا حجر أو لا شجر أو لا حيوان والمراد من زيادة العدد ونقصانه ومساواته كون ما اجتمع من كسوره زائداً عليه أو ناقصاً عنه أو مساوياً له والكسور تسعة العشر والتسع والثمن والسبع والسدس والخمس والربع والثلث والنصف فالعدد الزائد كاثني عشر فإن له نصفاً هو الستة وثلثاً هو الأربعة وربعاً هو الثلاثة وسدساً هو الاثنان فإذا اجتمعت يصير خمسة عشر فيكون زائداً والناقص كالأربعة فإن له نصفاً هو الاثنان وربعاً هو الواحد فإذا اجتمعا يصير ثلاثة فيكون ناقصاً والمساوي كالستة فإن له نصفاً هو الثلاثة وثلثاً هو الاثنان وسدساً هو الواحد والمجموع ستة فيكون مساوياً.
قيل لا يتركب شيء من المنفصلات من أكثر من جزئين لأن الانفصال نسبة واحدة والنسبة الواحدة لا تتصور إلا بين الجزئين ضرورة أن النسبة بين الأجزاء متعددة لا واحدة فكيف تكون المنفصلة ذات أجزاء ثلاثة فصاعداً وأجيب بأن المراد ههنا ما هو بحسب الظ فكل من الأمثلة المذكورة منفصلة واحدة بحسب الظ ومتعددة عند التحقيق 15 والحق ما ذكر في الحواشي الأحمدية من أنه يمكن أن يكون المعنى من قولنا العدد إما زائد أو ناقص أو مساو مثلاً أن مجموعها لا يجتمع في العدد ولا يخلو العدد عن كل منها أعم من أن يكون بين كل جزئين انفصال أو لا لأن كل جزئين منها لا يجتمعان ولا يرتفعان وإن كان ذلك محتملاً وهذا المعنى انفصال واحد قد وجد بين المجموع وكذا يمكن أن يكون المراد بقولنا هذا الشيء إما حجر أو شجر أو حيوان أن المجموع لا يجتمع على هذا الشيء مع قطع النظر عن الانفصال بين كل جزئين أيضاً فيكون تركبها من أجراء فوق اثنين على الاعتبار بحسب الحقيقة والظاهر معاً لا بحسب الظاهر فقط.
ومن هذا ظهر أن ما قالوا من أن الحقيقية لا تتركب من أكثر من جزئين ومانعتي الجمع والخلو تتركبان تحكم وأن ما قال الفناري وما عليهم من أن الحق أنه إذا كان المراد بالانفصال انفصال واحد لا يتحقق إلا بين جزئين وأن مطلق الانفصال يتحقق بين جزئين وأكثر في الأقسام الثلاثة ليس بحق.
تنبيه أعلم أن كل ما ذكر فيه أدوات الانفصال لا يجب أن يكون منفصلة فإذا قلنا مثلاً هذا إما واحد وإما كثير فإن أردنا المنافاة بين هذا واحد وهذا كثير فالقضية منفصلة مركبة من قضيتين وإن أردنا المنافاة بين مفهومي الواحد والكثير في الحمل على هذا فالقضية حملية شبيهة بالمنفصلة مركبة من موضوع واحد مرددة المحمول على ما فصله السيد العلامة وكذلك لا يجب أن يكون من المنفصلات الثلاثة أو قد يكون المنفصلة الغير الحقيقة أقسام غير مانعتي الجمع والخلو نحو رأيت إما زيداً وإما عمر أو نحو العالم إما يعبد الله وإما ينفع الناس على ما نقله السيد العلامة عن الإشارات.
ولما فرغ من أقسام القضية شرع في بيان أحكامها فقال (التناقض) أي هذا بحث التناقض من أحكام القضايا وإنما قدمه التوقف بعض الأحكام عليه في الإثبات على ما سيظهر فى العكس (وَهُوَ اخْتِلاَفُ الْقَضِيَّتَيْنِ) جنس لأن المعرف ههنا هو تناقض القضايا بدليل أن الكلام في أحكامها فاختلاف المفردات واختلاف مفرد وقضية ليس بداخل في المحدود حتى يحتاج إلى الإخراج والاختلاف الواقع بين المفردات بعلم بالمقايسة كما صرح به السيد العلامة وبعضهم لغفوله عن هذا قال اختلاف القضيتين يخرج الاختلاف الواقع بين المفردات وبين مفرد وقضية.
(بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ) يخرج الاختلاف بالحمل والشرط والعدول والتحصيل وغيرهما وذلك لأن الشيء وعدوله قد يرتفعان والشيء ونقيضه لا يرتفعان قطعاً كما لا يجتمعان وبيانه أن قولنا زيد كاتب وزيد لا كاتب يرتفعان معاً عند عدم وجود زيد لأنهما موجبتان والموجبة تقتضي وجود الموضوع وقولنا زيد كاتب وزيد ليس هو بكاتب لا يرتفعان أصلاً لعدم اقتضاء السالبة وجود الموضوع ومن ههنا ظهر أن التناقض إنما يكون بين الشيء وسلبه لا بينه وبين عدوله ولذا ذهب بعضهم إلى عدم التناقض بين المفردات بناء على أنها مع اعتبار الحكم لم تكن مفردة وبدونه لم يكن إيجابياً وسلباً هذا والحق الحقيق بالقبول أن هذا القيد أعني الإيجاب والسلب ليس للاحتراز بل لتحقيق مفهوم التناقض لأن اختلاف القضيتين (بِحَيْثُ يَقْتَضِي لِذَاتِهِ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا صَادِقَةً وَالْأَخْرَى كاذِبَةً) لا يكون إلا بالإيجاب والسلب على ما حققه السيد العلامة وأوضحه فقوله بحيث يقتضي يخرج الاختلاف الغير المقتضي سواء كان بالإيجاب والسلب أو لا كالاختلاف في مثل زيد ساكن ليس بمتحرك وكالاختلاف بالحمل والشرط وغيرهما.
وقوله لذاته احتراز عن الاختلاف بالإيجاب والسلب المقتضي لصدق أحديها وكذب الأخرى لكن لا لذاته بل بواسطة أو بخصوص مادة نحو زيد إنسان زيد ليس بناطق ونحو كل إنسان حيوان ولا شيء من الإنسان بحيوان وقد يقال إن خصوص المادة داخل تحت الواسطة إذ من البيّن أنه من جزئيات الواسطة صرح به بعض المحققين (كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ زَيْدٌ لَيْسَ بِكَاتِبٍ) مثال التناقض بين المخصوصتين ثم لمّا توقف تحقق التناقض بين القضيتين على اتفاقهما واشتراكهما في عدة أمور وتوقف تناقض المحصورات على الاختلاف في الكمية أيضاً بينوا ذلك تتميماً وتكميلاً لبيان ماهيته وحقيقته فقال الأوائل أنه إنما يتحقق بعد اشتراكهما في الوحدات الثمانية وحدة الموضوع ووحدة المحمول ووحدة المكان ووحدة الزمان ووحدة الإضافة ووحدة القوة والفعل ووحدة الجزء والكل ووحدة الشرط وقد اقتفى المص رح أثرهم فقال (وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذلِكَ) أي التناقض والاختلاف المذكور الموصوف بالحيثية المذكورة (إِلاَّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا) أي القضيتين المختلفتين بالإيجاب والسلب (فِي المَوْضُوعِ) فلا تناقض بين زيد قائم عمر وليس بقائم (وَالمَحْمُول) فلا يتحقق بين زيد قائم زيد ليس بقاعد (وَالزَّمَانِ) فلا تناقض بين زيد قائم في الليل زيد ليس بقائم في النهار (وَالمَكانِ) فلا تناقض بين زيد قائم في المسجد زيد ليس بقائم في السوق (وَالْإِضَافَة) يخرج زيد أب لعمر ويزيد ليس بأب لبكر (وَالْقُوَةِ وَالْفِعْلِ) احتراز عن نحو الخمر في البدن مسكر بالقوة الخمر فيه ليس بمسكر بالفعل (وَالجُزْءِ وَالْكُلِّ) فلا تناقض بين الزنجي أسود أي بعضه الزنجي ليس بأسود أي كله (وَالشَّرْطِ) فقولنا الجسم مفرق للبصر أي بشرط لمعانه وضيائه ليس بنقيض لقولنا الجسم ليس بمفرق للبصر أي بشرط سواده.
واكتفى بعضهم بثلاث وحدات وحدة الموضوع ووحدة المحمول ووحدة الزمان وأدرج وحدة الشرط ووحدة الجزء والكل تحت وحدة الموضوع والبواقي تحت وحدة المحمول.
ولما لم يقم مرجع يرجع إدراج وحدة المكان تحت وحدة المحمول على إدراج وحدة الزمان تحتها اقتصر صاحب الشمسية على الوحدتين الأوليين وأدرج وحدة الزمان تحت وحدة المحمول أيضاً وفي كل منهما شيء فتأمل.
ثم إنه لما ورد على ظاهر مقالتهم أن الاتفاق فيما ذكر لا يكفي في تحقق التناقض بل لا بد فيه من الاتفاق في أشياء أخرى كالآلة والغاية وغيرهما نحو زيد كاتب أي بقلم بغدادي من مداد لعلي على قرطاس قسطنطيني لغرض كذا زيد ليس بكاتب أي بقلم آخر من مداد آخر على قرطاس اختر لغرض آخر اكتفى بعض المحققين بوحدة واحدة مشتملة على جميع ما يتوقف عليه التناقض وهي وحدة النسبة الحكمية ولاشك أن الاتفاق في النسبة الحكمية يستلزم الاتفاق فى كل ما يجب الاتفاق فيه من الوحدات المذكورة وغيرها لأنه متى اختلف شيء من الموضوع والمحمول وما يتعلق بهما اختلفت النسبة ضرورة أن هذه النسبة غير تلك النسبة وأن النسبة في هذا الزمان غير النسبة في ذلك الزمان إلى غير ذلك ومتى لم تختلف النسبة لم يختلف شيء منها فتى وجد الاتفاق في النسبة تحقق التناقض واختاره السعد العلامة لأنه أخصر وأشمل.
