كتب وشخصيات (1946)/فى عالم القصة والرواية
على هامش الســـــــــيرة
لطه حسين
للدكتور طه حسين مذهب فني له فيه تلاميذ كثيرون، كلهم يحاول أن يتأثره ويتشبث بخصائصه، وينسج فيه على منواله، ولكن واحداً منهم لم يحقق هذه الخصائص إلى اليوم على الوجه المطلوب. ومن بين هؤلاء التلاميذ من يبذل جهداً مضنيا يثير الإشفاق ليصبح نسخة أخرى من طه حسين، فتكون قصاراه أن يخرج نسخة « مشلفطة » كالصورة التي تنطبع على ورق « النشاف » !
وأوضح مثال لهذه المحاولة هو الدكتور « شوقى ضيف »، وبخاصة في كتابه الفن ومذاهبه في الشعر العربي » الذي نال به الدكتوراه أخيراً من كلية الآداب، ونال عليه فوق الدكتوراه شكر الجامعة أيضا !
ونستطيع أن نطلق على مذهب الدكتور طه حسين اسم « مذهب الاستعراض التصويري » ١ ـ فالدكتور في خير حالاته يرسم لوحات متتابعة أدواته فيها الكلمات والجمل : لوحات للمناظر، وللحوادث وللمعانى، وللخطرات النفسية، والالتفاتات الذهنية على السواء. وتلك ميزته الكبرى كصاحب شخصية أدبية وصاحب مذهب فنى كذلك.
والدكتور طه صاحب موهبة في هــذا وصاحب طريقة، فأما تلاميذه فقد أخطأتهم الموهبة واتبعوا الطريقة. أخطأتهم موهبة التصوير واتبعوا طريقة التعبير. ولهذا يجوز أن نعود فنستدرك شيئاً، وهو أن مذهب الدكتور طه
. حد النضوج ، حسين : هو الدكتور طه حسين نفسه ؛ ثم محاولات لم تبلغ ولم يوجد فيها صاحب الطبيعة الموهوبة ؛ بل لم يوجد فيها من يدرك سرها الأول ، طبيعة التصوير ، لأنهم جميعاً يفهمون أن هذا السر كامن في طريقة التعبير ! وهو بقى أن نعرف شيئا عن نوع هذا التصوير في مذهب طه أصح في طبيعته . فهو التصوير الحسي الذي يرد المعاني والخواطر صوراً حسية ، أو كالحسية – بله المناظر والحوادث – فهذه يعيدها كما بدأت أول مرة ، توشك أن تكون مجسمة. -- (۱) يعني - ۱۱۱ - وهو يخلع على هذه الصور الحسية لونا من ألوان الحياة والحركة ؛ ولكنها الحياة اللطيفة والحركة الوئيدة ، التي تدب على هيئة ، وتخطر في رفق . فالسرعة النابضة ، والحيوية الدافقة ، ليستا من مطالب هذه الصور في يوم من الأيام . وقد يكون المثال هنا أوضح من المقال : ا D د هذه شهرزاد قائمة منه(۱) غير بعيد ، تنظر إليه نظرات فيها الحنان والمكر؟ وهى مغرقة في ضحك هادىء عذب يرتفع له صدرها وينخفض ، ويغشى وجهها بغشاء من الجمال الرائع ليس إلى تصويره من سبيل . وهذا الملك ينظر إليها مبهوراً ذهوله وحيرته ، ولكنه ينهض خفيفاً ويسعى سريعاً ، حتى إذا وهی تضحك بلغها أو كاد ، جثا أمامها غاضا بصره إلى الأرض ، رافعا يديه إلى السماء ، كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال ؛ وهي تضع يدها على رأسه ضاحكة ، كأنها تبارك عليه ، ولكنها لاتلبث أن تستحيل إلى حنان خالص ، وإذا هي تميل إليه مترفقة فتضع على جبهته قبلة حلوة حارة طويلة . ولو أنها تحدثت في تلك اللحظة لأحس شهريار في صوتها تهدج العبرات التي تريد أن تندفع من العيون ، ولكنها الإرادة القوية تمسكها . فيظهر أثر هذا الصراع في الصوت المحتبس والألفاظ التي لاتبين ، . الملك - شهريار ، في أحلام « شهر زاد » حسین ، ، أو . بھوجی - ۱۱۲ – ولكنها لم تقل شيئا ، وإنما استقام قدها المعتدل ، وامتدت يدها الرخصة إلى الملك فأنهضته صامتة ، واستجاب لها الملك صامتاً طبيعاً ، فمضت به خطوات إلى نشر من الأرض قريب يكسوه العشب ، فأجلسته وجلست بجانبه ، ، وأحاطت عنقه بيدها ؛ ثم أمالته في رفق حتى وضعت رأسه على كتفها ، وظلت تنظر إليه وهو ينظر إليها ، وهما مغرقان في صمت عميق . ثم يسمعها شهريار تتحدث إليه في صوت هادي" وادع ، وهي تقول له : « ألم يأن لنا بعد أن نهبط من السماء ، وأن ننزل إلى الأرض فنعيش فيها مع الناس » ؟ « ولكن شهريار لا يجيبها ، وإنما تنحدر من عينه دمعتان هادئتان تمسحهما شهر زاد في رفق ، ثم تنعطف إلى الملك فتقبل جبهته مرة أخرى ؛ ثم تقيمه حتى إذا استوى في مجلسه جعلت تمر أصابعها في شعره رفيقة به باسمة له مطيلة النظر إليه صامتة ذلك لا تقول شيئاً ، وكأن هذا العطف الصامت الحار قد بعث الحياة والنشاط في قلب الملك وجسمه ، وفى عقل الملك وإرادته ، فهو يرفع رأسه إلى شهر زاد « ويسألها في صوت كأنه يأتى من بعيد : ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين » ؟ ولقد أطلنا في هذا المثال لأنه يجمع بسهولة كل ألوان التصوير الحسى في طبيعة الدكتور : فيه المعاني الذهنية والخواطر النفسية ، وفيه الحركات والحوادث والمناظر؛ وكلها مرتسمة مصورة متحركة هذه الحركة اللطيفة المتتابعة في يسر وتؤدة. فمن شاء أن يرجع إلى أمثلة خاصة لكل نوع فليرجع إلى كتب : الأيام ، وأديب ، وأحلام شهر زاد ، وهدية الكروان ، والحب الضائع . ثم ليرجع إلى هامش السيرة . الذي جرنا إلى هذا الكلام ! وليقرأ في الصفحة الأولى من الجزء الثالث : كان الشيخ مهيباً رهيبا ، وكان فخا ضخا ، قد ارتفعت قامته في السماء ، هشه بروزی . - ۱۱۳ وامتد جسمه في الفضاء ؛ وكان وجهه جهما عريضاً ، تضطرب، فيه عينان غائرتان بعض الشيء ، ولكنهما على ذلك في حركة متصلة لا تكادان تستقران ؛ وها . متوقدتان دائما ينبعث منهما شيء كأنه الضوء المشرق على هذا الوجه الجهم الغليظ ، فإذا لحظنا شيئا أو أطالتا النظر إليه فكأنما تقذفانه بالشرر ، أو تسلطان عليه شواظاً دقيقاً قوياً من النار . ا وكان الشيخ فوق هذا كله ذكيا حاد الذكاء نافذ البصيرة ، يتعمق ما يعرض له من الأمر دون أن يحس الناس منه تعمقاً لشيء
« يسأله الناس فيجيبهم لساعته جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير ، فيعجبون منه ويعجبون به . وكان بعد هذا كله بطىء المشي ، ثقيل الحركة ، وقوراً في كل ما يصدر عنه ، وكان صوته يلائم هذا كله من أمره فكان صوتا ضخها عميقاً ، يسمعه السامع فيخيل إليه أنه يخرج من غار بعيد القاع . وكان الناس يهابونه ويرهبونه كما كانوا يجلونه ويكبرونه . فإذا سألهم عن مصدر ذلك لم يعرفوا كيف يجيبون ، إنما كان هذا الرجل يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم ! إكباراً وإعظاما . فإذا ذكر الوليد بن المغيرة فقد ذكر سيد من أروع سادات قريش ورجل عظيم من رجالات البطحاء » ... الخ هذه اللوحات المرسومة في بحبوحة ، وهذه الصور التي تخطر في وناء ، وتدب في رفق ، هي مزية الدكتور الأصيلة ، مزيته التي يتجلى فيها فنه ويؤدى بها رسالته ، ولقد يخطئك في بعض ما يكتب أن تجد الفكرة الكبيرة أو المعنى المبتكر؛ ولكنك لن تخطى اللوحة الهادئة والصورة الحية ، هذا اللون من الحياة المريحة المستريحة . نعم قد تبطؤ الحركة في بعض الأحيان إلى حد الخمود ، فيدركك نوع من الاستبطاء تهم أن تغمز فيه الكاتب ليسرع في خطواته بعض الشيء ؛ ولكن ذلك قليل على كل حال . (A - ( ) 4 یلی - - 114 - ومن هنا كان إعجاب الدكتور بلبيد ثم زهير خاصة من شعراء الجاهلية لأنه هذا التصوير حاجته من
وبعد فما قيمة كتاب « على هامش السيرة » ؟ قيمته من الوجهة الذاتية أنه – وبخاصة الجزء الأخير – يجمع أفضل خصائص الدكتور طه وأحسن مزاياه ، وينجو من كل عيوبه التي توجد في بعض الكتب الأخرى . - وقيمته من الوجهة الموضوعية أنه الكتاب الأول في اللغة العربية (1) الذي يجعل من بعض حقائق السيرة وبعض أساطيرها فناً حياً جذاباً ؛ ولكنه لا يقف عند هذا الحد بل يحيل هذا الفن الحي الجذاب ، صورة « عامية » صادقة للجزيرة العربية وأطرافها في الفترة بين مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجزء الأول ، وانتصار دعوته في الجزء الثالث . صورة للحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية . وصورة لما يهجس في الضمائر والاخلاد ، وما يبدو من الاتجاهات والآراء . وصورة للبيئات وللأفراد في الحياة هناك ... وذلك كله حسب كتاب ليكون عملا يستحق التقدير . وإنه للكتاب الأول في أعمال الدكتور ، لا يوازيه في هذا إلا كتاب « الأيام » (۱) للاستاذ توفيق الحكيم في هذا المنحى كتاب و محمد ، ظهر بعد ظهور الجزء الأول من الهامش ونحا فيه نحوه الخاص في الحوار شہر زار في الأدب العربي : أحـلام شهر زاد لطـه حسين قصص « ألف ليلة وليلة » تعد مصدراً لمسرحية « شهر زاد » ولقصة « أحلام شهر زاد » في آن . فلننظر كيف دخلت « شهر زاد » في عالم الأدب الفني في العصر الحديث : لقد بقيت هذه القصص المعروفة ، شعبية لا تشع شيئا في عالم الأدب الفنى . اللهم إلا دراسات عن هذه القصص ومؤلفيها وعصور تأليفها ومواطنها وكان أول شعاع أرسلته هذه القصص الشعبية إلى عالم الفن الأدبى هو قصيدة العقاد في الجزء الأول من ديوانه الذي صدر في سنة 1916 وعنوانها « شهر زاد سدر الحديث » وفيها يقول عن شهر يار أضمر الشر للنساء حقـودا حفرت عهده فتاة فالى لا يصونن للنساء عهـودا أو وأبى الحقد أن يكون رشيدا فله طلعة بها أجـل الغي زهرات يشعها ثم يبرى د رهين يستنجز الموعودا يشيا السيف غصنها الأملودا أنها أن يمس غير شبا السي ف نحورا يلهو بها وقدودا إلى أن يقول : ( وهو الإشعاع الجديد الذي أرسلته قصص ألف ليلة وليلة ) : عرفت طب دائه « شهر زاد » فدعته وهو الشقى سعيدا ( تقصه للقا - ۱۱۶ - كان فظا فؤاده مغلق النف كظيها لا يستلان عنيدا فألانتـه بالمقال فأصـنى وأرته أحاظي الناس من قب فرأى قلبه وكان فريدا جدلاً كان صغوه لا غراما كان هذا أول دخول قصص ألف ليلة وليلة إلى عالم الأدب العربي الفني في باب الشعر ، ثم كانت سنة 1934 فأخرج توفيق الحكيم رواية « شهر زاد » في باب التمثيليات ، ثم كانت سنة 1936 فأخرج طه حسين وتوفيق الحكيم قصة « القصر المسحور » في باب القصص ، ثم كانت سنة ١٩٤٢ فأخرج طه وحده قصة « أحلام شهر زاد » حسین (( ومن القول ما يلين الحديدا لى نحوسا مقسومة وسعودا لم يعد بعد في القلوب فريدا وجد الآن قلبه المفقودا هذه هي السلسلة التاريخية لدخول « قصص ألف ليلة وليلة ، في عالم الأدب وإشعاعها في جو الفن في العصر الحديث . فأما الطبيعة الفنية لهذا الإشعاع : فقصيدة العقاد التي نقلنا معظم أبياتها تصور لنا المفتاح الذي فتحت به « شهر زاد » قلب « شهريار » وقد كان « مغلق ذلك المفتاح في جزء منه هو أنها دعته « سعيدا » وهو « الشقى » فألانته بما خيلت له من أنه يتمتع بما يتمناه وما يفتقده فلا يلقاه . وهو في جزء آخر : أنها أرته أحاطى الناس ، فوجد لقلبه أشباها ونظائر ، ولم يجد حظه فريدا في الحظوظ ، ولا قلبه فريدا في القلوب فأصغي إليها جذلا بتصويرها للحظوظ والقلوب لا غراما بها ! النفس زاد الصباح وأما تمثيلية توفيق الحكيم فقد بدأها « أدرك شهر فسكتت عن الكلام المباح » حيث استحال « شهر بار » ذلك الملك الوحشي إنسانا جديدا « خلقته شهر زاد » خلقا « جديدا » وكأنما كشف لبصيرته « عن - ۱۱۷ أفق آخر لا نهاية له » وإنه ليحاول أن يتخلص من الحدود التي تصده وتقيده عن الانطلاق والمعرفة ، يحاول أن يتخلص من الجسم ومن المكان ، ويحاول أن يحل لغز « شهر زاد » التي تركته في حيرة من أمرها شديدة . وأما قصة « القصر المسحور » فتبدأ بعد تأليف تمثيلية شهر زاد وخلق شخصياتها جميعا : « الملك شهريار ، والملكة شهر زاد ، والوزير قمر ، والعبـد ، ومنصور الجلاد ... الخ » وحيث يشترك طه حسين وتوفيق الحكيم في زيارات لشهر زاد بقصرها المسحور، وفي شراك ينصبها طه لتوفيق، وينصبها توفيق لطه عند شهر زاد ، وعند أبطال مسرحية شهر زاد . وحيث يقع الجميع في قبضة الزمن وقبضة التاريخ ، فتدور محاورات ومحاكمات فلسفية ليس هنا موضع استعراضها و نقدها على كل حال . وأما قصة « أحلام شهر زاد » فتبدأ بعد تسع ليال من حيث « أدرك شهر زاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح » وحيث طال الصمت على « شهریار » واشتاق إلى أحاديث شهر زاد التي خلقت منه إنسانا جديدا « وتركت في نفسه الألغاز والأسرار ما يكلفه الجهد المضنى » وحيث يحاول أن يحل وأمام عقله من لغز « شهر زاد » التي تركته في حيرة من أمرها شديدة » . ولكن شهر یار طه حسين لا يحاول أن يتخلص من المكان ولا من الجسد ، ولا يقوم برحلات طويلة ولا يدخن القنب في سبيل هذا التخلص ، ولا يذهب إلى بيت الساحر حيث تذبح الفتاة المسحورة « زاهدة » ليقول له رأسها المقطوع : « من هي شهر زاد؟ » ولا يأبق في النهاية من شهر زاد ومن الدنيا جميعا إلى حيث لا يعلم مصيره أحد ، كما صنع توفيق الحكيم بشهرياره المسكين ! « شهر یار » طه حسين أطوع وآنس ، وشهر زاد » طه حسين تملك أمر شهريارها أن ترده عن التعلق بالسماء ، وأن تر شده و تبصره ونقود زمامه في - ۱۱۸ – النهاية إلى حيث تشاء ، فلا يأبق إلى حيث لا يعلم مصيره أحد كشهريار الحكيم! وشهر زاد توفيق الحكيم تحاور شهریارها حوارا فلسفيا مرة ، وتحاول أن تهبط به إلى الأرض مرة ، وأن تنقذه بإثارة غرائزه مرة ... ولكنه يأبق إلى غير عودة . أما شهر زاد طه حسين فتعيد على شهريارها قصة كقصص ألف ليلة وليلة عن الملك « طهان بن زهمان » ملك الجن وابنته « فاتنة » فيها جو « ألف ليلة وليلة » وفيها نسقها . ولكن بها بعد ذلك توجيهات اجتماعية وسياسية وفكرية حساسة ، بل شديدة الحساسية . تقص شهر زاد هذه القصة على خمس ليال ولكن في « الأحلام » لا في العيان ! وهي لا تقص على شهريار – في الأحلام – هذه القصة فحسب ، إنما هي تحاوره الحوار الفكرى مرة ، وتحاول أن تهبط به إلى الأرض مرة ، وتقوده في زورق يسبح في النور والموسيقى والماء مرة وهناك تعرض له مناظر فاتنة محيرة تزيد لنزها في نفسه تعقيداً ، فهؤلاء عذاري صرحات مشرقات يسبحن بزوارقهن ، والجو باسم والنفوس مرفرفة . أولئك من الناجيات من شهريار وهؤلاء عذاری محزونات كاسفات يسبحن بزوارقهن والجو قابض والصدور مثقلة . أولئك من الهالكات على يد شهريار شهریار طه حسين قريب الشبه بشهريار توفيق الحكم في الانقلاب الذي طرأ عليه وفى أثر شهر زاد وأحاديثها في نفسه ، وشهر زاد طه حسين قريبة الشبه بشهر زاد توفيق الحكيم فيما عدا جانبها الغريزي الذي تصوره علاقتها بالعبد ولكن الأمر – في الحوادث – يأخذ بعد ذلك في الاختلاف - ... ، ... . فأماتوفيق فيمضى على طريقته وطبيعته وملابسات حياته وأثر المرأة في نفسه ، فإذا شهريار لا يهبط الأرض أبدأ وإن لم يبلغ السماء ، ولا يستمع إلى شهر زاد ولا يستنيم لها كالطفل إلا في لحظات الضعف ، ريثما يعتاده نفاره القديم ! ثم إذا هو يأبق في النهاية إلى غير أوبة حتى الآن ! - ۱۱۹ – وأما طه فيمضى كذلك على طريقته وطبيعته وملابسات حياته وأثر المرأة في نفسه ، فاذا شهريار يستمع إلى شهر زاد ويركن إليها ويستريح إلى صحبتها ويلتذ توجيهها وإرشادها ، وإذا هي تعنى به في نومه ويقظته ، وفي حركاته وسكناته حتى لتوطى له الفراش وتسنده بالحشايا | ثم إذا هي تقص عليه في الأحلام قصة تخوض فيها في السياسة والاجتماع والحكم كما تشاء !
