كتب وشخصيات (1946)/في التراجم والتاريخ
دراسـة الشخصيات
العقاد دارس الشخصيات الأول إلى اليوم ، وأفضل مواهبه تنصرف إلى هذا اللون من الإنتاج الذي يتسع لتجاربه النفسية والفنية على السواء. وفصل الدراسات الشخصية في أعماله الأدبية هو أبرزها بجانب فصل النقد الأدبي – وهو فرع من هذه الدراسات – وإذا جاز لي أن أمد ببصرى إلى المستقبل قلت : هو أخلدها كذلك.
ودوره في هذه الدراسات – وفى الدراسات النقدية – هو الدور الأصيل الباقي ، الذي أحسب أن الزمن لن ينقص من قيمته كثيراً. على حين أن الكثير من أعماله الأخرى قد لا يحتفظ بكل قيمته ، كما أن بعضها سينسى نهائيا ، فلا يذكر إلا في معرض التاريخ ، بوصفه أعمالا تمهيدية في مرحلة الانتقال.
هذا الفصل – فصل الدراسات الشخصية والنقدية على طريقة العقاد — فصل مبتكر في المكتبة العربية ، وقد ابتكر ناضحاً كاملا : طريقته وعلاجه جميعاً. ولكي نوضح هذا الكلام ، نوازن سريعا بين طريقة العقاد وطريقة هيكل في دراسة الشخصيات :
إن طريقة هيكل هي طريقة « استعراض السيرة » وطريقة العقاد هي طريقة «رسم الصورة ».
وطريقة هيكل غير مبتكرة – أما العلاج ففيه شيء من الابتكار — الطريقة هي طريقة كتب السيرة مهذبة. ترجع إلى ابن هشام ، وابن سعد ، وابن جرير - ۳۱۵ - الطبري ، وابن الأثير ، وغيرهم ، فترى أساس طريقة هيكل . وعمله هو « التهذيب » لهذه السيرة ، والموازنة بين النصوص ، ومراجعة الطبعات والمصادر ، ومناقشة الروايات ، والترجيح ، أو الرفض ، أو التفسير الجديد . وبعبارة مجملة « تهذيب السيرة وتحقيقها » وذلك نهج ليس فيه إلا القليل من الابتكار في العلاج لا في أساس الطريقة ا أما طريقة العقاد فهي جديدة على المكتبة العربية جدة كاملة : الطريقة والعلاج معا . هي ليست « سيرة » على طريقة السيرة العربية ، وليست « ترجمة » على طريقة التراجم في اللغات الأوربية ، إنما هي « صورة » تتألف من بضعة خطوط سريعة حاسمة برز من خلالها « إنسان » عدم وميزته في هذه الدراسات . أنه يعطيك « مفتاح الشخصية » التي يتناولها ، فتعرف على الفور « من هو » هذا الإنسان الذي يحدثك عنه ، وتتبين سماته وملامحه ، من بين الملايين أو من بين الألوف التي ينتمي إليهم ، ويندمج فيهم ، كما تستطيع أن تجزم بصحة الأخبار والحوادث والأعمال التي تنسب إليه أو صحتها ، ولو لم ترد في دراسة العقاد له ، لأنك أصبحت تعرفه ، وتدرك خصائصه ، والحظ مزاجه ؛ وتعلم ما يمكن أن يأتى أو يدع من الأمور . شأنك في هذا شأن الصاحب الذي أطال عشرة صاحبه ، فعرف أعمق خوالجه وأدق «لوازمه» ! وفي كل ما كتب العقاد « الشخصيات » تتضح هذه الميزة ، وإنها لتتضح في كتب الدراسة الكاملة أمثال : « ابن الرومي » و « سعد زغلول » ثم تبلغ أقصى درجات النضوج في كتب « العبقريات » الأخيرة وبهذه المجموعة في دراسات الشخصيات ، مضافاً إليها مجموعة عن دراسة المذاهب الفنية لشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي . يضع أساس مذهب للدراسات كاملا واضحاً ناضجاً ؛ ولكنه مع هذا ليس ميسراً إلا الموهوبين . عن ( فهذه الطريقة في دراسة الشخصيات والمذاهب تحتاج إلى نوع من العبقرية النافذة التي تضع يدها على المواضع الحساسة بلا تعثر ولا تلمس ، وكأنما تهتدى إليها بحاسة خفية . على أنه يبقى هنالك فرق آخر بين طريقة هيكل وطريقة العقاد ، هو الفرق بين طبيعة هيكل وطبيعة العقاد دراسات هيكل تنقصها وثبات الفكر ، وأريحية الشاعرية . فهي« استطراد تفسیری(۱) » أشبه شيء بالمذكرات القانونية ، و « الدفوع الفرعية » مع الشرح والتفسير والتحقيق ، لا تطلع فيها على أفق مجهول ولا عالم مكنون . وفي دراسات العقاد تلك الوثبات البارعة وتلك الأريحية الشاعرة . وللعقاد «الشاعر » هنا مجال ، بمقدار ما يفسح الشعر في عوالم النفس ، ويكشف من الآفاق والآماد . أما طريقة الدكتور طه . فطريقة « الاستعراض التصويري » الهـادي البطيء الجميل الذي ترتسم فيه الملامح والسمات على هيئة واتناد ، ولكنه لا يثب ولا يتعمق ولا يفاجئك بمجهول في النفس الإنسانية أو في الحياة(1)
- ٣١٦ -
- * *
و « شاعر الغزل » – على صغر حجمه – نموذج كامل لطريقة العقاد ؛ ففى خلال ثلاثين وأربعين ومئة صفحة فقط من قطع الجيب ، ينتفض « عمر بن أبي ربيعة » من بين ركام الأجيال ، حيا ، نابضا ، شاخصاً ، بسمته وزيه ، ومزاجه ، وفنه ، وينبعث في حياته على الورق صورة مكتملة لحياته على الأرض ، حتى ليخيل إليك أنك وشيك أن تلقاه وتصافحه ، وأن تجلس إليه وتبادله الحديث . ولعل صغر حجمه جهة ، وأنه يتحدث عن شخصیته شبه عادية من جهة أخرى تجعله نموذجا كاملا لطريقة العقاد وقيمتها في دراسة الشخصيات . لأن من (۱) انظار بتوسع كتاب : « المذاهب الفنية المعاصرة » - ۳۱۷ - هذه العمل الأدبى فيه يخلص من ضخامة الشخصية أو قداستها كما في كتب « العبقريات » ويتبدى وحده مجرداً من الهالات . ولهذا اخترناه . والعقاد في عملية البعث والإحياء لا يأتى بحادثة واحدة ليست معروفة في سيرة هذا الشاعر ، ولا بقصيدة أو بيت أو شطرة لم ترو له من قبل ، ولا بخبر من أخباره أو أخبار عصره لم يدون في الكتب المتفرقة . ولكنه يصنع الخامات القليلة المعروفة مادة أخرى جديدة ؛ ويهي منها هيكلا قائماً للعصر ، وللبيئة وللشاعر ؛ ثم ينفخ في هذا الهيكل من روحه ، فإذا هو خلقة سوية ، تحيا وتتنفس ، كما كانت من قبل تحيا وتتنفس بين أبناء الفناء ! وإنه ليهمني أن أبرز هذه الحقيقة ؛ فنحن في مستهل نهضة في البحث العلمي والفنى . ولكننى ألاحظ على النتاج « الجامعي » الحديث بلا استثناء ، أنه يتجه إلى السرد والجمع والموازنة ، ولا يتجه مرة إلى الخلق والتكوين والإحياء ، في تصوير العصور والبيئات والشخصيات . شأنه في ذلك شأنه في الدراسات الأدبية والفنية سواء . وتلك ظاهرة خطرة . فأنها تدل على أن عقلية التسجيل والتدوين والجمع والفهارس ، هي التي تسيطر على العقلية الجامعية في مصر . وهذا اللون من البحث ضروري ، ولكنه لايفى وحده ، ولا بد من اللون الآخر الذي يصور الحياة ، أو يهب الحياة ! وليس هذا اللون عدواً لذاك ، وإنهما ليجتمعان عند الاقتضاء . ولقد اجتمعا معا في كتابي العقاد عن «ابن الرومي حياته من شعره» و«سعد زغلول» أحسن اجتماع . حياتها لآثر إن طبيعة الشخصية التي يقدمها لى المؤلف ، ولون مزاجها ، وصورة الحوادث التي وقعت لهـا ، والمعلومات مرة من جمع عندی ألف التي تتصل بها . وحسى من الحوادث والمعلومات ، ما يكشف لي عن الطبيعة - ۳۱۸ - والمزاج ؛ وما أتعرف به إلى هذه الشخصية من بين مئات الشخصيات ؛ وما يكشف لي عن الظروف التي أحاطت بهذه الشخصية ، والمؤثرات التي أثرت فيها ، وطريقة استجابتها لهذه المؤثرات استجابة تحمل طابع الخصوصية ، وتدل على معدن هذه الشخصية ؛ وما عدا هذا التفصيلات فهو لغو لا غناء فيه ، من وزحمة تكظ الفراغ ، وتغطى على الخطوط الرئيسية في الصورة !