ولما بين ما يتوقف عليه تحقق التناقض مطلقاً أراد أن يبين ما يتوقف عليه تناقض المحصورات خاصة وهو الاختلاف في الكمية بعد الاتفاق فيما ذكر فقال (وَنَقِيضُ المُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ إِنَمَا هِيَ السَّالِبَةُ الجُزْئِيَّةُ) نحو كل إنسان حيوان وبعض الإنسان ليس بحيوان (وَنَقِيضُ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ إِنَّمَا هِيَ المُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ) نحو لا شيء من الإنسان بحجر وبعض الإنسان حجر.
فإن قلت بعد الاختلاف في الكم لا يتحد الموضوع فكيف يتحقق التناقض.
قلنا المراد باتحاد الموضوع في هذا الباب إنما هو الاتحاد الذكري أي في الذكر.
لا يقال ليس بمتحد فيه أيضاً لأنا نقول الموضوع هو المضاف إليه ولفظ الكل والبعض ليسا من الموضوع بل كل منهما أداة وسور وكذا لا شيء وأمثاله من الأسوار وجعل السور موضوعاً إنما هو بحسب الأصول العربية ولا يساعده مقاصد هذا الفن وأصوله هذا وإذا كان نقيض الكلية الجزئية (فَالمَحْصُوراتِ) يدخل فيها المهملة لكونها في قوة الجزئية ووقع في بعض النسخ المحصورات بغير الفاء فحكم بعض الشارحين بأن قوله ونقيض الموجبة الكلية إلخ غير واقع فى موقعه بل الواجب تأخيره عن هذا (لاَ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ بَيْنَهُمَا) بعد الاتفاق فيما ذكر (إِلاَّ بَعْدَ اخْتِلاَفهِمَا فِي الْكَمِّيَّةِ) أي في الكلية والجزئية (لِأَنَّ الْكُلِّيَّتيْنِ قَدْ تَكْذِبَانِ) مع الاتفاق في جميع الوحدات وذلك في كل مادة يكون الموضوع فيها أعم من المحمول نحو كل حيوان إنسان ولا شيء من الحيوان بإنسان (كَقَوْلِنَا كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ) بالفعل (وَلاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِكَاتِبٌ) بالفعل (وَالجُزْئِيَّتَيْنِ قَدْ تَصْدُقانِ) وهو في تلك المادة أيضاً نحو بعض الحيوان إنسان وبعض الحيوان ليس بإنسان.
(كَقَوْلِنَا بَعْضُ الْإِنْسَانِ كَاتِبٌ) بالفعل (وَبَعْضه لَيْسَ بِكَاتِبٍ) بالفعل وأما صدق إحدى الكليتين أو الجزئيتين كذب الأخرى فيما يكون المحمول أعم من الموضوع أو مساوياً له فإنما هو من خصوص المدة هذا كله في الحملية بحسب الظاهر ومنه يعلم التحقيق تناقض الشرطيات فلا تغفل.
ولما فرغ من مباحث التناقض شرع في مباحث العكس المستوي فقال (العَكْسُ) أي هذا بحث العكس المستوي من أحكام القضايا (هُوَ أَنْ يَصِيرَ) بالتشديد (المَوْضُوع) حقيقة أو اعتباراً وكذا الكلام في المحمول فيشمل عكس الشرطية (مَحْمُولاً) والمراد من الموضوع والمحمول ههنا أيضاً ما هو بحسب الذكر والعنوان لأن العكس لا يصير ذات الموضوع محمولاً ومفهوم المحمول موضوعاً فإنك إذا قلت الإنسان حيوان تريد بالإنسان أفراده وبالحيوان مفهومه وإذا عكست وقلت بعض الحيوان إنسان انعكس الأمر فتريد بالحيوان الأفراد و بالإنسان المفهوم إذ قد تقرر أن المراد من الموضوع إنما هو الأفراد والذات ومن المحمول إنما هو المفهوم وبالجملة العكس إنما هو حال اللفظ والمعنى باق على حاله قبل.
ثم إن ما ذكر من كون المراد من الموضوع والمحمول عنوانهما إنما يحتاج إليه في عكس الحمليات وأما في عكس الشرطيات فلا حاجة إلى ذلك بل لا فائدة في عكس المنفصلات لعدم امتياز جزئيها طبعاً فلا حاجة إلى عكسها فضلاً عن التأويل ولذا قالوا لا عكس المنفصلات وسيأتي تنبيه على ذلك ولعل المص أراد من الموضوع والمحمول ما هو الحقيقي واعمل عكس الشرطيات إما لذلك أو للحمل على المقايسة فلا حاجة إلى التعميم السابق (وَالمَحْمُولُ مَوَضُوعًا) عطف على الموضوع محمولاً عطفاً موزعاً (مَعَ بَقَاءِ الْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ بِحَالِهِ) الظاهر بحالهما فإن كان الأصل موجباً كان العكس كذلك وإن كان سالباً كان العكس أيضاً كذلك وذلك لأن العكس من لوازم الأصل والموجب قد يتخلف عن السالب و بالعكس فإن قولنا كل إنسان ناطق لا يصدق عكسه سالباً وهو بعض الناطق ليس بإنسان وكذا قولنا لا شيء من الإنسان بفرس لا يصدق عكسه موجباً وهو بعض الفرس إنساناً فاللازم المنضبط هو الموافق في الكيف فاشترط بقاؤه ( وَ ) مع بقاء (التَّصْدِيقِ) ولعل قوله (وَالتكْذِيبِ) زيادة من الناسخ (بِحَالِهِ) فإن كان الأصل صادقاً كان العكس صادقاً وأما إن كان كاذباً فلا يجب أن يكون العكس كاذباً بل يجوز كذب الأصل مع صدق العكس فإن قولنا كل حيوان إنسان كاذب وعكسه وهو بعض الإنسان حيوان صادق فبقاء التكذيب ليس بلازم.
اعلم أن العكس كما يطلق على المعنى المصدري الذي ذكر وهو جعل الجزء الأول ثانياً والثاني أولاً كذلك يطلق على القضية الحاصلة من هذا الجمل والتبديل إما اشتراكاً أو حقيقة ومجازا ثم لما لم يكتف مجرد هذا التبديل في عكس المحصورات بل لابد له من اختلاف الكمية في بعضها فصّله المص رحمه الله تعالى فقال (وَالمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ) قدم الإيجاب الكلي لكونه جامعاً للشرفين (لاَ تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً إِذْ يَصْدُقُ قَوْلُنَا كُلُّ إِنْسَانٍ حَيْوَانٌ وَلاَ يَصْدُقُ كُلُّ حَيَوانٌ إنْسَانٌ) لجواز أن يكون المحمول أعم من الموضوع فلا يصدق العكس الكلي نحو كل إنسان حيوان وكل حيوان إنسان (بَل تَنْعَكِسُ جُزْئِيَّةً) إذ هي اللازم المنضبط وإما صدق العكس الكلي فيما يكون المحمول فيه مساوياً للموضوع نحو كل إنسان ناطق وكل ناطق إنسان فليس لزوماً بل لخصوص المادة وإلا لما تخلف في شيء من المواد (لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا) علة لانعكاس الموجبة الكلية جزئية (كُلُّ إِنْسَانٍ حَيَوَانٌ يَصْدُقُ بَعْضُ الحَيَوَانِ إِنْسَانٌ فَإِنَّا نَجِدُ شَيْئًا) معيناً وهو أفراد الإنسان من زيد وعمرو وبكر مثلاً (مَوْصُوفًا بِالْإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ) وإلا لامتنع منَّا حمل الحيوان على الإنسان (فَيَكُونُ بَعْضُ الحَيَوَانِ إِنْسَانًا) بالضرورة وفى إثبات هذا العكس طريق مشهورة غير هذا الطريق وهو أنه إذا صدق كل إنسان حيوان لزم أن يصدق بعض الحيون إنسان وإلا لصدق نقيضه وهو لا شيء من الإنسان بحيوان فيلزم التباين الكلي بين الأخص والأعم وهو مح وعلى تقدير صدق النقيض يصدق ليس بعض الإنسان بحيوان وقد كان الأصل كل إنسان حيوان وقد فرضنا صدقه فيلزم صدق النقيضين أو نضم ذلك النقيض إلى الأصل ونجعله كبرى فنقول كل إنسان حيوان ولا شيء من الحيوان بإنسان فيتج سلب الشيء عن نفسه وعلى جميع التقادير لزم صدق بعض الحيوان إنسان وهو المطلوب (وَالمُوجَبَةُ الجُزْئِيَّةُ أَيْضًا) أي كالموجبة الكلية (تَنْعَكِسُ جُزْئِيَّةً بِهذِهِ الحُجَّةِ) التي قررها بأن يقال إذا قلنا بعض الإنسان حيوان نجد شيئاً موصوفاً بهما فيكون بعض الحيوان إنساناً وذلك إثباته بالحجة التي قررناها كما هو المشهور (وَالسَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً وَذلِكَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ) لا يحتاج إلى البيان وإقامة البرهان ومع هذا لا بأس علينا أن نزيده بياناً ووضوحاً فنقول إذا صدق سلب المحمول عن كل أفراد الموضوع صدق سلب الموضوع عن كل أفراد المحمول إذ لو ثبت الموضوع لفرد من أفراد المحمول لزم اجتماعهما في ذلك الفرد واتصافه بهما فيصدق الإيجاب الجزئي من الطرفين وهو ينافي السلب الكلي من أحدهما فلزم أن تنعكس كلية وهو المط أو نقول (فإنَّهُ إِذَا صَدَقَ لاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِحَجَرٍ صَدَقَ قَوْلَنَا لَا شَيْءَ مِنَ الحَجَرِ بِإِنْسَانٍ) وإلا لصدق نقيضه وهو بعض الحجر إنسان وح بصدق بعض الإنسان جحر وقد كان الأصل المفروض صدق لا شيء من الإنسان بحجر هذا خلف ونضم النقيض إلى الأصل بأن تجعله صغرى والأصل كبرى فيلزم سلب الشيء عن نفسه وعلى كل من التقادير يلزم صدق لا شيء من الحجر بإنسان وهو المطلوب (وَالٍسَّالِبَةُ الجُزْئِيَّةُ لاَ عَكْسَ لَهَا لُزُومًا) والظاهر أن قوله لزوماً بيان للواقع للتأكيد وإلا فلا حاجة إليه كما لا يخفى وإنما لم تنعكس لأنه لو انعكس لزم صدق العكس في كل مادة بصدق فيها الأصل واللازم منتف (لأنَّهُ يَصْدُقُ بَعْضُ الحَيَوَانِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ وَلاَ يَصْدُقُ عَكْسُهُ) الذي هو بعض الإنسان ليس بحيوان فالملزوم كذلك فثبت المطلوب والصدق في بعض المواد إنما هو لخصوص المادة فلا ينافي قاعدتهم.
