انتقل إلى المحتوى

كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع/خطبة الكتاب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع​ المؤلف ابن حجر الهيتمي


بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين (1)

الحمدُ لله الذي حظَر مواطن اللهو على عِباده، وخلص من ريبه وشُبَهِه المصطفَيْن لقُربِه ووداده؛ لما امتنَّ به عليهم فعرَّفهم دسائسَ النُّفوس المانعة من فهْم حكمه ومُراده، وكشَف لهم عن تسويلات الشيطان لا سيَّما على قومٍ زعَمُوا التصوُّف والعرفان، وغفلوا عن قول أعظم الصدِّيقين بعد الأنبياء والمرسَلين: ((أبِمَزاميرِ الشَّيْطانِ في بيتِ رسول الله؟)) (2)، صلَّى الله عليه وسلَّم وشَرَّفَ وَكَرَّمَ، لما غلب عليهم من الشهوات ومحبَّة البطالات، والسعي فِي جلب فسَقَة العامَّة إلى مجالسهم لينالوا من حُطامهم وخَسائسهم الجالبة لهم إلى القطيعة، لعدم عملهم (3) بما قاله أئمَّة الحقيقة والشريعة (4)، فحمدًا لك اللهمَّ أنْ وفَّقتنا لردِّ سَقطاتهم الشنيعة، وتقولاتهم الفظيعة.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً أنجو بها من مَكائِد الشيطان ومُوالاته، ومن حمل أحد من الخاصَّة أو العامَّة على سَماع مَزامِيره الموجب لسروره وظفره منهم بغاية مُراداته.


_________________________________________

(1) في (ز2): وهو حسبي وكفى. (2) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892) من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: دخَل أبو بكرٍ وعندى جاريتان من جَوارِى الأنصار تُغنِّيان بما تَقاوَلت الأنصار يوم بُعاث - قالت: وليسَتا بمغنِّيتَيْن - فقال أبو بكرٍ: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أبا بكرٍ، إنَّ لكل قومٍ عيدًا، وهذا عيدنا)). (3) في (ز2): لعدم علمهم. (4) ليس هناك حقيقةٌ تُبايِن الشريعة حتى يُقال: "الحقيقة والشريعة" إلا في اصطلاح الصوفيَّة، فيقولون: إنَّ الشريعة للعَوامِّ والحقيقة للخواصِّ، وهذا كلامٌ ما أنزل الله به من سلطان!


وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، الذي أرسَلَه الله قاصمًا لأعدائه بواضح براهينه [وبيِّناته] (1) صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم المبرَّئين من سَفساف أهل الحظوظ والشَّهوات، والموفَّقين لصَرْفِ جميع الأوقات فِي مهمَّات العِبادات، لا سيَّما نفع المسلمين بتمهيد قواعد الدِّين، والرد على المُبطِلين الذي ضلُّوا سواء السبيل، واتَّخَذوا مَزامِيرَ الشيطان شَفاءً للغليل، زاعِمين زيادةَ مَعارِفهم بذلك، وما درى الأشقياء أنَّ أقدامَهم زلَّت عن سنن المسالك، وأقلامهم سجلت عليهم بأعظم المهالك؛ لأنهم سنُّوا سننًا سيِّئة مصحوبة بالإلحاد والعِناد، فباؤوا بوِزرِها، ووِزر مَن يعمل بها إلى يوم يرَوْن جزاء ذلك على رُؤوس الأشهاد، أعاذَنا الله من أمثال هذه القواطع، وجعَلَنا ممَّن ذبَّ عن شريعته الغرَّاء الواضحة [ز1/ 1/أ] البيضاء بالبراهين القَواطِع، وأدام علينا رضاه فِي هذه الدار وإلى أنْ نلقاه، إنَّه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.

أمَّا بعدُ: فإنِّي أثناء شهر ربيع سنة ثمانٍ وخمسين وتسعمائة دُعِيت إلى نسيكة (2) لبعض الأصدقاء، فوقَع السُّؤال عن فُروعٍ تتعلَّق بالسماع، فأغلظتُ فِي الجواب عنها وفي الردِّ على مَن زلَّ فهمُه أو قلمه فيها، فقيل لي عن كتاب لبعض المصريين بلدًا، التونسيين محتدًا، المالكيين معتقدًا، المتصوِّفين ملتحدًا، أنَّه بالغ فِي حلِّ ذلك بتأليف كتابٍ سماه "فرح الأسماع برخص السماع" (3) فبالغت فِي الردِّ عليه فِي ذلك المجلس، فبعد مُدَّةٍ أرسل

_________________________________________

(1) في (ز1): وبنياته. (2) (النسيكة)؛ أي: الذبيحة. (3) كتاب "فرح الأسماع برخص السماع"؛ لمحمد المالكي، الشاذلي، الوفائي، الشهير بأبي المواهب، قال في مقدمة الكتاب: "الحمد لله الذي أباح وفسح مجال الغناء رغمًا لأنف أهل الجهل الأغبياء، وأراح به بواطن أهل السُّلوك من الصوفيَّة الأصفياء ... إلخ".