من قصيدة العقاد ومن مسرحية شهر زاد ، ومن قصة أحلام شهر زاد ، تنبين ثلاث طبائع وثلاث طرائق ، وثلاثة مظاهر لتأثير نوع الحياة وملابساتها ، في طبائع الفنانين وطرائقهم . فالعقاد في قصيدته هو الأديب المحلل للنفس الإنسانية في الحياة ، وللحالات النفسية في تطوراتها وتتابعها ، العليم بمداخل هذه النفس ودروبها ومنعرجاتها ، المتيقظ لمزايا المرأة على اختلافها ! وتوفيق الحكيم في تمثيليته هو الفنان المعنى بمسائل الذهن والفلسفة ، المنعزل عن الحياة الواقعة وملابساتها ، المهور بالمرأة ، الحذر المتخوف منها ، الغامض المبهم الذي لا يصل بشيء إلى نهاية ، ولا يحسم في أمر برأيه ! وطه حسين في قصته هو الأديب المشغول بمسائل المجتمع والحكم والسياسة الضارب في حياة الاجتماع بسهم ، المستروح بالمرأة وأثرها اللطيف في حياة الفرد وحياة المجتمع ، وتوجيه الفرد وتوجيه المجتمع ! واستعراض أعمال الأدباء الثلاثة جميعاً يستطيع أن يعطينا مثل هذه الصورة في وضوح وتفصيل ، ولكنه لا يزيد كثيراً على طبيعتها الحقيقية(1) (۱) اقرأ بتوسع كتاب « المذاهب الفنية المعاصرة »
- شجرة البـــؤس
لطـه حسين ما تكاد تقطع صفحات من هذا الكتاب ، حتى تحس أنك تعيش في جو « الأيام » وتستنشق في هذا الجو ريح « الأيام » وأعتقد أنه بحسب كتاب ما أن يقال عنه : إنه يعيش في جو" الأيام، كما تشعر له نفسك بالود والكرامة والارتياح . كثير من الوجوه التي التقيت بها هناك تلتقى بها هذا – مع فارق واحد – إنها ربما كانت هنالك تعيش على هامش القصة ، وهي هنا تعيش في الصميم ، و « شجرة البؤس » قد سبقت « الأيام » في الزمن حينا وعاصرتها حينا آخر . فذلك الاختلاف وهذا الازدواج هما اللذان يجعلان بعض الوجوه ترد في الهامش مرة وفي الصميم مرة ؛ ثم تزيد في « شجرة البؤس» وجوه أخرى جديدة بسبب هذه اللابسات أيضاً « هذه صورة للحياة في إقليم من أقاليم مصر آخر القرن الماضى وأول هذا القرن نقلتها من صدرى إلى القرطاس » والحق إن هذا النقل كان أميناً ، وكان بارعاً ... فأنا أتمثل الآن في هدوء وعلى مهل صورة هذه الحياة ، والتقى بوجوه كأنني أعرفها وكأننى لقيتها فعلا ، وإن تكن عاشت في الحياة قبل مولدي بأعوام ! أعرف الآن هذه الشخصيات التي تعيش وسطاً بين حياة الريف وحياة المدينة ، هذه الشخصيات الطيبة المؤمنة ، ترد أمر حياتها كله الله ، وللقدر الخفي الذي يصرف أقدار الناس . ثم لهذا « الشيخ » – شيخ الطريق - الذي <-(( - ۱۲۱ – يصلهم بالله والسماء ، والذي ينطق بلسان القدر الخفى . والذي يتلقون ما ينطق به بالرضى والتسليم في الغالب . وبالسخط الاستسلام في النهاية – أليس القدر الله ؟ أليس الشيخ ينطق بلسان هذا القدر الصادر من الله ؟ وما ذا يملك عند العبد - إزاء الرب الواحد القهار ؟ ويضطرب هؤلاء الناس الطيبون ما يضطربون في الأرض ، يكسبون رزقهم بوسائلهم التقليدية الهينة ، ويلبون داعى الغرائز والبطون ، وداعي المجتمع والتقاليد ، وداعى القلب والروح وينجحون أو يخفقون ، ويسعدون أو يتألمون ويرضون أو يسخطون ، ثم يفيئون من هذا كله إلى ذلك الإيمان التقليدي العميق ، وإلى ذلك « الشيخ » الذي يصلهم بالله والسماء . والذي ينطق بلسان القدر الخفي ، والذي يستسلمون الله والقدر حين يستسلمون لأوامره ونواهيه ، ويطيعون إشاراته وتلميحاته ، ويجتهدون في تأويل ماخفى عليهم منها كما يجتهدون في تأويل الغيب العميق ! تلك صورة من حياة طواها الزمن – فلا رجعة لها في أغلب الظن – وهي صورة تستحق التسجيل، وقد تولى تسجيلها أنسب الأقلام لتسجيلها بين المعاصرين . ذلك أن أهم خصائص الدكتور - كما أسلفت – هو الاستعراض التصويري البطيء اللمسات وفي غير هذا المجال ربما استبطأ القارئ حركة الأسلوب ، وربما عن له في بعض المواقف أن يطلب من المؤلف الإسراع ! ولكنه هنا لا يستبطى ولا يطلب السرعة ؛ فرقعة الحياة هنا فسيحة ، والخلجات فيهاوئيدة ، وكل المطامع والمطامح وكل الأعمال والشواغل هيئة لينة قليلة محدودة . فلا داعى للسرعة ، ، ولا ضرورة للمجلة . « فالله قد خلق الدنيا في ستة أيام » كما يقولون ! ذلك اتفاق وإنه لتوفيق ! -
- ۱۲۲ – تلك قلت : إنك لا تلبث أن تحس بعد أن تقطع صفحات من هذا الكتاب الجديد أنك تعيش في جو « الأيام » وهذا صحيح في عمومه . ولكن هناك فارقا بين هذا وذاك : إن الأسلوب في « الأيام » يمضى سهلا هينا ساذجاً السذاجة الحلوة – أما الأسلوب هنا فقد كان المؤلف الكبير أكثر عناية به ، وأكثر تجويداً له . فاقترب به كثيراً تلك الأساليب الفخمة الضخمة التي نقرؤها له في كتابه القيم « على هامش السيرة » وقد يعجب هذا التجويد البارع عشاق الأساليب . أما أنا فلا أتردد في تفضيل الأسلوب الهين اللين الساذج تلك السذاجة الحلوة – كما كان في « الأيام » . فهذه الحياة التي يصورها إنما هي حياة هادئة وادعة ، وهذه الشخصيات التي يرسمها إنما هي شخصيات بسيطة ساذجة ، وقد كان جوالأسلوب في « الأيام » موافقاً لها منسجها معها . أما الأسلوب هنا فهو عال عنها مفترق منها ، وليس من السهل أن يدور بينها حوار فخم ضخم كالحوار الذي يدور بين شخصيات « على هامش السيرة » في غابر الأيام . . (( وطبيعي أننا لا ننتظر من أديب كالدكتور طه حسين أن يثبت الحوار بلغته الطبيعية ( العامية ) بين هؤلاء الناس السذج القرويين . ولكن من حقنا أن ننتظر منه أن ينقل حوارهم من لغتهم إلى لغة عربية تناسبهم ، وبذلك يكتمل الجو الذي تعيش فيه القصة ويتم الانسجام وقد أفلتت الدكتور بعض التعبيرات الساذجة في مواضعها المناسبة فكانت جميلة كما كانت مليئة بالحياة . استمع إليه وهو يتحدث عن « سليم » أحد شخصيات القصة الظرفاء . هو رجل يحب الحياة الطبيعية التي كان يحياها آباؤه وأجداده ، ثم هو يرى أخاه « خالد » الذي كان مثله بالأمس - من يجد في الحياة المدنية الجديدة ويتكلف لها ما يتكلفه المدنيون ، فلا هذا L t يعجبه – ۱۲۳ ولا يرضيه ، فهو يسخر من أخيه هذا ومن زوجته وأولاده ، ولا يفتأ يذكرهم بمنشئهم ، كلما زارهم في المدينة ، ورآهم يتكلفون ما يتكلفون! « وكان سليم أسرعهم إلى الضحك وأبطأهم في الرجوع إلى الحد ، لا يسخر من الأسرة وحدها . وإنما يسخر منها ومن نفسه كما يسخر من أي إنسان آخر وكان أشد الأشياء إثارة للغيظ في نفسه أن يرى الأسرة تعاف الماء الكدر وتحرص على ترويقه في الزير ، وتقطره في هذه الآنية تضعها تحت الأزيار، وتضع فوقها المصفاة ، كان يرى ذلك فيغتاظ ويهتاج ، ويلتفت إلى أخيه وإلى أبناء أخيه وهو يصيح فى صوته المرتفع المضحك : آه يا أولاد الكاب! من أين جاءكم هذا العز؟ إنكم لتحرمون أنفسكم خيراً كثيراً . إنكم حين تشربون هذا الماء المصفى أشبه الناس بالذين يشربون اللين بعد أن استخرج منه الزبدة . ثم يسرع إلى الكوز فيغمسه في الزير . ويعب فيه عباً شديداً ويقول : هكذا رأينا آباءنا يشربون لأنهم لم يكونوا من الترك ولا من الأرنؤوط ! . 4 4 ... وهكذا ارتسمت للقارى" لمحة من هذه الشخصيات بألوانها الطبيعية وبلغتها كذلك مترجمة إلى لغة مكافئة . فتم الانسجام فإلى القاري الآن نموذجا آخر لحوار لم يتم فيه التكافؤ ليرى القاري الفرق بين الجو هنا وهناك لسليم هذا نفسه زوجة في مثل ثقافته بل أقل ، وهي ترى أن أخاه « خالد » مهم بالزواج من امرأة أخرى بعد أن أصيبت زوجته الأولى بالجنون : تلك التي كان الشيخ قد زوجه منها وهي دميمة قبيحة شوهاء فرضى واستسلم لأمر الشيخ على الرغم من إرادة أمه التي كانت تعارض في هذا الزواج وتراه غرساً لشجرة البؤس في الدار ، ثم سخط وتألم . ثم استحالت حياته جحيها ، وهو على ذلك مستسلم مسلم . ثم هم أن يتزوج بأخرى وهنا دار الحوار بينه وبين زوجته . « قال سليم : فإنك تعلمين أن « نفيسة » لا تصلح له زوجاً ، ولا تقدر على عشرة الرجال ، فما ذنب خالد إن اعترف بالحق الواقع ؟ وهل ترين له أن يعيش مع مجنونة أو أن يفرض على نفسه حياة الرهبان ؟ قالت : لا أدرى ! ولكن جنون نفيسة لم يأنها من قبل نفسها ، وإنما جاءها من هذا الزواج الذي لم ترده ، ومن هذه الظروف التي لم تخلقها ورحم الله أم خالد إذ قالت لزوجها : إنه إن أتم هذا الزواج فلن يزيد على أن يغرس في داره شجرة البؤس - ١٣٤ - . « لقد غرست شجرة البؤس ، فنمت وآنت عمرها بشعاً خبيثا . امرأة ترزا في زوجها وابنتها معاً ، ثم ترى ابنتها وقد اصطلح عليها المرض وهجر الزوج والحرمان . فأنت تعلم أن نفيسة ليست ميسراً عليها في الرزق ولست ألوم أحداً . ولكنها فقدت ثروة أبيها ، وتفرقت ثروة على في أسرته الضخمة ، وخالد لا يرزقها إلا كما يستطيع. ثم لم يكفها هذا كله فقد رزقها هذا الزواج السعيد صبيتين ، كان من حقهما أن تنشأ في النعمة ، فهما تنشـآن في البؤس ، بين أم مريضة وجدة محزونة ، ومولاة سوداء تقوم من أمرهما بما تستطيع القيام به ، وأب ينفق الأسبوع دون أن يراهما ... كل هذا لا يكفى . فلا بد أن يتزوج خالد ومن أن يتخذ لأمهما ضرة ، ومن أن يكون له من هذه الضرة بنون وبنات يشاركونهما في حب أبيهما وبره .. فهذه الفخامة كلها في أسلوب امرأة عامية ، وهذا الاقتباس من الأساليب العربية القديمة ، أمر قد تختلف في شأنه مع الدكتور ! ثم تبقى ملاحظة أخيرة لإبرازها شأن كبير . ( ... . إن الفوارق بين ملامح هذه الشخصيات البسيطة الساذجة في واقع الحياة ا فوارق قليلة ودقيقة . فكلهم طيب ، وكلهم مؤمن بالله ، مستسلم للقدر ، مستسلم للشيخ الذي يصلهم بالله وينطق بلسان القدر . وكلهم آفاقهم قريبة ، وكلهم - ١٢٥ - مطامحهم محدودة ... من شأن هذا كله أن يزيد في عبء المؤلف الذي يريد أن يرسم ملامحهم هذه المتشابهة ، ويبرز شخصياتهم المتعددة فماذا صنع الدكتور ؟ لقد استطاع أن هذه الصور المتشابهة في دقة غريبة . فظهروا على المسرح شخوصاً آدمية متميزة لا نسخاً مكرورة معادة ، ظهروا وكل منهم يحمل طابعه ، ويلبس ثوبه ويلتقى مع الآخرين في الصفات العامة ، ثم يفترق عنهم في الملامح المميزة ... وكانت لمسات الريشة البارعة الدقيقة كفيلة بهذا كله في يسر وسهولة حتى لكأنه جهد يسير تلك في الحقيقة هي سمة الأديب « الكبير » التي ترفع العمل الفني على الرغم مما قد يكون فيه من مآخذ العرض ومن مواضع التقصير . خرج بيجاليـــــــون لتوفيق الحكيم شيء "ما في رواية « بيجاليون » جعلنى أراجع كل أعمال توفيق الحكيم التي صدرت قبلها ، كما أراجع معلوماتى عن « شخص » توفيق الحكيم . لقد لحظت للوهلة الأولى أن هناك تشابها قويا بين شخصية توفيق وشخصية سيجاليون . دوم والمؤلف يقص علينا قصة ميلاد بيجماليون في نفسه فيقول : « وأخيرا . فإن قصة بيجماليون هذه تقوم على الأسطورة الإغريقية المعروفة ولعل أول من كشف لي عن جمالها تلك اللوحة الزيتية « بيجاليون» هذه التي تقوم على الأسطورة الإغريقية المعروضة في متحف اللوفر . ما إن وقع بصرى عليها منذ نحو سبعة عشر عاما حتى حركت نفسي فكتبت وقتئذ قطعة « الحلم والحقيقة » وكنت آمل أن أعود إليها فأصنع كل ما خامرنى منها في عمل أكبر وأرحب . ومرت الأيام ، واتجهت إلى قصص القرآن و « ألف ليلة وليلة » . وكدت أنسى قصة اليونان ، حتى ذكرنى بها « برناردشو » يوم عرضت م مسرحيته « بیجالیون » في شريط من أشرطة السينما منذ عامين » . وبهذا يظن توفيق أن هناك حلقة مفقودة بين قطعة « الحلم والحقيقة » منذ سبعة عشر عاما و « بيجماليون » الأخيرة . أما الواقع فغير ذلك . إن « بيجاليون » تسربت في أثناء هذه الفترة الطويلة إلى كثير من قصص توفيق الحكيم ومقالاته . لأنها بذاتها أصيلة في طبعه وفي حياته ؛ واتخذت لي خلال تسربها صورا وأشكالا قريبة أو بعيدة عن الصورة الأصلية ، ولكنها تمت إليها بصلة القرابة . فهي هناك في « القصر المسحور » عند الموازنة بين الصورة الفنية الكاملة التي فطر عليها المؤلف « شهريار ، وقمر » والصورة الأدمية الواقعة التي ظهرا بها عند المحاكمة . وهي هناك عند الحديث عن قصور الطبيعة وعجزها عن خلق الجمال الكامل ، وعند الكلام عن علاقة الخالقين بالمخلوقين في عالم الفن وعالم الحياة الخ . وهي هناك في « الأميرة الغضبي » في كتاب ( عهد الشيطان ) عند الكلام عن تقيد الخالقين «بالتناسق» ذلك القانون الذي لا يستطيعون الخروج عنه – ولو كانوا خالقين – ذلك التناسق الذي يسمى في « بيحاليون » : « الناموس » الذي يتقيد به الآلهة ويتحرر منه الفنانون ... ! - )) - ۱۲۷ - وهي هناك في « أمام حوض المرمر » في كتاب ( عهد الشيطان ) عند ما بشير « توفيق » إلى خروج « شهر زاد » من قلبه ، كما يشير « بيجاليون » إلى « جالاتيا » من قلبه أيضا بالطريقة نفسها ، وبالأسلوب عينه خروج « - وعند الحديث عن العلاقة بين الخالقين والمخلوقين في « أمام حوض المرمر » ... الحديث الذي استغرق جزءا هاما من « بيجراليون » { )) وهي هناك في « البرج العاجي » في الخطرة الرابعة عشرة عند الكلام عن الفنانين العظام « الذي يتكبون طول حياتهم على كنوز نفوسهم وحدائقها اليانعة ، يستخرجون منها للناس فاكهة من ذهب وفضة ، تقصر الطبيعة أحيانا عن تقديم مثلها . ولكن الطبيعة تنظر إلى الفنان نظارة النشقى مع بسمة السخرية » وفي الخطرة الثلاثين حين يقول : « إنه ليخيل إلى أحيانا أن حياتنا متصلة بحياة إنتاجنا ، وأن في أعماق كل « خلاق » شبه غريزة داخلية تدفعه إلى الإنتـاج البطيء أو السريع ، تبعا لطول حياته أو قصرها » وهذه وتلك ملامح من الصورة العامة لنفس بيجماليون وفلسفته وحياته . ... – ۱۲۸ – ومالى أبعد كثيرا . و « بيجماليون » كامن هناك في « توفيق الحكيم » كما كمن من قبله « شهریار » – في شهر زاد – و « محمود » ... في سر المنتحرة - و « مختار » – في الخروج من الجنة – وكثير من شخوصه التي يخلقها على مثال صورته . تعيش بالذهن في هذه الحياة ، وتشفق من الواقع ولو كانت من قبل تتمناه ! ... فمن هو « بيجاليون » ؟ إنه الفنان الذي أحس ببرد الوحدة ، بجانب تمثاله الذي أودعه حرارة فنه ، بعد أن كان هذا التمثال حلمه وأمله ، فتمنى له حرارة الحياة ، ثم لم يرضه تحقيق ما تمنى فلما استجابت له الآلهة مرة أخرى وأعادت له تمثاله الحبيب مبرءا من الحياة الواقعية الرخيصة ، جرفه الحنين إلى حرارة الحياة مرة أخرى ، فشك في فنه ، وظل شبح المرأة الحية يتراءى له ، فيحن إليه ، ا ؟ ا ويضنيه الحرمان منه ، ولا يغنيه تمثاله الذي فتن من قبل به ! ومن هو « توفيق الحكيم » ؟ إنه الفنان الذي خلق عشرات الشخصيات الفنية في قصصه ، وأحب هذه الشخصيات ، حتى عاش حياتها ... ثم هو الذي يكتب مقالا في « الرسالة » يقول فيه هذه الكلمات . « لقد جاوزت الأربعين ، وما أبصر في الأفق طيف واحة مورقة في صحراء حياتي المحرقة . ما قيمة الشهرة بغير سعادة ، وفيم الأدب والفن بغير هناء (1) ؟ » ! هذه هي النتيجة الأولى التي خرجت بها من جولتي في أعمال توفيق الحكيم على ضوء « بيجماليون » . ... (1) كتبت هذا البحث منذ أربع سنوات ، ثم زادت الأيام اقتناعا به . فها هو ذا توفيق الحكيم أخيرا يكاد يكفر بفنه فيهبط إلى مستوى الجرائد والمجلات الأسبوعية التي تعلق الغرائز وتستلفت النظر بالمسائل اليومية والنزعات المكشوفة .. إنه « الرجل » الذي يريد أى شكل أن تراه - المرأة ، وأن تحس وجوده ، والمرأة في هذا الجيل لا يلفتها إلا التافه الرخيس من الأدب المكشوف الذي يدغدغ الغريزة . . ومن هذا الصنف يكثر الآن د الفنان الحائر » توفيق الحكيم . أما النتيجة الثانية ، فهي أن طبيعة موهبة توفيق الحكيم هي طبيعة التجريد وطبيعة الرمز والتشخيص . الحياة في عالمه هي تلك الهواجس الفكرية ، والخواطر الذهنية . والتأمل هو وسيلته لفهم هذه الحياة وتمليها . والجانب الذهني في النفس الإنسانية هو الذي يهمه ويسترعى انتباهه . أما الطبع ووشائج اللحم والدم ، وصراع الغرائز ، واضطرام الحيوية – وبتعبير آخر مجمل : الطبيعة البشرية الحية – فلا تنال التفاته ، ولا تسترعى انتباهه ومعظم مخلوقات توفيق الحكيم مخلوقات غير طبيعية ، لأنها مصورة بريشة الذهن المجرد ، لا بريشة الحياة المتدفقة – على تفاوت في حظ هذه المخلوقات من هذه الصفة وتلك – وقلما نلتقى في الحياة بأحد هذه المخلوقات التوفيقية ، إلا حين تجرد الأحياء من بعض خصائصهم الآدمية ، أو ننظر إليهم من زاوية الذهن المجرد – مع استثناء قليل في بعض شخصيات أهل الكهف ، ومع استثناء في شخصيات « عودة الروح » و « عصفور من الشرق » و « يوميات نائب في الأرياف » و « أهل الفن » . )) وهذه المخلوقات الذهنية تعجبنا وتروقنا وتستلفت أنظارنا – لأنها منسقة سيقا فنيا معجبا - ولكنها قلما تستدعى التعاطف الوجداني بيننا وبينها ، وقلما تستثير عطفنا عليها في المحنة ، أو مشاركتنا إياها في السرور ! إنها مخلوقات غريبة – بعض الشيء عالمنا البشرى . ولا جناح علينا نحن أبناء الطبيعة – أن نحب مخلوقات الطبيعة أكثر مما نحب مخلوقات توفيق الحكيم ؛ وأن نفتح مغاليق نفوسنا لتلك ، وتمنح هذه انتباهنا الذهني ، ثم يكون بيننا وبين الأولى حرارة الحياة ، وبيننا وبين الثانية آلاقة التنسيق . وقد عرفت الآن لماذا نالت : « أهل الكهف » إعجاب الدكتور طه حسين ( م – ۹) - ۱۳۰ - فأثار حولها هذه الضجة التي وجهت الأنظار بقوة إلى « توفيق الحكيم » سنة ۱۹۳۲ . ولماذا وقعت الجفوة بينه وبين « شهر زاد » بعد ذلك بعام . هناك ملابسات شخصية أحاطت بهذا الموضوع ليس هنا أوان هو طبيعة الحياة الواقعية ، الحديث عنها – ولكن يبقى وراء هذه الملابسات شيء ثابت الدكتور طه ، وطبيعة توفيق الحكيم . فالدكتور أوفر حظا وتوفيق أوفر حظا التأمل والتجريد . والدكتور معنى بالنفوس البشرية كما هي ، يتبع خطراتها ، ويقفو خطواتها ، ويتسمع همساتها – على طريقته الاستعراضية التصويرية – وتوفيق معنى بالذهن الإنساني المجرد ، يوغل في تأملاته ويسبح في فروضه ، ويثير مشكلاته ، ويتابع ومضاته . هاتان الطبيعتان تظهران متقابلتين في « القصر المسحور » كتابهما المشترك . فهو من هذه الناحية يصلح للمقابلة التامة بين طبيعتي الرجلين ، وأسلوبهما الفنى في آن(۱) . ا - ومن هنا أعجب الدكتور بأهل الكهف ، لأن مخلوقاتها من صنع الطبيعة إلى حد ما – ولو أن الرواية قائمة على مشكلة ذهنية – مشكلة الصراع بين القلب والزمن – ولكن الطبيعة الآدمية تلوح من خلال هذا الصراع . فبريسكا الأولى ، وبريسكا الثانية ، ومشيلنيا ، ومرنوش ، ويمليخا ، وغالياس ... كل من هؤلاء نستطيع أن نلتقى به في عالمنا الإنساني – على نحو ما – وأن نفتح له قلبنا في بعض اللحظات ، وأن نعاطفه ويعاطفنا . وإن قلوبنا لتخفق – وقد ونحن نشهد الصراع بينهم وبين الزمن ؛ ذلك الجبار الرهيب الذي لا يبقى على شيء لأبناء الفناء ! - هنا كذلك وقعت الجفوة بين الدكتور و « شهر زاد » . فشهر زاد ومن (۱) راجع هذا بتوسع في كتاب « المذاهب الفنية المعاصرة ، . J - ۱۳۱ - هي قصة توفيق الحكيم الكاملة – على طريقته – هي قصـة الذهن الإنساني المجرد من أوشاج البشرية ، هي قصة القلق الفكري والشك الذهنى . وإن شعاع الإيمان الوحيد في قلب « قمر» ليتراءى خافتا بين الحين والحين، ثم ينطفىء قبل أن ينير الطريق ! . وكل الشخصيات هناك شخوص رمزية لا تربطهم بالقلب الإنساني رابطة ، ولا يستثيرون عطفنا البشرى حتى في أشد مواقفهم حروجة فشهريار في حيرته المضنية ، وقلقه المنهك ، لا يستحق منا أكثر من فتح العين وانتباه الذهن ، بينها قلبنا ساكن قرير ! ! ! ومثل هذا الجو لا يستريح إليه الدكتور طه حسين . فهو قد كان مخلصا لطبيعته ، حين صادق « أهل الكهف » وحافي « شهر زاد » . وأيا كانت الملابسات الشخصية التي صاحبت تلك الصداقة وهذه الجفوة ، فإن وراءها الطبيعة المختلفة لكل من الأديبين !