ثم إنه مر غير مرة أن المهملة في قوة الجزئية في الأحكام فالمهملة الموجبة تنعكس والسالبة لا هذا كله في الحملية وأما الشرطية فالمتصلة اللزومية الموجبة كلية أو جزئية تنعكس جزئية والسالبة الكلية تنعكس كلية إذ لو لم يصدق العكسان اصدق النقيضان وإذا ضم النقيضان إلى الأصل حصل قياس منتج للمحال فعليك باستخراج الأمثلة وتصوير القياس وأما المتصلة اللزومية السالبة الجزئية والمتصلة الاتفاقية مطلقاً والمنفصلة بأسرها فلا عكس لها فاحفظه.
ومن أحكام القضايا عكس النقيض وهو عند القدماء عبارة عن جعل نقيض الجزء الثاني أولا ونقيض الجزء الأول ثانياً مع بقاء التصديق والكيف كقولنا في كل إنسان حيوان كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان وعند المتأخرين عبارة عن جعل نقيض الجزء الثاني أولاً وعين الأول ثانياً مع الموافقة في الصدق والمخالفة في الكيف نحو كل إنسان حيوان وليس كل ما ليس بحيوان بإنسان والأدلة من الجانبين مفصلة في المطولات ثم إنه على خلاف العكس المستوي في المحصورات حتى أن الموجبة الكلية تنعكس كنفسها والموجبة الجزئية لا عكس لها والسالبة الكلية والجزئية تنعكسان سالبة جزئية.
ثم إن المختار فيه مذهب القدماء إذ هو المستعمل في العلوم ولو على قلة والمصرح لم يتعرض لهذا العكس لقلة استعماله في العلوم والإنتاجات.
الباب الرابع في بيان مقاصد التصديقات وهي (القِياسُ) ويقال له الحجة أيضاً وهو المطلب الأعلى والمقصد الأقصى في الفن والبحث عنه في هذا الباب إنما هو من حيث الصورة وأما البحث عنه من حيث المادة ففي الأبواب الخمسة الآتية على ما مر عليه الإشارة في صدر الكتاب (وَهُوَ) أي القياس (قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ) القول الأول جنس فإن جعلك التعريف للقياس المعقول فهو بمعنى المركب المعقول وإن جعلناه للقياس الملفوظ فهو بمعنى المركب الملفوظ وكذا الكلام في الأقوال وأما القول الآخر فهو بمعنى المؤلف المعقول قطعاً سواء جعل التعريف للقياس المعقول أو الملفوظ لأنه لا يلزم من تلفظ القضايا ولا من تعقل معانيها التلفظ بالنتيجة وهو ظاهر ثم إن لزوم القول المعقول من القياس المعقول بين وأما من الملفوظ فباعتبار أنه يدل على المعقول فإن القياس الملفوظ ليس بقياس إلا من حيث أنه دال المعقول فالقياس الملفوظ يستلزم تعقل معانيه بالنسبة إلى العالم بالوضع وتعقل معانيه بعد التسليم يستلزم قولاً معقولاً هو النتيجة فالقياس الملفوظ يستلزم قولاً معقولاً بواسطة أن مستلزم المستلزم مستلزم ثم إن المراد من الأقوال ما فوق الواحد وكذا كل جمع وقع في تعريفات هذا الفن إذا عرفت هذا فنقول القول الأول جنس قطعاً.
وقوله مؤلف من أقوال يخرج القضية الواحدة المستلزمة لعكسها وعكس نقيضها وأما خروج القضية البسيطة التي حقيقتها غير مشتملة على حكمين مختلفين كقولنا كل إنسان حيوان بالضرورة فظاهر وأما القضية المركبة التي حقيقتها مشتملة على ذلك نحو كل إنسان ضاحك لا دائماً فلأن المراد بالأقوال ما هو قضايا بالفعل وأجزاء القضية المركبة ليست قضايا بالفعل وإن لم يكن المراد القضايا بالفعل فهي خارجة بقوله لزم عنها إذ المراد باللزوم ما هو بطريق الاكتساب كما في القول الشارح.
وقوله متى سلمت إشارة إلى أن مقدمات القياس لا يجب أن تكون مسلمة ومقبولة في الواقع فيدخل فيه ما هو صادق المقدمات وما هو كاذبها فهو للشمول لا للإخراج.
وقوله لزم يخرج الاستقراء الغير التام والتمثيل فإنها بعد التسليم لا يستلزمان قولاً آخر وهذا إذا أريد بلزوم القول لزوم العلم بمعنى الجزم وأما إذا أريد به لزوم العلم أعم من الجزم والظن فلا يخرجان بهذا القيد فافهم.
وقوله عنها يخرج المقدمتين المستلزمتين لاحديهما فإنها لا تلزم عنهما إذ ليس للأخرى دخل في ذلك كذا قيل ويخرج أيضاً ما يستلزم قولاً آخر بحسب خصوص المادة كما في قولنا لا شيء من الإنسان بحجر وكل حجر جاد فإنه يلزم منه لا شيء من الإنسان بحجر لكن لا من نفس القضايا وإنما يخرج ذلك لأن المتبادر من اللزوم عن الشيء اللزوم عن نفس ذلك الشيء.
وقوله لذاتها احتراز عن قياس المساواة وهو ما يتركب من قضيتين يكون متعلق محمول أوليهما موضوع الأخرى فإنه يلزم عنه قول آخر لكن لا لذاته بل بواسطة مقدمة غريبة أجنبية كقولنا أ مساو لـ ب وب مساو لـ ج فإنهما يلزم عنهما أ مساو لـ ج لكن لا اذاتهما بل بواسطة مقدمة أجنبية هي قولنا كل مساو للمساوي للشيء مساو لذلك الشيء.
وعن مثل جزء الجوهر يوجب ارتفاعه ارتفاع الجوهر وكل ما ليس بجوهر لا يوجب ارتفاعه ارتفاع الجوهر فإنه يلزم منهما أن جزء الجوهر جوهر لكن بواسطة مقدمة غريبة غير أجنبية هي عكس نقيض المقدمة الثانية وهو قولنا كل ما يوجب ارتفاعه ارتفاع الجوهر فهو جوهر.
والحاصل أن قيد لذاته يخرج ما يستلزم قولاً بواسطة مقدمة غريبة وفسروا الغريبة بما يكون حدودها مغايرة لحدود مقدمات القياس حتى يدخل فيه القياس المبين بطريق العكس المستوي ويخرج عنه القياس المبين بطريق عكس النقيض.
وسبب ذلك أنهم اعتقدوا وجوب تكرر الحد الأوسط وهو حاصل في المبين بالعكس المستوي دون المبين بعكس النقيض ودون قياس المساواة وهذا الوجوب مما لا يقتضيه تعريف القياس كذا قرره السعد العلامة وههنا بحثان.
الأول أنه إن كان المتبادر من اللزوم عن الشيء اللزوم عن نفس ذلك الشيء يخرج به جمع ما ذكر فينبغي حينئذ أن يحمل قيد لذاته على تحقيق المقام لا على الاحتراز.
الثاني أن المبين بعكس النقيض من الطرق الموصلة كالمبين بعكس المستوي بلا تفاوت وقد قال بعض المحققين إن الشيخ الرئيس كثيراً ما استنتج بعكس النقيض في كتبه الحكمية واستحسنه وارتضى به انتهى وقد عرفت أن السبب الذي ذكروه لإخراجه مما لا يوجبه التعريف فلا وجه لإخراجه عنه فلا تغفل.
وقوله قول آخر إشارة إلى وجوب مغايرة النتيجة لكل من المقدمتين وذلك لأن النتيجة مطلوبة غير مفروضة التسليم بخلاف المقدمة لأنه لو لم تكن مغايرة لزام المصادرة.
وقيل لأنه لو لم تعتبر المغايرة لزم أن يكون كل مقدمتين قياساً كقولنا كل إنسان حيوان وكل حجر جماد فإنهما يستلزمان أحديهما وفيه نظر.
ولما فرغ عن بيان ماهية القياس شرع في تقسيمه فقال (وَهُوَ إِمَّا اقْتِرَانِيٌ) وهو ما لم يذكر فيه النتيجة ولا نقيضها بالفعل (كَقَوْلِنَا كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدِث فَكُلُّ جِسْمٍ مُحَدِث) فقولنا كل جسم محدث وهو النتيجة ليس بمذكور في القياس بالفعل وإن كان مذكوراً بالقوة سمى اقترانياً لاقتران الحدود فيه (وَإِمَّا اسْتِثْنَائِيٌ) وهو ما ذكر فيه النتيجة أو نقيضها بالفعل (كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ لَكِنِّ الشَّمْسُ طَالِعَة يَنْتج فالنَّهارُ مَوْجودٌ) فيكون عين النتيجة مذكورة بالفعل (أو) نقول (لَكِنِّ النَّهَارُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَالشَّمْسُ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ) فكان نقيض النتيجة مذكوراً سمي استثنائياً لاشتماله على أداة الاستثناء.
فإن قلت قد سبق آنفا أنه يجب مغايرة النتيجة لكل من مقدمات القياس وبينه وبين كونها مذكورة في القياس منافاة.