يتحدث العقاد عن عمر « عمر بن أبي ربيعة » فنحس أن الغزل كان وظيفة ملحة في هذا العصر تتطلب العضو الذي يقوم بأدائها ، وأنه لم يكن مفر من وجود شاعر غزل يلبي هذه الحاجة ، فكان هذا الشاعر ، هو عمر بن أبي ربيعة في هذا الأوان . - كيف أحسسنا بروح العصر هذا الإحساس الواضح الملح ؟ حكاية من هنا و نادرة من هناك ، مما هو معروف مذكور ، ومما يمر به القارى بين الكتب مرات فلا ينتبه إليه . ثم إذا صورة العصر بارزة واضحة على النحو الذي أراد ! وهنا يقتضيني الإنصاف – وقد ذكرت البحوث الجامعية والعقلية بما . ذكرت – أن أثبت للدكتور طه حسين بحثاً قيا عن طبيعة العصر الذي عاش . فيه عمر بن أبي ربيعة وعن نشأة الغزل وأسبابها في هذا العصر ، وعن تلوين هذا الغزل بالألوان التي اصطبغ بها إذ ذاك ، في كتاب « حديث الأربعاء » . وفى هذه الفصول التي عقدها الدكتور عن النزل وعن عمر بن أبي ربيعة خاصة . يلتقى مع الصورة التي رسمها العقاد حينا ويختلف حيناً ، ولكنه يرسم على طريقته صورة مكتملة للعصر وللغزل فيه ، هي إحدى الصور التي تتطلبها في الدراسات الأدبية الناضجة . ثم نعود إلى « شاعر الغزل » فنرى العقاد ينتهى من صورة العصر ومن - ۱۹ - وظيفة عمر فيه ، ومن حدود هذه الوظيفة . وهي التعبير عن طبقة خاصة في العصر لا عن العمر كله على السواء ، ليبحث عن طبيعة غزله ؛ فهو غزل البدوى المتحضر ، غزل الفطرة التي تخلقها الحياة في مكة ، وقد فارقتها الحكومة والسلطان ، ولم تفارقها الثروة والسراوة . ثم يدلف إلى الحديث طبيعة شعره ، فيفرق في وضوح ويسر قامسهما ، بين طبيعتين من طبائع شعراء الغزل : طبيعة المحب الذي يتوجه بحبه إلى تكاد المرأة الواحدة في الوقت الواحد ، و « يفرزها » بحبه من بين جميع وطبيعة اللاهي الذي يتغزل في الأنثيات ، وينصرف همه إلى المناوشة والمعابنة ويكون عمر من الفريق الثاني ، حين يكون عروة وكثير وجميل من الفريق الأول . وهو فصل من أمتع فصول الكتاب هذا المتاع لا يتضمنه ذلك الفصل لأنه يذكر أن طريقة عمر وإخوانه الغزليين غير طريقة عروة وإخوانه العذريين ، ولكن لأنه يوضح الفارق الإنساني الحاسم بين طبيعة هؤلاء وطبيعة هؤلاء : . « لأن علاقة رجل بامرأة واحدة يبقى على حبها زمنا طويلا أو يبقى على حبها مدى الحياة هي حادث لا يتكرر كل يوم ، ولا بد فيه من عامل الشخصية التي تفرز المرأة من سائر النساء ، ويصح أن يقال : إن هذه العلاقة « إصابة حب » كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان فتطول أو لا تطول ، وتصيبه وهو مستعد لها أو تصيبه على غير استعداد ؛ فإنما المهم في تمييزها أنها إصابة عارضة ، وحادث من عوارض الأحداث « أماحب الغزل بالنساء عامة فهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الأمزجة للطبائع ولو لم يتصل بنساء معروفات ، فهو مخلوق على هذا المزاج كما يخلق الإنسان بلون من الألوان أو صفة من الصفات .
- - ۳۲۰ -
« فالمدرستان مختلفتان أيما اختلاف في مقاييس الشعور ومقاييس الأخلاق ، ولا يجمع بينهما إلا تشابه الكلام في ظاهره دون التشابه في الباعث والاتجاه » . وأحب أن يعود القارىء هنا إلى ص ٣٩٢ من الجزء الأول من حديث الأربعاء للدكتور طه حسين ، فسيجد في هذا الموضوع كلاما آخر ، تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام ونعود إلى « شاعر الغزل » لتقع على نقطة جديدة كل الجدة لم يطرقها - فيما أعلم - طارق في اللغة العربية ، لا عن « عمر بن أبي ربيعة » ولا عن سواه . تلك هي النقطة التي يعرض فيها العقاد لبحث عوامل الاتصال بين «عمر» وبين الأنثيات اللواتي كان يناوشهن بالغزل والحديث . فيقول : ( ه وربما رشحه للسبق في هذه الصناعة جانب أنثوى في طبعه يظهر للقارىء من أبياته الكثيرة التي تهم على ولع بكلمات النساء ، واستمتاع بروايتها والإبداء والإعادة فيها ، مما لا يستمرئه الرجل الصارم الرجولة . وأدل من ولعه بكلمات النساء على الجانب الأنثوى في طبعه أنه كان يشبههن في تدليل نفسه وإظهار التمنع لطالباته « وامل جانب الأنوثة فيه لا يظهر من شيء كما يظهر من تدليل اسمه بين تلقيب وكناية وتسمية كما يعهد في أحاديث النساء ؛ فهو تارة أبو الخطاب ، وتارة المغيري ، وتارة عمر الذي لا يخفى كما لا يخفى القمر ، وأشباه هذه الأنثويات التي يقارب بها المرأة في المزاج ويسايرها في الحديث ...
« إنما تأتى خبرة ظرفاء المجالس من تقارب الإحساس بين المرأة وبين هذه الطائفة من اللاهين والمتغزلين ، فهم يحسون كما تحس أو على نحو قريب مما تحس وهم يشبهونها بعض الشبه فيصدقون في الحكاية عنها ، والتحدث بخوالج نفسها . - ۳۲۱ - وفرق بعيد بين هذا وبين الرجل الذي يعلم طبع المرأة وهو يخالفها في طبعها ، ويستجيش ضمائرها ، لأن هذه الضمائر تجاوبه مجاوبة الأنثى للذكر ، فيعرف من مجاوبتها كيف تضطرب نفسها وتتقلب هواجسها وخواطرها . هـذا يرى أثر الرجل في طبع المرأة فيعرفه ، وذاك يعرف ما في طبعها لأن الطبعين غير مختلفين في جملة الشعور » الخ . فهذا كلام جديد ، وكلام قيم ، وكلام يفتح العين والنفس على ملاحظة مفيدة للملامح والسمات في النفوس الإنسانية الكثيرة التي تصادفنا في الحياة ، والنفوس الإنسانية الكثيرة التي تلقاها في صفحات الكتب ، لنجد في هذه الملاحظة لذة وأنساً وحياة . وأحب مرة أخرى أن يرجع القارئ هنا إلى الجزء الأول من « حديث الأربعاء » ص 394 ليجد في هذا الموضوع كلاما آخر ، تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام ! وينتهى هذا الفصل بحديث عن الصدق الفني : ما معناه ، وماحدوده ؟ فيبين أوضح بيان أنه شيء آخر غير الصدق الخلق ، وغير الصدق التاريخي ؛ قد يلتقى بهما ، وقد ينحرف عنهما . وأنه في صميمه هو صدق الحكاية عن « المزاج الخاص » الذي لا يتوب عنه صاحبه ، ولا يملك الانحراف عنه ، ولو تاب عن دفعاته وملابساته الواقعية في عالم الحياة . وفى هذا الفصل يلتقى العقاد والدكتور طه في بعض المواضع ، وإن ساركل منهما على طريقته وطبيعته في النظر إلى الأشياء ، وفي الحديث عن هذه الأشياء . ثم ينشىء فصلا عن « صناعة عمر بن أبي ربيعة » فنعلم منه أن عمر كان إماما في « طريقته » ، ولكنه لم يكن إماما في « صناعته » . فهو يمثل الطريقة أكمل ( م – ۲۱ ) - ۳۲۲ - فحول الأحيان تمثيل ، وإن لم يساعفه . حسن الأداء وكمال الأداة . « فالأكثر من شعره يبدو عليه الجهد والإعياء في تقويم البيت والوصول به إلى القافية » وليس هو من الصناعة الذين « ربما كثر الردى في أشعارهم ، وأربى على الجيد في معظم ولكن الإتيان بالردى غير الإعياء الذي يكشف مدى الطاقة ، وينم على الفاقة » وبمثل هذه النصاعة يمضى إلى نهاية الكتاب ؛ فيفرق بين القصة والحوار القصصي الذي عرف به عمر؛ ويلقى أشعة أخرى على طبيعة المحب وطبيعة المتغزل ، وعلى الصدق الفني والصدق الخلقي والصدق التاريخي . ثم يتحدث عن ذوق « عمر » في جمال المرأة . فإذا هذا كله دراسة من أبرع الدراسات النفسية في إطار فني جميل ، وإذا هي خلاصات من تجارب العقاد الشخصية ، وحياته الفنية ثم يعقد فصلا لنوادر عمر وأخباره ، وفصلا لمختارات من شعره ؛ يشترك كلاهما في تلوين صورة الشاعر ، وتوضيح سماتها ، وإطلاق البخور المناسب في جوها ، حتى تكتمل لها جميع عناصر الحياة . أحب أن يقرأ الناس هذا الكتاب للعقاد ، وأن يقرأوا معه «حديث الأربعاء » للدكتور طه حسين بك ، فسيجدون فيهما طبيعتين وطريقتين : طبيعة التعمق وطبيعة الاستعراض . وطريقة التحليل وطريقة التصوير وسيرون كلا من هاتين الطبيعتين والطريقتين تلازم صاحبها في كل ما يكتب ، فهي أصيلة في طبعهما أصالتها في فنهما ، وفي نظرة كل منهما للحياة (1) (۱) انظر هذا البحث بالتفصيل في كتاب « المذاهب الفنية المعاصرة » – ۳۲۳ – محمــــد على الكبير لشفيق غربال هذا طراز فذ في كتابة « التراجم » ، له أصالته ، وله مميزاته ، وله منهجه الخاص . وقد اشتهر عندنا في السنوات الأخيرة لونان من ألوان الدراسة للشخصيات ، أو طريقتان . طريقة هيكل في استعراض و السيرة » استعراضا تفسيريا بالوقوف عند كل حادثة ، والفحص عنها، وتفسيرها ، ودراستها ، واستخلاص بعض النتائج منها . تم متابعة العرض للحوادث والوقائع على مدى « السيرة » الطويل . وطريقة العقاد في « الصورة » ببضع لمسات سريعة حاسمة ، ترسم « الشخصية » وتبرز خصائصها ، وتدع « مفتاحها » في يد القاري ، يستخدمه في تطبيق حوادث السيرة ووقائعها على هدى هذه الملامح والخصائص، التي رسمتها تلك اللمسات الحاسمة السريعة رسم وليست طريقة شفيق غربال واحدة منهما . إنما هي طراز وحده ، له خصائصه المستقلة الأصيلة . . . إنه يرسم الشخصية بخصائصها وهي تعمل في ظروفها ومحيطها . وهو لا يجانب الترتيب التاريخي في السيرة ، ولا يتخطاه ليجمع الحوادث ذات الدلالة الواحدة على سمة معينة – كما يصنع العقاد - ولكنه كذلك لا يتقيد بالاستعراض الكامل لحوادث السيرة على طريقة هيكل فهو يختار منها - على الترتيب التاريخي – ما يصور شخصية البطل وظروف محيطه ، وطريقة عمله في هذا المحيط ، وهذا الطراز هو أقرب تلك الطرائق الثلاث إلى اصطلاح : « الترجمة » . فما يكتبه هيكل « سيرة » وما يكتبه العقاد هو « صورة » وما كتبه شفيق غربال هو « ترجمة » وهذه الكلمات تدل على أقصى ما تدل عليه العنوانات الثلاثة - ٣٣٤ - - ۲ والعمل الذي قام به المؤلف في هذه « الترجمة » يتلخص في المعالم الآتية : ۱ – حدد دد الظروف التي واجهها محمد على ، ورسم المحيط الذي عمل فيه ، بطريقة هادئة رتيبة منسقة ، فعرف بالحالة الدولية واتجاهات السياسة العالمية في كل مرحلة من مراحل عمله ، وحدد علاقاته بهذه الاتجاهات . ورسم صورة ناطقة لحالة . مصر من جميع الوجوه وحالة الدولة العثمانية وحالة العالم الإسلامي في كل من هذه المراحل ، وبين آثارها في خطة محمد على وتصرفاته - صور طريقة محمد على في العمل والتفكير ، وطرائق معاصريه من السلاطين ، والعلماء والساسة والأمراء والعسكريين في تركيا ومصر . ورسم الصراع بين طرق التفكير والعمل المختلفة ، وآثار هذا الصراع في خطة محمد على ومشروعاته ۳ – وازن بين موقف محمد على وأهدافه ، والمواقف الماثلة له في تاريخ بعض الأبطال في بعض دول البحر الأبيض المتوسط 4 - رسم اتجاهات محمد على وأهدافه ، وزاد فأبرزها في صورة فلسفة عامة له منذ أيامه الأولى في الحكم ، تنبع منها وتعود إليها كل مشروعاته وخطواته ( ونحن نخالف المؤلف في هذا الفرض . ولكن هذا لا يمنعنا من التنويه بقيمة الطريقة من حيث المبدأ العام )
10 ه – حدد في النهاية مدى ما طمح إليه محمد على ومدى ما حققه من أهدافه - ۳۲۵۰- مع شرح الظروف والعوامل والأغلاط التي صاحبت ذلك كله . واستعرض الإصلاحاته الاقتصادية والعلمية والعمرانية ، وحدد آثارها في حياة مصر من جميع الوجوه 6 - صور - إلى حد ما – « شخصية » محمد على وأخلاقه . ولكنه هنا أخفى بعض نوازعه البشرية فقلل من وضوح الصورة « الإنسانية » . وفي خلال هذا العمل لمس الكثير من موضوعاته لمسات هادئة ولكنها معبرة ووصل فيها إلى نتائج قيمة يسترعى إليها الفكر والنفس ، ويصل إليها القارىء في هوادة ورفق . وعندما كان المؤلف يعرض لبعض المآخذ كنت تلمح اللباقة في العرض والإشارة ، كما تلمح الميل إلى التسامح والرفق في المؤاخذة والتعبير ، والتماس وجه العذر حين تتعذر البراءة ! ... وتلك كلها سمات المؤلف نفسه ، يدركها كل من خالطه رئيسا أو زميلا أو صديقا . ولكن هذه السمة الهادئة السمحة تبلغ في بعض الأحيان حد المبالغة في التبرئة أو التماس العذر في مواضع قد تحتاج إلى غير هذه الساحة الرفيقة ، وفاء بحق التاريخ الذي يجب أن يكون قاسيا صريحا في بعض الأحيان . وتصوير الحقائق النفس البشرية بما فيها من ضعف وأخطاء
- * *
ونضرب بعض الأمثلة للتوفيقات الجيدة في تلك الترجمة : يبدأ المؤلف بتحديد معنى كلة « إسلامي » فينتهى فيها إلى رأى مفيد في . مجال التأريخ من وجهة الاصطلاحات والتقسيمات العلمية . ولكنه مفيد أكثر من النواحي السياسية والدينية والوجدانية جميعاً . ذلك حيث يقول . « مما ذاع بيننا نقلا عن المصطلح الفريجي تقييد استعمال الكلمة : «إسلامي» فكما أن العلماء الأوربيين لا يستخدمون في دراساتهم التاريخية الوصف : - ۳۲۶ -- ا « نصراني » إلا على الأزمنة السابقة للعصور الحديثة والمعاصرة ، أو لا يطلقونه إلا على ما يتصل بالعقائد ، فإنا أيضاً أخذنا عنهم تحديد طور « إسلامي » داخل أطوار نمو الأمم الإسلامية . هذا الاستعمال الفرنجى له ما . يبرره عندهم ، هو نتيجة الفصل بين ما سموه السياسة ، وما سموه الدين . أما عندنا . فما وجه تبريره ؛ وما مقياس « الاسلامية » ؟ أهو وقوع الشيء في عصر سابق للقرن الثالث عشر أو الرابع عشر الهجري مثلا ؟ أو أن المؤثر الفلاني في حياة المسلمين كان مصدره أوربيا معاصراً ؟ إنا نعلم جميعاً أن الحضارة الإسلامية التاريخية كانت مزيجاً من عناصر متباينة ، شرقية وغربية ؛ فليس من سبب معقول لاستبعاد الوصف : « إسلامي » عن الحياة الفكرية للمسلمين في دور تأثرها بفلسفة ديكارت أو سبنسر ، بينها لا تجردها من هذا الوصف في دور تأثرها بفلسفة أفلاطون أو أرسططاليس ؛ مثل ذلك يقال عن الحكومة الإسلامية ، لا يمنعنا تأثرها بنظم الساسانيين أو الروم من أن تحتفظ لها بإسلاميتها ، بينما تنزع عنهـا ذلك عندما يكون التأثير – كما حالنا الآن . مصدره الثورة الفرنسية أو البرلمانية الانجليزية . والواقع أننا لا نستطيع بحال أن نعتبر الحضارة الإسلامية أمرا طواه الزمان ، كما طوى حضارة الفراعنة طيا تاما ، أو أن التطور الإسلامي قد وقف على العكس – نعتبره مستمرا متصل الأدوار . وبحق على هذا الأساس – أن تحاول الترجمة لمحمد على ، على الرغم من أنه عاش أنه ولى وجهه صوب الحضارة هو عند حد معين ، بل لتا من في القرن الثالث عشر الهجري ، وعلى الرغم الأوربية ، عاما « أعلام الإسلام » . >> ( هذا المنطق الهادىء الواضح السليم لا يفيدنا فقط في موضعه التاريخي . بل يفيدنا كذلك في تقرير أن الإسلام - والنظام الإسلامي كذلك - لا يفرق بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية ؛ ولا يجعل الدين بمعزل عن الحياة في جميع - ۳۲۷ ملابساتها على مدى التاريخ ؛ وإذا كان قد حدث في تطور الحضارة الأوربية أن جاء عصر وقعت الجفوة فيه بين الكنيسة ورجال الحكم من جهة ، وبينها وبين رجال العلم من جهة أخرى ، فاضطر هؤلاء وهؤلاء أن يتخلصوا من نفوذ الكنيسة بحصره وحصر الدين معه في دائرة « الأحوال الشخصية » وأن تصبح المثل العملية في حياتهم الواقعة شيئا ، والمثل الدينية في وجدانهم شيئا آخر ، ولا صلة بين هذه المثل وتلك ، على نحو ما نرى في ذلك الصراع المادي العنيف بين الفرد والفرد ، وبين الأمة والأمة . ذلك الصراع العارى من مثل الرحمة الدينية ، والسماحة الوجدانية ... فإن هذه الجفوة لم تقع بين الحياة الإسلامية والمثل الدينية وإبراز هذه الحقيقة كفيل بأن يؤثر في اتجاهاتنا العامة ، وأن بقفنا على الفوارق الأساسية بين حياتنا ومثلنا وحياة الأوربيين ومثلهم . فهم يعانون صراعا بين الواقع العملي والمثل الديني بسبب الجفوة في عصر من عصور التاريخ بين رجال الدين ورجال الحكم والعلم . ونحن في جوة من هذا الصراع بسبب تطورنا التاريخي ، وبسبب روح ديننا الإسلامي . وعلم هذه الحقيقة مفيد لنا في هذه الفترة بالذات ، ليردنا إلى أنفسنا وإلى تاريخنا وديننا بلا عزلة مع ذلك عن العالم . فهذه العزلة لم تكن واقعة ، إلا في فترات الضعف ، والانزواء ، والركود في تاريخنا الطويل