( ونتيجة ثالثة خرجت بها من رحلتي في أعمال توفيق الحكيم : إن لتوفيق طريقة خاصة وأسلوبا معينا في أعماله جميعا ، فهو من هذه الناحية فنان ذو « أسلوب » وله « طريقة » إنه يثير المشكلات الفكرية ، ويصور الصراع بينها ، ويرسم لمحات ولمسات للموقعة ... ولكنه لا يرسم مرة واحدة نتيجة الصراع ؛ ولا يقف حكما بين الأفكار التي يطلقها تتصارع على مرأى منه ! إنه يدع الخط غير منته ، ويدع المشكلة قائمة . يدعها خالدة ، حلها في ضمير الغيب ، وحينها ينتهى هو من عرض القصة ، تبدأ المشكلة في ذهن القاريء ! هكذا صنع في مشكلة الصراع بين القلب والزمن في « أهل الكهف » وبين الإنسان والمكان في « شهر زاد » وبين الفنان والآلهة ، ثم بينه وبين - ۱۳۲ رغباته وملكاته في « بيجراليون » . وحينها كان بيجماليون يعانى سكرات النزع ، كانت أشواقه الفنية تتجه إلى إبداع جديد ! وهكذا صنع في « القصر المسحور » وفي « عهد الشيطان » وفى « الأميرة الغضبي » وفى « براكسا ومشكلة الحكم » وفي « عصفور من الشرق » وفى كل مشكلة عرضها في قصصه ورواياته ومقالاته على السواء . إنه الشك في طبيعة توفيق الحكيم . وإنه القلق الدفين في نفسه ، يصدانه عن التعرض للحلول الحاسمة ، وعن الفصل فيما يعرض من مشكلات وأزمات والحسم يقتفى مواجهة الواقع في الحياة أو في الخيال . وتوفيق يشفق من مواجهة الواقع في جميع الأحوال ! وقد كتب العقاد مرة نقدا لكتاب « عهد الشيطان » فاقترح على المؤلف تكملة معينة « للأميرة الغضبى » وتكملة معينة « لعهد الشيطان » . وكان في هذه التكملة حل للعقدة التي ربطها توفيق ، أو التي أشفق من حلها . واقترح عليه زيادة هاتين التكملتين في الطبعة التالية للكتاب ولو نفذ توفيق ما اقترحه العقاد لتحول عن « أسلوبه » بل لتحول عن طبيعته التي تشفق من الحل الحاسم ، وتفر من الوضوح الصريح . والحقيقة أن هذه النقطة هي مفرق الطريق بين طبيعة العقاد وطبيعة توفيق ، والتوسع في دراستها يكشف عن حدود الشخصية في هذين الأديبين
ونتيجة رابعة خرجت بها من دراستي لأعمال توفيق الحكيم إن ما يكتبه عدا القصة والرواية ، إنما هو في معظمه « مذكرات تفسيرية » (۱) انظر بتوسع كتاب « المذاهب الفنية المعاصرة » . الأفكار المجملة التي تعرضها قصصه ورواياته بشكل أحسن ، وأدخل في العمل الفنى والمقالات الوحيدة التي وجدتها جديرة بإنفاق الوقت في قراءتها مستقلة هي مقالات : « في الدين » و « في الأدب والفن » من كتابه : « تحت شمس الفكر » والخواطر المتناثرة في مقدمة « سلطان الظلام » فهي تثير مشكلات فكرية تستحق الانتباه ، ولا تتكرر مع الأفكار المعروضة في رواياته إلا في نقط قليلة وعلى أية حال فإن «الحوار» هو موهبة توفيق الحكيم ، وفي هذا الحوار تتجلى ملكته الأساسية « ملكة التنسيق الفني». وهي عنوان مذهب توفيق الحكيم(۱) O (۱) انظر كتاب « المذاهب الفنية المعاصرة » -- ١٣٤ - الرباط المقـدس هرگانه وصولا المكان التوفيق الحكيم الأفران حينها ظهر هذا الكتاب ، كتبت عنه مقالا في مجلة الرسالة جاءت فيه هذه الفقرات : « خيل إلى في وقت من الأوقات أن توفيق الحكيم قد بلغ مداه ، وارتقى آفاقه ، وأنه منذ الآن سيكرر نفسه ، مع شيء من التحوير والتعديل . « خيل إلى هذا وأنا أقرأ « سليمان الحكيم » فأجد فيه اختلافا ما في موضوعه وشخصياته عن أهل الكهف ، وشهر زاد ، و بيجالون ؛ ولكنه يتفق معها في طريقة تناول الموضوع ، وفي إدارة الحوار مع تعديل طفيف . « ثم كتب « زهرة العمر » ، فلاحت بوادر آفاق جديدة ، ولكن لها شبها في خطرات المصباح الأخضر والبرج العاجي . وإن ظهرت في صورة رسائل لا في هيئة مقالات . فالفرق في صميم العمل الفنى هنا كذلك طفيف . « ولكن هذا الوهم قد تبدد من نفسي وأنا أقرأ « الرباط المقدس » كتابه الأخير . هنا نغمة جديدة ، وعطر جديد « فالخطرات الذهنية – التي اعتدناها من المؤلف - لا تقف هنا عارية ، تتخايل بالألاقة والالتماع . إنما هي هنا تسرى في مادة حية ، وتخطر في إطار من اللحم والدم يمنحها الحرارة والحياة ... هنا قلب إنساني يضبطه ويدل على حركاته ذهن فنان . وهذه هي اللمحة الجديدة في فن توفيق الحكيم « لقد كان في « عودة الروح » و « يوميات نائب في الأرياف » شيء من . ... . - ١٣٥ - هذا . ولكن النبض الحيوى كان هناك باهتا ساكنا غير ملحوظ في ثنايا التنسيق الفنى الدقيق . أما في « الرباط المقدس » فالنبض الحيوى يساوق التنسيق الفنى ، ويبدو كلاهما كاللحمة والسدي في النسيج الواحد ، أو كالجسد والروح في الكائن الحي . « وفي الكتاب صفحات من خطرات الفكر ، ووثبات الغريزة ، وسبحات الروح ، ووسوسة الضمير ، ونزوات اللحم والدم ، وصراع القوى البشرية في النفس الواحدة ، يقل نظيرها في كل ما سجله الأدب العربي الحديث « لقد أدركت بعد قراءة الكتاب خطورة الأحكام النهائية على المعاصرين فلقد كنت أعد بحثاً عن « المدارس الأدبية المعاصرة » وكدت أنتهى إلى حكم قاطع في فن توفيق الحكيم وطبيعته وطريقته ... فهأنذا أجدني في حاجة إلى تعديلات أستمد حيثياتها من « الرباط المقدس » . كتبت هذه الفقرات ، قبل أن ينشر أحد أصدقاء الأستاذ توفيق شيئا منقولا عن الفرنسية . وقبل أن يلمح صديق آخر من أصدقائه كذلك إلى العلاقة بين الكراسة الحمراء – وهي أحر وأحيا ما في الرباط المقدس – وهذا الذي نشر اللغة الفرنسية ! لقد كان حسى لتوفيق الحكيم ! ! ! منقولا عن صادقا إذن بأن هناك طعا جديدا غير الطعم المعروف
. القصة قصة امرأة تخون ، امرأة منحرفة ، تدعوها نوازع اللحم والدم فتستجيب ، وتغريها بدعة العصر في التحلل من القيود ، فتفلسف السقوط بالحرية والتجديد ، وتنظر إلى ما تسميه « مغامرة » نظرتها إلى أمر يومي صغير ، لا يجوز أن يحطم عشا ، ولا أن يحدث ضجة ؛ ثم تسخر ما شاءت لها السخرية من رجعية الرجل ، ومن أنانيته ، لأنه يتطلب منها فراشا نظيفا ، وذرية مضمونة ! وقصة رجل سوى الفطرة ، تربى في إنجلترا ، ولكنه لم ينحل ، وعرف كيف يؤدى حقوق الزوجية كاملة . ولكن في حدود الفطرة السوية . فضاقت المرأة المنحرفة بهذه الحدود ، وتاقت نفسها إلى « المغامرة » اللذيذة والاستجابة الممنوعة - ۱۳۶ - ، وهي تصف في مذكراتها - الكراسة الحمراء – لحظات هذه الاستجابة ی وصفا حسيا عنيفاً . تصفها كما وقعت محوطة بالوهج واللهب ، مغلفة باللذة الحيوانية الهائجة ، غارقة في بحران الغيبوبة فإذا وقعت هذه المذكرات مصادفة في يد الزوج المسكين الواثق من نظافة فراشه ، كانت المفاجأة التي تهد القوى ، وتذهل اللب ، وتمسخ كل لحظة لحظات الماضي ، فتحيلها غولا لثيا ، يعذب فريسته بالسخرية اللاذعة ، قبل أن ينقض عليها ليمزقها شر تمزيق ! والقصة بعد هذا كله قصة « راهب الفكر » الذي رأى هذه المرأة أول مرة فرفعها إلى مصاف الحوريات في الفراديس ، ونسج حولها هالات والسحر ، وأقامها في مصاف الآلهة والقديسين ... ثم ... ثم إذا هو يطلع على الكارثة مع الزوج المنكوب ، فيفجع في أحلامه ، فجيعة الزوج في كيانه ، من القداسة ويحس لها بالحقد والكراهية والازدراء ، ويخيل إليه أنها انتهت من عالمه ... 1 - ... ولكن ! أجل . ولكنها « المرأة » المرأة الخالدة في ضمير كل رجل ، وراهب الفكر كذلك « رجل » هو مزيج من اللحم والدم والفكر والشعور . ولئن كانت هذه الأفعى قد سحرت فيه رجل الفكر والشعور أيام أن كانت هو عنده على الأقل – حورية أو قديسة ، فإنها اليوم لتستطيع أن تسحر فيه رجل اللحم والدم بعطرها العبق ، ونكهتها الأنثوية ؛ وأن تدعوه بصوت الغريزة فيستجيب . 6 - ۱۳۷ ولولا سبب خارج عن إرادته حسب تعبير القانون - لتم كل شيء في عالم الواقع المحسوس ، بعد أن تم في عالم الضمير المكنون . يا للمرأة ! بل يا للحياة في صورة المرأة ! وعلى الهامش رجل آخر أوقعته مذكرات الزوجة المفضوحة في شك مفترس في عشه وفراشه هو الآخر ، ولكنه لا يستطيع الجزم واليقين ، ولا يطيق الشك المؤلم فيستريح من قريب ... ينتحر ! ولا يستغرق من إلا القليل الذي يكفى للموازنة السريعة بين قسوة اليقين المحتملة على كل حال ، وقسوة الشك التي تجل عن الاحتمال القصة وأحب هنا أن أحدد الشبهة التي أشرت إليها في أول الحديث : إن هذه المرأة . هي المرأة كما يتصورها توفيق الحكيم . فالمرأة إما حورية مقدسة ، وإما بني فاجرة ، ولا وجود للمرأة السوية في كل أعماله . فصورتها هنا صورة معهودة عند توفيق ، أصيلة في تصوراته ، ولا حاجة به لأن يجتلبها ی من وراء البحار ! أما الانفعالات الحية فهي الشيء الجديد في فن توفيق ! وبعد فأشهد أن الصفحات التي تناول فيها المؤلف عرض نظريات المرأة ودواعيها ، ووصف نزواتها ومفاتنها ، وكشف حيلها ومغرياتها . كالصفحات التي صور فيها كارثة الرجل وعاطفته ، وأوضح منطقه واتجاهه . كالصفحات التي أبرز فيها « راهب الفكر» ونزعاته ، واختلاجاته ونزواته . كالصفحات التي كشفت روح العصر ، والعوامل الخفية والظاهرة التي تعمل في كيانه ... كلها صفحات رائعة فيها نكهة النضوج الأخير ولكن الصفحات التي عرض فيها صورة « الشك » لم تجيء في مستوى تلك الصفحات . جاءت مختصرة ومجملة ، جاءت في لمسات عريضة ، لم تتناول الجزئيات الثمينة في لحظات الشك المريرة . وختمت في عجلة ظاهرة ( حقيقة إن « التنسيق الفني » سمـة توفيق الحكيم الأصيلة . هو الذي يجره وضعها الحالي – إلى أن يختصر في صورة الشك ، ليوزع ، بعضهم يحتل مقدمة المسرح ويتراءى في هذه القصة – حسب أشخاص الرواية على المسرح توزيعاً فنياً دائما للجمهور ، وبعضهم يتراءى من بين الكواليس ، ثم يختفى ويفسح المجال للبطل الأصيل . فكيان القصة قائم على مواجهة الرجل السوى بالمرأة المنحرفة في العصر الحديث . وعلى اضطراب رجل الفكر بين الغريزة والوجدان أمام المرأة الخالدة ، وعلى منطق الغريزة العميقة ومنطق الفكر المحلق ، وعلى لغة الفناء الأرضى ولغة الخلود السماوي الخ . فلا مجال لعرض صورة « الشك » إلا في هذا الحيز المحدود . ولكني أخشى أن يكون تصوير « الشك » الحي في هذا المستوى الناضج ، في حاجة إلى طاقة أخرى لم يزاولها إلى اليوم توفيق الحكيم . طاقة الأضواء تتداخل في الظلال ، لا طاقة الخطوط الحاسمة تفرق بين الظل والنور ! - – ۱۳۸ - ... ثم لقد استوقفني المؤلف عند هذا الحوار بين راهب الفكر والزوجة المستهترة الساخرة من غيرة الرجل على فراشه : « ولماذا لم تتكلم بهذه الحماسة عن خيانة الأزواج ؟ - إني لم أبح للزوج أن يخون زوجته - وإذا خانها . أليس لها الحق أن تخونه ؟ - -
- لا - النغمة القديمة التي نسمعها من الرجال . تبيحون لأنفسكم ما تحرمون علمينا لأنكم أنتم السادة ونحن الإماء . - بل لأن الرجل هو الذي يعرق ، والمرأة هي التي تنفق . اكدمي كما - . - ۱۳۹ - يكدح زوجك وأعرقى كما يعرق ؛ فإذا تساويتها في التضحيات تساويتها في الحقوق - لا أقول إن الرجل يحب أن يخون . ولكنه إذا خان خان من ماله . ولكن الزوجة تخون من مال زوجها . ثم هنالك شيء آخر هو النسل فالزوج يخون ولا يدخل على زوجته نسلا مدلساً . أما الزوجة فإذا خانت أدخلت على زوجها نسلا ليس من صلبه . لن تكون هناك مساواة مطلقة بينكم وبين الرجال في هذا الإثم إلا إذا تطور الزمن تطوراً آخر فرأينا الزوجة تناضل في الحياة وتكتسب بالقدر الذي يربحه الزوج ... ثم يستطاع بواسطة العلم أو بغيره من الوسائل أن يفرز للزوج نسله عن نسل غيره بغير وقوع في شك أو ارتياب إلى أن يتم ذلك فلا تتحدثن المساواة في الخيانة - إذا حدث ذلك فلن تكون هنالك زوجية ، ولن يكون لها محل على الإطلاق . - وان يكون للخيانة عند كن لذة ولا طعم ، إذ لن يكون الزوج ضحيتها - يا لك من خبيث ! » أحسب أن هناك اعتبارات أخرى غير الاعتبارات الاقتصادية الرخيصة الخاصة بالانفاق والاعتبارات العائلية الخاصة بالنسل ؛ بل أكبر من العوامل النفسية بين الرجل والمرأة كذلك فلندع هذا كله ، ولندع منطق الأخلاق أيضا ، لننظر من ورائه إلى منطق الطبيعة أحسب أن الطبيعة الخالدة كانت تقصد الإشارة إلى معنى خاص ، وهي تقدم أنثى الإنسان – وحدها دون بقية إناث الحيوان – مختومة في الحالات السوية الغالبة ، مقفلة بذلك القفل الطبيعي الخاص ! وأنها لم تحسب حساب العلم في تطوراته التي يستطيع بها فرز النسل أو لا يستطيع . فقامت هي بوسائلها الخفية الخاصة بضمان العفة في الحدود التي تملكها . وما كان عمل فرسان القرون الوسطى. حين كانوا يلبسون زوجاتهم أحزمة ذات قفل في أثناء اغترابهم للحرب ، ... ... <-12-- إلا محاكاة لعمل الطبيعة وامتداداً له في صورة عنيفة . فمهما كانت نظرتنا نحن اليوم إلى طريقة التنفيذ ، فيجب أن نقدر أصالة الفكرة ، وعمقها في تفكير الطبيعة ، وإذا كان عصر من العصور لا يسمح بفكرة القفل المادي ، فإن هذا لا ينفى أن فكرة القفل المعنوي أصيلة في صمم الطبيعة كلها ، لا في صميم النفس الإنسانية وحدها ! إن الطبيعة لأحكم من كل فلسفة أخلاقية ، ومن كل سفسطة إباحية ، وإن كل انحراف عن سنتها لهو انزلاق إلى مهاوي الفناء ! ذلك ما يجب أن نلقى بالنا إليه ونحن نعالج مثل هذه الأمور سواء في البحوث العلمية أو الآداب والفنون ! - 141 - (( إبرهيم الثــــانى للمازني أخيرا يهتدى المازني إلى نفسه وبمضى على نهجه ، ويستغل أفضل مزاياه . و « أخيرا » هذه تعنى سنة ١٩٢٩ يوم أخرج المازني كتابه « صندوق الدنيا » وإن كان قد نشره متفرقا من قبل في صورة مقالات وإذا علمنا أن المازني بدأ ينشر سنة 1910 أو حواليها فإننا نسأل : وقيم إذن أنفق أكثر من خمسة عشر عاما قبل أن ينهج نهجه الأصيل ؟ والجواب أنه أنفقها أولا في التمهيد والتحضير لدوره الأخير ، وأنفقها ثانيا في التهيئة العامة للأذهان والأذواق مع زميله العقاد ، مع بعد ما بين الرجلين في الطبيعة والاتجاه . والواقع أنني لم أعجب لشيء عجبي لاقتران هذين الاسمين في الأذهان فترة طويلة الزمان ، وهما يكادان يتقابلان تمام التقابل في الطبيعة الفنية والإحساس بالحياة . فالعقاد موكل بالفكرة العامة والقاعدة الشاملة ، والمازني موكل بالمثال المفرد والحادثة الخاصة ، وبينها العقاد يده مباشرة على مفتاح القضية أو الفكرة أو الشخصية ، يمضى المازني في استعراض أجزائها ودقائقها مستلذا هذا الاستعراض مشغولا به عن كل ما عداه . وفى العقاد ثورة وزراية وسخط على النقائض والعيوب الكونية والاجتماعية والنفسية ، ولكنه مع هذا واثق بالحياة متفائل على وجه العموم ؛ وفى المازني قلة مبالاة وسخرية واستخفاف ، وشيء من التشاؤم يبطنه بالفكاهة والشيطنة | ومن الأمثلة الحاسمة التي مهيئها الاتفاق ، فتصور الفارق الأسيل بين اتجاهي التفكير وطريقتي النظر والتعبير ، إجابتا المازني والعقاد على سؤال في مجلة ، كان عنوانه « هل أخلاقنا في تقدم » . ی فأما العقاد فقد سارع بوضع القاعدة على طريقتهـ ونصب الميزان، وهو يقول : « نعم الأخلاق المصرية في تقدم ، أو أن الرجاء في تقدمها أقرب من اليأس ، وربما منعنا أن نرى دلائل التقدم أن الرجة عنيفة ، وأن الغبار كثير حول الأقدام وفوق الرءوس . فإذا انجلى غدا عرفنا ما خطوناه ، وما لا يزال أمامنا أن نخطوه . «ومن الواجب أن نعرف مقياس التقدم قبل أن نقيس و نضبط القياس . فمقياس التقدم عندي هو احتمال المسئولية ، لأنه الفارق بين كل متقدم وكل متأخر بلا استثناء وإذا كانت المسئولية مقياس التقدم الأوحد ، فالحرية إذن هي شرط التقدم الذي لا غنى عنه بحال من الأحوال ، لأنك لا تفرض المسئولية على إنسان مكتوف اليدين ، ولا بد من حرية حتى تكون مسئولية ، ولا بد من مسئولية حتى يكون تقدم في الحاضر والمستقبل . - ١٤٢ « هذه الفوضى التي نراها في أخلاقنا هي مظاهر الحرية الأولى ، أو هي أول مفاجأة من مفاجآنها ... الخ » وهكذا يضع المسالة في صورة قضية منطقية . ثم يأخذ في الوزن والقياس . وقد تخالف العقاد أو توافقه ، لكنك مضطر أن تنظر أولا في « مقياس التقدم » أو في « مفتاح الفكرة » الذي يلخص الرأي ، وتوزن به الجزئيات وأما المازني فراح يستعرض المظاهر الخلقية ويحكم عليها واحدا بعد الآخر حسبما رآه ، فقال :
ا «كيف تصلح أخلاق أمة والبيت فاسد ، والتفاوت بين الرجل والمرأة شديد والتربية سيئة ، والمدرسة عقيمة النهج ، والقدوة العامة على أسوأ ما يمكن أن ـ 143 - تكون ، ولا تقدير للتبعات والمسئوليات ، ولا احترام للحقوق ولا اعتراف t بوجود حدود ، ولا ثقة بإنصاف ... الخ » . وهكذا استعرض كل مظهر وكل جزئية ، وحكم عليه على انفراد . ويلاحظ أن المازني ذكر « تقدير التبعات والمسئوليات » التي ذكرها t العقاد ، ولكن هذا جاء هنا عرضا ومظهرا ، بينما جاء هناك قاعدة واصلا وعلى هذه الوتيرة تسير طبيعة العقاد وطبيعة المازني في عملهما الفنى ، بل حياتهما كذلك ، والفرق كما ترى بين الطبيعتين بعيد وبينما كان العقاد يسير على نهجه الأصيل منذ نشأته في النقد الأدبى ، وفي دراسة الشخصيات والسير ، ويتهيأ للمكانة الملحوظة التي بلغها فيما بعد في دراسة التراجم والمذاهب الفنية ، ويقطع مراحل التحضير إلى مرحلة النضوج الأخيرة على بصيرة واستواء . كان المازني يتنكب عن نهجه ، ويسير في غير طريقه ، وهو يتناول هذه الموضوعات التي يتناولها العقاد يومذاك ، إلى أن اهتدى إلى أفضل مزاياه في عام ١٩٢٩ وقبله بقليل ! وكان ذلك خيراً للأدب بلا جدال وقد أخرج المازني – وهو في التيه -- كتاب حصاد الهشيم، وكتاب قبض الريح ، والقارى، يعجب لتشابه الموضوعات في هذين الكتابين مع موضوعات کتابی « الفصول والمطالعات » للعقاد ولتشابه الاتجاه في الرأي كذلك ، وإن بقى الفارق الكبير بين الطبيعتين ، حتى في هذا الطور المختلط ، الذي لم يكن المازني فيه يفطن إلى حقيقة مزاياه . . ولا نحب أن نظام المازني فنغفل عن عوامل الزمن والبيئة التي كانت تحتم عليه هذا الاتجاه في ذلك الزمان . فأغلب الظن أن الحالة الفكرية وفهم الأدب وتقدير الفنون في هذا الوقت لم تكن تسمح بظهور أديب يكتب على نهج المازني ، الذي بدأ بصندوق الدنيا سنة ١٩٣٩ ، أو قبلها بقليل الأخير - ١٤٤ -- وحسبنا لمعرفة هذه الحالة ولتقدير الجهد الذي بذله المازني والعقاد في تصحيح مقاييس الأدب والفنون العامة ، أن نعلم شيئا عن المشكلات التي كانا يعانيان شرحها وهي اليوم في حياتنا الأدبية من البديهيات . فسائل مثل : وحدة الشعر القصيدة لا البيت ، تطور اللغة وأساليبها بتطور الزمان ، التصوير الفتوغرافي في الفنون لا يعد عملا فنيا ... إلى آخر هذه البديهيات ، كانت في ذلك الحين من أعوص المشكلات ! هی ا ولقد قرأت بعطف كبير قول المازني في « حصاد الهشيم » : من الذي یعنی « ما مصير كل هذا الذي سودت به الورق ، وشغلت به المطابع، وصدعت به القراء ؟ إنه كله سيفنى ويطوى بلا مراء ، فقد قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد ، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق ، وتسوية الأرض لمن يأتون من بعدهم . ومن الذي يذكر العمال الذين ..ووا الأرض ومهدوها ورصفوها ؟ بالبحث عن أسماء هؤلاء المجاهيد الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد ؟ وبعد ؟ وبعد أن تعهد الأرض وينتظم الطريق ، يأتى نفر من بعدنا ويسيرون إلى آخره ، ويقيمون على جانبيه القصور شاهقة باذخة ، ويذكرون بقصورهم و ننسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها سامقة رائعة ، والذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد ! ه فلندع الخلود إذن ، ولنسأل «كم شبرا مهدنا الطريق ؟ » . وهذه الفكرة هي التي أوضحها العقاد من قبل أيضا في مقدمته لكتاب « الغربال » لميخائيل نعيمة سنة ١٩٢٣ في هذه الفقرات : « وإني لأعرف كيف يستحق النعيمي التهنئة بجرأته التي ظهر بها في مقالاته وصراحته التي تقدم بها إلى غربلة الناس والكتب والآراء ، لأنني أعرف الآراء المستحدثة ، وما تجلبه على أصحابها من الغضب والملاحاة في بلاد العالم أجمع ، وفى بلاد الشرق خاصة ، أعرف أن ليس أضيع عندنا من مجترىء على تمزيق غلاف 11201 الأجنة عن جوارحه ، واستنشاق هوائه بأنفه ؛ وأن ليس أخسر صفقة في موازيننا من عمل داع إلى جديد ، لأن أنصار الجديد قليل في كل جيل ، والفاهمين منهم لا ينصرون أقل من القليل . ولا يزال هؤلاء الأنصار قلة متوارية أو كاشفة كتوارية ، حتى إذا كثروا وانتشروا والتف شملهم ، واشتد أزرهم ، ضاع المقياس الذي يقاس به فضل الداعي ، ونسى عمله ، وبدا للخالفين من بعده كالذي يحمل المعول الكبير يضرب في الهواء ، ويغضب به على الفضاء ، ويتصبب عرقا في غير شيء . ذلك لأن السد الذي كان أمامه ، والذي كان لا يبر يبرح قائما قاعدا يضر به ، ويفنى عافيته وخطوطه وآماله في هدمه يكون قد عفا في ذلك الحين ، وتمهد مكانه الطريق سهلا سويا تدوسه السابلة ، ولا تتعثر فيه أقدام الأطفال ؛ ولا يبقى له من الأثر إلا ذلك الجهاد المغموط البادي للمين في تلك الصورة العابثة الهازلة – أو قل الضحكة - صورة الضارب بالمعول في أحشاء الفراغ ... ولا والله ما هي بعبث هازل ، ولا ضحك ضاحك ، ولكنها صعقات وأهوال وأشجان . أما جزاء ذلك الداعي الشهيد على ما أسلف من الخير ، وبذل من مهجة القلب ، فمن ذا الذي يعنيه أن يذكره ؟ لعله يبقى مدخرا في ذمة « أبو لون » وناهيك بما في ذمم الأوثان المعبودة من هضم وسعة » . ا جهد المازني أدركني عطف كبير وأنا أقرأ هذه السطور وتلك ، وأراجع وجهد العقاد في التمهيد نحو ربع قرن من الزمان ، ووددت لو كان المازني بجانبي حينئذ ، لأقول له : من « لا يا مازنى ، إن نصيبك ونصيب زميلك لأكبر مجرد التمهيد ، فلقد بنيت بعد ذلك -- على طريقتك بنايات جميلة نابضة بالحياة في « إبراهيم الكاتب ، وإبراهيم الثاني ، وفي صندوق الدنيا ، وفي الطريق» كما أقام هو – على ( م – ۱۰ ) 1 - 146 - طريقته – بنايات معمورة الأركان في التراجم الأخيرة على الخصوص ! »