قلت معنى كونها مذكورة فيه كونها مذكورة بأجزائها المادية وهيئتها التأليفية لا كون حقيقتها مذكورة فلا منافاة وبهذا يندفع أيضاً ما يقال إن النتيجة قضية محتملة للصدق والكذب وما ذكر في القياس ليس كذلك فكيف يكون العين والنقيض مذكوراً فيه.
ثم أراد المص رح تفاصيل كل من القسمين وقدم الاقتراني وصدره بنيان أسامى مقدماته وحدودها فقال (وَالمُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ القِيَاسِ فَصَاعِداً يُسَمَّى حَدًّا أَوْسَطَ) سمي بالأوسط لأن الحمد المكرر يتوسط بين الأصغر والأكبر ليتلاقيا فيتحقق العلم بالإنتاج فإن القياس إنما ينضبط قوانينه ويعرف أحكامه إذا اشتمل على حد مكرر بين طرفي المطلوب (وَمَوْضُوعُ المَطْلُوبِ يُسَمَّى حًدًّا أَصْغَرَ) سمي بالأصغر لأن الموضوع أقل أفراداً غالباً (وَمَحْمُولُهُ) أي محمول المطلوب (يَسَمَّى حَدًّا أَكْبَرَ) سمي بالأكبر لكونه أكثر أفراداً غالباً تشبيهاً القليل الأفراد بقليل الأجزاء وكثيرها بكثيرها ثم تسمية كل منها بالحد لكونها طرفا للقضية والحد في اللغة كما يطلق على المنع على ما سبق كذلك يطلق على الطرف بحسب الاشتراك (وَالمُقَدِّمَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَصْغَرُ تُسَمَّى صُغْرَى) لاشتمالها على الأصغر (وَ) المقدمة (الَّتِي فِيهَا الْأَكْبَرُ تُسَمَّى كُبْرَى) لاشتمالها على الأكبر.
اعلم أن هذه الأسامي والاصطلاحات مخصوصة بالاقتراني لكن بيان المص مخصوص بالاقتراني الحملي فالأولى أن يقول بدل الموضوع والمحمول المحكوم عليه والمحكوم به ليعم الحملي والشرطي ويمكن تعميم بيان المص أيضاً بأن يراد من الموضوع والمحمول أعم من الحقيقي والاعتباري واقتران الصغرى بالكبرى يسمى قرينة وضرباً وقد فاته المص رحمه الله تعالى (وَهَيْئَةُ التَّألِيفِ مِنَ الصُّغْرى وَالكُبْرى تُسَمَّى شَكْلاً) تشبيهاً للأمور العقلية بالأمور الحسية (وَالْأَشْكالُ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الحَدَّ الْأَوْسَطَ إِنْ كَانَ مْحمُولاً فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعًا فِي الْكُبْرَى فَهُوَ الشَّكْلُ الْأَوَّلُ) كقولنا كل ج ب وكل ب د فكل ج د (وَإِنْ كَانَ) الحد الاوسط (بِالْعَكْسِ) بأن يكون موضوعاً في الصغرى ومحمولاً في الكبرى ( فَهُوَ) الشكل (الرَّابِعُ) نحو كل ب ج وكل أ ب فبعض ج أ (وَإِنْ كَانَ) الحد الأوسط (مَوْضُوعًا فِيهِمَا) أي في الصغرى والكبرى (فَهُوَ) الشكل (الثَّالِثُ) نحو كل ب ج وكل ب د فبعض ب د (أًوْ مَحْمُولاً فِيهِمَا فَهوَ) الشكل (الثَّانِي) نحو كل ج ب ولا شيء من أ ب فلا شيء من ج أ وقد شوش المص رح في ترتيب الأشكال في بيان الانحصار والذي حمله على ذلك قصد الإيجاز والاختصار ولا عيب فيه ولا قصور ولا غبار كما لا يخفى على ذوى الأذهان والأبصار (فَهَذه) المذكورات (أَشكالٌ أرْبَعَةٌ) مذكورة (فِي) مطولات كتب (المَنْطِقِ) مفصلة (وَالشَّكْلُ الرَّابِعُ منها بَعِيدٌ عَنِ الطَّبْعِ جِدًّا) فهي خفي الإنتاج غاية الخفاء حتى أسقط بعضهم عن درجة الاعتبار و غده من الموتى (والَّذِي لَهُ طَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ وَعَقْلٌ سَلِيمٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى رَدِّ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ) لأنه لقربه من الأول غاية القرب يستفاد منه النتيجة بسلامة العقل بلا رده إلى الأول بخلاف الثالث والرابع فالثاني يرد إلى الأول بكمال الإيضاح والثالث والرابع يردان إليه ليظهر الإنتاج ويحصل أصل الوضوح (وَإِنَّمَا يُنْتِجُ الثَّانِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ مُقَدِّمَتَيْهِ بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ) وعند كلية الكبرى وقد فاته المص رحمه الله تعالى وإنما تعرض لشرط إنتاجه لما عرفت آنفاً من عدم احتياجه إلى الرد الى الأول وقربه إليه غاية القرب.
واعلم أن لكل من الأشكال شروطاً وضروباً ولكل من الثلاثة الأخيرة طرقاً لإثبات استلزامه النتيجة وسبيلاً لاسترداده إلى الأول ولما لم يسع مثل هذا المختصر تفاصيلها والإجمال غير مفيد لم يكن لنا للتعرض لها مجال بكلا طرفي التفصيل والإجمال بل وجب علينا شرح ما في الرسالة من المقال وإغماض العين عن بيان سائر الأشكال (وَالشَّكْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي جُعِلَ مِعَيَار الْعُلُومِ) وميزانها لكونه على النظم الطبيعي بين الإنتاج ظاهر الاستلزام غير محتاج إلى شيء آخر في إثبات المطلوب بخلاف البواقي (فَنُورِدُهُ) أي إذا جعل معيار العلوم فنحن نورده (هَهُنا) أي في رسالتنا هذه بل في هذا المقام منها (لِيُجْعَلَ دُسْتُورًا) في القاموس الدستور بالضم النسخة المعولة للجماعات التي منها تحريرها معرجة والجمع دساتير انتهى فما قاله الشراح أي مرجعاً يكتفى به بيان الحاصل المعنى (يُسْتَنْتَجَ مِنْهُ المَطْلوبُ) اعلم أولاً أن تكرار الحمد الأوسط شرط للإنتاج اشترك فيه الأشكال الأربعة كلها إذ لو لم يتكرر لم يتعدَّ الحكم من الأصغر إلى الأكبر فلا يحصل الإنتاج.
ثم لكل واحد منها شرطان خاصان به في إنتاجه شرط الكيفية وشرط بحسب الكمية.
فشرط الشكل الأول بحسب الكيفية إيجاب الصغرى وبحسب الكمية كلية الكبرى.
أما الأول فإنها لو كانت سالبة لا يندرج الأصغر في الأوسط فلا يتجاوز الحكم بالأكبر عليه فلا يحصل الإنتاج نحو لا شيء من الإنسان بفرس وكل فرس صهال.
وأما الثاني فلأنها لو كانت جزئية لاحتمل أن يكون البعض المحكوم عليه بالأكبر غير البعض المحكوم به على الأصغر فلا يحصل الإنتاج أيضاً كقولنا كل إنسان حيوان وبعض الحيوان فرس ومن ههنا قالوا لا تنتج الطبيعية في كبرى هذا الشكل.
لكن قال بعض المحققين في بعض تعليقاته إنما نحتاج في إنتاج هذا الشكل إلى هذين الشرطين إذا كان الحكم في الصغرى على الأفراد وأما إذا كان الحكم فيها على الطبيعة فالشرط إيجاب الصغرى فقط بعد تكرر الأوسط فالطبيعية ح منتجة كقولنا الإنسان نوع والنوع كلي فالإنسان كلي انتهى ملخصاً فعلى هذا قولهم لا ينتج الطبيعية في كبرى الشكل الأول ليس على الإطلاق بل إنما هو في الأقيسة المؤلفة من القضايا المعتبرة في العلوم.
ثم اعلم أن المهملة في قوة الجزئية كما مر غير مرة فلا تقع كبرى وتقع صغرى إن كانت موجبة فالمخصوصة في حكم الكلية لإنتاجها حال كونها كبرى نحو هذا زيد وزيد إنسان فهذا إنسان والطبيعية ساقطة عن الاعتبار لعدم إنتاجها في الأقيسة المعتبرة أو لقلة استعمالها ولهذا حصروا الضروب المنتجة في الأربعة والمص لم يتعرض لبيان شرطي الإنتاج اكتفاء بدلالة الضروب والأمثلة عليهما فقال (وَضُرُوبُهُ المُنْتِجَةُ) أي الضروب المنتجة للشكل الأول (أَرْبَعَةٌ) والضروب الممكنة الانعقاد له بل لكل شكل سنة عشر حاصلة من ضرب المحصورات الأربع في الأربع لكن الشرطين المذكورين جعلا الضروب المنتجة أربعة وفي هذا الجعل طريقان أحدهما طريق الإسقاط.
والأخر طريق التحصيل.
أما الأول فهو أن إيجاب الصغرى أسقط ثمانية ضروب حاصلة من ضرب الصغريين السالبتين في الكبريات الأربع وكلية الكبرى أسقطت أربعة ضروب حاصلة من ضرب الكبريين الكليتين في الصغريين الموجبتين.