ويتحدث عن أثر تحول طرق التجارة الكبرى إلى طريق رأس الرجاء الصالح ، وأثر استيلاء العثمانيين على العالم العربى فيقول : « والأمران لها أسوأ الآثار في الأقطار العربية وأهليها . فالأول أدى إلى نقصان الموارد . وأسوأ من هذا : أدى إلى ضيق الأفق ( وهو شر من ضيق ذات اليد ) إلى اعتزال الغير ، إلى الركود . أما الثاني ، فإن أهل مصر وسائر العرب لم - ۳۳۸ – يجدوا في المسلك العثماني ما يعوضهم عما فاتهم : السلطان المستقل والمساهمة في الحياة الاقتصادية العامة . فلم يفتح لهم هذا الملك بابا لأى جديد نظير ما أضـافه الفتح العثماني من أعباء إلى أعبائهم السابقة ، وإن شقاء أهل الأقطار العربية بعد ذلك الفتح لا يرجع إلى أن سلاطين الدولة وأمراءها لم يرغبوا رغبة صادقة في إحقاق الحق وفعل الخير وتثبيت العدل ... إنما يرجع - سوء الحال إلى الركود وانعدام الحوافز ، وهما مما اقتضته طبيعة الحكم العثماني » . وبمثل هذه البيان الهادىء يصف علاقة الحاكمين بالمحكومين في أيام الماليك الأخيرة وأيام الحملة الفرنسية . كما يصف حالة مصر الإدارية ، والمالية ، والعلمية وعزلتها الفكرية ، يوم أن تسلمها محمد على . معتمدا على وثائق تاريخية بعضها من « الجبرتى » وهو من معارضى سياسة محمد على . فتبرز صورة مضحكة من الفوضى والتعقيد في الإجراءات المالية والإدارية خاصة . كما تبرز صورة للعقلية السائدة بين العلماء ورجال الحكم في هذه الفترة يبدو على ضوئها ما قام به محمد على من الإصلاحات – التي ليس أقلها شأنا إعادة مصر إلى مجرى الحياة العالمية بعد عزلتها وانحسارها – جليلا فيها ، كالذي يقيم البناء الشامخ من الركام في فترة تعد نسبيا من أقصر عهود التاريخ . -
و بعد فهناك نظريتان جديدتان في هذا الكتاب تستحقان العرض والمناقشة : الأولى : نظرية عامة عن « جبرية التاريخ » وليس الأستاذ شفيق غربال هو مبتدعها ، ولكنه أدخلها في حسابه وهو يفرض خطة كاملة للفرنسيين في مصر لوطالت فترة احتلالهم لها ، ولم تجد من المقاومات ما لاقته في الميدان الحربي والسياسي ولقد رسم في خلال أربع صفحات من كتابه من ص 17 إلى ص ۲۰ برنامجا كاملا للحكم الفرنسي في مصر لو امتدت به الأيام ، وذلك ليوازن بين هذا - ۳۲۹ - الاتجاه واتجاه محمد على الذي وقع فعلا فيما بعد . وهو يقول : « وقد سجل التاريخ تحقيق الكثير من هذا على يد محمد على وخلفائه ، مما يدل على أن الكثير من خطط الحكومات إنما هو مما يمليه الواقع الجغرافي ، ويكرره التاريخ في أدواره المتباينة » . ی ولقد احتاط الأستاذ المؤلف في تقريره لهذه القاعدة ، فقال: « إن الكثير من خطط الحكومات » ولم يقل كل خطط الحكومات . لأنه لا بد من إقامة وزن للحوافز الشخصية ، ولعمل الأفراد الممتازين . وإلا عدنا – من طريق آخر – إلى نظرية التفسير المادي للتاريخ على إطلاقها . وباثبات الأستاذ المؤلف لهذه النظرية وتحفظه في إيرادها ، يبلغ محجة القول ، ويقف عند حدود القصد والاعتدال . وإذا كان لنا ما نلاحظه هنا ، فهو حسن ظنه بالإدارة الفرنسية وبالمبادىء الفرنسية حين تطبق في المستعمرات . فمبادىه الثورة الفرنسية لم يبد لهـا ظل في الشمال الإفريقي طوال الحكم الفرنسي . فلا ضرورة لأن نفترض أنها أو بعضها كانت ستطبق في حكم مصر . ولا بد أن سياسة أقسى وأشنع من التي افترضها المؤلف الفاضل كانت ستصيب المصريين ! وبهذه المناسبة نذكر أن حسن الظن هذا يرافق الأستاذ المؤلف في تصويره لحقيقة ا البواعث في تصرفات الانجليز أيضا . فهو حسن ظن عام ، بأقوام ثبت لنا في الشرق العربي أنهم لا يستحقون منا إحسان الظن بنواياهم ، بل ثبت لنا أن ضميرهم السياسي متعفن في كثير من المواقف ففى ص ٢٧ من الكتاب حديث عن موقف السلطات الانجليزية من الأمراء الماليك بعد إخراج الفرنسيين من مصر : « وقد تدخلت تلك السلطات وأرغمت ممثلى السلطان على إطلاق سراح الأمراء . وكان تدخلها لأسباب : أحدها الاشمئزاز من عنصري الكيد والغدر اللذين قام عليهما القبض على الأمراء ، وثانيهما - - ه الاعتقاد الراسخ بأن القوات العثمانية سواء منها الآتية من الولايات الأسيوية ، أو الآتية من الولايات الأوربية لا تصلح لشيء ما ، بل إن عدمها خير من وجودها ما هي الاشراذم من النهابين الهمج . وأن الدفاع عن مصر إذا ما حاول بونابرت إعادة الكرة عليها يقتضى إعادة الأمراء – وقد أعجب القواد الانجليز مظهرهم وفروسيتهم – إلى ما كانوا عليه . وثالثها وعد سبق أن أعطاه القائد الانجليزي أثناء الأعمال الحربية ضد الجيش الفرنسي للأمراء بأن انضمامهم للحليفتين انجلترة والدولة لن يضيرهم في شيء ، بل على العكس يضمن لهم حقوقهم بعد الانتهاء الحرب . وقد توهم الإنجليز إذ ذاك أن نظام الأمراء وقواتهم الخاصة عنصر يبدو من من أصيل في الحكومة المصرية ، وما دروا أنه ليس من جو جوهرها في شيء » . وهكذا هذه الأسباب كلها براءة القصد وسلامة الطوية في موقف الإنجليز . وفي اعتقادي أن التجارب التالية كانت خليقة بأن تبرز عنصرا آخر غير هذه العناصر البريئة ، فالأمراء الماليك هم أعداء الدولة ، كما هم أعداء الفرنسيين ، فإذا ضمن الانجليز صداقتهم ، فذلك متكأ لهم في مصر عند اللزوم . وموقفهم محمد بك الألفى بعد حكم محمد على يشى بهذه النية . - وأحسب أن واجب المؤرخ المصرى أن يبرز مثل هذه العناصر في السياسة الانجليزية ، ما دام إبرازها ليس تعسفا أو اتهاما لا دليل عليه . فنحن أحوج ما نكون – كلما واتتنا الحقائق التاريخية – أن تكشف عن سوء النية في هؤلاء المستعمرين ، وسوء ء القصد ، وتعفن الضمير . في حاجة إلى هذا كله ناحيتين : الأولى تقرير الحقائق لنتفع بها في جهادنا الوطني . والثانية أن نسترد ثقتنا بأنفسنا ؛ فلا نحس بالصغر والقصر حين نقيس قامتنا إلى قامة هؤلاء الأوربيين . وبخاصة من الناحية الأخلاقية النفسية ، التي تبدو زرية هابطة في تصرفات السياسة الاستعمارية ! =
- * * - ۳۳۱ -
وترجع إلى النظرية الثانية الجديدة للأستاذ المؤلف في هذا الكتاب . إنه يفترض - مع الجزم والتوكيد في مواضع شتى من الكتاب – أن محمد على رسم لنفسه منذ الأيام الأولى سياسة ثابتة هي : « إحياء العالم العثماني » وأنه عاش في كل أطوار حياته عثمانياً مسلماً . وعن هذه الخطة النهائية المبلورة في ذهنه من أول يوم ، ، نشأت جميع خططه في داخل مصر وخارجها : في حروبه وفتوحاته ، وفي تدبيراته ومشروعاته . وهو ينكر بشدة وتهكم أن يكون للأغراض القريبة والأهداف المحلية أثر في توجيه سياسته . فلم يكن هدفه ولو في فترة معينة – هو مجرد إحياء مصر وتقويتها وضم ما جاورها من المقاطعات والإمارات إليها ، توكيداً للقوة والحياة فيها . بل إنه منذ اليوم الأول قصد أن تكون مصر مركزاً أو نقطة وثوب لتحقيق الحلم الكبير وهو : إحياء العالم العثماني ، وفي ذلك يقول : « مشروع إحياء العالم العثماني رسمه محمد على منذ الأيام الأولى ، وسار في تنفيذه بخطى ثابتة متئدة ، رسمه حاضر في ذهنه ، وإن خفى على معاصريه ومؤرخيه ، وسعيه إلى تحقيقه متواصل ، وإن بدا أحيانا في لغة الكلام أو لغة الفعل منحرفا عنه إلى هدف آخر . ولم يكن ذلك الانحراف الظاهري إلا أسلوب السياسي الحاذق يعدل المظهر ليكسب الجوهر ، أو القائد الماهر بولى وجهه وجهة أخرى في حركة التفاف توصله إلى غرضه الأصلى . والسر في خفاء المشروع على معاصری محمد على الأوربيين ومؤرخيه المحدثين يرجع إلى أن القاعدة التي اتخذها محمد على أساساً اعمله (وهى مصر) عظيمة في حد ذاتها ، يصح جداً أن تكون ملكا قائماً بنفسه ولنفسه » « فالرجل – كما كان – لم يكن جماع باشويات ، بل كان رجلا عبقريا نشأ في عالم ذي موقع فذ ، وسمت همته لأن يعيد لذلك العالم حيويته ومكانته - - - ا صلاحيته لتفسيراً كبر عدد من الظواهر. ولكننى أشفق من استخدام هذه الطريقة في الظواهر النفسية والأحداث التاريخية . لأن الظواهر الكونية أشياء جامدة يحكمها قانون واحد . أما الظواهر النفسية فقد يكون من التعسف أن