- * *
اهتدى المازني إلى خصائصه وسار أخيرا على نهجه ، فما هذا النهج وما تلك الخصائص بالتفصيل ، بعد ما تقدم من الإجمال ( في المازني فكاهة ودعابة وسخرية ، وقد يفهم بعض الذين تصدوا للنقد بلا عدة وافية أنها غاية خصائصه ومزاياه . وهي منها ، ولها قيمتها في تلوين أدبه بلونه الخاص ، ولكني لا أراها في مجموعها خير ما في المازني الفنان ؛ فكثيرا ما تقوم دعابات المازني على نوع من سوء التفاهم المتعمد ، والفارقات الكثيرة في الحركات الذهنية التي تقابل مفارقات الحركات الحسية في بعض أدوار « لوريل وهاردي » المشهورة ، ولو عدل هذا « التوليف » الخاص لفقدت كل مزيتها وليس هذا من الدعابة العميقة الأصيلة ، ولا يمنع هذا أن يصل بعضها إلى القمة حين يلاحظ المازني المفارقات الإنسانية والنفسية ، ويسى العبث بالحركات الذهنية والمغالطات اللفظية ، وأبرز ما يكون ذلك حين يضبط نفسه أو نفس سواه ، وهى تغالط نفسها لتهرب من مواجهة موقف ، أو تتوارى من الكشف في وضح النهار أو تدعى فضلا ليس لها وتنكر سيئة عملتها ! وللمازني في هذا نماذج قليلة نسبيا ، ولكنها من أمتع وأقوى ما تحويه الآداب . من أما مزية المازني الكبرى فهي طريقة إحساسه بالحياة : إذا كان بعض العيون يأخذ الحياة جملة ، فعين المازني تأخذ الحياة بالتفصيل ، وهي عين مفتوحة واعية فاحضة ، لا تفوتها حركة ولا يند عنها لون ، وهى تستعرض الحياة والمناظر والنفوس والأشياء ، ولا تشبع من النظر التقاط ومن هذه الدقائق في يقظة وانفعال . ( - 147 - وليس كل كائن في الحياة موجودا بالقياس إلى النفس الإنسانية ، إنما تملك النفس ما تفطن له وما تنفعل به ، واللحظة القصيرة تطول وتضخم إذا هي امتلأت بالأحاسيس وأفهمت بالانفعالات ، والتقطت العين والنفس كل أو معظم ما تنطوى عليه من الدقائق والتفصيلات . وكذلك يصنع المازني باللحظات ، وكذلك يملؤها حتى يكظها ويرحمها بالانفعالات . وقد لا يبلغ أغوار الحياة ولا قلالها ، ولكنه يذرعها طولا وعرضا ويلحظ كل دقيق لا تأخذه العيون ، فإذا هو في حفل من الصور والحركات والتصورات ، وإذا هو يعيد إليك هذه الصور المتحركة في حرارة فائرة كأنها حية حاضرة . تلك مزية المازني التي لا نظير له فيها في اللغة العربية كلها ، إلا ما قد يقع لابن الرومي في بعض قصائده ، مع الفارق بين قيود النظم وضروراته ، وانطلاق النثر وحريته
وبعد فما قيمة « إبرهيم الثاني » التي كنا ننوى الحديث عنها ، فأعدانا المازني في هذا الاستطراد ! هي قصة قلب إنساني يضطرب في عواطفه اضطرابا طبيعيا حيا صادقا تجاه ثلاث من النساء ، كل منهن نموذج من المرأة يلتقى مع الأخريات في الجنس ويفترق في الطراز . وكل منهن امرأة طبيعية في هذا الاتجاه . وهو قلب إنساني حافل بالتجارب مثقل بالقيود – وفي أولها قيد المعرفة ولكنه فائض بالحيوية ، زاخر بالعواطف ، يضطرب، بين الأثقال ، هذه القيود والمؤلف الواعى يسجل كل حقيقة وكل اختلاجة في الثقيل ويتفلت من . - 148 - دقة كاملة ويبطن ذلك كله بالدعابة الساخرة التي لا تنجو منها شخصية من شخصيات القصة جميعا ! و « الحدوثة » في ذاتها قد لا تكون خير ما في القصة ، ولكن الفطنة للمواقف والمشاعر ، والدقة في رسم اللحظات والانفعالات ، والانسياب الطبيعي الذي يشعرك أن الحياة تجرى في الورق كما تجري في الواقع اليومى ... كل هذه مزايا ذات شأن في تقويم القصة وتقديرها وكلها تتفق « لإبرهيم الثاني » أحسن اتفاق ، فالحركة والملاحظة والوعى لأدق الخلجات وأخفى التصورات ، وخلع الحياة الفنية على الفتات الذي لا يعني به الكثيرون ، يشيع الحيوية واللذة والانفعال . ويصعب في القصة بالذات ، الاجتزاء بالمثال ، فليقرأها من يريد التطبيق على هذا المقال ...! مه -181- الرواية الشعرية بين شوقى وعزيز أباظة كتب الدكتور أحمد بك زكي يوازن بين هاتين الروايتين فقال : « وجلست إلى « قيس ولبنى » أقرؤه ساعتين حتى أتيت على آخره أفتدري إلام شاقني ؟ شاقني إلى صنوه « مجنون ليلى » الشوق بك . ومددت يدي فجررته من محبسه على رف الكتب . وأخذت أقرأ لشوقى ، فما أحسست أني انتقلت بعيداً . كان إحساسي إحساس من انتقل من منشستر إلى لندن ، أو من ليون إلى باريس ، أو من الاسكندرية إلى القاهرة . الناس هم الناس ، واللسان هو اللسان ، وأسلوب العيش هو أسلوب العيش ، والمدنية هي المدنية ، وإنما في ظرف أكبر . فعزيز يترسم خطوات شوقى ، وله في جزالة لفظه ما يعينه على أن يحاكيه فيقاربه ، وبقاربه كثيراً . وهذه خير تحية يحيا بها شاعر في مصر أو في الشرق كله « كان هذا إحساسي ، إلى أن بلغت إلى قول شوق على لسان قيس . قيس ا ليلى . إذ بلغ وهو في سبيله إلى ليلى ، جبل التوباد ، ملعب صباهما ومرتع شبابهما ، قال قيس ليلى : جبل التوباد حيــاك الحيا وســـــــــقى الله صبايا ورعى فيك ناغينا الهوى من مهده ورضعناه فكنت المرضعـا . <-10.1 وحدونا الشمس في مغربها وبكرنا فسبقنا المطلع وعلى سفحك عشنا زمناً ورعينا غنم الأهـــل معا هذه الربوة كانت ملعباً لشيابينا وكانت مرتــا بنينا في حصاها أربعاً وانثنينـا فمحونا الأربعا وخططنا في نقا الرمل فلم تحفظ الريح ولا الرمل وعى ! لم تزل ليلى بعينى طفلة لم تزد عن أمس إلا أصبعا ما لأحجارك مما كلما هاج بي الشوق أبت أن تسمعا كلما جئتك راجعت الصبا فأبت أيامه أن ترجعـا قد بهون، العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا « الله ! الله ! مرة أخرى ، لهذا البيت الأخير « بلغت هذه القطعة ، فقلت : معيار المقارنة أن أجد مثلها لقيس لبني وبحثت فلم أجد . « أم أنا عميت ؟ ربما ... « أم أني نظرت في الكتابين نظرة القاري العادي ، ومثل هذا الذي طلبت يحتاج لا إلى بصر قاری مثلي عابر ، وإنما إلى بصيرة أديب مكين ؟ ربما أيضا » .
. ومع احترامي لهذا التواضع العلمي النبيل فيا كتبه الدكتور العالم الأديب وهي عاطفة إنسانية عامة فإني أخشى أن تكون عاطفة « تقديس الموتى » وعاطفة مصرية خاصة كل ما يكتبه ! قد غلبت في نفسه على حاسة الفن ، التي ألمحها في وإلا فما يمكن أن يقرأ الإنسان هاتين الروايتين في وقت واحد ، دون أن <11011 يحس بالفارق الهائل بين الحياة الحارة والصدق الطبيعي ، في « قيس ولبنى » ، وبين الموت البارد ، والتلفيق المتهافت في «مجنون ليلى » من ناحية رسم الشخصيات وإجراء الحوادث والعرض الفنى . ولا بين الطلاقة والقدرة على الأداء في الرواية الأولى ، والاضطرار والتهافت في مواضع كثيرة من الرواية الثانية ويجب أن يلاحظ أننى أتحدث « الروايتين » لا « الشاعرين » عن عن فشوقي الشاعر قد يكون أكبر من عزيز أباظة الشاعر في مجموعهما . ولكن رواية « مجنون ليلى » أصغر بما لا يقاس من رواية « قيس ولبنى » . أصغر من جميع الوجوه التي تقاس منها الرواية الشعرية والقطعة التي اقتبسها الدكتور زكى « مجنون ليلى » قطعة عذبة النغمة من جميلة التصوير ، وهناك قطعة أخرى أو قطعتان في الرواية هذا النوع ولكن الرواية وحدة كاملة تقاس بمجموعها : برسم الحوادث ، وعرض المشاهد ، والتعبير القوى عن هذا كله في النهاية ، وقياس من الشخصيات ، وإجراء . (( الروايتين على هذا النحو ، لايدع مجالا للشك في تقرير الحقيقة التي أسلفناها إن معظم الخطأ الذي قد نقع فيه عند الموازنة بين عمل شاعر كشوق نال في زمانه شهرة عالية ؛ وعمل لأحد الأدباء المعاصرين . إنما ينشأ من اعتمادنا على ما تحوى ذاكرتنا من طنين سابق ؛ واطمئناننا إلى هذه الأوهام المقررة ؛ والاستغناء بذلك عن مراجعة الأثر الفنى مراجعة جديدة . .
ولكن الدكتور زكي بك يقول : إنه أعاد قراءة « مجنون ليلى » . وهذا هو موضع العجب . فالأمر من الوضوح الحاسم ، بحيث لا يقع فيه التباس . إن عمل شوقي بك في « مجنون ليلى » كان عملا مشكوراً من الوجهة التاريخية في الأدب . وذلك لفتح هذا المجال ، ومحاولة نظم الرواية في اللغة العربية - وإن يكن غيره قد حاول قبله ولم يبلغ ما بلغه وعند هذا الحد يقف تقدير هذه الروايات التي أخرجها جميعا ، و « مجنون ليلى » في أولها . ا - ١٥٢ - فأما حين تعرض هذه الروايات للتقدير الفنى ، فإنها تبدو عملا بدائيا متهافتاً من جميع الوجوه . ا وأول ما يلحظه الناقد في « مجنون ليلى » هو البرود والركود . فالمجنون - وهو المثل الأعلى لحرارة العاطفة ، وللجد فيها ذلك الجد المتلف – يصبح في يد شوقى طيفاً متهافتاً ، كأنه أحد شبان القاهرة المترفين الأطرياءاللطاف! كل حرارة الحب عنده بكاء ودموع وإغماء . وذلك كل نصيبه من الجد في هذه العاطفة المشبوبة . بينما يلمح في « قيس ولبنى » حرارة العاشق ، وحركة الإنسان ، وفحولة هذه العاطفة في نفسه المحبة المهتاجة - ا إنك لا تلمح مرة واحدة في « مجنون ليلى » تلك الحرقة اللاعجة ، ولا تلك الثورة العاصفة . ولم تكن كل ميزة المجنون هي الحب المتهالك الذائب من الرقة والحنين - كما فهم شوقى وكما يفهم الكثيرون من الظرفاء المترفين الوادعين - إنما كانت في الثورة المشبوبة والحرقة الموقدة ، والاضطرام العنيف لقد كان يحب ، ولم يكن « يتدلع » ! وكان هذا الحب يتعمقه وبهيجه ويشقيه ، وكان هذا الحب يقيمه ويقعده ويثير أعمق مشاعره ، ويهزه في الصميم ؛ ولم يكن الاغماء والنواح هو كل حظه من الحب المجنون ! استمع إليه فيما يروى له من شعر ، ثم استمع إليه فيما ينطقه به شوقى ، تجد المسافة شاسعة بين شعور وشعور : استمع إليه يقول : فيارب إذ صبرت ليلى هي التي فزنى بعينيهـا كما زنها ليا فإنى بليلى قد لقيت الدواهيا وإلا فبغضها إلى وأهلهـا أو قوله : كأن فؤادي في مخالب طـائر إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا 11011 كأن فجاج الأرض حلقة خاتم على فما تزداد طولا ولا عرضاً هذه النعمة الجادة ، التي تشعرك « بالهول » في هذا الحب العنيف العميق ، لا تسمعها مرة واحدة في « مجنون ليلى » وذلك هو المقياس الأول في صحة رسم شخصية المجنون وتصوير عاطفته كانسان يحب حقيقة ، لا مترف يتظرف بالتهالك في الحب و « يذوب » حنينا وإغماء كأن « الذوبان » هو وحده دلالة الحب الإنساني العميق ! 6 فإذا شئت هذه النعمة الجادة الصادقة العميقة ، فإنك واجدها في « قيس ولبنى » ا إن شوقي لم يعرف الحب ، وأغلب الظن أنه لم يعرف « الألم » والألم هو ذلك الزاد الإلهي ، الذي يفجر عواطف الفنان ، وبدونه يصبح الفن بل تصبح الحياة كلها متعة رخية توحى باللطف والرقة ، ولكنها لا توحى بالعمق والصدق وما الحب وما الحياة بدون الألم الصادق العميق ؟ ) ا أما عرض المواقف والمشاهد ، فتبدو فيها السذاجة وقلة الحيلة ، في إثارة النظارة بالمشاهد الملفقة ، وذلك طبيعي مادامت الحرارة الإنسانية الطبيعية مفقودة . وإلا ففيم هذا الإغماء الذي لا يفيق منه المجنون حتى يعود إليه خمس مرات ! لقد أغمى على « قيس لبنى » مرتين . ولكن ذلك كان لمرض هذه ولأزمات نفسية حقيقية تهد الكيان . أما المجنون ، فيبدو لنا متهالكا متهافتا منذ أول فصل في الرواية ، قبل أية أزمة من الأزمات ، قبل أن تمنع منه ليلى وقبل أن يهدر دمه وقبل أن تتزوج سواه ، فكأنما هو « مستعد سلفا » لهذا« الذوبان » الرقيق ، لأن هذه هي سمة الحب الوحيدة ، كما يتوهمها الرجل الظريف ! ومشهد وادي عبقر وشياطينه وحواره مع شيطانه ، وكذلك مشهد الصبية الذين يتحاورون : فريق مع المجنون وفريق عليه . كلاهما حيلة من الحيل الرخيصة التي تنشئها « قلة الحيلة » للفت النظر ، حينها تقل الحرارة الطبيعية الصادقة ! وأعجب شيء هو ذلك الخصام بين رجال قيس ورجال ليلى ، وكأنه لا يجري في الصحراء وما بها من رجولة وفتوة ، إنما يجري في « صالون » بين بعض المترفين ما أراد شوقى أن يقلد شكسبير في يوليوس قيصر الظرفاء ، ويا للاخفاق عند فيصور ثورة الجماهير واندفاعها من جانب إلى جانب ، متأثرة ببلاغة خطيب ! وموقف « ورد » زوج ليلى ذلك الموقف الطري" المريب ! ألكي يقول لنا إنه رجل كريم عطوف لنا «عزيز أباظة» ذلك الموقف نفسه أو ما يشبهه يقفه زوج لبنى فلم يمل به إلى هذه الطراوة المخنثة ، وهو يصور نبله وكرمه . ذلك أنه صوره « إنساناه حيا ، لا دمية من الدمى ، التي عرضها شوفى وسماها أشخاصاً وذلك في الحقيقة هو الفارق الأصيل بين الروايتين والمؤلفين وهو يلخص الفوارق كلها ، ويختصرها : الصدق والطبيعة ، والتلفيق والصنعة ، في كل موقف ، وفي كل شخصية ، وفي كل عاطفة أو شعور . . لقد صور ا - 154 - ففي بيت واحد كهذا : ومن العجيب أن تخون شوقي في رواياته الشعرية أقوى خصائصه التي بهرت أهل زمانه ، وهي قوة الأداء ووضوح التنغيم . ففى مجنون ليلى اضطرارات في لا تحدلها مثالا واحداً في « قيس ولبنى » التعبير 6 @ لم إذن يا هند من قيس ومما قال تبرا يضطر إلى تسكين الميم في « لم » وتسهيل الهمزة في تبرأ . ويطرد هذا التسهيل في مواضع شتى مثل ( كيف تجرا ) أي تجرأ ، و ( تهزا بنا ) أي تهزأ ... الخ . وتشاء تصبح « تشا » فقط اضطراراً للقافية في قوله : ولیلی تفيض على من تشاء رضاها وتحرمه من تشا و « منازل » تصبح « أمناز » فقط لضرورة الوزن في قوله : . 100- -- « أنعم ( مناز ) مساء نعمت سعد مساء » وليلي تصبح ( ليل ) لنفس السبب في بيت ينطق به ثلاثة : أوغل الليل فلنقم بل رويداً واسمعى (ليل) خل عن دعنى ومظلوم هذا « الترخيم » الذي يسرف شوقى في استعماله كلما نادى واحتاج للحذف خضوعاً للضرورات النظمية ! وشيطان من وادي عبقر ثمن يوحون بالشعر للشعراء يهبط ويهبط حتى يضع ، لا الناهية في موضع لا النافية لضعفه في النظم كقوله : « لاأدر . تلك ضجة »! وكثير من مثل هذه الاضطرارات التي يعانيها المبتدئون في النظم ، والتي تندر في شعر شوقي في غير الروايات ، مما يدل على أنه كان يعاني ، لا في تلفيق المواقف فحسب ، ولكن في تذليل النظم أيضاً وهذه عيوب تفهم حين ننظر إليها نظرة تاريخية كما قلنا ، فنسجل أن شوق كان يطوع اللغة لفن جديد عليها . فكان عمله هو عمل المبتدى ؛ وجهده هو جهد المبتدى ، وهذا كلام مفهوم . فأما حين نقيسه إلى عمل ناضج من الوجهة الفنية ومن الوجهة التعبيرية كالعمل الذي قام به عزيز أباظة في « قيس ولبنى » فإننا نشعر بالفارق العظيم بين العملين من الوجهة الفنية الصحيحة . . - 156 - { العباسـة لعزيز أباظـة هذه مسرحية المؤلف الثانية . وقد اختلف استقبالها من المعلقين والنقاد استقبال سابقتها « قيس ولبنى » ... . قوبلت الأولى بالترحيب الخالص والثناء المطلق ، بينما اختلفت الآراء في استقبال الثانية ، وتعرضت للنقد الذي بلغ بعضه حد العنف والهجوم . وهذه ظاهرة طيبة ذات مغزى قيم للأدب وللمؤلف جميعاً . وأقل ما تدل عليه أن عنصر المجاملة لم يعد هو الذي يقرر مصاير الأمور في الأدب .. وأقول : « المجاملة » دون أن أنتقص من قيمة « قيس ولبنى » التي كان لي أنا بالذات موقف قوى في تقديرها ، ورأى قاطع في تفوق مستواها الفني والأدبي بالقياس إلى كل ما تحويه اللغة العربية من نظائرها . ولكنى أقول : « المجاملة » لأن العمل الفني الواحد الذي يحوز رضاء الجميع . كما بدا في استقبال « قيس ولبنى » غير موجود وهناك دلالة أخرى لهذا النقد الذي واجهته « العباسة » وهي أن عزيز أباظة لم يعد ضيفاً على مائدة الأدب ، يفسح له أصحاب المأدية وبهشون في وجهه ، ويبشون كما يصنع للضيفان – إنما هو اليوم من أصحاب المأدبة . يأخذ مكانه بينهم باستحقاقه وجهده ، وعليه أن يشق طريقه ويحتمل صدمات الزحام ، والذي لا شك فيه أنه قادر على الصدام في الزحام ! تدور المسرحية على « نكبة البرامكة » هذه النكبة التي طالما هزت مشاعر الشعراء في حينها وبعده بعشرات السنين ، حتى لقد كان بعض الشعراء يعرض نفسه للموت في أيام بني العباس ليطوف خفية بقبور البرامكة منشداً مآثرهم . كما ورد في بعض الأخبار - ١٥٧ . . ليس عجيباً إذن أن تعود هذه المأساة فتحرك شاعراً عاطفياً مثل عزيز أباظة في القرن العشرين . وللمأساة جانبها التاريخي الراجح ، وجانبها الأسطوري الذي يصاحب عادة مثل هذه المآسي . والذين تتبعوا عزيز أباظة في « أنات حائرة » وفي « قيس ولبني » ، وعرفوا منهما لون مزاجه لم يكونوا ليشكوا في أي الجانبين يختار ليقيم على أساس روايته ، هذا فان المؤلف حين أقام روايته على الجانب الأسطوري المستند على ه خرافة زواج العباسة الصوري وفتوى أبي يوسف بحل النظر وحده تمكيناً للرشيد من أن يجمع بينها وبين جعفر في مجلسه » . لم يغفل الجانب التاريخي خوف الرشيد من طموح البرامكة إلى الخلافة أو تسليمها للطالبيين وهو منافسي العباسيين ( وبخاصة بعد موقف جعفر البرمكي من يحيى الطالبي ) وغيرته من البرامكة الذين أسلمهم مقاليد الأمور في الخلافة . فعلوا حتى على الخليفة ، وانصرف إليهم الشعراء والقصاد بالأماديع والمطالب ... ولكن المتتبع للرواية يلمح ميلا ظاهراً إلى ترجيح المؤلف للجانب الأول واتكائه عليه في بناء الرواية كله . وليس لأحد أن يملى على المؤلف اتجاهاً معينا : إلى التاريخ الراجح أو الأسطورة الشائعة ، أو إلى المزج بينهما مزجاً متعادلا أو غير متعادل ، فالعمل الفني حر في اختيار طريقه ، وكل ما لنا هو أن نسأل في النهاية أو فـق أم لم يوفق الناحية الفنية البحتة ؟ وهل أضاف ثروة فنية أو نفسية إلى الرواية بمخالفة للمأساة التاريخ ؟ ... وهذا ما سنجيب عنه بعد قليل . ولقد لفتت نظري تلك البدعة الغالية في تقديس الماضي ، التي تقول إن في إقامة المسرحية على أساس هذه الأسطورة الشائعة تشويها للحضارة وتجريحاً للشخصيات التاريخية وفات الذين قالوا بهذا القول أن تلك الأسطورة ليست من صنع « عزيز أباظة » فهو لم يبتدعها ابتداءاً ؛ إنما هي رواية وعاها التاريخ محققاً أوغير محقق ، وعاشت بعد المأساة إلى اليوم . فإذا جنح مؤلف إلى استخدامها في عمل فني - لا في تحقيق تاریخی – فانه لا يكون قد صنع شيئا أكثر من ترديد رواية قائمة وصوغها في صورة تنقلها إلى المستوى الفنى والذين يستعظمون أن يخون « جعفر » عهده مع الهوى مع « العباسة » ويستعظمون على « العباسة » هاشمية – أن تضعف فتستسلم ... هؤلاء إنما يقدسون غير مقدس ، فوق إغفالهم للنوازع البشرية الحية التي هي قوام الحياة وقوام الفن أيضاً 11011 - على أن الراجح تاريخياً أن « العباسة » كأختها « علية بنت المهدي » لم تكن فوق مستوى الشبهات – وعلم ذلك عند الله طبعاً . ولكننا في الدوائر الإخبارية تذكر هذا – وهناك رواية تقول : إنه كانت لجعفر « قهرمانة » تزين له الجواري والنساء ، وتقدمهن إليه في لياليه الحمراء ، وإن العباسة كانت مولهة الذي نشأ صغيراً مع أخيها هرون – ولكن مكانها من الخليفة وهو لم يكن يبيح لها ولا لجعفر إرواء هذا التوله ، فرغبت إلى قهرمانته أن تقدمها إليه في ليلة دون تعريف ... وكان هذا ، فلما كشفت له عن شخصيتها بعد ، تعاظمه الأمر وتوقع الشر . يجعفر وغير « عزيز أباظة » كان يؤثر أن يقيم روايته على مثل هذا الاتجاه ))> - « الرشيد » وأن يطيع بحجة أنها أميرة - دون أن يلومه أحد – وكان يجد في نزوات الوجد الجامح ، واندفاعات الهوى الآثم مجالا فسيحا لتصوير النفس البشرية – في أحد جوانبها – ولتصوير الجانب الداعر كذلك من الحضارة العباسية – وهو موجود بلا مراء مع جوانبها الأخرى . كما يجد مجالا لتصوير الدسائس تحاك حول البرامكة من الحاسدين والموغورين ، وتثير انفعالات النقمة وأحاسيس الشرف في نفس الرشيد ... الخ . ولكن «عزيز أباظة» بفطرته الطيبة ، وبطهارة ضميره ونقاوته ، ثم بتجربته العائلية المقدسة لديه ، لا يجنح إلى استلهام مثل هذا الجانب في حياة الناس ، فهو موكل بالحديث عن العواطف الزوجية ورفعها إلى مستوى الطهارة المقدسة من جهة ، وإلى مستوى الإحساس الفني من جهة أخرى – ولما كانت الحياة الزوجية بحكم هدوئها وتسلسلها قد لا يجد الفن فيها من الوهج والحرارة ما يجعلها تدخل دائرته ، فقد توكل بها هذا الشاعر العاطفي ، ينفث فيها من الوهج ، ويبعث فيها من الحرارة ما يرفعها إلى المستوى الفني في أعماله كلها ، سواء في ذلك « أنات حائرة » أو « قيس ولبنى » أو روايته « العباسة » الأخيرة . ولهذا اختار أسطورة الزواج الصوري – وما فيه من تطلع وحرمان – ليوقع عليها أنغامه وأحرها وايرتفع بنغات الحب الزوجي إلى مستوى نغمات الحب أعذب ( - 109 - . D العذري في جميع العصور وها قد رأينا أنه لم يكن هناك تجريح لجعفر ولا للعباسة ، بل كان هناك تطهير لها ، إذا نحن راعينا بعض الروايات التي تقصها الأخبار أما شخصية الرشيد فأنا ألاحظ أنها بدت في الرواية أصغر مما هي فعلا بل لقد بدت زرية في بعض المواقف . ولكني لا أذهب في هذا مذهب الذين يقدسون الرشيد وينظرون إليه بعدسة الأساطير المكبرة والواقع أننا نخلط في تصورنا بين عظمة عهد الرشيد والرشيد نفسه وهذا الخطأ التاريخي ... فعهد الرشيد كان عظيها بالفعل – وإن لم يبلغ إلى المستوى دو - 160 - ولكن الرشيد نفسه لم يكن في الأسطوري الذي يعيش في بعض الأذهان عظمة عهده . ذلك أنه كان وارثا للعظمة التي أسسها المنصور ودعمها المهدى ، فكان نصيبه هو نصيب الوارث لرصيد ضخم قد يستأهله ولكن عمله فيه محدود ، وهو على أي حال لا يبلغ عظمة المنصور العبقرية في بناء الدولة ، ولا عظمة المأمون الفكرية في بناء الحضارة العقلية - والذي يؤخذ من وفاته صغيراً في نحو الخامسة والأربعين ، ومن تصرفاته كذلك ، أنه كان عصبي المزاج ، سريع الانفعال ، كثير التقلب من طرف إلى طرف في المشاعر الإنسانية ، مغرفاً في المتاع ، مفرطاً في الشهوات – على ما كان ينتابه من نوبات الزهد وانفعالات العبادة ، فتلك سمة هذا المزاج المتقلب – وكان لهذا كله أثره في معاجله المنية له في شرخ الشباب . والآن نعود إلى السؤال الذي أرجأنا الإجابة عنه ، فنسأل : أوفق المؤلف أم لم يوفق من الناحية الفنية البحتة . وزاد في الثروة الفنية والنفسية بمخالفة التاريخ أم لم يزد ؟ . والإجابة على هذا تقتضى أن نوقع حوله بضعة تقاسيم ، قبل أن تدخل في الصميم ! إذا كان العمل الفني غير مطالب بموافقة الحوادث التاريخية الجزئية ، فإنه مطالب بصحة تصوير الجو التاريخي العام . وقد كانت الفرصة سانحة للمؤلف ليصور عهد الرشيد كله في ضوء نكبة البرامكة . ولكنه ضيق الدائرة فكاد يحصرها في قصر الرشيد وفي دسائس القصر حول البرامكة ومكايد نسائه وثورة بغداد ، وعلى الهامش ثورة مصر وثورة الشام ، وهي الثورات التي ألم بها المؤلف في الطريق ولقد كانت حياة العصر وحياة الرشيد نفسه أوسع من أن تحصر في هذا المحيط الضيق ، كانت هناك غزوات الروم ، وهي التي أنفق فيها الرشيد سنوات من حياته وكانت هناك حجاته المتوالية التي كانت سنواته دولة بينها وبين الغزوات . ولإحدى هذه الحجات علاقة بجعفر فقد سبقت النكبة وكان لجعفر فيها مكان ملحوظ – وهذه وتلك لم يبد لها ظل في الرواية كلها – وكانت هناك حضارة العصر المادية والروحية والفنية بشتى مظاهرها وملابساتها وهذه وردت في الرواية إشارات لها ، ولكنها إشارات لفظية في معرض تفاخر الرشيد أو الثناء على البرامكة – وكان يمكن إبرازها في ملابسات أظهر وأقوى من الكلمات المجردة ، وإظهار إشعاعاتها في جو الرواية كله لإشعار النظارة بحقيقة عظمة العصر ، وهو عصر الامبراطورية الإسلامية في أزهى أيامها ر أن تستحيل الرواية دراسة مطولة لعصر ولست أبغى – بطبيعة الحال الرشيد – وبخاصة أن اسمها « العباسة » يحد من مجالها – ولكنى كنت أود أن يتسع محيطها إلى الحد الذي يسمح لشخصياتها الأساسية بأن تضطرب في محيط مناسب لها وللعصر الذي عاشت فيه ، وأن تبدو جميع جوانبها الإنسانية أوأكبر دد منها في هذا المحيط الفسيح . 1 - - ۱۹۱ - - - - فاذا نحن تجاوزنا عن هذا ، ونظرنا إلى الرواية في محيطها المحدود الذي أراده لها المؤلف ، فإننا نطالع التوفيق المعجب في حركة الرواية ، وفي إدارة الحوادث وفى رسم الشخصيات ، وفي الخصائص الفنية المسرحية ، وفي الأداء الأدبى كلها جميعاً . وإن كانت لنا مآخذ على الفصل الرابع ، وعلى بعض مواضع في الفصول الأخرى بعض للمؤلف حاسة فنية مسرحية لاشك فيها ، تتبدى بوضوح في توزيع الحوادث والانفعالات والحركات على رقعة الرواية ، توزيعاً تبدو فيه الحيوية والتناسق اللذان لا يتوافران إلا لأصحاب هذه الحاسة الموهوبة . وإن كانت هذه الحاسة تخون ( م – ۱۱ ) - ١٦٢ -- صاحبها في الفصل الرابع وتفتر قليلاً في الفصل الأول ، ولكن إلى حد لا يؤثر في هذه الصفة البارزة المطردة . وللمؤلف فطرة سليمة في رسم الشخصيات وبث الحياة فيها . الحياة الطبيعية السليمة . فجميع شخصياته حية تتصرف تصرف الأحياء في مجريات طبيعية للسلوك ، بلا تكلف ولا تعمل للحادثة أوللانفعال . ولكل منها مبررات طبيعية لسلوكها ، وأسباب قوية لاتجاه حياتها . « فالعباسة » هي المرأة المحبة والزوج المحرومة ، والأم الحانية . وهي تصارع في هذا كله امرأة أخرى ليست دوافعها بأقل أصالة عن هذه الدوافع . تصارع « زبيدة » المرأة الغيور ، والملكة صاحبة التاج ، وأم ولى العهد . وهى تنفس على العباسة شبابها وجمالها وأثارتها عند الرشيد ؛ وتخشى على تاج الخلافة وتنافح عن ولى العهد ابنها الحبيب ؟ و « جعفر » هو الشاب الذي تدين له الدنيا في هذا الوقت ، فيزهي بالشباب والمجد ، وهو الزوج المحب المحروم من حبه لسبب لا يرتضيه ، فهو سليل الأكاسرة الذي يجد نفسه – مع كل أمجاده – ينبز بالهجنة ، ويوصم بعدم الكفاءة للأميرة الهاشمية ، فتريج في نفسه وتثور جميع رواسبها وانفعالاتها . و« الرشيد » هو الخليفة الذي يخشى على العرش والخلافة ، والذي يطعن في ترفعه الهاشمي من رفيق شبابه وصباء ، إلى جانب ما هو واقع فيه من تأثير الزوجة الغيور، ودسائس الحاقدين والموتورين – وهي ليست كذبا كلها ، فجعفر في ثورة من ثوراته يشير إلى خراسان وجنودها ويقرر أن ليس الملك والخلافة عليه منيعين - و « يحيى بن خالد » الشيخ المجرب الفطنا المحنك ، بری بفطنته وتجربته ، تلك البوادر البعيدة التي لا يراها جعفر في اندفاعه وفتوته ، وفتنته بالمجد والشباب هو وثورته في فورة الحب والاعتزاز . - ۱۶۳ ا و «هرثمة بن أعين» هو القائد العربي المظفر ، الذي لا يجد له مكانا في الدولة وكذلك بقية البرمكية ، فلا عجب أن يشترك في المؤامرة الواسعة النطاق . ... وهو الشخصيات الثانوية وهكذا نجد كل شخصية طبيعية في مواقفها ، طبيعية في اتجاهاتها ، ونلمس المبرارت الواضحة لسلوك كل منها في الحياة ، ولا ننسى - في هذه المناسبة - أن نلمح من وراء هذه المبررات طبيعة عزيز أباظة الطيبة السمحة الودود التي تلتمس الأعذار للجميع ! و باعجاب كبير نلحظ ذلك الصراع الدائم بين المرأتين الأساسيتين في الرواية « العباسة » ؛ « وزبيدة » . فهو صراع تجمعت له كل أسبابه الطبيعية كما أسلفنا - بعد هذا - صراع امرأتين خاصة لا مطلق صراع ، فيه طرائق الأنثى في الحبكة والحركة والمؤثرات والدوافع . وعليه طابع الصراع الأنثوى المميز ، وهو بروز المكايدات الصغيرة الهازلة في زحمة الصراع الضخم، وفي حرارة الحب العنيف . فزييدة الملكة الحصيفة العظيمة ، لاتترفع عن دفع «سكينة بنت الربيع» إلى غمز العباسة في رجلها جعفر من الناحية الأنثوية . فإذا هي تعرض بذكر الجواري اللواتي أحضرهن . معه من غزوته المظفرة ! ولكن علية أخت العباسة ، ترد الغمزة بنفس الطريقة : لعلها هدية الوزير مرفوعة للعاهل الكبير إن القيان زينة القصور ! ومثل هذه اللفتات كثيرة ، وهي تدل على براعة نفسية كالبراعة المسرحية الفنية . فأما القمة فيبلغها المؤلف في ميدانه الأصيل ، حينها يصور نوازع جعفر الزوج المحروم وعواطف العباسة الزوجة الوالهة . يبلغ هنا قمته الفنية وقمته العاطفية وقته الأدبية جميعاً ، ويصل إلى درجة الروعة في نهاية الفصل الثالث على ما تفرق من روائع في بقية الفصول . ذلك حين يضطران – وهما الروحان – أن ينتزع - ١٦٤ - منهما ابنهما ، ويذهب به عنهما بعيداً ، خيفة أن يكون وجوده ، وانفضاح صلتهما الحقيقية ، سلاحاً في أيدي المتآمرين ؟ حينئذ تنفجر العباسة في نشيد دام رائع أشبه بالنشيج المجرح المكتوم : وددت لو كنت في بغداد جارية في بيت صالحة أهل بغداد أظل أقضى لها شتى حوائجها وأنفه الزاد ما أعطى من الزاد وأرتدى الثوب من أخلاق ما خلعت أزهى به بين أترابي وأندادي إذا مال ميزان النهار بنا فصلت أهفو إلى زوجي وأولادي أضمهم بجناحي رحمـة وهوى كالطير تخشى على أفراخها العادي والدار حاليــة تبهى بأسرتها كما ازدهی بالنمير السلسل الوادي وهنا تسقط المظاهر والشيات ، وتتبدى المرأة المحبة المفجعة عارية حتى في أروع عواطفها ، وأصح خوالجها ، وأعمق اتجاهاتها . ومثل هذا في الرواية كثير . وهو وحده يبلغ بها حدا معجباً من التوفيق
عه وددت لو ظللت أردد هذه النعمة التي تعبر عن كثير من العمل الفني في الرواية ؛ ولكننى مضطر أن أعود إلى التاريخ، وموقف المؤلف منه في الفصل الرابع . ليس على المؤلف من بأس في أن يخالف الواقع التاريخي ، على أن يعوضنا ه الواقع النفسي . ولكن المؤلف في الفصل الرابع قد خالف الواقعين جميعاً . فهناك محاورة طويلة بين الرشيد وجعفر لم تقع تاريخياً ، وليس لها مكان في الواقع النفسي ، بل هي مخالفة لطبائع الأشياء . فالرشيد الذي يعلم من أمر البرامكة ومكانهم في الدولة ما يعلم ، لا يقدم على الإيقاع بهم إلا بعد تدبير محكم مبيت منذ زمن طويل ، ولا يفشى نياته هذه ولا يظهر منها شيئاً ، خيفة انتقاض البرامكة قبل تمام التدبير – وهذا ما حدث فعلا في التاريخ – بخلاف ما بدا في الرواية ، ا r <-1701 فالجميع كانوا يحسون بالنكبة قبل وقوعها ويتنبأون بها . كما يبدو في الرواية أن الرشيد لم يصمم إلا بعد هذا الحوار الطويل الذي أمر في نهايته بقتل جعفر ، فكأنه لم يمض بين التصميم والنكبة إلا دقائق ، لا يتسع فيها الوقت للتدبير المحكم الشامل الذي تقصى البرامكة في طول البلاد وعرضها كما يقول التاريخ ، وكما لا بد أن يكون . ( ( وكثير من الحوار ليس طبيعياً أن يقوله الرشيد ، ففيه غض من كرامته وتحقير لشأنه ، ولا يقدم عليه خليفة مهما تكن الظروف ، ومهما كان واقعاً ، فحسبه أن يحسه في نفسه ، ثم يكتمه رعاية لمقامه وحفظا لكرامته وقديكون عذر المؤلف أنه شاء أن يبرر موقف الرشيد ، ولكن هذا لا يكفى من الناحيتين الفنية والواقعية . على أن هذا الحوار يمكن إغفاله كله دون أن تنقص هذه المبررات شيئاً ؟ فقد علمناها جميعاً . ثنايا الرواية قبل الحوار ، وعذرنا الرشيد في الإصغاء المؤامرات ، وأدركنا أنها ليست كذبا كلها من بدوات جعفر ، ومن تصرفه مع يحيى الطالبي ، ومن ثورة الصناع ، وما قالوه عن ضعف الخليفة واتساع سلطة البرامكة ... الخ . من 6 وهناك هنات أخرى صغيرة ولعلها ليست هنات بل وجهات نظر فحديث الجواري والرعاع كان من حيث المستوى الفكري والتعبيري في مستوى حديث الخليفة والوزير والعباسة وزبيدة ... وأنا أوثر أن يتحدثوا في مستواهم مع المحافظة على مجرد صحة اللغة دون روعة الأداء . وهناك شعراء يقوم الواحد منهم إثر الآخر، فيتحدث بنفس البحر والقافية في الثناء على البرامكة ، وكان من الخير أن تتنوع النغمة بتنوع المحدثين ، فهذا الطبيعي في الحديث . هر - أما الهنات التي لاشك فيها ، فهي تلك الأناشيد التي استقبل بها جعفر البرمكي في الخارج بعد عودته من الشام والخليفة على رأس الموكب ، وتلك الأماديح التي - 177- يخص بها الشعراء جعفراً في حضرة الخليفة وكأن الخليفة صفر على الشمال كما يقولون بل إنه ليسلك نفسه في عداد الشعراء والمداحين للوزير ثم هي في بعض التعبيرات التي استحدثت في العصر الحاضر ، ولم يكن لها في ذلك العهد وجود ... مثل أن تقول العباسة – أخت خليفة الإسلام أنظر إليه ملكا حالما عن طفلها عیسی عليه السلام ومثل أن يسلم مسلم على الخليفة فيقدم اسم المأمون على الأمين ، وهذا ولى العهد . وممن يقع هذا ؟ من « العباس بن محمد الهاشمي » في وقت تثور فيه عصبية العرب وعصبية الفرس وتتصارعان ! ولكن حسب الرواية بعد هذا كله أن مواضع الإجادة فيها متفق عليها من الجميع، وأن مواضع النقص قد تختلف فيها الآراء ، ثم حسبها أنها أسلم من جميع المحاولات الشعرية السابقة في اللغة العربية ، وهذا حق يجب إبرازه وتقريره . . 33 - - ۱۶۷ ســـــــارق النــــــار لخليل هنـــــــــداوی عد لهناء « سارق النار » مجموعة من المسرحيات مستمدة من الأساطير الإغريقية إلا واحدة منها فمن القصص العربي – وليست « سارق النار» إلا واحدة من هذه الأساطير سميت بها المجموعة كلها . وقد ضمت سواها : « فتنة . جزيرة بلا رجل. ميلاء . المثال التائه . اللحن الكتيب » (( . وسارق النار هو «برومثيوس» الذي تقول الأساطير الإغريقية : إنه سارق النار المقدسة بمساعدة «هليوس» ، فاستطاع أن يخلق بها كما تخلق الآلهة ، فغضبت هذه عليه وانتقمت منه . والأستاذ خليل هنداوى يمثل في هذه المسرحية طريقة السرقة ، والحوافز النفسية التي زجت به في هذه الوعورات ، وغضب الآلهة وحوارها بشأنه ، ثم انتقامها بما أرسلت إليه من الرذائل تشق طريقها إلى قلبه ، والأمراض تنتقل على فراشه ، والشقاء ينقض ظهره ، والأشواك تملأ دربه ، والموت يطفىء حياته هذه الآلام جميعا ... الأمل ... صديق الإنسان الوحيد في الحياة . الأمل الذي كان إلـه الأرض ، هو الشفيع في إرساله للانسان مع هذه الآلام ! وكذلك عالج في « فتنة » عاطفة الغيرة . غيرة الجمال بين الربات الثلاث : « أفروديت » إلهة الجمال ، و«أتينا» إلهة الحرب ، و«هيرا» زوج كبير الآلهة . حينها غفل الآلهة عن دعوة «ابريس» خصيمة إفروديت إلى عرس إلهى . فقذفت بين المجتمعين بتفاحة كتب عليها إلى « أجمل فتاة » فانطلقت الفتنة في لحظتها ... من ... - ۱۶۸ -- من الربات هي « أجمل ». إن حكم الآلهة لا يرضى . فليحكم الإنسان ! ليحكم أول رجل يصادفنه . إنه « باريس ، راعى القطيع . وإنه ليحتار ويذهل ، وإنه ليتلقى الإغراء والوعيد ... ثم يحكم . يحكم لأفروديت إلهة الجمال التي لا تملك إلا الجمال ثم ليتلق انتقام الإلهتين . لقد اختار الجمال . « وإن من يختار الجمال يختار معه الموت » . وباريس لم يتلق الموت ولكنه تلقى الشرود الدائم في الفيافي والسهوب يرسل الألحان من شبابته في حنين دائم إلى ربة الجمال ! وعلى هذا النسق يسير المؤلف في الاستمداد من الأساطير ، وصياغة مايستمده مسرحيات تقصر أو تطول . -
يجب أن نريد هنا إلى التسلسل التاريخي في عالم الفن العربى، فيرد هذا الفصل من فصوله – فصل الانتفاع بالأساطير المختلفة في عالم المسرحيات – إلى « الفنان الأول » الذي نقله إلى المكتبة العربية هذا الفنان هو توفيق الحكيم ... : - أهل الكهف ، شهر زاد . نهر الجنون بيجراليون . سليمان الحكيم : هـذه عنوانات لا تنسى، وقد فتح بها هذا الفصل في المكتبة العربية واستقر . واطان على وجوده بكل تأكيد . بقى أن نتطلع إلى « الفنان الثاني » الذي يخطو خطوة وراء توفيق الحكيم . خطوة أصيلة كخطوته . لا تقف عند تقليده . ولا تقف عند مداه . بل تمتح من نبعها ، وترتقى آفاقا وراء الآفاق الأولى . فآفاق توفيق الحكيم وقفت عند الصراع الذهني بين الأفكار . وتريد استخدام الأساطير في تصوير الحياة الحية المحبوبة . فهل استطاع الأستاذ « هنداوي » أن يخطو هذه الخطوة ؟ يجب ألا نجد في أنفسنا حرجا من الجواب ... لا ! - ۱۶۹ - ولا يعني هذا أن الأستاذ لم يوفق . فهذا شيء آخر . إنما الذي أعنيه هو أن الخطوة الأولى في هذا الفصل ، لا تزال متفردة ولا تزال سابقة – حتى في بابها - وهذا كل ما أريد أن أقول . ا وفي مسرحية « المثال التائه » مجال للموازنة بين « بیجالیون » توفیق الحكيم و « بيجالیون » خليل هنداوى . وأحب هنا أن أرىء الأستاذ « هنداوى » من النقل . فحينها ظهرت « بيجراليون توفيق » كتب الأستاذ هنداوي في المقتطف أن له مسرحية من فصل واحد عن « بجماليون » نشرها في المقتطف ، في وقت لا يتسع البتة للنقل والمحاكاة. ثم إنه عالج الموضوع بطريقة أخرى غير طريقة الحكيم وبين الطريقتين وبين الطاقتين تصح الموازنة ويصح القياس فأما « بيحاليون » عند توفيق الحكيم فهو الفنان المضطرب المتأرجح بين الحيوية الحاضرة والنموذج الفني الخالد . والذي يفتن بما أبدعت يداه ثم يحطمه لأن في نفسه أبدا طموحا إلى ما هو أعلى . إلى المثل الفني الذي يخايل له أبدا ويدعوه إلى الخلق من جديد وأما « بيجاليون» عند خليل هنداوى فهو الفنان الذي يقتن بعمله الفني فيحس فيه الحياة ، ويستغنى به عن النموذج الحي الذي استوحاه . وكلتاهما وجهة نظر وطريقة اتجاه . أما التقدير الفني لها فيقوم على مقدار ما استطاع المؤلف أن يبثه من فن ، ومدى توفيقه في معالجة موضوعه على النحو الذي أراد . لا تزال الريشة في يد الأستاذ هنداوى ترتجف ، ولا تزال تنقصها الجرأة الحاسمة ، والحركة المتمكنة . وفي مثل هذه المسرحيات قد يكون للومضات الذهنية والتحليقات الفكرية والإشرافات الوجدانية كل القيمة في معالجة الموضوع <-IV. - وهذا كله في مجموعة « سارق النار » محدود بقدر ، حين يقاس إلى مثله عند توفيق ، ولم يستعض شيئا الخصائص الأخرى التي تطلبها عند غير توفيق الحكيم . عنه من وفي اعتقادي أن مسرحية « سارق النار » هي خير ما في المجموعة بالقياس إلى توافر هذه العناصر ، وبالقياس إلى لمسات الحوار الموحية ؛ وإلى رائحة النضج التي تشتم في هذا الحوار . ثم تليها مسرحية « فتنة » فمسرحية « جزيرة بلا رجل » فمسرحية « المثال التائه » فمسرحية « اللحن الكثيب » أما مسرحية « ميلاء » فالفشل واضح فيها . وأخشى أن يكون منشأ هـذا تخلى روعة الأساطير الإغريقية ووحيها عن « المؤلف » فيلاء عربية في جـوها وشخصياتها . وقد بقيت عارية من اللحم والدم والفن . ولهذا دلالة خطيرة ! لا أحب أن آخذ بها في هذه المجموعة ، بل أوثر أن أنتظر تجربة أخرى جديدة ! ...