وأما الطريق الثاني فهو أن الصغرى الموجبة إما كلية أو جزئية والكبرى الكلية إما موجبة أو سالبة فحصل أربعة من ضرب الاثنين في الاثنين فالشرطان على كلا التقديرين أوجبا كون الضروب أربعة (الضَّرْبُ الْأَوَّلُ) موجبتان كليتان والنتيجة موجبة كلية (كَقَوْلِنا كُلُّ جِسْمِ مُؤَلَّفٌ وَكُلٌ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ فَكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ وَ) الضرب (الثَّانِي) موجبة كلية صغرى وسالبة كلية كبرى ينتج سالبة كلية كقولنا (كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ وَلاَ شَيْء مِنَ المُؤَلَّفِ بِقَدِيمٍ فَلاَ شَيْءَ مِنَ الْجِسْمِ بِقَديمٍ وَ) الضرب (الثَّالِثُ) موجبة جزئية صغرى وموجبة كلية كبرى ينتج موجبة جزئية كقولنا (بَعْضُ الْجِسْمِ مُؤَلَّفٌ وَكُلُّ مُؤّلِفٍ مُحْدثٌ يُنْتَج بَعْضُ الْجِسْمِ مُحْدِثٌ وَ) الضرب (الرَّابِعُ) موجبة جزئية صغرى وسالبة كليه كبرى ينتج سالبة جزئية كقولنا (بَعْضُ الْجِسْمِ مُؤَلَّفٌ وَلاَ شَيْءَ مِنَ المُؤَلَّفِ بِقَدِيمٍ فَبَعْضُ الْجِسْمِ لَيْسَ بِقَدِيمٍ) وجه ترتيب الضروب على هذا المنوال هو أن هذا الشكل لما أنتج المطالب الأربعة فما أنتج الموجبة الكلية التي هي أشرف المحصورات لاشتمالها على الشرفين الإيجاب والكلية جعل أولاً وما أنتج السالبة الكلية التي هي أشرف من السالبة الجزئية لكونها أشمل وأضبط وأنفع في العلوم جعل ثانياً وما أنتج الموجبة الجزئية لاشتمالها على الإيجاب جعل ثالثاً وما أنتج السالبة الجزئية التي هي أخس الجميع لما فاتها كلا الشرفين جعل رابعاً فروعي في ترتيب الضروب تقديم الأشرف فالأشرف من جهة النتائج والمقدمات.
ولما فرع عن بيان أسامي مقدمات القياس الاقتراني وحدودها وتقسيمه باعتبار الصورة المقدم إلى الأشكال الأربعة ثم بيان الشكل الأول بضروبه شرع في تقسيمه باعتبار ما منه تركيبه فقال (الْقِيَاسُ الاِقْتِرَانِيُّ) ينقسم إلى قسمين حملي وشرطي لأنه (إِمَّا أَنْ يَتَرَكَّبَ مِنْ حَمْلِيَّتَيْنِ) أولاً الأول الاقتراني الحمل (كَمَا مَرَّ) مثاله في ضروب الشكل الأول والثاني الاقتراني الشرطي (وَ) هو (إِمَّا) أن يتركب (مِنْ مُتَّصِلَتَيْنِ) ويندرج فيه ثلاثة أقسام لأن اشتراك المتصلتين أما في جزء تام منهما أي تمام وتمام التالي (كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا فالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ يُنْتِجُ إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ) وأما في جزء غير تام منهما كقولنا كلما كان أ ب فـ ج د وكلما كان د هـ فـ و ز وإما في جزء تام من أحديهما غير تام من الأخرى نحو كلما كان ج ز فـ أ ب وكلما كان أ ب فـ هـ ط وكلما كان هـ ط فـ و ز والمطلوب المطبوع هو القسم الأول ثم جواز التركب من اللزوميتين متفق عليه ولا شك فيه وأما من الاتفاقيتين مختلف فيه قال السعد العلامة في شرح الشمسية وأما إذا كانت إحديهما لزومية والأخرى اتفاقية ففيه تفصيل لا يليق بهذا الكتاب ونحو فنقول فكيف بهذه الاوراق (وَإِمَّا) أن يتركب (مِنْ مُنْفَصِلَتَيْنِ) وهو أيضاً أقسام ثلاثة لأن الاشتراك إما في جزء تام منهما أو غير تام منهما أو تام من إحديهما غير تام من الأخرى الأول (كَقَوْلِنَا كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ وَكُلُّ زَوْجٍ فَهُوَ إِمَّا زَوْجِ الزَّوْجِ أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ) والثاني نحو دائماً إما كل أ ب وإما كل أ ج ودائماً إما كل ج د وإما كل هـ ز وهذا هو المطبوع صرح به السعد العلامة والثالث نحو دائماً إما كلما كان أ ب فـ ج د وإما كلما كان أ ب فـ هـ ز ودائماً إما كل هـ ز وإما كل ج د (وَإِمَّا) أن يتركب (مِنْ حَمْلِيَّةٍ وَمُتَّصِلَةٍ) وله أقسام أربعة لأن الحملية إما أن تكون صغرى وإما أن تكون كبرى وعلى التقديرين فالمشارك إما مقدم المتصلة أو تاليها فالأول نحو كل أ ب وكلما كان كل ج ب فكل د هـ والثاني كقولنا كل أ ب وكلما كان كل د ج فكل هـ ب والثالث مثل كلما كان أ ب فـ ج د وكل ب هـ والرابع وهو ما يكون الحملية كبرى والشركة مع التالي (كَقَوْلِنَا كُلَّمَا كَانَ هَذَا الشَّيْء إِنْسَانًا فَهُوَ جِسْمٌ وَكُلُّ جِسْمٍ مُتَحَيِّزٌ يُنْتِجُ كُلَّمَا كَانَ هَذَا الشَّيْء إِنْسَانًا فَهُوَ مُتَحَيِّزٌ) وهذا هو المطبوع (وإِمَّا) أن يتركب (مِنْ حَمْلِيَّةٍ وَمُنْفَصِلَةٍ) والمطبوع منه على نوعين الأول أن تكون الحمليات بعدد أجزاء الانفصال و يكون كل واحدة منها مشاركة لواحد من أجزاء الانفصال وهو على ضربين أحدهما أن يكون التأليفات بين الحمليات وأجزاء الانفصال متحدة النتيجة كقولنا كل ج إما ب وإما د وإما هـ وكل ب ط وكل د ط وكل ج ط ينتج كل ج ط لأن جميع الحمليات صادقة ولا بد من صدق أحد أجزاء الانفصال وأي جزء يفرض صدقه فهو مع الحملية المشاركة له ينتج النتيجة المطلوبة أعني كل ج ط وهذا معنى اتحاد النتيجة وثانيهما أن تكون التأليفات بين الحمليات وأجزاء الانفصال مختلفة النتيجة و ج يكون النتيجة منفصلة مركبة من نتائج التأليفات كقولنا كل ج إما ب وإما د وإما هـ وكل ب ز وكل د ط وكل هـ ف يتج كل ج إما ز وإما ط وإما ف لما مر من أن الحمليات صادقة ولا بد من صدق أحد أجزاء المنفصلة وأي جزء تفرض صدقه ينتج هذه النتيجة والثاني أن تكون الحملية أقل أجزاء من المنفصلة (كَقَوْلِنَا كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ وَكُلُّ زَوْجٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ يُنْتِجُ كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا فَرْدٌ إِمَّا مُنْقَسِمٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ) ويقع هذا على وجوه أخر مذكورة في المطولات (وَإِمَّا) أن يتركب (مِنْ مُتَّصِلَة وَمُنْفَصِلَة) وهذا على أقسام ثلاثة لأن الاشتراك أيضاً إما في جزء تام من هما أو غير تام منهما أو تام من إحديهما غير تام من الأخرى وكل من الأولين على ضربين لأنه إما أن يكون المتصلة صغرى والمنفصلة كبرى أو بالعكس والمطبوع منه ما يكون المتصلة صغرى والمنفصلة كبرى (كَقَوْلِنَا كُلَّمَا كَانَ هَذَا الشَّيْء إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوانٍ إِمَّا أًبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ يُنْتِجُ كُلَّمَا كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ إِمَّا أَبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ) فالحاصل أن القياس الاقتراني إما حملي وهو ما يتركب من محض الحملية وهذا قسم بسيط لم يعتبر تحته أقسام وإما شرطي وهو ما لم يتركب من محض الحملية وهذا ينقسم إلى أقسام خمسة كما فصلها المص رحمه الله تعالى ويندرج تحت كل قسم منها أقسام كما نبهنا عليه فالاقتراني ستة أقسام أشير إليها على الإجمال وأما التفصيل فليس لها في المختصرات مجال قال القطب الرازي في شرح الشمسية في آخر مباحث الاقترانيات الشرطية هذا كلام إجمالي في الاقترانيات الشرطية وأما بيان تفاصيلها فلا يليق بالمختصرات قلت فما ظنك بهذه الرسالة.