نردها إلى مثل هذا القانون الشامل . فالفرض هنا ليس أسلم الطرق إلى الحقيقة ، ومن الخير أن نعامل النفس الإنسانية معاملة أكثر مرونة ، وألا نجزم بأن دافعاً واحداً الذي يسوقها إلى كل ما تترك وما تدع ، مهما تكن ضخامة هذا العامل فلا بد أن نحسب حساباً للأسباب القريبة ، والعوامل الموضعية ، والظروف الوقتية . كما نحسب حسابا للنزعات النفسية الصغيرة الدقيقة المتجددة غير الجامدة ولا الدائمة . تلك النزعات التي هي من خصائص « النفس البشرية » وأحسب أننا قد تكون أقرب إلى الصواب لو قلنا : إن مطاميع محمد على كانت - ترتقى كلا خطا خطوة . والطبيعي أن يطلب في أول عهده مجرد الاستقرار في ، فلا يعزل بعد فترة وجيزة كما كان حال الباشوات قبله ، وأن يعمل لهذا الاستقرار ، فيتخلص من مناوئيه ، وينظم الإدارة ، ويبدأ في مشروعات عمرانية ومالية وعلمية . حتى إذا دانت له مصر طمح إلى إحياء البحار العربية – كما يذكر الأستاذ المؤلف – فإذا تهيأت له حملة الحجاز بادر إليها ، ثم أعقبها بحملات السودان اعلاقتها بشواطئ البحر الأحمر لا بمنابع النيل ( كما يقرر المؤلف حقا ) ثم .... ثم .. وهكذا حتى ارتقى مطمحه أخيراً إلى هذه الفكرة الضخمة : فكرة إحياء العالم العثماني . أما أن يكون هذا المشروع الضخم وليد الأيام الأولى في خاطره فيبدو فرضاً بعيداً . أو هو على الأقل مخالف – كما يقرر المؤلف الكبير - لأقوال المعاصرين لمحمد على ولمؤرخيه الحديثين على السواء ، فهو في حاجة إلى إثبات ، والمستندات والوثائق تنقصه . وعلى هذا يبقى مجرد فرض لا يحتمل الجزم والتوكيد وبما أن هذه النظرية هي قوام الكتاب وقاعدته الأساسية ، فلقد كان من مصر هر - . الضرورى تدعيمها بالوثائق التاريخية ، لكي لا تبقى هكذا مجرد فرض لا يحتمل الجزم والتوكيد . وهذا لا ينفى أن محمد على « عاش ومات عثمانياً مسلماً » فالواقع أن ميوله النفسية كانت كذلك ، فاختار « رجال الصفوة » الذين يهيئهم للحكم والإدارة ا من الأتراك أو المتكلمين التركية ، ووزع الأراضي عليهم وعلى أمثالهم - كما قرر المؤلف – وظل على ولائه للدولة إلى اللحظة الأخيرة ، حتى بعد حروبه مع السلطان . ولكن هذا شيء وتبلور ذلك المشروع الضخم شيء آخر وامل الأسلم أن نفرض أن حوافز محمد على الأولى كانت في المبدأ حصوله على الضمانات ببقاء هذا الملك الذي رآه جديراً بالتعب فيه . ثم طمح وطمح . الظروف . فلما تحطمت مطامحه عاد إلى مطلبه الأول : الضمانات . وفي هذا يقول الأستاذ المؤلف بحق في ص 147 : حسن - ٣٣٤ - لا بد من الحركة » « كانت علؤه الحسرة سرة ويتقطع فؤاده أسى كلما تقدمت به السن ، وكلما خطر أمام عينيه شبيح الزوال ! زوال ماذا ؟ زوال دور الصناعة والأساطيل والمصانع والمعاهد والترع والجسور والقناطر . زوال كل ما أنشأه هو وشعبه بعرق الجبين بل بعرق الدم . أيستطيع أن يسمح بانتقال هذا التراث لباشا من باشوات السلطنة يبدده ويخربه كعادة الباشوات ؟ لا بد من الضمانات ضد الزوال .وهذا التعليل صحيح - -
وأخيراً فإننى ألمح في الكتاب ميلا إلى إعطاء محمد على أكثر مما له في بعض الأحيان ، وفي تبرئته أو الاعتذار له عن أخطائه في بعض الأحيان . ولعل منشأ هـذا أن شخصية محمد على قد استولت على إعجاب المؤلف بقوة ، فاستغرق فيها - ۳۳۵ - 1 ولم يقف بنجوة من سحرها ليبرز حسناتها وأخطاءها ، فترتسم صورتها « البشرية » كاملة وأضرب على ذلك بعض الأمثال . أول ما لفت نظري هو التبرئة الكاملة لمحمد على من أمراء الماليك . ووضع وزرها كله على عاتق الألبانيين : د فاستمر الألبانيون في مهبهم وتمردهم وتقاتلهم وفتنهم ، وأسوأ من ذلك أن زعماءهم هم الذين دبروا الغدر بالأمراء المصريين فلطخوا يديه وهو الرجل الذي يمقت المذابح ويستنكر الوحشية والقوة في كل مظاهرها – بدمائهم في مذبحة القلعة في سنة 1811 ، ولما كان محمد على أكبر من أن يحمل غيره مسئولية عمل تم بموافقته ، فقد التزم السكوت ولم يشر إلى أصل الغدر وحقيقته إن هذا القدر كان الشرط الأساسي لقبول الزعماء الألبانيين السفر لمحاربة الوهابيين في بلاد العرب ... الخ » . . حادثة القلعة ومقتل - فهل كان محمد على كارها إذن لهذه الحادثة في حينها ؟ نعم إنه كان فيما بعد يكره ذكراها كما قال هو : « أنا لا أحب تلك الفترة من حياتى » ولكن كراهيتها فيها بعد شيء ، واتفاقها مع برنامجه أو اضطراره إليها بسبب هذا البرنامج شيء آخر . والجواب على السؤال الآن هو الذي يحدد الموقف ويكشف الحقيقة : ا كان بقاء الماليك مما ييسر لمحمد على أن يسير في برنامجه ، ويثبت في مصر ملکه الذي أراده ؟ إن أقصى ما نستطيع افتراضه أن عرض رؤساء الألبانيين كان يتفق مع برنامج محمد على فوافق عليه – ربما مضطراً - ليصيب عصفورين بحجر أما إظهاره بمظهر المضطر لمجرد الاستجابة للألبانيين ، فأحسبه شدة رغبة في التبرئة لا دليل عليه إلا مجرد الافتراض وكذلك في تعليل الجفوة بين محمد على والعلماء . يعلل الأستاذ المؤلف هذه - - - ام الجفوة بأن العلماء كانوا أحد رجلين : رجل مخلص كالجبرتي؛ ولكنه منعزل لا يرى لنفسه أن من حقه التدخل في شئون السياسة العليا يقول : « إنى رجل علم ودين وللدنيا رجالها » ، وفريق آخر مس التنظيم أرزاقهم التي كانوا لها غاصبين . ومن هنا كانت نقمتهم على محمد على فلم يعبأ بهم شيئاً وشتت شملهم وفض إجماعهم . ولكن هذا لا يعلل جميع الحالات . ولا يشمل حالة كحالة السيد عمر مكرم نقيب الأشراف ، ذلك الزعيم الديني السياسي الكبير ، الذي نصب محمد على واليا في مايو سنة 1805 ، ولم يمض إلا القليل حتى تعرض لنقمة محمد على العنيفة ومثل هذه الحالات يجب أن يذكر في معرض التاريخ . ويعلق المؤلف على انتخاب محمد على واليا فيقول : « وهكذا بلغ محمد على باشوية مصر ، ولا جديد في هذه القصة ، فإن مقدماتها ووقائعها تكاد تكون سنوية في تاريخ . م منذ الفتح العثماني والجديد تماما هو أن الذي تولى الباشوية كان محمد على ولم يكن غيره . هذا وحده هو وجه الأهمية في الأمر كله » . ومن الإنصاف ألا يقال : « إن هذا « وحده » هو وجه الأهمية في الأمر كله » . فهناك جديد آخر له أهميته البالغة ، وهو حادث فذ في تاريخ الباشوية . ذلك الجديد هو أن الشعب هو الذي اختار محمد على بزعامة السيد عمر مكرم . هذا الشعب الذي كان من قبل راكدا منزويا لا علاقة له بشئون « السياسة العليا » كما ذكر المؤلف نفسه ، فيقظة هذا الشعب ، وتدخله في « السياسة العليا » وفرض إرادته على هذا النحو هو حادث جديد لا يجوز إغفاله . حادث ذو شأن يستحق التسجيل ويتحدث عن حرب ب الحجاز فيقول « وقد احترم محمد على – بل واستخدم – الجماعات الدينية التي أخذت تتكون -- وتنشط في وقت بعث الوهابية ، في نشر الإسلام وتهذيب حياة الشعب وترقيتها في الأقطار السودانية ، ولكن الوهابية وخططها في عصره كانت مما لا يحتمل . وما جرى من سبب مزارات الشيعة بالعراق والروضة النبوية بالمدينة ، والاعتداء على الآمنين في الجزيرة وفي العراق والشام وفي البحار العربية ، مما لا يمكن التجاوز عنه ، فلا مناص من الحرب » . وأحسب أن تعليل هذه الحرب بأسبابها السياسية كان أسلم . أما حين يعرض للبحث موقف الوهابيين في هذه الفترة وموقف من يحاربهم . فإنى أحسب الحق يكون في جانب الوهابيين ، لقد قاموا يكافحون نكسة وثنية كاملة في الإسلام . والذي يقرأ ما كتبه «ابن غنام» في كتابه «روضة الأفكار والأفهام» وما كتبه الشيخ « عثمان بن بشر » في كتابه « تاريخ نجد » عن هذه النكسة التي حطمت قواعد الإسلام في بلاد العرب ، لا بد أن يجد نفسه في صف الوهابية مهما قست وسائلها في ذلك الحين . وأيسر نتائج هزيمة الوهابيين إذ ذاك أنها أخرت نهضة دينية إصلاحية - ربما شملت العالم العربي – أكثر من قرن من الزمان . شأنها في ذلك شأن مقاومة الحركة المهدية في السودان في أيام الإنجليز . فيكفى