بقيت كلمة حق : إننا إذا استثنينا توفيق الحكيم . ورحنا نبحث في الشرق العربي عما أخرجته المطبعة في هذا الفصل – فصل المسرحيات الأسطورية – نجد مجموعة « سارق النار » هي الأولى في جميع المحاولات . ولعل المستقبل يضمر لمؤلفها من النضوج والتمكن ما يقفز به إلى الصف الأول . ولكن بعد جهد طويل . «كفاح طيبة » وكلتاهما قصتان المصرى القديم ... ۱۷۱ – خان الخليــلى لنجيب محفـوظ هذه هي القصة الثالثة للمؤلف الشاب ، سبقتها قصة « رادوبيس » وقصة معجبتان ، مستلهمتان ، من التاريخ - - ( ( ولكن هذه القصة الثالثة هي التي تستحق أن تفرد لها صفحة خاصـة في سجل القصة المصرية الحديثة ، فهي منتزعة من صميم البيئة المصرية في العصر الحاضر ؛ وهي ترسم في صدق ودقة ، وفى بساطة وعمق ، صورة حية لفترة من فترات التاريخ المعاصر ؛ فترة الحرب الأخيرة ، بغاراتها ومخاوفها ، وبأفكارها وملابساتها ؛ و ؛ ولا ينقص من دقة هذه الصورة وعمقها أنها جاءت في القصة إطارا لحوادثها الرئيسية ، وبيئة عاشت القصة فيها ولكن هذا كله ليس هو الذي يقتضي الناقد أن يفرد لهذه القصة صفحة متميزة في فصل القصة المصرية الحديثة ... إنما تستحق هذه الصفحة ، لأنها تسجل خطوة حاسمة في طريقنا إلى أدب قومى واضح السمات متميز المعالم ، ذی روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب. الأجنبية – مع انتفاعه بها – نستطيع أن نقدمه – مع قوميته الخاصة - على المائدة العالمية ، فلا يندغم فيها ، ولا يفقد طابعه وعنوانه ؛ في الوقت الذي يؤدي رسالته الإنسانية ، ويحمل الطابع الإنساني العام ، ويساير نظائره في الآداب الأخرى . - ۱۷۲ – وهذه الظاهرة حديثة العهد في الأدب المصرى المعاصر ، لم تبرز وتتضح إلا في أعمال قليلة من بين الكثرة الغالبة لأعمال الأدباء المصريين . وهي في هذه القصة أشد بروزاً وأكثر وضوحا . فمن واجب النقد إذن أن يسجل هذه الخطوة ويزكيها . وبعد ، فلا بد أن أضع أمام القارىء ملخصاً للقصة يعينه على تتبع السمات الفنية فيها ، ويشركه معي في تحليل هذه السمات . ولكن « القصـة » بالذات من الأعمال الفنية التي لا سبيل إلى تلخيصها ، وحين تلخص تبدو هيكلا عظميا خالياً من الملامح والقسمات التي تحدد الشخصية ، وتبرز مواضع الجمال والقبح فيها فلا مفر إذن من الحديث العام عن القصة دون الدخول في التفصيلات إلا بمقدار ليس في القصة كلها صخب ولا بريق إنها خلو من الالتماعات الذهنية والأفكار . ليس فيها « لافتة » واحدة من اللافتات التي تستوقف النظر ومحيطها ذاته محيط عادي . وأحداثها وحوادتها مما يقع كل يوم في أوساطنا المصرية العادية . اللهم إلا تلك الغارات الجوية التي روعت بعض المدن في زمن الحرب . والتي روعت أسرة « أحمد افندى عاكف » فأزعجتها عن حى السكاكيني الذي استوطنته زمنا طويلا ، إلى الحي الحسيني وخان الخليلي ، لتكون في منجاة من الغارات ، في حمى ابن بنت رسول الله ! ولقد كان « أحمد عاكف » وهو يحمل عبء الأسرة بمرتبه الصغير ( إذ هو موظف بالبكالوريا في قلم المحفوظات بوزارة الأشغال ) كان قد أغلق قلبه وطوى أحلامه ... لم يفكر في الزواج ، ولم يعد يطمح إلى الحب ، أو إلى الشهادة العالية . القد وقفت أمامه العراقيل العائلية والمادية والعلمية ، كما وقفت دونها مواهبه ا - ۱۷ - الطبيعية ، فانطوى على نفسه واستراح إلى اليأس بعد الفشل المكرور ؛ وقد ترك هذا الفشل في نفسه مرارة لا تمحى ، ولون شخصيته تلوينا معينا ، ودس فيها عيوبا شتى . ولكنه وقد عجز عن الطموح جعل العزوف عن المطامح سلوته ، والترفع عن الوسط طابعه ، وآوى إلى مكتبته وكتبه ، وهى مثله تمثل جيلا مضى وتعرض مباحث قديمة لا صلة لها بالحاضر وما فيه ، فزاده هذا بعداً عن الجيل وإيغالا في التاريخ وحينها انتهى من تعليم أخيه الصغير تعليما عاليا كان قد ناهز الأربعين . كان قد شاخ ، فأحس أن الأوان قد فات ، وسار في طريقه يقطع الحياة كالأجـير المسخر ، منطوياً على نفسه ، وقد أورثه الفشل والعزلة طابع التردد والتخوف والحذر من كل خطوة إيجابية ، فهو يعيش في داخل نفسه عاجزاً عن تحقيق تصوراته وتجسيم خيالاته ! 4 ولكن القدر الساخر لا بدع الناس يستريحون ـ ولو راحة اليأس المريرة - إنه يطلع على هذا الكهل – كما يسميه المؤلف – بوجه جميل يلوح له في النافذة المقابلة . إنه وجه فتاة صغيرة لا تزال طالبة بالمدرسة . إنها تصلح أن تكون ابنته ولكن هذا الوجه يبسم له فيثير في نفسه كوامن المشاعر النائمة ، على حين يدركه ا حذره وتردده ، وخجله من فارق السن السحيق وتمضى الأيام وهو في شغل مقعد مقيم بهذا الحادث الجديد الذي يهز كيانه الضعيف هزاً عنيفاً متواصلا بين الإقدام والإحجام . ويبدع المؤلف في تصوير شتى النوازع والاتجاهات في هذه النفس المعقدة ، وفي نفس الفتاة الصغيرة ، تلك الأنثى المهيأة لحياة البيت والزواج . وفي اللحظة التي يكاد يقدم فيها على الخطوة الحاسمة في حياته ، وقد تندى قلبه الجاف ، وترعرعت البذور المطمورة في أعماقه تحت أكداس اليأس والفشـل - ١٣٤ - والتردد ... في هذه اللحظة الحاسمة يسخر القدر سخريته العابثة ، فيطلع له في الميدان منافسا قويا لا يملك منافسته ، بل لا يملك حتى أن يشفى نفسه منه بالحقد عليه ! إنه أخوه وربيبه « رشدی عاكف » لقد نقل في هذا الوقت من فرع بنك مصر في أسيوط إلى المركز الرئيسي بالقاهرة . وإنه لا يعلم من أمر أخيه الكبير شيئا . إنه شاب جسور مغامر بل مستهتر ، حاد العاطفة لا يعرف التردد ولا الحذر إنه الوجه المقابل لصورة أخيه وفى اليوم الأول يلمح الوجه الجميل فيستهويه . عندئذ يسلك إلى قلب الفتاة طريقه المباشر في غير ما حذر ولا تردد ، ويقطع الطريق الطويل الذي أنفق أخوه في قطعه أشهراً ... في يوم أو يومين . فيتصل ويصبح حبيباً ومحبوباً ، وفرداً من أسرة الفتاة ... ! وأخوه يتطلع إلى هذا الانقلاب في دهشة بالغة ، وفي ألم كسير وفى يأس مرير ، وفى إعجاب كذلك بأخيه الجسور ! ! ويقضى الشاب مع فتاته أويقات حلوة ، يسكران فيها بكأس الحب الروية ، ويقطفان معا أجمل زهرات الحب الجميلة وذلك ريثما يضرب القدر ضربته الأخيرة ، فيمرض الشاب المغامر بالسل نتيجة لإفراطه في الشراب والسهر والمقامرة مع رفاق حى السكاكيني . ولكنه يمضى في استهتاره ثقة بشبابه وخشية هذه الفتاة ! أن يعلم الناس بمرضه ، وأن تعلم من الناس خاصة ... وفي اللحظة التي يلمس الحب الحقيقي قلبه العابث ، فيملؤه جدا ، ويتوجه إلى اتخاذ خطوة عملية حاسمة ، تكون الأقدار قد ضربت ضربتها الأخيرة فيستشرى الداء في الصدر المسلول ، ويذهب الشاب بعد ليلات مريرة من الضني والعذاب ، وبعد أن تبين أن فتاته الحبيبة تخشى منه العدوى ، فلا تراه ! ثم تغادر الأسرة الحي في النهاية ... تغادره وقد فقدت الشاب الصبوح الفتى الجرىء . وقد انطوى قلب عاكف على جرح جديد ، بل على جرحين في جرح . <- 110- والأقدار تسخر سخريتها الدائبة ، ودورة الفلك تمضى إلى مداها. كأن لم يكن قط جرح ولا جريح !!! ...
حياة هذه الأسرة وجروحها وأحداثها وأحاديثها هي محور القصة ، وقد أدار المؤلف حول هذا المحور حياة أهل القاهرة في هذه الفترة من فترات الهول أيام الغارات ، فعرض منها لوحات بسيطة صادقة تشبه في بساطتها وصدقها فطرة هذا الشعب الطيب الفكه المؤمن المستسلم للقدر ، المتأثر بشتى الخرافات والدعايات ، ومن بين الصور التي عرضها صورة مقاهي خان الخليلي و « غرزه » أيضا . وقد حوت أشكالا وشخصيات لم تكن لتجتمع إلا في مثل هذا الحي الغريب حقاً ؛ كما رسم صورة مقاهي حى السكاكيني و « شلل » الشبان فيه ! وسجل أطوار المقامرين ومجالسهم رسما قوياً في جو مزيج من الجد والدعابة ! ولقد كان هذا الإطار من مكملات الصورة الأصيلة ، كما كانت الريشة في يد المؤلف هادئة وئيدة ، فوفق في إبراز الملامح والقسمات الجزئية ، وساير الحياة مسايرة طبيعية بسيطة عميقة ، منتفعاً إلى جانب مهارته الفنية بمباحث التحليل النفسي دون أن يطغى تأثره بها على حاسته الفنية الأصيلة ؛ وعاشت في القصة م عدة شخصيات ، من خلق المؤلف لا تقل أصالة عن نظائرها في الحياة ! ولكن ليست المهارة الفنية في التسلسل القصصى ، والبراعة الصادقة في م الشخصيات ، والدقة التامة في تتبع الانفعالات ... ليست هذه السمات وحدها هي التي تعطى القصة كل قيمتها إن هناك عنصراً آخر هو الذي يخرج بالقصة من محيطها الضيق ، محيط شخصياتها المعدودة ، وحوادثها المحدودة في فترة من فترات الزمان ، إلى محيط الإنسانية الواسع ، ليصلها هناك بدورة الفلك ، وحلبة الأبد ... إنك لتقرأ القصة ثم تطوبها ، لتفتح قصة الإنسانية الكبرى ... قصة الإنسانية الضعيفة في قبضة القدر الجبار . قصة السخرية الدائبة التي تتناول بها الأقدار تلك الإنسانية المسكينة - ١٧٦ - هذه أسرة تفر من هول الغارات وخطر الموت من حى إلى حي . فما تغادر هذا الحي « الآمن ! » إلا وقد أصابها الموت في أنضر زهرة وأقوم عود ! وهذا رجل شاخ قلبه ، وانطوى على نفسه ، وآوى إلى يأس مرير ولكنه هادی ساکن ، فمـا يلبث القدر أن يثير في قلبه إعصاراً على غير أوان ، ويزيح الركام عن البذور المطمورة في قلبه الهرم ، ليعود فجأة فيقصف الأعواد التي تنبت في بطء وحذر ، يقصفها في قسوة عابثة ، وبيد من ؟ بيد أحب الناس إليه : شقيقه وربيبه ! ولو قد أمهله بضعة أيام لانتهى إلى الواحة الممرعة بعد طول الجدب في الصحراء . ولو قد تقدم به أياما لأعفاه من إضافة تجربة فاشلة إلى تجاربه المريرة ؟ وهذا شاب مستهتر عابث ، ما يكاد الحب يقومه ويبعث فيه الجد والمبالاة حتى يخطفه الموت الذي لم يخطفه أيام العبث والاستهتار والأرض تدور ، والزمن يمضى ، والناس يقطعون الطريق المجهول كأن لم يكن شيء مما كان : رفاق الشاب في قهوتهم يقامرون ويعربدون ، وأصحاب الرجل في « غرزتهم » يدخنون أو في قهوتهم يتندرون . والقدر الساخر من وراء الجميع لا يبدو عليه حتى مظهر الجد في سخريته المريرة . والمؤلف نفسه لا يكاد يلتفت إلى الدائرة الوسيعة التي تنتهى إليها قصته ، لأنه يلقى انتباهه كله إلى إدارة الحوادث ورسم والشخصيات ! ! ( .
ولعل من الحق حين أتحدث عن قصة « خان الخليلي» أن أقول : إنها لم تنبت فجأة ، فقد سبقتها قصة مماثلة ، تصور حياة أسرة ، وتجعل حياة المجتمع في فترة ـ ۱۷۷ - حرب إطاراً للصورة ... تلك هي قصة « عودة الروح » لتوفيق الحكيم . ولكن من الحق أيضا أن أقرر أن الملامح المصرية الخالصة في «خان الخليلي » أوضح وأقوى ؛ ففي «عودة الروح» ظلال فرنسية شتى ، وألمع ما في عودة الروح هو الالتماعات الذهنية ، والقضايا الفكرية بجانب استعراضاتها الواقعية ؛ أما «خان الخليلى » ؛ فأفضل ما فيها هو بساطة الحياة ، وواقعية العرض ، ودقة التحليل . وقد نجت « خان الخيلى » من الاستطرادات الطويلة في « عودة الروح » فكل نقط الدائرة فيها مشدودة برباط وثيق إلى محورها الأصيل . وكل رجائى ألا تكون هذه الكلمات مثيرة لغرور المؤلف الشاب المرجو - في اعتقادي – لأن يكون قصاص مصر في القصة الطويلة . فما يزال أمامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء إلى خصائصه ، واتخاذ أسلوب فني معين توسم به أعماله وطابع ذاتی خاص تعرف به طريقته . ا و بعض هذه الخصائص قد أخذ في البروز والوضوح في قصصه السابقة وفي هذه القصة ؛ وهي الدقه والصبر في رسم الخوالج والمشاعر وتسجيل الانفعالات المتوالية ، والبساطة والوضوح في رسم صورة لحياة أبطاله . والبقية تأتى إن شاء الله ! ( م – ۱۲ ) - - ۱۷۸ – . مـــــــــيم الأكبر الفنية قصة « مليم الأكبر » هي قصة الصراع بين الطبقات ، مصبوبة في قالب فنى . فهي على هذا الوضع من أدب « الوعى الاجتماعي » الذي يدعو إليه جمهور من المفكرين في جميع أنحاء العالم ، وتدعو إليه الاشتراكية والشيوعية بوجه خاص ولهذا النوع من الأدب قيمته – وبخاصة في هذه الفترة من حياة العالم - ولكن الذي يثير الانتقاد هو غلو الداعين إليه ، ومبالفتهم في فرضه على جميع الفنانين ؛ بوصفه ضريبة إنسانية على كل فنان هذا الغلو غير مفهوم من الوجهة فالانسانية ليست هي هذا الجيل وليست بل من الوجهة الإنسانية بضعة الأجيال المقبلة ... إنما هي الأجيال الماضية منذ الأزل ، والأجيال المقبلة طول الأبد . وهـذه وتلك لا تنكمش في هذا الحيز الضيق ، حيز جيل من الأجيال . ثم إن هنالك مطالب الانسانية التي لا تنحصر في ضرورات الطعام والشراب ، ولا في حيز الضرورات على الاطلاق ؛ إنما تتطلع إلى آفاق أرفع وأرحب ، وتهفوحتى في أشد حالات الضرورة ، إلى ألوان من الفن المطلق الرفيع . وإذا صح أن أدب الوعى الاجتماعي ضريبة على كل فنان ، فلتكن نسبته هي نسبة الضرائب إلى مجموعة الإيراد ! بل ليكن فرض كفاية على الفريق المهيأ له من بين جموع الفنانين ، فالتجنيد قد يصلح في كل بيئة إلا بيئة الفنانين ! هي لعادل كامل
- ثم أبادر إلى تصحيح وهم ربما يكون قد سبق إلى ذهن القارى حين وصفت - ۱۷۹ – هذه القصة بأنها من « أدب الوعي الاجتماعي » إن انحصار القصة في هذا الحيز لم يسلبها السمة الفنية الأصيلة . وإن المؤلف ليبدو في قصته هذه صاحب موهبة فنية لا سبيل إلى الشك فيها . موهبة العرض ، والتنسيق ورسم الملامح والشخصيات ، وإدارة الحوادث والمفاجآت فهي من هذه الناحية تستوفى صفات القصة الجيدة على وجه العموم ثم هي تحمل طابع مؤلفها بوضوح في نواحي النقص فيها ونواحي الكمال . فالمؤلف صاحب طريقة مطبوعة وأسلوب مرسوم . وهذا يقرر وجوده الفني في عالم القصة بلا جدال يعمل المؤلف في جو متماوج مخلخل جو « الضباب والرماد(۱) » . فتمر الحوادث والشخصيات والملامح والانفعالات مرأ متأرجحاً متماوجا . وتبدو للعين كما تبدو المناظر وراء الضباب ليست هناك مواقف حاسمة ، ولا انفعالات صارمة ، ولا حركات عنيفة ، ولا ضجات توقظ الإحساس . وحينها تنتهي القصة تحس أنك في حاجة لأن تقرأها من جديد ، لتتثبت من ملامحها التي مرت من قبل مر السحاب ! وربما خطر لك أن تسأل ماذا يريد ؟ ثم تتوارى الشخصيات والحوادث لتجد في نفسك انفعالات غامضة متماوجة ، تثير القلق والتأرجح والاضطراب ... غرض ... يخيل إلى أن هذا هو كل غرض المؤلف من عمله الفنى – إن كان له
- أن يثير القلق الغامض والتأرجح المضطرب ، وأن يغمز اليقين
الهادي ، ويطلق في النفس الإنسانية عنصر الاضطراب، ويسلبها الثقة والاطمئنان لأي شيء في الحياة ! (۱) عنوان أقصوصة للمؤلف وما الحوادث والشخصيات إلا أدوات فقط للوصول عن طريقها إلى هذا الهدف الأخير . – ۱۸۰ – إنه – من وجهة نظر المذاهب الاجتماعية التي يدعو إليها - يعد ناجحاً إذا هو قد هز في النفس الإنسانية عنصر الاستقرار ! فهو إذن من خيرة من يصلحون لهذه الدعوة ، لا بما يلقيه هنا وهناك من توجيهات ظاهرة ، ولا بما يغمز به النظام الاجتماعي والاقتصادي من غمزات موجية . ولكن – قبل بما يطلقه في النفس الإنسانية من التأرجح المضطرب الذي ذلك كله لا يقر على قرار ! ه قال مليم بلا جدال
- * *
.
ثم حمل عدته وانطلق في الطريق دون التفات ، وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار كأنه مقدم على فتح عكاء . أما رفيقه فقد وقف يشيعه بابتسامة ساخرة ؛ فلما أن صار منه على مرمى حجر ، صاح في أثره قائلا متری وقهقه ضاحكا ثم انكفا إلى طريق غير الطريق » . -
« باغ النقاش أقصاء بين خالد وأبيه كعادتهما كلما دار بينهما حديث -- أي حديث ومهما يكن الموضوع تافهاً ، فانه يتطور على الدوام إلى اصطدام عنيف بين الأب وابنه . أما الأب فداهية مراوغ ، يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامه ، فهو يطيل من النقاش ويدير دفته إلى وجوه من الرأي يعرف أن ابنه يضيق بها ذرعا ، ثم يرقب في سعادة - ۱۸۱ – أثيمة ما يختلج في صدره من ثورة ، وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق « ولقد كان . فما لبث أن اربد محيا الفتى ، فانفجر يرد على تسائل أبيه قائلا : ... بلا جدال ثم انثى إلى حجرة المكتب ، وأغلق من خلفه الباب . ولو انتظر لرأي بسمة السعادة الأثيمة ترتسم على شفتي أحمد باشا خورشيد ، ولسمعه يتمتم قائلا : ستری » . .
ـ منذ الصفحة الأولى – الخطوط الأولى هكذا يبدأ المؤلف قصته فيرسم في ملامح هذه الشخصيات الثلاثة التي هي محور القصة جميعا : مليم ، خالد ، أحمد باشا خورشيد . ويرسم لهذه الشخصيات الثلاثة طريقها كذلك - لا طابعها وحده – فليم « ينطلق في طريقه دون التفات وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار». تلك طريقته أيضا في جميع أدوار القصة ! وخالد « يريد محياة ثم ينفجر وهو يرد على أبيه ، ثم ينثنى إلى حجرة المكتب ويغلق من خلفه الباب » . تلك أيضا طريقته في مستقبل الحياة : انفعال وانفجار ثم انزواء واعتزال ، واضطراب دائم بين هاتين الخطتين حتى ينتهى الصراع . وخورشيد باشا « داهية مراوغ يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامها ... وهو يرقب في سعادة أنيمة ما يختلج في صدر ولده من ثورة وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق » . تلك طبيعته وهذه طريقته في القصة وفى الحياة ! هو استهلال بارع ، كما ترى وهي ريشة ملهمة تضع الخطوط الأولى ، فتشير إلى الخطوط الأخيرة ... وقد يبدو أن القصة لم تسر في جميع مراحلها بهذه القوة وبهذا الوضوح ... فيجب أن نلتفت إلى أن القوة والوضوح ليسا من أهداف المؤلف . وأن ۱۸۳ – التموج والاضطراب ها قوام طبيعته وقوام طريقته ، وقوام أهدافه المقصودة أو غير المقصودة ، ولكنها هي التي تتحقق على كل حال ! -
- * **
جعل المؤلف « مليم » هو بطل القصة وبه سماها . أما نحن فنرى أن « خالد » ، هو الشخصية الأولى فيها . فخالد شاب نشأ في طبقة الأثرياء – ابن خورشید باشا - ولكنه سافر إلى إنجلترا ، وطاف بالبلاد الأوروبية ، حيث كانت المذاهب الاجتماعية الحديثة تصطرع مع الأوضاع التقليدية القديمة . ثم عاد فوجد نفسه غريبا كذلك في مجتمعه . إن رأسه محشو بالنظريات الحديثة وإنه لمتحمس لها كل الحماسة ولكنه لم يكن ذا طبيعة عملية ، لينفذ في عالم الواقع ما يجيش في نفسه من نزعات . كان خليطا عجيبا من رجل الواقع ورجل الخيال . كانت تصطرع في نفسه وراثات مختلفة وتيارات متعارضة . كان صوفيا وشهوانيا . كانت نفسه حلبة صراع بين شتى الاتجاهات « ولو أتيح لأحد أن يكشف عن رأسه لوجد فيها حجرتين إحداها يتربع فيها القرن العشرون بآلاته ومعادلاته . والثانية يمرح فيها القرن الثامن عشر وسط غابة يخترقها جدول » كما يقول مؤلفه : تصطدم هذه الشخصية المخلخلة المضطربة الثائرة الحائرة بشخصية خورشيد باشا القاسية الجاثية الماكرة اللئيمة . ذلك الرجل الذي يجد طعم اللذة الأثيمة وهو يحاور ابنه الطيب ، القليل الحيلة ويداوره ، حتى يشعره بالألم والضيق . والذي يتهمه المؤلف بأنه قاتل أبيه ليرثه ، وبأنه يشعر بسعادة أثيمة وهو يؤذى فلاحيه ، ويطلق عليهم كلبه ليعقرهم ... الخ . إنه نموذج لتلك الطبقة الأنانية الجشعة « التي تسرق أموال الفقراء ! » والتي أفلح المؤلف في أن يجعلنا نمقتها كل المقت ونزدريها كل الازدراء . )) يصطدم بأبيه انتصارا لمليم « صبي النجار » المتهم من الباشا بالسرقة جزاء ۱۸۳ – - - أمانته ، وهنا نجد جميع القوى مجندة في صف المال . وما إجراءات العدالة إلا مظاهر جوفاء كمراسيم التضحية بالفريسة في مجتمع متوحش ، ويسلم « مليم » للسجن جزاء أمانته ! ! ! لقد فهمنا أن المؤلف أما مليم فمهمته الحقيقية في القصة أنه محورها الفنى يريد أن يرمز به إلى « رجل الشارع » ذي الفضائل الفطرية والطبيعة المستقيمة والعزيمة العملية ... واسكننا فوجئنا وهو ينحرف به في منتصف القصة ، فيكلفه القيام بعمل لا يقوم به « الرجل الشريف » ، ثم يجعله في نهايتها أحد أغنيـاء الحرب المعروفين ! )) ...