ولما فرغ عن بيان الاقتراني شرع في بيان القياس الاستثنائي فقال (وَأَمَّا الْقِيَاسُ الاسْتِثْنَائِيُّ) قد عرفت أنه ما يكون النتيجة أو نقيضها مذكوراً فيه ثم أنه لا يجوز أن يكون ذلك النتيجة أو النقيض نفس إحدى مقدمتيه بل يجب أن يكون جزء منها والمشتملة عليه شرطية قطعاً فالقياس الاستثنائي دائماً يكون مركباً من مقدمتين أحديهما شرطية متصلة أو منفصلة والأخر أحد جزئي شرطية أو نقيضه وهي المقدمة الاستثنائية ويشترط لإنتاجه أمور ثلاثة الأول كون الشرطية موجبة والثاني كونها لزومية إن كانت متصلة وعنادية إن كانت منفصلة والثالث كونها كلية إذا تمهد هذا فنقول أما القياس الاستثنائي (فَالشَّرْطِيَّةُ الْمَوْضُوعَةُ فِيهِ إِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ يُنْتِجُ عَيْنَ التَّالِي كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَاناً فَهُوَ حَيَوَانٌ لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَهُوَ حَيَوَانٌ) لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم (وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ) لأن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ولو لم يكن كل من الاستلزامين لزم وجود الملزوم بدون اللازم فلا يكون اللازم لازماً ولا الملزوم ملزوما وهو بط (كَقَوْلِنَا كُلَّمَا كَانَ هَذَا الشَّيءُ إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَيَكُونُ حَيواناً أَوْ) نقول (لَكِنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ فَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا) ولا ينتج استثناء نقيض المقدم عين التالي لجواز أن يكون اللازم أعم كما في هذا المثال إذ لا يلزم حينئذ من انتفاء الملزوم انتفاء اللازم ولا من وجود اللازم وجود الملزوم ونزيده وضوحاً فنقول إذا قلت مثلاً كلما كان هذا إنساناً فهو حيوان لكنه ليس بإنسان لا يلزم منه كونه ليس حيواناً لجواز كونه فرساً مثلاً وكذا إذا قلت لكنه حيوان لا يلزم منه كونه إنساناً لما ذكر فوجود الملزوم بدون اللازم بط قطعاً ووجود اللازم بدون الملزوم متحقق فيما يكون اللازم فيه أعم وأما إنتاج الاستشناأت الأربعة فيما يكون اللازم فيه مساوياً للزوم فإنما هو من خصوص المادة (وَإِنْ كَانَتْ) الشرطية الموضوعة فيه (مُنْفَصِلَةً) فلا يخ من أن تكون حقيقية أو مانعة الجمع أو مانعة الخلو (فإِنْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْأَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ) لأن وجود أحد المتعاندين الحقيقيين يوجب انتفاء الآخر (كَقَوْلِنَا) دائماً إما أن يكون هذا العدد زوجاً أو فردا لكنه فرد فهو ليس بزوج أو نقول (لَكِنَّهُ زَوْجٌ) فيكون (لَيْس بِفَرْدٍ وَاستِثْنَاءُ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا يُنْتجُ عَيْنَ الْآخَرِ) لأن انتفاء أحد المتعاندين الحقيقيين يوجب وجود الآخر قطعاً (كَقَوْلِنَا) دائماً (إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذا العَدَدُ زَوْجًا أَوْ فَرْدًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ فَيَكونُ فَرْدًا أَوْ) نقول (لَكِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْدٍ فَيَكونُ زَوْجًا وَإِنْ كَانَتْ) الشرطية الموضوعة فيه (مَانِعَةُ الجَمْعِ فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْأَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ) لامتناع الجمع بينهما (وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا لَا يُنْتِجُ) لجواز الخلو وإن كانت مانعة الخلو فالأمر بالعكس كما لا يخفى والأمثلة ظاهرة فالأقسام المتصورة في القياس الاستثنائي ستة عشر لكن السنة منها عقيمة فصارت الأقسام المنتجة عشرة اثنان من المتصلة وأربعة من الحقيقية واثنان من مانعة المجمع واثنان مانعة الخلو والستة العقيمة اثنان منها من المتصلة وأربعة من مانعتي الجمع والخلو تتمات.
(اعْلَمْ أَنَّ لِلْقياسِ لَواحِق) منها قياس المركب وهو قياس مركب من مقدمات ينتج مقدمتان منها نتيجة وهي مع مقدمة أخرى ينتج نتيجة أخرى وهكذا إلى أن يحصل المطلوب وذلك إنما يكون إذا كان القياس المنتج المطلوب يحتاج مقدمتاه أو إحديهما إلى الكسب بقياس آخر وهلم جرا إلى أن ينتهي الكسب إلى المادي البديهية أو المسلمة فيكون هناك قياسات مرتبة محصلة للمطلوب فسمي ذلك قياساً مركباً وعد من اللواحق.
ثم إن صرح النتائج يسمى موصول النتائج كقولنا كل ج ب وكل ب د فكل ج د ثم كل د أ فكل ج أ ثم كل أ هـ فكل ج هـ وإلا يسمى مفصول النتائج كقولنا كل ج ب وكل ب د وكل د أ وكل أ هـ فكل ج هـ.
ومنها قياس الخلف وهو قياس يثبت المطلوب بإبطال نقيضه وإنما سمي خلفاً إما لأنه باطل في نفسه أو لأنه ينتج الباطل على تقدير عدم حقيقة المطلوب فمنه ما ذكروه في إثبات العكوس كما مر ونزيده بياناً.
فنقول ولنفرض أن معنا مقدمة صادقة في نفس الأمر وهي كل ب أ أو مقدمة ممتنعة فيه وهي كل ج أ وليكن المط ليس كل ج ب ثم لنصور القياس هكذا لو كذب ليس كل ج ب لصدق كل ج ب وكل ب أ ينتج لو كذب ليس كل ج ب لكان كل ج أ ثم نستثني من ذلك النتيجة نقيض تاليها فنقول لكن ليس كل ج أ لأن كل ج أ ممتنع فينتج ليس كل ج ب وهو المطلوب.
فعلى هذا يكون قياس الخلف مركباً من قياسين أحدهما اقتراني مركب من متصلة وحملية والآخر استثنائي مركب من نتيجة ذلك الاقتراني واستثناء نقيض تاليها.
ومنها الاستقراء وفسروه بأنه الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته فسمى هذا استقراء ناقصاً وهو المتعارف المتبادر عند الإطلاق أو لوجوده في جميع الجزئيات فيسمى هذا استقراء تاماً وقياساً مقسماً وهذا يفيد اليقين دون الأول وقال السعد العلامة في تفسيرهم تسامح ظاهر لأن الاستقراء حجة موصلة إلى التصديق الذي هو الحكم الكلي وإثبات الحكم الكلي هو المطلوب من الاستقراء لا نفسه.
ثم قال والصحيح في تفسيره ما ذكره الإمام حجة الإسلام موافقاً لكلام أبي نصر الفارابي وهو أنه عبارة عن تصفح أمور جزئية لحكم يحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات فتصفحنا جزئيات الأمر الشامل لنطلب الحكم في واحد واحده والاستقراء وإيجاب الحكم لذلك الأمر الكلي أو سلبه عنه هو نتيجته وإنما سمي استقراء لأن المستقرئ بتتبع الجزئيات والاستقراء في اللغة هو التتبع.
ومنها التمثيل وفسروه بأنه إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر لمعنى مشترك بينهما والمتكلمون يسمونه استدلالاً بالشاهد على الغائب والفقهاء قياساً.
قال السعد العلامة في هذا التفسير تسامح مثل ما مر في الاستقراء والأصوب أنه تشبيه جزئي في معنى مشترك بينهما ليثبت في المشبه الحكم الثابت في المشبه به المعلل بذلك المعنى كقولنا السماء حادث لأنه كالبيت في التأليف الذي هو علة الحدوث وإذا رد إلى صورة القياس صار هكذا السماء مؤلف وكل مؤلف محدث فالجزئي الأول أصغر والثاني شبيهه والحكم أكبر والمعنى المشترك أوسط فالمتكلمون يسمون الأصغر غائباً والشبيه شاهداً والفقهاء يسمون الأصغر فرعاً والشبيه أصلاً والأكبر حكماً والأوسط جامعاً ووجه التسمية ظاهر في الكل.
ثم إن لهم في بيان علّية المعنى المشترك طريقين الأول الدوران الخاص وهو ترتب الحكم على ما له صلوح العلية وجوداً وعدماً بمعنى أن الحكم ثبت عند ثبوت ذلك الشيء وانتفى عند انتفائه وبهذا الاعتبار يسمى الحكم دائراً وذلك الشيء مداراً فالدوران علامة كون المدار علة للدائر والثاني التقسيم الغير المردد بين النفي والاثبات وإبطال علَّية ما عدا الجامع كما يقال علة حدوث البيت إما الوجود وإما كونه قائماً بنفسه وإما التأليف والأولان باطلان ضرره انتقاضهما بالواجب فتعين التأليف.
ولا شك أن كلا الطريقين مما لا يفيد اليقين.
أما الأول فلأن الترتب وجوداً وعدماً في بعض الصور لا يفيد العلية وفي جميعها إنما يكون باستقراء تام وهو في غاية التعسر بل في حد التعذر.
والثاني فلأن هذا التقسيم غير حاصر فيجوز أن يكون العلة غير ما ذكر هذا كله في شرح الشمسية للسعد العلامة.
وفيه أيضاً اعلم أنه لا نزاع في أن الاستقراء والتمثيل لا يفيدان إلا الظن انتهى يريد من الاستقراء الاستقراء الغير التام كما هو المتبادر إذ التام يفيد اليقين كما سبق ومرادهم بعدم إفادة التمثيل إلا الظن إنما هو بالنسبة إلى غير المجتهد وأما بالنسبة إلى المجتهد فهو يفيد فاعرفه.
اعلم أن القوم قد وضعوا لكل من الصناعات الخمس باباً لعظمة شأنها وجلالة قدرها إلا أن العجب منهم أنهم قد قصروا المسافة في بيانها وطولوا احتياج مقالهم في تفاصيلها مع كثرة فوائدها وثمراتها ومع كونها مواد المطلب الأعلى في الفن وطولوا أذيال المباحث في القضايا وأقسامها وأحكامها مع قلة جدواها ومع عدم كونها مقصودة بالذات وقد أشار المص رحمه الله تعالى إلى كل من الصناعات إشارة إجمالية في غايه الإيجاز غير واصلة إلى حد التعمية والألغاز ونحن نقتفى أثرهم فنقول الباب الخامس فما يكون الغرض منه تحقيق الحق على وجه لا يحوم حوله شك ولا يتطرق إليه تغيير أصلاً وهو (الْبُرْهَانُ هُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ لِإِنْتَاجِ الْيَقِين) قوله قياس جنس شامل للصناعات الخمس وقوله مؤلف من مقدمات يحذو حذوه قول على كثيرين.
وقوله يقينية يخرج ما عداه وبهذا القدر تم التعريف جمعاً ومنعاً.
فقوله لإنتاج اليقين جيء به ليكون التعريف شاملاً على العلل الأربع فيكون أتم وأكل وألطف.
واليقين هو التصديق الجازم المطابق للمواقع.
فالمؤلف اشارة الى العلة الصورية اشارة ظاهرة كالمطابقة والى الفاعلية اشارة دون ذلك.
والفاعل هو القوة العاقلة فإنها وإن كانت قابلة للإدراكات لكنها فاعلة لتأليفها.
وقال بعضهم إن الفاعل هو النفس الناطقة والقوة العاقلة آلة في تأليفها هذا.
والمقدمات اشارة الى العلة المادية.
ولإنتاج اليقين إلى العلة الغائية.