لي بعض رؤساء مكَّة الكتاب، وطلب منِّي كتابة عليه حتى يتبيَّن ما فيه، ويظهر زيغُه الذي اشتمل [عليه] قوادمه وخوافيه، وأكَّد على ذلك، فعزمت على إجابته لأفوزَ بأجر هذا الأمر ومَثُوبته؛ لعلمي بأنَّ أبناء الزمان الذين غلب عليهم الخسار والهوان عكَفُوا على كتابة ذلك الكتاب، واتَّخذوه لسماع تلك المحرَّمات أعظم الأسباب، وظنُّوا أنَّه الحق الواضح، وأنَّ مؤلِّفَه المرشد الناصح، جهلاً منهم بالحقائق، وإصغاء لكلِّ ناعق وناهق، فتجاهَرُوا بها بين الملا، فضلاً عن السرِّ والخلا، فِي بلد الله وحرَمِه، ومَظهر جُوده وكرَمِه، ولم يخشَوْا يوم المعاد، ولا عظَّموا حُرمة أفضل البلاد، وزادوا فِي ذلك حتى كسَّرت من آلاتهم بيدي عدَّةً عديدة، ولزمت ذلك معهم مدَّة مَدِيدة، ورفعت أقوامًا منهم إلى حُكَّام الشريعة تارةً، والسياسة أخرى، بحسب جُرأة الفاعلين الموجبة لحسرتهم فِي الدُّنْيَا والأخرى، وشدَّدت عليهم إلى أنْ عاقَبُوهم بما يُناسِب جُرأتهم، وأشهَرُوا تعزيرهم فِي الأسواق، لتعلم سرائرهم، فخمدوا بحمد الله - تعالى - عن ذلك، ولزموا التحفُّظ عن أنْ يحوموا حول تلك المسالك، فتَمادَى بي الاشتغال فِي هذه السنة بـ"شرح المنهاج" عن أكثر المهمَّات؛ لظنِّي أنه الأهمُّ وأنَّ كلَّ شافعي إليه محتاج، إلى ثالث يومٍ من شهر رجب شهر الله الأصب، فسمعت أنَّ جماعةً من عُلَماء البلدان النائية حضَرُوا مجلسًا جرَى فيه ذكرُ ذلك، فتبايَنتْ [ز1/ 1/ب] أقوالهم، واضطربت أحوالهم، وأصغى جمعٌ منهم إلى مَن لا يُعتَدُّ به فِي تحليلٍ ولا تحريم، بل ربما يُخشَى عليه الدخول فِي ورطة المشار إليهم بقوله - تعالى عزَّ قائلاً -: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (1) الآية، فشرعت فيه قاصدًا نُصحَ المسلمين ببيان الحلال والحرام من ذلك عند جميع العلماء أو أكثرهم، غير مُعوِّل على رأيٍ انحرَفَ به صاحبه عن جادَّة المهتَدِين، أو قول لم تصحَّ نسبته لأحدٍ من العلماء العاملين، أو استِدلالٍ جازَفَ فيه بعض المقلِّدين، إمَّا فِي حِكايته، أو استنباطه، أو فِي خلطه به ما عاد عليه بما شهد على قائله بكثرة غلطاته، وقباحة خلطه واختلاطه، محذرًا مَن أراد صِيانةَ نفسه عن مَواضِع التُّهم؛ لئلاَّ يظن به المسلمون أنَّه استحلَّ حرمات الله بتحليل ما حرَّم، وأنَّه تمادَى به التفريط والاستهتار إلى أنْ خُتِمَ له بالسوء لا سيما فِي الحرم الأعظم.

وتأمَّل قول سلف هذه الأمَّة الذين أنعَمَ الله عليهم بالحِفظ من الدخول فِي ورطةٍ ملمَّة أو مهلكةٍ مدلهمَّة: المعصية بَرِيدُ الكفر؛ أي: لا سيما مَن استصغر المعاصي وغفل عن أنَّ الله - سبحانه وتعالى - ربما جازَى العبد بما لم يخطر بباله أنَّه سببٌ لهلاكه الأبدي فِي حالِه ومآلِه، حفظنا الله وإيَّاك عن هذه الورطات المزيلة لنِعَمِ أكرم الأكرمين فِي الدينا والدِّين، وجعلنا ممَّن دلَّ الناس على الحق، وبيَّن لهم مَقامات الاحتياطات بالصدق، وحذَّرهم مقتَ الله وغضبه، ولم يبقَ لهم عذرٌ يستَمسِكون بسببه، وأبان لهم كلَّ مقام مُشكِل، وأوضح لهم كلِّ سبيل أُجمِل، مبتغيًا وجهَ ربه ذي الجلال والإكرام يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليمٍ من كلِّ ميلٍ إلى ما أورَث شُبهة أو مَلامة آمين.

ورتَّبتُه على مقدمة وبابين وخاتمة.

_________________________________________

(1) سورة النحل: 116.
















نص مائل