ترى أفلت الزمام من يد المؤلف ؟ أم هي طبيعته طبيعة الضباب والرماد ؟ ! هنا تستوى الغلطة والإصابة في الدلالة على طبيعة المؤلف وطريقته ! ولكن الزمام قد أفلت من يده على كل حال ! وفي القصة غير هذه الشخصيات الرئيسية الثلاثة ، شخصيات أصيلة هي الأخرى أطلق عليها اسم « جماعة القلعة » أولئك جماعة من الحالمين المنحلين . يصنعون كل شيء في أحلامهم الممتزجة بدخان الترجيلة ! إنهم ينشئون مجتمعا القيود والتقاليد ، ولكن « في المنام » ! هذه الجماعة جديدا مطلقا خالد ومليم ، فيقوم مليم بعمله الذي لا يقوم به « الرجل الشريف » خالد تمثل حيرة فريق من شباب الجيل في مفرق الطريق ! وهنا يجتمع يحتال على الرجال باسم « هانيا » الفتاة ، إحدى شخصيات جماعة القلعة ! أدواره كذلك ، حتى إذا انتهت القصة وجدنا هذه ويقوم الجماعة المنحلة الحالمة وقد تفرق شملها ولم تصنع شيئا . ووجدنا « خالد » يعود إلى طبقته ومجتمعه وقد انحلت نفسه ، وفرغت طاقتها وسقط صريعا في حومة الصراع الذي دار في داخل شخصيته أعواما . ووجدنا « مليم » وقد أصبح من أغنياء بدور من - ١٨٤ -- الحرب ... ثم وجدنا الحوادث والشخصيات كلها تتوارى ليسأل كل منا نفسه : ماذا أراد ؟ وماذا كان يريد ؟ وقبل أن يجد الجواب على سؤاله يجد نفسه تتأرجح وتناوج في هذا الضباب الذي أطلقه المؤلف ، وكأنما يطلقه بغير تدبير ! ! ! ا
- * *
في أحلام «جماعة القلعة » وفى تصرفات خالد ومليم ، وفي بعض حوادث القصة نزوات وفلتات خلقية وجنسية ، أخشى أن تكون جميعها وحى مزاج منحرف شاذ! مقياس الجماعة لصلاحية الفرد للجيل الجديد ، ألا يجد غضاضة في معاشرة أخته معاشرة الأزواج ! ذلك هو الدليل الذي لا يخطىء على أنه طليق من جميع التقاليد ! أحد أفراد الجماعة ينظر إلى مليم بإعجاب ويقول : إنه « زوجنا » جميعا ! خالد يتحسر – بعد وفاة أمه – على أنه لم يوقظها بقبلاته كل صباح كانها « زوج » له ! مليم يعثر على لفافة في بيت خورشيد باشا وهو يصلح النافذة ، فيعطيها لخالد فيتوقع خالد أن تكون غرامية تخص والدنه الحاجة ، ويبتهج لهذا الخاطر ويستريح ! بنت عمة خالد أنثى تتهالك عليه في أوضاع مخجلة عارمة البهيمية . . لهذا ولأمثاله دلالته . ولعل هذه الدلالة كانت أهم الاعتبارات التي منعت لجنة المجمع من منح الجائزة للقصة حين قدمها المؤلف في مسابقة القصة واللجنة محقة – لا من الوجهة الفنية – ولكن من وجهة أن مثل هذه الاتجاهات مما يجب أن يلقى به صاحبه رأسا إلى الجو الأدبي الطليق ، فيرى رأيه بحرية فيه ، لا مما تحتمل اللجان الرسمية تبعة تقديمه إلى القراء . { <-110- بنت الشيطان لمحمود تيمور يعد تيمور - من الوجهة التاريخية – أحد الرواد لفن الأقصوصة في الأدب العربي . ولكن هذا الحكم التاريخي شيء ، والحكم الفنى على قيمة أعماله شيء آخر . وهذا ما يجب التنبيه إليه . فللسابق فضله . ولكن لا ينبغي أن يمنحه هذا السبق قيمة أكبر من قيمته من الناحية الفنية البحتة · ا ولقد كان لتيمور الحق أن يتبوأ مكانه الذي ينسبه إليه بعض من يكتبون في النقد في هذه الأيام ، لو أنه وفق إلى منح الحياة لأبطال أقاصيصه ، وبث هذه الحياة في تضاعيفها ، ولو إلى حد . ولكنه – فيما عدا القليل من هذه الأقاصيص – يخونه التوفيق في إطلاق روح الحياة المتحركة . ثم لا يستعيض عنها – كما يصنع توفيق الحكيم – ومضات الذهن ، وصراع الأفكار ، وقوة التنسيق ولطالما خيل إلى – وأنا أجول بين شخوص تيمور - أنثى في « متحف الشمع » فتماثيل الشمع هي التي تمثل هذه الشخوص أوضح التمثيل التماثيل الفنية يتصرف فيها الفن كما يشاء ، ليؤدى فكرة فنية ، أو يرسم لمحة نفسية . ولا هي الأجسام الحية التي تجرى فيها دماء الحياة ، فتتصرف تصرف الأحياء . إنها محاكاة للطبيعة ، وفيها قسط من الفن في التلوين الدقيق . ولكنها ليست بعد من الأحياء .
- فلا هي
وكثيرا ما يعجزك – وأنت تتأمل شخوص تيمور ، وتصرفاتهم ، وطريقة حديثهم – أن تردهم إلى أي جنس من أجناس الآدميين ، في أي زمان أو مكان . وقد يسير بعضهم في مبدأ الأمر سيرة الآدميين ، حتى لتكاد تقول : هذا مخلوق حي «واقعی» . ولكن ماتلبث أن يخلف أملك بحركة تكشف لك أن ما أمامك إن هو إلا تمثال من الشمع ، كان المؤلف يحركه حركة خاصة ، لأنه توهم أن الناس يتحركون هكذا في هذا المجال ! r - ١٨٦ -
ويحاول تيمور أن يرسم نماذج بشرية من خلال شخصيات محلية ، وهي محاولة لو أفلحت لأنشأت فنا إنسانيا وقوميا رفيعا – واسكنه فيما يخيل إلى ، بعيد كل البعد عن الناس وعن البيئة . فالناس – حيث كانوا – لا يتصرفون هذه التصرفات مجتمعة . والناس في مصر ليسوا كما يتوهمهم المؤلف ، لا في طبيعتهم ، ولا في أحاديثهم ، ولا في خلجاتهم النفسية ، ولا في سمة من السمات المحلية الكثيرة التي تبرز طابعهم . إنهم ليسوا م در بین لأنهم ليسوا آدميين ! إنه لا يخطر لهذه الشخوص مرة واحدة أن تنفعل انفعالا قويا – كما يقع للادميين - وحين تنفعل يبدو التكلف والبعد عن الحقيقة الإنسانية البسيطة . وهي غالبا « سهتانة » كما يقول العوام ، حتى في فورات الحب ودفعات الانتقام . والحركة العنيفة ليست مطلبا فنيا في ذاته ؛ ولكنها علامة من علامات الحياة ( تصدر من البنية الحية في ميعادها ، فتدل على الحياة الكامنة فيها . -
و « بنت الشيطان » مجموعة أقاصيص تبدأ بأسطورة تحمل هذا العنوان . وتحوى غيرها سبع أقاصيص أخرى . وتلمح في تلك الأسطورة محاولة فلسفية لإبراز فكرة خاصة على نحو ما يصنع القصاص الرمزيون . ولكن المدى متطاول إن الحركة الذهنية السريعة ، والبراءة الفنية اللبقة كلتاها شرطان أساسيان لنجاح – ۱۸۷ ا مثل هذا الاتجاه . وكلتاهما تتوارى في هذه المحاولة ، فتظل باهتة اللون ، وانية الحركة ، حتى تنتهي الأقصوصة ، وفي نفسك منها ظلال تنمحى بعد قليل « بنت الشيطان » طفلة آدمية ، اختطفها زعيم الشياطين ، لينفذ وصية سلفه العظيم ، في أن يصنع شيئا ، يثبت به أن الشيطان قادر على القيام بشيء آخر غير الشر الذي اشتهر به ! فهو يحاول أن ينشئها بعيدة عن « الشر والألم » في ( قصر مسحور . ولكن أميرا شابا مغامرا يسمع بخبرها ، فيحاول ، وينجح في الاتصال بها واختطافها ، ويفتح عينيها على مباهج الحياة الدنيا ، ويوقظ فيها غرائزها – بعد أن كانت نائمة – فإذا ردها إلى القصر ، اشتاقت أن تعود إلى « دنيا الشر والألم » مؤثرة إياها على ذلك العالم الخير ، البريء من الآلام والشرور .
- * *
والفكرة – كما ترى – جيدة وبراقة ، ولو تولاها قلم حى لأخرج منها قطعة فنية حية , ولكنك تقرؤها هنا فتعجبك الفكرة ، ثم تنقصك الحرارة ، كما ينقصك التنسيق الذي يقرر الحركة المناسبة في موعدها المرسوم . وهناك مواقف بين الفتى والفتاة ، تتوقع فيها حركة ما ، ويرتفع نبضك في انتظارها ، ولكنها تمر كما لو كانت في سنة ؛ أو كما لو كنت متفرجا بغير حماس . وفى المجموعة أقصوصة « الترام رقم ٢ » وأقصوصة « الجنتلمان » . وفى الأولى بصور فتاة مشردة تركب « الترام » بلا أجر ؛ فيضيق بها أقاصيص أخرى من النوع « الواقعي » خير ما فيها « التذكرى » مرة بعد مرة ، حتى يزيد ضيقه بها ، فيدفعها ، فتسقط ؛ ويكاد . – ۱۸۸ – يقتلها « الترام » لولا من يأخذ بيدها من المارة ، وهنا يسمع منها « التذكرى » أنها لم تذق الطعام منذ أمس ، بينما ينطلق الترام ! منذ ذلك الحين يدب في نفسه عطف على الفتاة . ولكنا نتبين بعد قليل : أن هذا العطف ليس خالصا . لقد تنبهت فيه الغريزة . إن هذا الرجل ليعيش عزبا منذ أن ماتت زوجه ، تقوم بشؤونه خادم عجوز . فهو - منذ اليوم - ضيق الصدر بهذه الحياة الجافة ، وهو مشتاق لأن يعثر على الفتاة . وحين يعثر عليها بعد أيام تجفل منه ، وتخشى أن يدفعها مرة أخرى . ولكن لا : فقد تغيرت الأمور . إنه لا يدفعها من الترام ، بل يرمى في يدها « تذكرة » عند صعود المفتش ، وحين يقف الترام يشترى لها رغيفا محشوا بالإدام ، ويسألها – في فترات عمله – أسئلة حياتها الشخصية . متقطعة . - حتى إذا كان الشوط الأخير ، نزل يقصد داره ، وقدمان تتبعانه إلى الدار .. لقد أحست الأنثى بغريزتها ما الذي يعطفه عليها . فسارت على خطاه ... !
وفى الثانية يرى في مطعم اعتاد أن يرتاده ، دمية تمثل « الجنتلمان » يمسك بيده قائمة الطعام ، فيتخيل هذا « الجنتلمان » حيا ، ويقابله بالضيق منه والتبرم به ، لما في وقفته من تكلف ، وما في « نفسه » من تصنع . فيهجر المطعم من أجله . وأخيرا يفلس المطعم ، ويباع الجنتامان ليهودي في « شارع جامع البنات » ويمر به ، فيراه هناك ذليلا ممسكا بيده « عينة » بطاقات . فيستريح لذلة الجنتامان بعد العز ... ثم يزداد تدهوره ، حتى يعثر به أخيرا في « شارع الموسكى » غارقا تحت حمل من الملابس القديمة ؛ فيهز يده فينهار ! وهكذا تجد في الأقصوصة الأولى ظلالا إنسانية ، وتحليلا نفسيا ، وفي الثانية – ۱۸۹ - - انفعالات نفسية وسخرية لطيفة ، وكلتاهما تنبعان من قلب إنسان . ولكنه إنسان يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحيوية : ضحكته ابتسامة فاترة ، وغضبته سحابة باهتة ، ووثبته خطوة وانية ، وإشارته إيماءة رتيبة ولكنه على أية حال إنسان
هذه الظلال الإنسانية التي تبدو في بعض أعمال تيمور - مع شيء من الشاعرية اللطيفة في بعض الأحيان – هي وحدها التي تجعل الناقد لا يستطيع أن يغفل فن تيمور ، وهو يتحدث عن الأقصوصة ، مهما كان في هذا الفن من فتور ۱۹۰ - قــــديل أم هاشم ليحى حـقى أوه ! يحي حتى ! أين كانت كل هذه الغيبة الطويلة ؟ وفيم هذا الاختفاء العجيب ؟ لست أذكر متى قرأت له أول أقاصيصه ؟ إنه عهد طويل . حتى لقد نسيته اللولا « قنديل أم هامش » ! كل ما أذكره أنه من زملاء تيمور الأوائل في بناء صرح الأقصوصة هو وطاهر حقى وحسين فوزى . ولكن هؤلاء كلهم كسالى ! تيمور ، ويحيى حقى : برهان حى على أن النبوغ وحده لا يكفى ، ولا العبقرية أيضاً . لا بد من الدأب والثبات والمثابرة ليكون الإنسان شيئا مذكوراً . وإلا فأين فن تيمور من فن حقى ! ثم أين مكانة حقى من مكانة تيمور ! حقى رجل كسول . مهمل . يستحق التعزير على تفريطه في موهبته الفذة وتيمور رجل دءوب ، مجتهد . يكتب . ويكتب . ويكتب . ولا بد أن يصادف في ذلك الكثير الذي يكتبه شيء ذو قيمة !
في « قنديل أم هاشم» بذرة فن جديد بل ثمرة فن جديد . ثمرة حلوة كاملة ناضحة عبقرية ! كانت البذرة في « عودة الروح » وفى « عصفور من الشرق » لتوفيق الحكيم ، وهي هنا « الثمرة » في « قنديل أم هاشم » تلك الأقصوصة الصغيرة ! ) <-191- الروح المصرية الصميمة العميقة ، التي لا تجد من ينتفع بها في فنه إلا قليلا هذه هي تطل – كما هي في أعماقها – من « قنديل أم هاشم » تطل من خلال اللمسات السريعة الرشيقة الموحية ، وتتراقص كأنهـا ومضات ذلك القنديل السحري العجيب ؛ ومعها الحيوية والفن والشاعرية والإبداع ! وفى خلال اثنتين وخمسين صفحة فقط من حجم ا الجيب يتم تصوير الروح المصرية الكامنة العميقة العريقة ، وتصوير بضع شخصيات ثانوية ، وشخصية أصيلة ، ويتم صراع كامل بين روح الشرق والغرب ، ويتم انتصار الإيمان المبصر على العلم الحاحد أما بقية الكتاب ، فتنصرف إلى أقاصيص أخرى لا ترتفع إلى مستوى قنديل أم هاشم ، وإلى قصيدة من الشعر المنثور من أروع ما يعرفه الشعر المنثور والمنظوم ! أهذه الموهبة كلها يطمرها الكسل والإهمال ... ليتنى أملك سوط الجلاد أيها الموهوب الكسول !!! وبعد . فأما سياق الأقصوصة فلا أملك في تصويره لك أيها القارئ أن أستعيض أسلوبي فيه عن أسلوب المؤلف . فللمؤلف روحه القوى البارع ، وأسلوبه الفذ المبتكر . وقصارى ما أملكه أن أنقل لك لوحات من الأقصوصة ومواقف . مهما تبلغ من البراءة والجمال فهي في السياق أبرع وأجمل ، لأنها هناك أعضاء في جسم حي متناسق . ولما كانت هذه هي الوسيلة الميسرة لدى . فأنا مضطر إذن أن ألخص لك خطوط الأقصوصة ، لتستطيع أن نلم بما اقتطفه لك من اللوحات والمواقف : ، الشيخ « رجب » رجل ريفي سكن القاهرة بجوار « أم هاشم » تبركا وتيمنا وتحقيقاً لشوق قديم أن يكون في حمى أخت الحسين . وقد توجه بابنه إسماعيل إلى التعليم المدنى دون أخويه الكبيرين ، لأن هذا النوع من التعليم قد استهواه – ۱۹۲ - وتركزت جهود الرجل وعائلته في أن يتيح « لسى اسماعيل » مطالب تعليمه ، حتى إذا حصل على البكالوريا ولم يكن متفوقاً اصطدم أبوه بالموقف . فهو كان يعده للطب ، ومدرسة الطب في مصر لا تقبله متأخراً. فاستخار الله ، وعزم على أن يرسله إلى « بلاد بره » ليتعلم على حساب قوته وقوت امرأته وابنة أخيه فاطمة ، وقبل أن يغادر الفتى مصر أوصاه أبوه بالمحافظة على دينه ، وتعاهد معه على الزواج من فاطمة لكي يلهيه عن الولع بالنساء في « بلاد بره » الفاسدة . وسافر الفتى الذي نشأ في حي السيدة الطاهرة ، وتشبعت روحه بروح الحي المؤمنة المتكلة المطمئنة لما هي فيه . سافر بروح الشرق الصوفية المستسامة ، ليصطدم هناك بروح الغرب العملية المصارعة. وقد تجسمت هذه الروح في صديقته «ماري» التي كانت تهب له كل شيء كما تهب تفاحة مجلوبة من السوق ! فوقع صريعاً في هذا الصراع الروحي الداخلي ، ثم أفاق على يدى صديقته أيضاً . أفاق وقد أصبح شخصية أخرى . شخصية مؤمنة بالعلم وبالفردية وبالصراع شخصية متميزة فاحصة تواجه الجموع ولا تنغمر في الجموع ! ... ثم عاد . عاد ملهوفاً مشتاقاً إلى مصر . وقد صنع الزمن به في انجلترا سبع سنوات ما صنع . فاذا به يجد مصر هي مصر ، وميدان السيدة هو ميدان السيدة . عاد طبيب عيون ، فإذا به . به يجد أمه تداوى عيني فاطمة بزيت قنديل أم هاشم ... وهنا ثار بكل ما فيه من قوة على هذا الخمود الخالد ، فحطم زجاجة الزيت ، وحطم قنديل أم هاشم، ا و بعد صراع طويل عاد إلى واصطدم بالجماهير ، ووجد نفسه غريباً في البيئة قواعده ، وتم انتصار الإيمان المبصر على العلم الجاحد . وانتصرت الروح !