فإن قلت البرهان قياس فأخذ القياس في تعريفه تكرار وأخذ المقدمات دور لأن المقدمة ما جعلت جزء قياس أو حجة فمعرفتها موقوفة على معرفة القياس فلو انعكس لدار بلا مرية.
قلت البرهان قياس مخصوص وما في التعريف عام فلا تكرار وأما المقدمة فإنما تتوقف على مطلق القياس لا القياس الخاص فلا دور.
ثم إن مقدمات البرهان لا يجب أن تكون من الضروريات الست الآتية بل قد تكون من الكسبيات المنتهية إليها فيجوز أن يؤلف من المقدمتين بديهيتين أو مكتسبتين أو مختلفتين.
فقوله من مقدمات يقينية أعم من أن تكون بديهية بالذات أو بالواسطة بأن تكون مكتسبة منتهية إليها (وَالْيَقِينِيَّاتُ) وتسمى القضايا الواجب قبولها أقسام (سِتَّةُ) فإن قلت اليقينيات قد تكون مكتسبة فكيف حصروها في الست الضرورية.
قلت مقصودهم تقسيم المواد الأول وهي منحصرة في الست والمكتسبات ليست بأول بل هي ثوان أو ما فوقها ووجه الضبط أن العقل إما أن يحتاج في الحكم اليقيني بعد تصور الطرفين إلى ما تنضم إليه أو لا الثاني الأوليات وإن كان الأول فإما أن يكون المحتاج إليه حساً أو وسطاً حاضراً في الذهن الثاني قضايا قياساتها معها وإن كان الأول فإما أن يحتاج اليقين بعد الإحساس إلى شيء غيره أو لا الثاني المشاهدات وإن كان الأول فإما أن يتوقف على حكم العقل بامتناع تواطئ الخبرين على الكذب أو يتوقف على الحدث أو على تكرار المشاهدات الأول المتواترات الثاني الحدسيات الثالث المجربات وأراد المص رحمه الله تعالى الإشارة إليها فقال (أَوَّلِيَّاتٌ) أي أولها أوليات أو منها أوليات أو بدل من أقسام وكذا الكلام في البواقي وهى قضايا يجزم العقل بحكمها بمجرد تصور طرفيها (كَقَوْلِنَا الوَاحِدُ نِصْفُ الاِثْنَيْنِ وَالْكُلُّ أَعْظَمُ مِنَ الجُزْءِ) والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان والجسم الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد إلى غير ذلك (وَ) الثاني (مُشَاهَدَاتٌ) وهي قضايا بحكم العقل بها بواسطة الحواس الظاهرة و تسمى حسيات (كَقَوْلِنَا الشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مُحْرِقَةٌ) أو بواسطة الحواس الباطنة وتسمى وجدانيات كقولنا إن لنا خوفاً وطمعاً.
اعلم أن الأحكام الحسية كلها جزئية لأن الحس المجرد لا يفيد مثلاً إلا أن هذه النار حارة وأما الحكم بأن كل نار حارة فعقلي استفادة العقل من الإحساس بجزئيات ذلك الحكم والوقوف على علله لكن لما كان للإحساس مدخل في ذلك سميت الأحكام الكلية المستفادة من إحساس الجزئيات مشاهدات (وَ) الثالث (مُجَرَّبَاتٌ) وهي قضايا يجزم العقل بها بواسطة تكرر الإحساس وتشتمل على قياس خفى (كَقَوْلِنَا شُرْب السَّقَمُونِيَا يُسَهِّلُ لِلصَّفْرَاءِ) فهذا الحكم بتكرر الإحساس مشتمل على أنه دائمي الوقوع أو أكثرية وكل ما كان شأنه هذا لابد من سبب فهذا لابد له من سبب ولا شك في أنه كلما علم وجود السبب علم وجود المسبب قطعاً وإن لم يعرف ماهية السبب (وَ) الرابع (حَدْسِيَّاتٌ) وهى قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحدس وفسروه بأنه سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب وفيه مسامحة ظاهرة والأصوب أنه عبارة عن الظفر عند الالتفات إلى المطالب بالحدود الوسطى دفعة وتمثل المطالب مع الحدود الوسطى في الذهن من غير حركة ولعل هذا مراد من قال إنه سنوح المبادئ والمطالب في الذهن دفعة انتهى بخلاف الفكر فإنه حركة في المعاني من المطالب في مبادئها فربما ينقطع وربما يتأدى وإذا أدى فإنما يتم بحركة أخرى من المبادئ إلى المطالب فهو حينئذ مفتقر إلى حركتين فقيه إمكان عدم التأدي ووجود الحركة أو الحركتين وفي الحدس امتناع عدم التأدي وعدم الحركة أصلاً إذا لا انتقال فيه دفعي لا تدريجي فإطلاق السرعة تجوز كما حققه السعد العلامة وهذا أيضاً يشتمل على تكرر الإحساس والقياس الخفي (َكَقَوْلِنَا نُورُ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّمْسِ) لما يرى من اختلاف تشكلات نوره بحسب اختلاف أوضاعه الشمس قرباً وبعداً.
والفرق بينها وبين المجربات أن السبب فيها معلوم السببية والماهية جميعاً وفي المجربات معلوم السببية ومجهول الماهية على ما قالوا (وَ) الخامس (مُتَوَاتِرَاتٌ) وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة إخبارات الأشخاص وكثرة الشهادات بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب كالحكم بوجود مكة وبغداد وتشتمل على قياس خفي أيضاً (كَقَوْلِنَا) رسولنا ونبينا وسيدنا مولانا وشفيعنا (مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام ادَّعى النُّبُوَّةَ وَأَظْهَرَ المُعْجِزَةَ) فإن هذا الحكم إذا سمع مرة بعد أخرى واقترن به أنه كلام سمع من أشخاص لا يتصور توافقهم على الكذب وكل ما يكون شأنه هذا مضمونه حق وصدق حصل الجزم واليقين بلا ريب.
ويشترط فيها الاستناد إلى الحس حتى لا يعتبر التواتر فيما اسند إلى المشاهدة ولا يشترط أن يكون للمخبرين حد معين في العدد كما ذهب بعضهم إلى اشتراط الخمسة وبعضهم إلى اثنى عشر وبعضهم إلى أربعين وبعضهم إلى سبعين فإن ذلك مما يختلف باختلاف الوقائع والمخبرين والمستمعين بل الضابط إنما هو حصول اليقين وزوال الاحتمال والشك فإنا قاطعون بحصول العلم بالمتواترات من غير معرفة بعدد مخصوص ثم العلم الحاصل من كل من التواتر والحدس والتجربة لا يكون حجة على الغير لجواز أن يحصل له ذلك (وَ) السادس (قَضَايَا قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا) وتسمى القضايا الفطرية القياس وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة قياس لا يغيب وسطه عن الذهن عند حصول طرفي القضية (كَقَوْلِنَا الْأَرْبَعَةُ زَوْجٌ) فإن الحكم بالزوجية للأربعة إنما هو (بِسَبَبِ وَسَطٍ) وهو ما يقارن قولنا لأنه حين يقال لأنه كذا (حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ) بحيث لا يغيب عنه عند تصور الأربعة والزوج (وَهُوَ) أي ذلك الوسط الذي به حكم بالزوجية للأربعة (الاِنْقِسَامُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ) وصورة القياس هكذا الأربعة زوج لأنه منقسم بمتساويين وكل منقسم بمتساو بين زوج فهو زوج.
الباب السادس فيما يكون الغرض منه حفظ الوضع أو هدمه وهو (الجَدَلُ وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ) او مسلمة وقد فاته المصنف والشارحين اللهم إلا أن يراد بالمشهورة أعم منها المسلمة تغليباً أو يكون ذلك من باب الاكتفاء كما في قوله تعالى ﴿تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ﴾ فتأمل.
ثم القضايا المشهورة هي التي تطابق فيها آراء الكل نحو العدل حسن والظلم قبيح أو آراء الأكثر كقولنا الله واحد أو آراء طائفة مخصوصة كقول غير المليين ذبح الحيوانات قبيح.
ولا يشترط فيها اليقين ومطابقة الواقع بل المعتبر هو الشهرة وتطابق الآراء سواء كانت يقينية أو لا وسواء كانت صادقة أو كاذبة.
وبعض القضايا يكون أولياً باعتبار ومشهوراً بآخر إلى حيث تشبه بالأوليات
ويفرق بأن الإنسان لو فرض نفسه خالية عن جميع الأمور المغايرة لتعقله يحكم بالأوليات دون المشهورات.
ثم إن الشهرة مما تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وبحسب اختلاف العادات والصناعات هذا.
والقضايا المسلمة هي التي يأخذها أحد الخصمين مسلمة من صاحبها يبني عليها الكلام أو تكون مسلمة بين أهل تلك الصناعة فالقياس المؤلف من المشهورات أو المسلمات سواء كانت مقدماته من إحديهما أو منهما يسمى جدلاً وهو أعم من البرهان بحسب المادة لا بحسب الصورة على ما هو الظاهر من التعريف.
لكن قال السعد العلامة أنه أعم من البرهان بحسب الصورة أيضاً لأن المعتبر فيه الإنتاج بعد التسليم سواء كان قياساً أو استقراء أو تمثيلاً والبرهان لا يكون إلا قياساً تأمل وإذا كان الغرض من الجدل حفظ الوضع أو هدمه فالجدلي قد يكون مجيباً حافظاً للمدعي وقد يكون سائلاً هادماً له وغاية سعى الأول أن لا يصير ملزماً اسم مفعول وغاية سعي الثاني أن يكون ملزماً اسم فاعل.
اعلم أنه لا نزاع لأحد في أن البرهان هو أشرف الأقيسة وإن المغالطة هي أخسها لكن وقع النزاع في أن الجدل أشرف من الخطابة أم أن الأمر بالعكس وشيخ القوم ذهب إلى الثاني فقدم الخطابة على الجدل وإمامهم بيّن وجهه بكلام مفصل في شرح الإشارات فلو قدم المص الخطابة على الجدل لكان أولى ويحتمل احتمالاً بعيداً بل أبعد أن يكون نسخة المص كذلك وإن تقديم الجدل من تحريفات الناسخين فافهم.