إذن أن نعتذر لمثل هذه الحملات بالمقتضيات السياسية . وأن نسكت على الأقل عن المقتضيات الدينية لأنها لا تسعف في هذا المضمار . على أن للأستاذ المؤلف طريقته اللبقة في توجيه النقد كما جاء في ص 156 وهو يعرض لاتخاذ محمد على موقف الانتظار في الموقف الأخير . فلا يقبل ما عرضته عليه الدول ليكف عن حرب الدولة ، ولا يهجم الهجمة الأخيرة كما كان يرى ابنه البطل إبراهيم . فيقول : م كان الأولى بمحمد على إما أن يقبل عرض الدول الأول ( مصر وراثية وجنوبي الشام مدة حياته ) أو يتخذ خطة الهجوم - قبل تأهب الدول للعمل ( م – ۲۲ ) – ۳۳۸ – المشترك – على قاعدة السلطنة : القسطنطينية . لو فعل ذلك لأصبح في موقف لا تسهل زحزحته عنه . فهو بهذا يفتح باب المسألة الشرقية على مصراعيه . وهذا الفتح التام يصدع أي جبهة أوربية مهما بلغ من اتحادها . أما خطة المقاومة السلبية فكانت فيها بذور الهزيمة . والنقد سهل من بعيد . وأجمل منه أن نبعث على البعد بتحية إعجاب وعطف ، للشيخ الذي صمد للمحنة مرفوع الرأس ، يستعد للوقفة الأخيرة ((--- من والده . والواقع أن البطل إبراهيم باشا بدا في هذا الموقف أشد نفاذا وربما كان للسن حكمها في ذلك الحين . ولو سارت الأمور كما أرادها إبراهيم لتغير وجه التاريخ . على أنه بدا في مواقف كثيرة أن مقدرة محمد على الإدارية التنظيمية لا تدانيها مقدرته في المعترك السياسي الدولي . وإلا لأدرك من قريب، أن الدول ان تسمح له بالإجهاز على « الرجل المريض » ولكان أشد حذرا في الاعتماد على فرنسا في بعض المواقف ، ولأنخذ طريقا آخر في مصادماته مع الدولة . وفى موقعة المورة على السواء . ا وبعد فإني أتمثل بقول الأستاذ المؤلف عن ثورات المصريين على الفرنسيين : « والتاريخ الصحيح لا يجد في الفتن الشعبية بالقاهرة والأقاليم إلا باعثا إيجابيا واحدا : هو العودة لما ألفه الناس . إن مصر أكرم على بنيها من أن يلتمسوا سندا لحقوقها في ( الدفاتر القديمة ) » أتمثل بهذه الجملة الأخيرة في موقفنا من محمد على الكبير فأقول : إن محمد على لأكبر من أن نلتمس له الأعذار في أخطائه ، وأن نعطيه أكثر من حقه في بعض المواقف . وإن له لشهادة حاضرة في التاريخ هي ذلك الملك الذي أسسه . وهى كافية وحدها أن تسلكه - بكل حسناته وسيئاته في سلك المنشئين البناة . وإننا حين نصوره بكل حسناته وكل أخطائه ، لا نزيد على أن نكشف عن «العنصر الإنساني » فيه ، بأجلى وأفضل مما نصوره مبرءاً من كل النوازع البشرية ومن السقطات والأخطاء والأهواء من شــــــعراء المجون - بـــــار : "للمازني 1 . - ۳۳۹ - -- ـ أبو نواس 3 – أبو نواس : لعبد الحليم عباس
- لعبد الرحمن صدقى
في شهر واحد ظهر كتابان عن أبي نواس . أحدهما للأستاذ عبد الرحمن صدقى في « سلسلة أعلام الإسلام ، والآخر للأستاذ عبد الحليم عباس « من شرق الأردن » في « سلسلة اقرأ » وظهر من قبلهما كتاب عن « بشار » ، للأستاذ المازني . ولحسن الحظ كانت الدراستان المتحدثان عن أبي نواس مختلفتى الطريقة والاتجاه ، فلم تجيء إحداهما تكراراً للأخرى ، وكانت طريقة الدراسة في بشار كذلك متحدة مع طريقة إحدى هاتين الدراستين ، مختلفة مع الأخرى في النوع فكان في ذلك الاختلاف وهذا الاتحاد مجال للنقد والموازنة . لذلك جمعتها في فصل واحد . وكلا الشاعرين من شعراء المجون .
دراسة الأستاذ صدقى لأبي نواس يمكن أن تسمى « ترجمة حياة » في حين تسمى دراسة الأستاذ المازني لبشار ، ودراسة الأستاذ عبد الحليم عباس لأبي نواس « صورة نفس » فتدل هذه التسمية على أقصى ما تدل عليه الأسماء من الفوارق والحدود . - ٣٤٠ - فصدق يتتبع أبا نواس من نشأته إلى منتهاه ، ونسير نحن على خطاه مع الشاعر مرحلة بعد مرحلة ، ونشهد الأحداث تمر به ، والمؤثرات تتوالى على حسه ، والاستجابات تنفعل بها نفسه ، وننتهى إلى حيث ينتهى ، فإذا هو حى يعيش ، وإذا نحن قد عشنا معه معظيم أيام حياته ، أو أهم أيام حياته ، وألفناه في بطء وتؤدة ألفة المعاصر والزميل ، على المدى الطويل والمازني وعبد الحليم لا يلتقى كلاها مع شاعره إلا في فترات ولمحات ، ومع هذا يحاولان أن يرسما لنا من الشاعر صورة كاملة واضحة ، بلمسات سريعة تغنى عن العشرة الطويلة والألفة المديدة ، ولا تغفل من سماته النفسية ، وملامحه الشخصية إلا الذي لا طائل وراءه من التفصيلات والجزئيات ا وإن بدت في ظاهرها وأنا أزعم أن هذه الطريقة الثانية أصعب وأعسر أسهل وأيسر – وأزعم أنها في حاجة إلى مهارة أكبر ، وبراعة أكثر ، للتجويد فيها وبلوغ غاية مداها ، وأن الزلل فيها أقرب وأوضح من الزال في الطريقة الأولى وأن ستر مواضع النقص فيها أصعب وأعسر ، والتوسط في الأخذ بها لا يؤدى إلى شيء ذي قيمة ، فإما عبقرية تستخدم الريشة في سرعة ومهارة ، وإما ظهر التخلف و « باظت » الصورة ، وأفلت من يد المؤلف الزمام . فالغلطة في الطريقة الأولى تظل غلطة جزئية لا تؤثر في المجموع ، لأنها غلطة في تفسير حادثة أما الغلطة في الطريقة الثانية فتفسد الصورة كلها ، لأنها غلطة في سمة نفسية ، - - t ( وفي خاصة شخصية ! ولا يعني هذا تفضيل طريقة على طريقة ، ذلك التفضيل المطلق الحاسم ؛ فقيمة كل طريقة موكولة إلى أسلوب استخدامها ، وقيمة كل ريشة رهن اليد التي تمسك بها ، فالعبقرية تأخذ بهذه الريشة أو بتلك ، وتستخدم هذا الطريق أو ذاك فتظهر سماتها في كل حالة ، ويبرز طابعها في كل مرة 6 - ٣٤١ - إلا أن الذي لا أشك فيه أن الطريقة الأولى آمن وأيسر ، والطريقة الثانية أخون وأعسر ، والزلة هناك قد تستر ، ولكنها هنا لا تستر !
حدثنا الأستاذ المازني « نشأة بشار » في نحو خمسين صفحة ، عرفنا عن فيها أن بشاراً فارسي الأصل عربى الولاء ، وقد كان يستثقل فجر العرب بأصلهم فيحض على خلع الولاء لهم والانتساب إلى « ذي الجلال » ، ويفخر بالفرس عامة عليهم ، وأنه عاصر الدولة الأموية في أخريات أيامها ، والدولة العباسية في أولياتها وهجا هذه وتلك أشنع الهجاء ، كما هجا الناس جميعاً ! وأن هذا الهجاء لم يكن عن عداوة كامنة ولا إحنة على العالم ، ولكنه كان سلاحاً لدفع الأذى وجلب الغنى فهـو طالب لذة ومال . وقد كان مع إقذاع هجائه يخشى الهجاء من غيره ، كما يخشى كل ذي سطوة . ولقد اتهم بالزندقة بسبب طول لسانه لا يسبب فعله ، فالكثيرون كانوا يصنعون ما صنع فلم يلاقوا المصير الذي لاقى ، لأن هجاءه المقذع ، وبخاصة للخليفة المهدي ووزيره يعقوب بن داود ، وغزله الفاحش المؤذى ها عرضاه للسخط والجلد الذي أودى به في النهاية . ولما كان بشار أعمى فقد تركت هذه الآفة في نفسه مرارة وضيقاً ، وقد كان شديد الحساسية الجهة ، فجعل يحاول تقوية ضعفه هذه الناحية بالتخويف والهجاء ؛ وكان في طبعه عرامة وفى جسمه ضلاعة . ومن الالتفاتات الجيدة هنا أن بشاراً يطلب من مصور أن يرسم له على الجام طيراً جارحاً يروع طيوراً صغيرة ، وقد أبرزها المؤلف إبرازاً له قيمته في الدلالة على طبيعة الشاعر المؤذية ! هذه ا ثم حدثنا عن بشار والمرأة في نحو الأربعين صفحة . فقال : إن فقد حاسة البصر حرم بشاراً الشعور بالجمال الروحي ، وأحال المرأة عنده « أنثى تجيب مطالب الحس الغليظ ، ولا ترتفع إلى مرتبة المرأة التي تغذي الإحساس الرفيع » ! - ٣٤٢ - ه وتحدث في الفصل الثالث عن شعره ، ولا بد لنا هنا أن ننوه بهذا . فقد لاحظنا أن دراسات كثيرة لشعراء شرقيين وغربيين قد ظهرت ، فلم يخصص منها فصل واحد لبيان قيمتهم الفنية وطبيعتهم الشعرية ، وهذا الفصل ضروری في دراسة كل شاعر ، وهو الفارق بين دراسة الشعراء ودراسة رجال الحرب والسياسة والمال والإصلاح . فكل دراسة لحياة شاعر إنما هي تمهيد لدراسة شعره ، فيجب أن تتوج بهذه الدراسة مهما ضاق المجال ، وأيا كانت طبيعة هذه الدراسة . وترك هذا الفصل هو ما أخذناه على دراسة بودلير لصدقي ، والذي نأخذه اليوم على أبي نواس في الدراستين وفي هذا الفصل يقول الأستاذ المازني : « وإذا كان لم يجيء في الهجاء بشيء من البراعات ، فلا عجب . فما كان الهجاء عنده إلا زجراً وتخويفا وإنذاراً يصد به من يهمون أو يتحفزون للوثوب عليه ، وينهر به من يخوضون فيه » . وهذا صحيح . ولكنه ليس كل السبب في عدم براعة بشار ... فالذي يصدق على بشار من ناحية اتخاذه الهجاء للزجر والتخويف يصدق على ابن الرومي مثلا ، ولكن ابن الرومي كان فنانا ، وكانت له ملكة مبدعة في التصوير والتشخيص 4 فاستحال هجاؤه ، على ما به من إقذاع ، عملا فنيا موسوماً بالعبقرية . أما بشار فلم تكن له هذه الموهبة ، لأنه ، كما يقول الأستاذ المازني « ذو طبيعة حيوانية ، ولهذا لم يرتق في شعره قط إلى عليـا مراتب الفن » وذلك هو التعليل الأصح فيها نعتقد ی والفصل الأخير كان « خاتمة » وقد رسم فيه صورة سريعة لعصر بشار ، وما يضطرب فيه من فتن شتى سياسية ودينية وفكرية ، كما رسم صورة سريعة لظروف بشار الشخصية وتفاعلها مع هذه البيئة . وفي اعتقادنا أن هذا الفصل القصير هو أبرع فصول الكتاب ، وأوفاها في هذه التفاعلات تصویر وأخيراً ، لقد أدار الأستاذ المازني الحديث في حياة بشار على فقد بصره ، وعلى ظروف عصره ، واتكأ على النقطة الأولى اتكاء شديداً من أول الكتاب . ــــــــ - ٣٤ - إلى آخره ، وكان موفقاً في هذا الانكاء ، ولو أن هناك شيئا من التكرار والاستطراد كان يمكن الاستغناء عنه بلا نقص في الموضوع . على حين كان هناك متسع للحديث عن طبيعة بشار وشعره من جوانب أخرى . فنحن نحسب أن الحديث عن ضخامة جسم بشار وغلظه وعلاقة ذلك بغلظة حسه بالمرأة لم يستوف . وكذلك الحديث الفتنة بشعره الغزلى ما سببها ؟ وأي الخصائص في هذا الشهر كانت تثير الفتنة ؟ فهذا جانب لم يمس إلا مسا ، وموقف بشار من الفتن السياسية والدينية في العهود المختلفة ، كلها جوانب خصبة ، فيها متسع ، وكانت تزيد في قيمة الكتاب . فليت الأستاذ قد وفى فيها الحديث ! ونعود إلى أبي نواس بين صاحبيه ، وقد بينا طريقة كل منها في دراسته ولكن يجب أن نزيد هنا أن بحث الأستاذ صدقى يبدو فيه التقصى والتفصيل وبحث الأستاذ عبد الحليم تبدو فيه الحركة وسرعة اللمسات . ومكان الأستاذ صدقي في البحث الأدبي قد تقرر بكتابيه عنن بودلير وأبي نواس ، وهو في مقدمة صفوف « الباحثين » من حيث الدقة والتمسكن ، وسلامة التنسيق على طريقته : طريقة البحث المتسلسل الرتيب . أما الأستاذ « عبد الحليم عباس » فلست أعرف له إلا كتابه هذا . فإن يكن باكورة ، فأنا أتنبأ له بمستقبل مشرق ، فالريشة في يده ريشة مصور سريع الحركة ، ولمساته لمسات فنان جيد التنسيق . وهو اليوم في منتصف الطريق إلى القمة التي بلغها أصحاب طريقته القليلين ، ولا ينقصه إلا مزيد من التمكن والدربة وحشد القوة إن كان في الجعبة شيء وراء ما أظهره ، تنضجه السنون ! ويبقى أن هناك بعض الخلافات في الحوادث والتعليلات بين الكاتبين : فصدقى يثبت حادثة والبة مع أبي نواس ، وأثرها في مستقبل حياته ، وعبد الحليم ينفيها . ونحن نميل إلى رأى صدقى ، فكل ما في حياة أبي نواس يثبت تلك الحادثة . وليس في نفيها كبير عناء في البحث . لقد كان يعظم عناؤه لو أن ا - ٣٤٤ - ا سيرته بعده لا تتفق مع إفساد والبة له ، فأما وهذه الحادثة تتسق مع سيرته فلا ضرورة للجهد في نفيها ما لم يتحتم ذلك ببراهين قاطعة وهى ليست هناك وصدقي يجعل لحادث جنان شأنا في حياة أبي نواس و نفسه وتصريف خطاه في الحياة ، حتى ليجعله نصف الأسباب التي أخرجته من البصرة إلى بغداد ودفعته إلى الإغراق في المجون ليتسلى وينسى . وعبد الحليم يلم به إلمامة سريعة ، ويجعل هجرته من البصرة بسبب لمز أهلها له في نسبه . ونحن نميل إلى جانب صدقى هنا كذلك ، استناداً إلى كثرة ما قال أبو نواس في جنان ، وإلى حرارة ما قال ، حتى ليبدو أن هذا القسم من شعره ، هو أحر ما في ديوانه وصدقي يثبت شعوبية أبي نواس وتعاجمه ، ويسند هذا إلى انتشار الشعوبية إذ ذاك ، وبروز العصبية الفارسية الكظيمة ، وعبد الحليم ينقى هذا كله عن أبي نواس ويعلل هذا التعاجم بمزاجه الذي يحب اللذة والمتعة،فيجدهمافي الحضارة الفارسية وآثارها ، ويكره الشظف والتمسك حيث يجدهما في البيئة العربية وتقاليدها ونحن نضم هذه إلى تلك في تعليل زراية أبي نواس على العرب البادية ، وهيامه بالفرس والفارسية . فعصبية أبي نواس وشعوبيته لا تبلغ أن تكون فكرة عامدة واتجاها جادا ، ومثله لا ينتظر منه الجد في شيء ، ولكنها كذلك لا تنفى في ظروف كالتي عاش فيها ، مع نسب كنسبه يمت إلى الفرس من ناحية أمه ، ونفيها نفيا باتا ، كما صنع الأستاذ عبد الحليم فيه كثير من التكلف ، الذي لا ضرورة له . . وكذلك يبرىء عبد الحليم أبا نواس من تهمة الحج لمقابلة جنان ، ويثبتها صدقى . ولست أفهم السر في تلك التبرئة ، وأنا مع صدق في تصديقها ، فليس فيها ما يستغرب من ماجن كأبي نواس من جهة ، مع جنونه بجنان من جهة أخرى . ويحاول عبد الحليم أن يثبت لأبي نواس أسرة وزوجة وولدا ، ويسوق أدلة لا مانع من قبولها ، وإن كانت لا تبلغ بنا درجة اليقين . ولكنها ليست متهافته ولا ضعيفة . وكل ما نلاحظه أنه استأنس بجوار هذه الأدلة بكنية أبي نواس 6 « أبو على » في إثبات البنين له ، ولم يجزم . و « أبو على » هذه كنية اصطلاحية لمن اسمه « الحسن » – اسم أبي نواس – فلا دلالة فيها على وجود ابن اسمه على ولا مجال للاستئناس بها على العموم . ) - - ٣٤٥ <-(( وها متفقان تقريبا في وصف مزاجه – كل على طريقته – فهو طالب لذة حسية ومتعة سهلة ، وفي تحقيق صلته بالرشيد وصلته بالأمين ، وفي تفصيلات أخرى – وإن اختلفا في عدد مرات سجنه أيام الأمين أهى مرة أو مرتين ، . ولكل من الفرضين ما يؤيده ، وليس أحدها بأشد أثرا في حياة الشاعر ، فكلاها سواء في دلالته على مجونه ، وضيق الأمين بهذا المجون لأسباب سياسية لا خلقية. ويختلفان في حادثة جلوس أبي نواس قريبا من دور بنی نوبخت ، يمر به القواد والكتاب وبنو هاشم لا يتحرك ، حتى يقدم بشار فيهم له ويعانقه : صدقى يقول إنها أيام الرشيد ، وعبد الحليم يقول : إنها أيام المأمون . ونحن نرجح قول الأخير لمكانة أبي نواس من الأمين . وما دمنا قد استطردنا إلى الموازنة ، فيجب أن نثبت للأستاذ صدقى قوة التمحيص وشدة التنسيق ، كما لاحظنا ، ولكننا نثبت في الجانب الآخر براعة اللمسات وسرعة إبراز الملامح . ففي الفصل الأول « بغداد » جمع بين مولد المدينة ومولد شاعرها الذي يمثل روح اللهو فيها « أبي نواس » في لمسات خاطفة فيها شاعرية ورفرفة . وفي الفصل الثاني « جوار وخمور » رسم طرقى اللهو بالمدينة وهما مجالا مجون شاعرها ، والشذوذ الذي فشا إذ ذاك يجمعهما ، فكأنه وكأنها توأمان في المولد والنشأة ، ثم لم ينس أن يبين أن هذه ليست بغداد في حقيقتها ، فهنالك « الناس » ی أولئك السوقة الأشقياء الذين يهيئون للمدينة رخاءها ولهوها ، ولا يحسبون منها ، ولا يذكرهم التاريخ بجانبها . إلى آخر هذه اللمسات الشاعرية في بقية الفصول للأستاذ صدقى التقصى والترتيب والتنسيق ، وللأستاذ عبد الحليم الحركة والسرعة والشاعرية . وكلا البحثين لا يغنى من الآخر ، ولكل منهما نواحي ی النقص ونواحي الكمال . 6 . المدينتــــــان ۱ - دمشق : لمحمد كرد على
- لطه الراوي
بغداد - - ۳۶۶ - أضع هذا الفصل هنا ، لأن لي رأيا في دراسة شخصية المدن ، كما تدرس تراجم الأسباب توحى جميع الرجال . وأجمع بين هذين الكتابين في فصل واحد ؛ لأن بهذا الجمع . فكلتا المدينتين حاضرة خلافة إسلامية في القديم ودولة عربية في الحديث . وكلتاهما كانت مقر نهضة ثقافية ومهبط حضارة اسلامية في التاريخ ، كما أن كلتيهما اليوم تتطلعان إلى فجر جديد . ثم اتفق أن يكون الكتابان حلقتين في سلسلة « اقرأ » وأن يكتبهما كاتبان عربيان متعاصران ، وأن يسلكا فيهما نهجا واحدا في التأليف على وجه التقريب ! وقبل أن أحكم على هذا النهج أحب أن أطلع القارىء عليه كي يشترك معى في الحكم الأخير : من عنوانات الكتابين المتتالية يتضح هذا النهج بعض الوضوح . فهذا يبدأ هكذا و اسیر