الباب السابع فيما يكون الغرض منه إقناع من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان أو ترغيب الناس فيما ينفعهم أو تنفيرهم عما يضرهم وهو (الخَطَابَةُ) وهي (قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ) مأخوذة عن شخص معتقد فيه بسبب من الأسباب وهو إما أمر سماوي كالمعجزات والكرامات كما في الأنبياء والأولياء أو اختصاص بمزيد عقل ودين كما في العلماء والصلحاء وقد تقبل من غيران تنسب إلى أحد كالأمثال السائرة (أَوْ) مؤلف من مقدمات (مَظْنُونَةٍ) وهى أعني المقدمات المظنونة قضايا يحكم العقل بها بسبب رجح جانب الحكم نحو كل من يطوف بالليل فهو سارق والمراد بالظن الحكم بالطرف الراجع من طرف الحكم مع تجويز الطرف الآخر وإن صرح المستعمل إياها بالجزم في الخطابيات ولم يتعرض لتجويز الطرف الآخر ويدخل فيه المجربات الأكثرية والمتواترات والحدسيات والمقدمات الغير اليقينية فالخطابة أعم من أن تكون قياساً أو استقراءً أو تمثيلاً وقد تكون على صورة قياس غير يقيني الإنتاج على ما قرره السعد العلامة.
الباب الثامن فيما يكون الغرض منه انفعال النفس بقبض أو بسط أو نحوهما ليصير ذلك مبدأ فعل أو ترك أو رضاء أو سخط أو نوع من اللذات وهو (الشِّعْرُ) فإن الأشعار تفيد منها ما لا يفيده غيرها (وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) سواء كانت مسلمة أو لا وسواء كانت صادقة أو لا (تَنْبسِطُ مِنْهَا النَّفْسُ) نحو الخمر ياقوتة سيالة (أَوْ تَنْقَبِضُ) نحو العسل مرة مهوعة والمقدمات المؤلف منها الشعر تسمى مخيلات وأسباب التخييل كثيرة لا تكاد تنضبط فبعضها يتعلق باللفظ وبعضها بالمعنى وبعضها بغيرهما ثم أن القدماء اقتصروا في الشعر على التخييل فقط ولم يعتبروا الوزن والمحدثون اعتبروهما والجمهور لم يعتبروا إلا الوزن وهو المشهور الآن والوزن هيئة نافعة لنظام ترتيب الحركات والسكنات وتناسبها في العدد والمقدار بحيث تجد النفس من إدراكها لذة مخصوصة وقال بعض المحققين مقدمات الشعر وإن لم تكن قضايا بالفعل بحسب نفس الأمر على ما هو المشهور من عدم تعلق التصديق بها إلا أنها قضايا بالفعل بحسب اللفظ والظاهر لإظهار التصديق فيها لتفيد قبضاً أو بسطاً وبهذا المقدار لم تخرج من تعريف القياس انتهى ثم اعلم أن مقدمات كل من البرهان والجدل والخطابة والشعر متداخلة في نفس الأمر كما أشير إليه والتعين والامتياز إنما هو بالحيثيات إذ هي معتبرة في التعاريف الاصطلاحية كما مر غير مرة.
تحقيق المقام على وجه يتضح المرام وخلاصة الكلام على ما قرره بعض الأعلام هو أن مقدمات البرهان تؤخذ من حيث أنها يقينية وإن اتفق كونها مشهورة ووجب كونها مسلمة ومقدمات الجدل تؤخذ من حيث أنها مشهورة وإن كانت في الواقع يقينية بل أولية ومقدمات الخطابة تؤخذ من حيث أنها مقبولة أو مظنونة وإن كانت في الواقع يقينية أو مشهورة أو مسلمة ومقدمات الشعر تؤخذ من حيث أنها مؤثرة في النفس سواء كانت يقينية أو مشهورة أو مقبولة أو مظنونة صادقة أو كاذبة فخذه مشاعرك واضممه إليك بقوة فإنه من نفائس عرائس ما أهداه ذو الحول والقوة فله الحمد والمنة وعلى حبيبه الصلوة والتحية.
الباب التاسع فيما يكون الغرض منه مجرد تغليط الخصم وتبكيته وهو (المُغَالَطَةُ) وأعظم فائدتها معرفتها ليحترز عنها والله در الشاعر في قوله
(وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مَقَدِّمَاتٍ كَاذِبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْحَقِّ) وليست به كما يقال لصورة الفرس المنقوشة هذا فرس وكل فرس صهال فهذا صهال ويسمى هذه سفسطة (أَوْ) مؤلف من مقدمات (وَهْمِيَّةٍ كَاذِبَةٍ) نحو أن وراء العالم فضاء لا يتناهى وهذه أيضاً تسمى سفسطة إن قوبل بها الحكيم ومشاغبة إن قوبل بها الجدلي فالمغالطة منحصرة فيهما وقد تكون الوهميات ملتبسة بالأوليات ولو لا دفع الشرائع والعقول لبقيت على التباسها ثم إن كلاً من الجدل والخطابة والشعر والمغالطة لما كان مؤلفاً من المقدمات الغير اليقينية قال المص رح (وَالْعُمْدَةُ هُوَ الْبُرْهَانُ لاَ غَيْرُ) لأن إثبات العقائد الحقة الموصلة إلى درجات الجنان ورضاء الرحمن والتحلي بها وإبطال العقائد الباطلة المؤدية إلى دركات النيران والتخلي عنها إنما يتأدى بالبرهان كما لا يخفى على أرباب النهي والعرفان قيل كل من البرهان والخطابة والجدل عمدة ومعتمد عليه في الدعوة إلى سبيل الحق يشير إليه قوله تعالى ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَـٰدِلۡهُم بِالَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ﴾ فالحكمة إشارة إلى البرهان والموعظة الحسنة إلى الخطابة وجادلهم بالتي هي أحسن إلى الجدل لكن بالنسبة إلى نفس المستدل العمدة هي البرهان فافهم جعلنا الله ثابتين على العقائد الحقة في الحال والمآل وعصمنا عن زوالها لا سيما في وقت النزع وحين الارتحال آمين اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا نحو رضائك بحرمة حبيبك محمد عمدة أنبيائك وزبدة أصفيائك.
قد كمل هذا الشرح اللطيف للرسالة الأثيرية الميزانية للفاضل الخطير الكامل التحرير المشهور بالكلنبوي عليه رحمة ربه القوي في ظل حضرة السلطان الأعظم الخاقان المعظم السلطان ابن السلطان السلطان (عبد العزيز خان) خلد الله خلافته الى آخر الدوران في المطبعة العامرة بنظارة صاحب العطوفة والكمال حضرة (السيد أحمد الكمال) الأفندي ناظر المعارف العمومية وبإدارة حضرة الأستاذ الأكرم (السيد أحمد الطاهر) الأفندي مدير المطبعة السلطانية في أوائل ربيع الآخر لسنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف.
- ↑ قال في القاموس الشيخ والشيخوخة من استبان فيه السن من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره وقد يطلق الشيخ على من لم يبلغ هذا السن للتبجيل وقيل الشيخ هو صاحب الوقار علمًا أو عملًا وكلا المعنيين محتمل
- ↑ قوله فيكون الظرف حالاً له كذا يفهم من تفسير البيضاوي وصرح به بعض المحققين لكن قال بعض الأفاضل أن المفهوم من الكشاف وغيره أن يكون متعلق الباء على كلا المعنيين واحداً وهو ابتدئ أو ما يقوم مقامه وإما تقديرهم الملابسة متبركاً باسم الله تعالى ابتدئ فلا اشعار فيه بأن الابتداء على وجه التبرك لأن الباء متعلق بالتبرك كما صرح به الشريف العلامة في حاشية الكشاف انتهى
- ↑ قوله متحدة بحسب التحقق فيه مسامحة والمراد تلازمها في الخارج بمعنى أن تحقق كل منهما يستلزم تحقق الآخر وكذا في قوله يساوي سائر التعريفات مساهلة فالمراد الاستلزام الخارجي لا الاتحاد الذاتي فاعرفه
- ↑ قوله لتوسطه بيننا ناضر إلى وجوب الصلوة على النبي عليه الصلوة والسلام
- ↑ قوله ولمعاونتهم ناظر إلى وجوب الصلوة على الأصحاب
- ↑ قوله لقوله تعالى ناظر إلى وجوب الصلوة على النبي عليه السلام وقوله لما بين ناظر إلى الأصحاب
- ↑ فسمى باسم المشبه به نسخه
- ↑ الشبيه نسخه
- ↑ هذا غلط صريح وبيان واه ناش من عدم الاطلاع وبلغة اليونان فإن لفظ إيساغوجي ليس بمركب بل هو مفرد أصله إيساغوكي فبإدل الكاف بالجيم كما هو قاعدة التعريب وهو بمعني المدخل والمبدأ ضد المقصد فأطلق الحكماء على كل من الكليات الخمس لكونها مبادئ المنطق أو على الكل باعتبار المجموع كما أطلقوا لفظ ار مناس على مبادئ التصديقات واخذ منه فلاسفة الإسلام فادرجوا في كتبهم كلفظ جغرافيا وموسيقى وأسطرلاب وآريثماطيقي كما نقل من إخوان الصفا
أحمد طاهر - ↑ قوله فالمشهوراه واختار السيد العلامة حيث لم يذكر في الحاشية إلا الوضعية والعقلية
- ↑ حتى يرد ما قيل أن مقولية ذلك النوع في جواب ما هو بحسب الشركة ومقوليته بحسب الخصوصية ليستا في زمان واحد فكيف اصبح قوله معاً
- ↑ فكيف يكون المعتبر فيه أن يكون موجوداً في الخارج نسخه
- ↑ وكذا عن العرض العام والفصول البعيدة
- ↑ ونحوه من العرض العام والفصول البعيدة
- ↑ قوله والحق آه حاصله منع الضرورة في قوله ضرورة أن النسبة آه إن كان دعوى البداهة أو جهة القضية