کتاب دمشق « دمشق وطبيعتها » ثم « تاريخ دمشق السياسي : تاريخ دمشق القديم دمشق قبل الفتح العربي ، دمشق في الإسلام ، دمشق في عهد السلجوقيين ، دمشق على عهد الدولتين النورية والصلاحية ، دمشق على عهد الماليك ، دمشق في عهد الدولة العثمانية ، دمشق في العهد الأخير » فإذا انتهى التاريخ السياسي على هذا النحو بدأ « التاريخ العمراني » على النحو نفسه متتابعا من التاريخ القديم إلى الحديث . حتى إذا انتهى من تاريخ عمارتها - ٣٤٧ - ابتدأ « وصف القدماء والمحدثين لدمشق » فإذا انتهى هذا الوصف بالترتيب الزمني تحدث عن « سكان دمشق وخصائصهم » حتى إذا انتهى هذا الفصل تحدث عن « الحياة الأدبية والفنية والصناعية » في تدرجها حتى العهد الأخير مع تقسيم هذه « الحياة » إلى أقسام كل منها له بدء ونهاية حسب التدرج التاريخي « فالعلم والأدب » لها فصل منفرد و « الفنون الجميلة » لها فصل كذلك ومثلها « صناعات دمشق » و « تجارة دمشق » ثم يفرد المؤلف فصلا عن « غوطة دمشق » لأن لهذه « الغوطة » شأنا خاصا في هتافات الشعراء بنوع خاص ! }} أما كتاب بغداد فتسير عنوا رانانه على النحو التالي : « بغداد » ويشمل بحثا عن معنى الكلمة وتاريخها . « خبر بنائها . سبب الاختيار . البدء بالبناء » . ثم « شذرات من سجايا البغداديين وشمائلهم» ثم « شذور من أقوال أهل الفضل فيها نظا ونثرا » . ثم « خلاصة التاريخ السياسي لبغداد» مقسمها إلى ثلاثة أبواب ، الكل باب فصول تتمشى مع تمشى الزمن إلى اليوم ثم تاريخ عمارة بغداد ويسميه المؤلف « الخطط والآثار » فإذا انتهى من تعدادها وبيان أماكنها تحدث « الحياة العقلية » مقسمة إلى « العلوم الشرعية » و ة العلوم الكونية » و « العلوم اللسانية » مع فصل كل منها عن الأخرى وتتبع خطواته . ثم إذا انتهى تحدث عن « الشعر والشعراء » في عجلة واختصار - هو نهج واحد سار عليه المؤلفان ، الاختلاف فيه هو اختلاف الأداء واختلاف المستوى . ولكنه ليس اختلاف النهج ولا اختلاف الطريق . وهو نهج لا نوافق عليه في الكتابة عن « المدن » في هذا الزمان . وإن لم نفكر ما يفيد منه القارىء العجلان من بعض « المعلومات » . أقول « المعلومات » وهي كل ما يضطلع هذا النهج بتقديمه للقارىء . واسكنها معلومات مبعثرة بعثرة هذه العنوانات التي أسلفتها . مسوقة بطريقة بدائية في التأليف إذا قبلناها من مثل صاحب « تاريخ بغداد » و « خطط المقريزى » – ٣٤٨ D جسم و « تاريخ ابن الأثير » وسواهم في الزمن القديم ، فلسنا نقبلها من مؤلف عربي في القرن العشرين ، نتطلب منه أن يخطو خطوة وراء «المعلومات» المتناثرة ، خطوة التنسيق الفنى ، وخطوة « التشخيص » والإحياء . أقول « التشخيص » وهو أفضل مناهج الكتابة عن « المدن » في هـذا الأوان . فالمدينة يجب أن يكتب عنها كما يكتب عن « الشخص » الحى : والشخص الحي وحدة تنمو كاملة بمرور الأيام ، ولا تنمو أجزاء وتفاريق . لا ينمو « الشخص » الحي وحده ، وينمو عقله وحده ، وتنمو نفسه وحدها . وإذا تحدثنا عنه فلسنا نبدأ بنموه الجسمى فنتحدث عنه من مولده إلى وفاته . ثم نكر راجعين إلى عقله من البدء للنهاية . ثم نكر للمرة الثالثة إلى نفسه على التوالى إنما نحن تتناول مراحل حياته فنسجل مظاهر النمو في كل قواه التي لا تنفصل ولا تتجزأ ، والتي يموت الكائن الحي فيه إذا نحن فصلناها وجزأناها ! وتاريخ حياة « المدن » كتاريخ حياة « الأشخاص » لا ينفصل فيه النمو السياسي عن النمو العمراني عن النمو العقلي عن النمو الفنى . إنما يسير هذا كله وحدة لا تتجزأ في المرحلة الواحدة ، وتسير المراحل المتتالية متواصلة كالأمشاج ، متفاعلة كالعناصر المختلفة في المزاج . ا يجب أن تطالعني « دمشق » أو تطالعني « بغداد » بنية حية تبدأ صغيرة ، ثم تنمو وتنمو ، ثم تتعاقب عليها الأحداث ، فتترك آثارها في هذه البنية الحية ، التي لا تنفصل ذراتها ، لأنها لا تزال على قيد الحياة . يجب أن يجتهد المؤلف في « إحياء » هذه المدينة ، حتى تبرز لى شخصية متماسكة حية تعاطفنى وأعاطفها ، وحتى أساير خطاها في الزمن بقلب جياش يطلع منها على ضمير منفعل ، وحركة مثيرة ؛ أو على حسن خامد وغفوة هامدة ، أو على صراع مع الأحداث والأيام ، تواجهه بقلب الكائن الحي ، الذي يضطرب وينبض للأحداث والأيام . - ٣٤٩ - فأين هذا كله من كتابي « دمشق » و « بغداد » ؟
تبقى الموازنة بين الكتابين في دائرتهما المتواضعة ! وكثيرون من الناس يشفقون من الموازنة بين الأحياء ؛ وينصحون لي بالكف عن هذه الموازنات التي تثير الغيرة والخصومات ! وأنا لا أومن بهذه النصائح التي تنشأ من « تقاليد الصالونات » تلك التقاليد الناعمة الرقيقة ، التي لا يمكن أن تبرأ من الجبن والنفاق . في الوقت الذي تبرأ من أعظم عناصر الحيوية : الحسم والحماسة ! کتاب « دمشق » أدسم واثمن من كتاب « بغداد » والتماسك بين مباحثه المتفرقة أدق وأعمق . ونفس المؤلف فيه أقوى وأطول . وقد عرف المؤلف حدود المجال الذي يضطرب فيه فلم يزج بنفسه في مباحث «كبيرة » لم يتهيأ لها في هذه الحدود مثال ذلك ما زج بنفسه فيه مؤلف كتاب « بغداد » الحديث عن خصائص الشعر البغدادي . ذلك الموضوع الخطر الذي يحتاج الحديث عنه إلى فطرة موهوبة ، وإلى بحث كذلك عميق . فلم يزد فيه على الملخصات المدرسية المعروفة من ذلك قوله : - « والناقد البصير مضطر إلى الاعتراف بما لشعراء بغداد النابتين فيها والطارئين عليها من الفضل على الشعر في تنويع أغراضه ، وابتكار البارع من معانيه وأخيلته ، ونشر الآراء الحرة والمذاهب الجديدة ، والبراعة في رسم الصور المبتكرة في الأوصاف وغيرها . كما أنه عليهم تقع تبعة إذاعة الزندقة والتشكيك في العقائد ، والاسترسال وراء الأهواء . وهم أول من فتح باب الغزل في المذكر ، أو – على الأقل – هم أول من وسع هذا الباب ، وأغرقوا فيه أيما إغراق . كما أنهم أول من وسع باب المجون وغالوا فيه غلوا تستنكره الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ولم يكترثوا بما يتقيد به المؤمنون من كرائم الخلال ، ومحامد الخصال، ( 1481 وأكثر المندفعين في هذه المسالك من الموالى الذين لم يملا الإيمان صدورهم ولا ارتاحت إلى الدين عقولهم من أمثال بشار بن برد وحماد مجرد وحسين بن الضحاك وأبي دلامة ... الخ » . ثم يجمل ما جد من الشعر ببغداد في نقط كالنقط المدرسية في مذكرات التلاميذ : 1 - الركون إلى الأنيس من الألفاظ وهجر الغريب الحوشي . - الإكثار من الألفاظ الدخيلة ، ولا سيما الدالة على أصناف الخمور ، وضروب الأزهار وأصناف الأطعمة . 3 - استعمال مصطلحات العلوم التي كثرت في هذا العصر الاهتمام بالمحسنات البديعية اللفظية منها والمعنوية كالجناس والتورية ورد العجز على الصدر والطباق . وأكثر الشعراء ولعاً بهذه المحسنات مسلم بن الوليد وأبو تمام وعبد الله بن المعتز . <-ε ه – الميل إلى سلامة التراكيب وانسجامها مع الاحتفاظ بجزالة الأسلوب وظهور المعنى ؟ وعلى النسق نفسه يسرد ماجد في « معانى الشعر وأخيلته » وما جد في « أغراضه وقنونه » . وأعتقد أن الكتابة على هذا النحو لا تصلح لغير التلاميذ . وبعد ففي الكتابين كما قلت معلومات مفيدة في اختصار ينفع المتزود العجلان ولكن هذه المعلومات كان يمكن أن تستحيل لبنات متماسكة في بناء الكتابين لو سار المؤلفات الفاضلان على منهج « التشخيص » والاحياء الذي أسلفنا میان خصائصه وإذا كان للنقد وظيفة فليست وظيفته هي تغيير طبائع المؤلفين المخلوقة ولا زيادة طاقاتهم المحدودة . ولكن وظيفته أن يوجه الأنظار إلى المنهاج الأقوم ليسلكه من يملك الطبيعة ومن يطيق السلوك فيه .