. ... السياق بين يديك أيها القارىء ، ودونك بعض اللوحات والمشاهد ونحن نكتفى منها بثلاث صور لميدان السيدة في نفس إسماعيل : إحداها - 1 قبل سفره إلى أوربا وهو مؤمن بالسيدة الطاهرة ، والثانية بعد عودته مؤمنا بالروح الأوربية الحديثة ، والثالثة بعد انتهاء الصراع الأخير في نفسه ، وعودته إلى الاستقرار النفسي والهدوء هذه الصور الثلاث للمنظر الواحد في نفس واحدة ، تشهد ببراعة في التصوير النفسي ، لا ينالها إلا موهوب . ها نحن أولاء في الميدان : « إذا أقبل المساء ، وزالت حـدة الشمس ، وانقلبت الخطوط والانعكاسات إلى انحناءات وأوهام . أفاق الميدان إلى نفسه ، وتخلص من الزوار والغرباء . إذا أصخت السمع وكنت نقى الضمير فطنت إلى تنفس خفى عميق يجوب الميدان ، لعله سيدي العتريس بواب الست أليس اسمه من أسماء الخدم – لعله في مقصورته ينفض يديه وثيابه من عمل النهار ويتنفس الصعداء . فلو فيض لك أن تسمع هذا الشهيق والزفير ، فانظر عندئذ إلى القبة ، لألاء من نور يطوف بها ، يضعف ويقوى كومضات مصباح يلاعبه الهواء : هذا هو قنديل أم هاشم المعلق فوق المقام . هيهات للجدران أن تحجب أضواءه . يمتلىء الميدان من جديد شيئا فشيئا . أشباح صفر الوجوه ، منهوكة القوى ، ذليلة الأعين ، يلبس كل منهم ما قدر عليه ، أو إن شئت فما وقعت عليه يده من شيء فهو لابسه . نداءات الباعة كلها نغم حزين - حرائی باقول . حلى وع النبي صلى . - لو بيه يا فجل لوبيه - ۱۹۳ - . 1 المسواك سنة عن رسول الله
« ما هذا الظلم الخفي الذي يشكون منه ؟ وما هذا العبء الذي يحتم على ( م - ۱۳ ) - وروني أجمص فقوة . حتك لهوة يا بعيد سلبوه في حاله دا غلبان . ربنا يتوب عليه . ه أشباح الميدان الحزينة المتعبة يحركها الآن نوع من البهجة والمرح . ليس ی في الدنيا هم ، والمستقبل بيد الله . تتقارب الوجوه بود ، وينسى الوجيع شكايته ويبذر الرجل آخر نقوده في الجوزة أو الكتشينة ، وليكن ما يكون ! تقل أصوات اصطدام كفف الموازين ، وتختفى عربات اليد ، وتطفأ الشموع داخل المشنات ! عندئذ تنتهى جولة إسماعيل في الميدان . هو خبير بكل ركن وشبر تلفه الجموع فيلتف معها ، لا يفاجئه نداء بائع ، ولا ينبهم عليه مكانه وحجر كقطرة المطر يلقيها المحيط » . أرأيت كيف يصور المؤلف بلمسات ريشتة السريعة النبض ، المتوفرة الحركة المكان والوجوه والنفوس ؟ أرأيت كيف تطل عليك الروح المصرية واضحة بتسامحها وإيمانها واتكالها وهمومها وأحزانهـا ومرحها وفكاهتها من خلال السطور مشهد سكران « خمارة أنست » وحده وتعليق الناس عليه يعطيك حقيقة هذه الروح : التسامح والرحمة : « سيبوه في حاله دا غلبان » العطف والإيمان والرجاء في الله « ربنا يتوب عليه » الألفة والمودة : « حتك صور - -1901 ... ( لهوة يا بعيد » إنه ليس ميسوراً لكل قصاص أن يوفق هكذا في يسر وسرعة إلى تلك اللمسات السريعة ، التي يخيل إليك أنها جاءت عفواً لخاطر بلا تعب ولا تفكير ولا تنسيق ! وفى الصورة كثير من هذه اللمسات البارعة التي لا تتهيأ إلا لفنان موهوب . <-197- والآن فإلى الصورة الثانية : فاسماعيل قد عاد من أوربا بروح جديد . عاد فرداً معتزاً بفرديته ، طبيباً معتزاً بعلمه ، متمدناً معتزاً بتمدنه . عاد ينفر من الخرافة والجهل والرضى بالواقع والإحالة إلى المجهول . المسكنة ومنذ لحظة كان في بيت أبيه يحطم زجاجة الزيت . زيت قنديل أم هاشم لأنه لحظ أمه تقطر منها في عيني فاطمة الموشكتين على الظلام . ثم يفر آبقا من الدار ، اشمئزازاً وضيق بهؤلاء الناس ، وبمصر وبالمصريين : کدأ به بخلق غفير . ضربت عليهم « أشرف على الميدان فإذا به يموج وثقلت بأقدامهم قيود الذل . ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد . هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة ، ليس لها ماتفعله إلا أن تعثر بها أقدام السائر . ما هذا الصخب الحيواني ؟ وما هذا الأكل الوضيع تلتهمه الأفواه ؟ يتطلع إلى الوجوه فلا يرى إلا آثار استغراق في النوم كأنهم جميعاً صرعى أفيون 4 لم ينطق له وجه وأحد بمعنى إنسانى . هؤلاء المصريون : جنس سمج ترثار ، أقرع أرمد ، عار حاف ، بوله دم ، وبرازه ديدان ، يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه ؟ قطعة « مبرطشة » من الطين أسنت . ومصس في الصحراء ، تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض ، ويغوص فيها إلى قوائمه قطيع من جاموس تحيل يزدحم الميدان ببائعي اللب والفول وحب العزيز . 6 و نبوت الغفير ، والهريسة ، والبسيسة ، والسمبوسكة ، بمليم الواحدة . في جنباته مقاه كثيرة على الرصيف بجوار الجدران ، قوامها موقد وإبريق وجوزة . أحياء ی لم تعرف الماء منذ سنين ، الصابون عندها والعنقاء سواء ، تمر أمامه فتاة مزججة الحواجب ، مكحلة العينين ، شدت ملاءتها لتبرز عجيزتها وطرف ثوبها ، وتحجبت ببرقع يكشف عن وجهها . وما معنى هذه القصبة التي تضعها على أنفها ؟ أف ! ما أبشع رياء هذا المنظر وما أقبحه ! سرعان ما بدأ الناس يتحككون بها كأنهم كلاب لم يروا في حياتهم أنثى ! هنا جمود يقتل كل تقدم ، وعدم لا معنى فيه للزمن ، وخيالات المخدر ، وأحلام النائم والشمس طالعة ... « وشعر إسماعيل بأن هذه الجموع أشلاء ميتة تطبق على صدره ، وتكتم أنفاسه ، وتبهظ أعصابه ... يصطدم به المارة كأنهم عمى يتخبطون هذا الرضى عجز ، وهذه الطيبة بلاهة ، وهذا الصبر جبن ، انحلال ، وهذا المرح . - - ۱۹۷۴ t « انفلت إسماعيل من الزحام وجرى إلى الجامع ودخله ، واجتاز الصحن إلى الحرم . المقام يتنفس بدل الهواء أبخرة ثقيلة من عطور البرابرة . هذا هو القنديل قد علق التراب بزجاجه ، واسودت سلسلته « هبابه » تفوح منه رائحة احتراق خانقة . أكثر ما ينبعث منه دخان لا بصيص ضوء . هذا الشعاع إعلان قاتم للخرافة والجهل ... ... وهكذا تبدل إحساسه بالميدان وبالناس وبالضريح وبقنديل أم هاشم . تبدل بعد أن تلقت روحه ضربات « ماری » صديقته في انجلترا . تلك التي كانت تهبه كل شيء ثم تمتطى دراجتها وتذهب لتقابل صديقها الجديد ، وهي نلوح لاسماعيل بيدها : وداعا . أو إلى اللقاء ! تلك التي : « رأته يطيل جلسته بجانب الضعفاء من مرضاه ، ويخص بعطفه من يلحظ فيه آثار تخريب الزمن للأعصاب والعقول – وما أكثرهم في أوربا – يجلس صامتاً ينصت لشكواهم . وكان أكبر كرم منه أن يماشى منطقه منطقهم المريض . لحظته « مارى » وحلقة المرضى والمهزومين تطبق عليه يتشبثون به ، كل يطلبه لنفسه ، فأقدمت وأيقظته بعنف : . « أنت لست المسيح بن مريم ! » و « من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم ! » و « الإحسان أن تبدأ بنفسك » هؤلاء الناس غرقى يبحثون – ۱۹۸ – عن يد تمد إليهم ، فإذا وجدوها أغرقوها معهم ! إن هذه العواطف الشرقية مرذولة مكروهة ، لأنها غير عملية وغير منتجة . وإذا جردت من النفع لم يبق إلا اتصافها بالضعة والهوان . إنما هذه العواطف قوتها في الكتمان لا في البوح ! » وصارع . ولكن روح الغرب ممثلة في مارى كانت أقوى منه . فسقط صريعاً . ثم أنقذته . أنقدته بجسدها ولذائذه ، وبمرحها ومعاونتها ، وبرياضات الريف ونزهاته . فصحا . ولكنه استحال خلقا آخر . هو هذا الخلق الذي كنا منذ لحظة نلقاه في ميدان السيدة ساخطاً على هذا الشرق الذليل ! ولكن روح الشرق ايست من الضعف كما حسب إسماعيل . فها هي ذي ترده إليها ، وتستنقذه من هذا الجفاف الروحي ، ها هو ذا يحاول شفاء فاطمة بطبه فيصيبها العمى ، وها هو ذا يحطم « قنديل أم هاشم » فتنهال عليه الجماهير لكما وضربا حتى يفقد النطق ، لولا أن ينقذه من الجماهير الغاضبة «الشيخ در دیری» خادم الضريح ، وها هو ذا أبوه وأمه يفقدانه بعد ما أنفقا عليه من دمهما ولحمهما سبع سنين ، وها هو ذا يخرج شريداً إلى « بنسيون » امرأة يونانية يرى فيه وجه أوربا المادي الطامع الشره الناضب العطف والضمير ! ثم ها هو ذا يعود . يعود إلى ميدان أم هاشم . يعود كالمشدود بسلاسل سحرية للوقوف في هذا الميدان ، وهو لا يدري ما الذي يشده إليه . عاد بعد المعركة العنيفة التي قاساها في عودته كالمعركة التي قاساها في ذهابه ! عاد في ليلة القدر : « ابتدأ يطيل وقفته في الميدان ويتدبر ، في الجو ، في الهواء ، في المخلوقات ، في الجادات . كلها شيء جديد . لم يكن فيها من قبل . كان الوجود خلع ثوبه القديم واكتسى جديداً . علا الكون جو هدنة بعد قتال عنيف (( بالعلم « يحدث اسماعيل نفسه : لا ذا خاب ؟ لقد عاد من أوربا بجعبة كبيرة محشوة ، عند ما يتطلع فيها الآن يجدها فارغة ، ليس لديها على سؤاله جواب . هي أمامه خرساء ضئيلة ، ومع خفتها فقد رآها ثقلت في يده فجأة ! ۱۹۹ -- « ودار بعينيه في الميدان . وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها . وابتدأ يبتسم لبعض النكات والضحكات التي تصل إلى سمعه فتذكره هي والنداءات التي يسمعها بأيام صباه ... ما يظن أن هناك شعباً كالمصريين حافظ على طابعه وميزته رغم تقلب الحوادث وتغير الحاكمين . ( ابن البلد ) يمر أمامه كانه خارج من صفحات ( الجبرتي ) اطانت نفس إسماعيل وهو يشعر أن تحت أقدامه أرضاً صلبة . ليس أمامه جموع من أشخاص فرادي ، بل شعب يربطه رباط واحد : هو نوع من الإيمان ، ثمرة مصاحبة الزمان ، والنضج الطويل على ناره . وعندئذ بدأت تنطق له الوجوه من جديد تمعان لم يكن يراها من قبل . هنا وسول فيه طمأنينة وسكينة ، والسلاح مغمد . وهناك نشاط فيه قلق وحيرة وجلاد لا يزال اور على أشده ، والسلاح مسنون . ولم المقارنة ؟ إن المحب لا يقيس ولا يقارن ، وإذا دخلت المقارنة من الباب ولى الحب من الناقدة ... « وغاب لحظة في أفكاره ؛ فإذا به ينتبه على صوت شهيق وزفير عميق يجوبان الميدان . هذا هو سيدي العتريس ولا ريب ب . رفع بصره . القبة في غمرة من ضوء بتأرجح يطوف بها . انتفض إسماعيل من رأسه إلى أخمص قدميه . أبن أنت أيها النور الذي غبت عني دهراً ... مرحبا بك ! لقد زالت الغشاوة التي كانت ترين على قلبي وعينى . وفهمت الآن ما كان خافيا على". لا علم بلا إيمان . إنها لم تكن تؤمن بي . إنما إيمانها بيركتك أنت وكرمك ومنك . بيركتك أنت يا أم هاشم ... « ودخل إسماعيل المقام مطأطأ الرأس فأبصره يرقص عليه ضوء خمسين شمعة زينت جوانبه . والشيخ درديرى يتناولها واحدة واحدة من فتاة طويلة القامة سمراء اللون ، جعدة الشعر ... هي نعيمة ... ( وكانت قبل سفره مومسا تزور أم هاشم لتساعدها على التوبة ، وقد نذرت لها خمسين شيعة لوتاب الله عليها وعصمها مما هي فيه من ابتلاء ) - ۲۰۰ « لقد صبرت وآمنت ، فتاب الله عليها ، وجاءت توفى بنذرها بعد سب.. الله سنوات . لم تقنط ، ولم تثر ، ولم تفقد الأمل في كرم الله . أما هو الشاب المتعلم ، الذكي المثقف ، فقد تكبر وثار ، وتهجم وهجم ا ، وتعالى فسقط « ورفع اسماعيل بصره فإذا القنديل في مكانه يضيء ، كالعين المطمئنة ، التي رأت ، وأدركت ، واستقرت . خيل إليه أن القنديل ، وهو يضى ، يومى إليه ويبتسم ! ی « وجاء الشيخ درديرى يسأله عن صحته وأخباره ، فيميل عليه إسماعيل يقول: هذه ليلة مباركة يا شيخ درديرى . أعطني شيئا من زيت القنديل - والله انت بختك كويس ... دى ليلة القدر وليلة الحضرة كمان « وخرج إسماعيل من الجامع ، وبيده الزجاجة وهو يقول في نفسه للميدان وأهله : - تعالوا جميعاً إلى ! فيكم من آذاني ، ومن كذب على" ، ومن غشنى . ولكنى رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطكم ، فأنتم منى وأنا منكم . أنا ابن هذا الحي ، أنا ابن هذا الميدان . لقد جار عليكم الزمان ، وكلما جار واستبد كان إعزازي لكم أقوى وأشد » ... ( . وعاد إلى الدار بعلمه وإيمانه يعالج فاطمة فتشفى ، ويفتتح عيادته في حي البغالة بجوار التلال ويجعل الزيارة بقرش واحد . « ليس من زبائنه متأنقون ومتأنقات . بل كلهم فقراء . حفاة وحافيات » و « کم من عملية شاقة بححت على يديه بوسائل لو رآها طبيب أوربا لشهق عجبا ! استمسك . بروحه وأساسه عامه وترك التدجيل والمبالغة في الآلات والوسائل » . « وتزوج إسماعيل من فاطمة وأنسلها خمسة بنين وست بنات » ! ( ( - ۲۰۱ طابع مع مصر حتى في النسل الكثير ! لقد عاد . وعدنا معه لنرى روح مصر العميقة . نراها في كل مشهد وكل خاطرة وكل لفتة وكل لفظ ، تراها في نعيمة « القطة الضالة » التي اهتدت بالإيمان ، كما نراها في اسماعيل الطبيب المتفرنج الذي اهتدى بالإيمان . نراها ونلمسها روحاً إنسانية طيبة سمحة فكهة رحيمة . هذا هو الفن الإنساني في طابع قومى . في أرقى الآفاق ! وفي أول الحديث قلت : إن بذرة « قنديل أم هاشم » كانت في « عودة الروح » و « عصفور من الشرق » لتوفيق الحكيم ، ولكن يجب التفرقة بين
البذرة والثمرة . هناك ، وفي « عصفور من الشرق» خاصة . كان الصراع بين روح الشرق وروح الغرب يتبدى في خطرات ذهنية وفي جمل وكلمات ونظريات . وهنا يتبدى هذا الصراع في خلجات نفسية ، وفى حركات وإيماءات وانفعالات . هنا حياة . حياة من اللحم والدم والخلجات والانفعالات . وهما نموذجان متقابلان في طريقة العمل الفني ، وطريقة الإحساس بالحياة على السواء وفي هذا السياق تذكر قصة « خان الخليلي » لنجيب محفوظ ، فهذه وتلك ا ها العملان البارزان في تصوير البيئة المصرية والروح المصرية في مجال إنساني ولكل من المؤلفين طريقته بعد ذلك . ففي يحيى حقى سرعة اللمسات وشاعرية التصورات ، وفي نجيب محفوظ هدوء اللمسة ، وثبات الريشة . ثم تبقى الفوارق الأخرى بين قصة كبيرة وأقصوصة صغيرة ، في طريقة العمل الفني ، وفي رسم الشخصيات والحوادث ، وفي المحيط الذي تضطرب فيه هنا وهناك .. - – ۲۰۲ - همزات الشــــــــــياطين لعبد الحميد جودة السحار كان هذا الكتاب - وهو حلقة من سلسلة لجنه النشر للجامعيين – مفاجأة كاملة لي ، فأنا أعرف مؤلفه الشاب ، فأعرف أنه أديب مجتهد ؛ وقد قرأت له ما سمح وقتى المحدود بقراءته من كتبه الكثيرة التي يتجه بها غالباً إلى التاريخ الإسلامي، ليعيد عرض وقائعه الجافة في صورة قصصية ، يحافظ فيها على دقة التاريخ مع سهولة العرض وتشويقه ، ، وهو عمل نافع مشكور . وقرأت له قصته الأولى عن : أحمس بطل الاستقلال ، وهي لا تبشر بشيء ! ثم قرأت – على وجه الخصوص – كتابه « في الوظيفة » وأعجبني فيه قدرته على التصوير السريع باللمسات الخاطفة ، فقلت عنه . « إن صاحب هذه الصور الانتقادية موهوب في فن التصوير السريع . ومهما أخذت عليه من عيوب في عمله الفنى ، فإنك لن تخطىء الملامح التي يريدها ، والسحنة التي يبغيها ، وهذا وحده . ، يكفى . ه إنه ذو عين لماحة ، تسجل الحركة الحسية ، كما تسجل الحركة النفسية . ثم تغلف اللمحة المرسومة بروح السخرية ، وتمزجها بعنصر الفكاهه ، حتى ليخيل إليك أنه ينظر إلى الدنيا كما ينظر إلى ملهاة كبيرة ؛ تأخذ عينه فيها لمحات التناقض ، ، وتأخذ فيها مواضع السخرية ، وتأخذ نفسه فيها مواطن الدعابة ولكن هذا كله شيء ، و « همزات الشياطين » شيء آخر ، ومع أنها ( - ۲۰۳ - موسومة بهذه السمة التي عبرت عنها في تلك الفقرات ، إلا أن الشقة بينها وبين أعمال المؤلف الشاب بعيدة ، فهي وثبة واسعة المدى ، لا بالقياس إلى جميع أعماله ، بل بالقياس إلى أقصى ما كان يتوقعه الناقد لهذه الأعمال ! وقبل أن أبعد في طريق التعميم أخصص ماذا أعنى بأنه وثبة واسعة المدى : تحتوى هذه المجموعة على اثنتي عشرة أقصوصة ، وقد صدرها المؤلف ببحث مختصر مفيد عن الرواية والأقصوصة يؤلف مع الفصل الذي احتوى عليه كتاب « فنون الأدب » عن القصة والمسرحية تأليف « ه . ب تشارلين وتعريب الأستاذ زكى نجيب محمود . والفصل الذي كتبه الأستاذ محمود تيمور عن « فن القصص » كل ما تحويه المكتبة العربية تقريباً عن هذا الباب الضخم من أبواب الأدب : باب القصة ! .... ... هذه المجموعة أقصوصة طويلة بعنوان « وسوسة الشيطان » تستغرق وهذه هي أكثر من ثلاثين صفحة ، وهي الأقصوصة الرئيسية في المجموعة الأقصوصة الفذة البارعة في المجموعة ، وفي أعمال المؤلف كلها منذ أن أخذ يكتب وينشر . أما بقية المجموعة فشيء عادي فيه الخطأ وفيه الصواب ، وبعضها تبدو فيه المجلة التي لا تغتفر لمن يملك أن يخرج مثل هذه الأقصوصة الرئيسية ! وهذه الأقصوصة هي التي فاجأتنى مفاجأة تامة ، جعلتني أعاود النظر في كل ما قرأته للمؤلف ، لعلنى أكون قد أخطأت في تقديره أول الأمر ، أو لعل بعض كتبه التي لم أكن قرأتها يوحى بهذه الوثبة الواسعة ! ثم عدت بعد هذا كله مقتنعاً بأنها وثبة واسعة ، ومفاجأة كاملة ! وقادتني هذه المفاجأة إلى أن أراجع كل ما تحويه مكتبتى من الأقاصيص المؤلفة باللغة العربية – وهي تكاد تشمل كل ما تحويه المكتبة العربية في هذا الباب – فوجدت هذه الأقصوصة تكاد تقف وحدها متفردة بين هذا الحشد من الأقاصيص . ذلك حين نستثنى أقصوصة : « قنديل أم هاشم » وأردت أن أتابع الموازنة ، فعدت إلى ما تحويه مكتبتى من الأقاصيص المترجمة – وهي تكاد تشمل كذلك كل ما نقل إلى اللغة العربية – فوجدت هذه الأقصوصة تقف رافعة الرأس مع أعظم ما أعجبت به في هذه المجموعة ترتفع على معظمه ، وتساوى أقله ، وتنحنى أمام عدد صغير جداً لا يبلغ عشر أقاصيص من حوالي المائتين ! تصور هذه الأقصوصة تجربة نفسية كاملة للخطيئة . وهي تمثل – مع استقلالها وأصالتها – صراع كل « بافنوس » أمام « تاييس » وكل « عبد الرحمن قس ! » أمام « سلامة » بل صراع كل « آدم » أمام فتنة الفاكهة المحرمة . وهي تصور هذا الصراع باللمسة الهينة ، والإيماءة القصيرة واللفظة الموحية، والحركة المعبرة ، وتلم في الطريق بكل خلجة وكل خاطرة وكل تأثر وكل انفعال ، وتجمع بين السرعة المتحركة في السياق ، والدقة الكاملة في رسم الخلجات الخفية ، والوسوسات الخافتة ، وتصور « فلما » كاملا للصراع النفسي في موقف خاص ! وذلك كله دون حذلقة ، ودون إبراز للتحليل النفسي الذي يأخذ هيئة التفسير العلمي ، فيفسد الفن القصصى، إلا في موضعين عابرين ألم بهما إلماماً سريعاً لحسن الحظ ، فلم يفسدا السياق ، وإن غضا من قيمته الفنية قليلا . والصعوبة التي تواجه ناقد القصة أنه لا يملك عرض الجمال الفني فيها كما يريد ، فالتلخيص عبث وقتل لهذا الجمال ، فهو – على أحسن الأوضاع – يلخص الفكرة ، وماذا تجدى الفكرة إذا لم يستطع تصوير طريقة العلاج ؟ وكل وصف الطريقة العلاج بعد تشويها بالقياس إلى حقيقة العمل الفني في السياق ! ولكنني بعد هذا كله ملزم أن أعرض على القارىء هذا التشويه : ( – ۲۰۶ - . -- - ( صلاح شاب في الثلاثين ، متدين ، واثق بنفسه وبإيمانه ، فقد وصل إلى هذه السن ولم يرتكب معصية قط – على الأقل حسبما يعتقد – فهو صاحب حق في - صفحة:كتب وشخصيات (1946) - سيد قطب.pdf/209 – ۲۰۶ - السريع ، فرد ذلك إلى جو الربيع الذي أنعشه ، ودب فيه نشاط حبيب إلى النفس ، وبلغ الطريق فامحها تغذ في السير ، وتصعد إلى الطوار خفيفة رشيقة ، وما تقطع في الطريق خطوات حتى تعود لتقفز إلى الطوار ثانية كأنها خيال يطير ، لا يبنى المكوث عن الأرض ولا يطيق اللصوق بها . ووجد نفسه يغذ في السير ، ولكن علام الإسراع ، وما هناك حاجة إلى الإسراع ، فما زال في الوقت متسع ؟ وأحس همساً خفيفا ينبعث من داخله يستفسر : ترى أنفذ في السير لتلحق بها وتتطلع إليها ؟ وما همس هذا الهاجس في نفسه حتى تفزع وجفل ، وضيق من خطوه ، وتعوذ وابتدأ في قراءة المعوذتين ! » ا ثم تتابع الحياة دورتها ، ويتابع المؤلف خطوات صلاح . وصراعه مع نفسه ، ومغالطته لها، وهواجسه وخطراته، وتناقض أحاسيسه، وإقدامه وإحجامه ، واقترابه في كل إقدام وكل إحجام من الهزيمة والاستسلام ، في أسلوب بارع فائق لا نستطيع مجاراته فية ولا نملك تلخيصه ، حتى نلتقى بالبطل في موقف الهزيمة الأول : « وانطلقا في الطريق الهاديء الساكن الممتد على النيل ، وسارا صامتين كأنما استعارا صمتهما من صمت المكان ، واقتربت « بديعة » منه حتى التصق كتفها بكتفه ، واصطدمت يدها بيده أكثر من مرة ، واستقرت يدها في يده أخيراً ، فراح يضغطها ضغطاً خفيفاً ، فكان يحس بنشوة لذيذة تسرى فيه ، ما كان يحسها لو أن اليد التي كانت في يده يد « سميرة » ، واستمر السكون محيها عليهما ، وكان سكونا خارجياً ، ولم تكن نفساها ساكنتين ، بل كانتا تعتلجان بشعور فوار ، فقد كان كل منهما يتمنى أن يضم صاحبه إلى صدره ليطفء ناره ! « وبلغا مقعداً خشبيا ، فجلسا يحدقان في النيل برهة ، ثم زحفت « بديعة » على المقعد بخفة التصقت به ، فملا عبيرها الشذي أنفه ، وحرك نفسه ، فتاق إلى أن يضمها إليه ، ويطوقها بذراعيه ، ويمطر وجهها قبلات ، ولكنه قمع . . – ۲۰۷ - شهوته ، وقاوم رغبته ، وربى بنظره إلى النيل ، وجعل يرقب موجاته المتكسرة محاولا أن يتشاغل عن هواتف نفسه ، ولكن رغبته خنقته وسيطرت عليه ، فارتد بصره إليها ، وراح يتطلع إليها في وله واشتهاء ... والتقت العيون ، فترجمت عما تخفي الصدور ، فمالت « بديعة » وأسندت ظهرها إلى صدره ، فخفق قلبه ، وارتفع نبضه ، وسرى الدم حاراً في بدنه ، حتى أحس به يكاد يشوى وجهه ، وانبهرت أنفاسه قليلا ، وضاقت حدقتا عينيه قليلا ، واضطرب كثيراً ، وأحس شعرها الأسود السبط الجميل الذي تمنى يوم جلست أمامه في السينما أن يمر بيده عليه ، يلمس خده ، فسرت رعدته في جسمه ، وارتفعت يده دون أن يتكلف ذلك ، وراحت تمر على شعرها في حنان ، فرفعت عينيها المتكسرتين إليه وهى مستلقية على صدره ، واستدارت قليلا كأنما استدارت للقبل ... ورنت إليه في دلال ، وزمت شفتيها تدعوه في خبث إلى اللهم والعناق ... فلم يستطع أن يقاوم تلك الفتنة المرقمية في أحضانه ، ولا نداء العينين الواسعتين الساحرتين ، ولا الشفتين المزمومتين المرتجفتين قليلا ، المغريتين كثيراً ! » . ( وهكذا يمضى المؤلف بصلاح المسكين في سياق مصور دقيق على هذا الطراز حتى يصل به إلى الدار : « وتذكر في الطريق دعاء ما كان يجرى له ببال قبـل اليوم ، ولم يتحرك به لسانه أبدأ ، فأخذ ردده في نفسه في حرارة يحس نارها تصهر صدره ، ، ولأول مرة يحس جلال ذلك الدعاء ، واستمر يردده وهو يصعد الدرج : « اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ... اللهم إني أعوذ بك من شر نفسی » ! « ودق الباب ففتحه زوجه ، فدخل وأغلقه خلفه ، ثم طوقها بذراعيه ، وراح يقبلها في لهفة وهو يغمغم : « سميرة ... سميرة ؟ » كأنما كان في سفر طويل عاد منه ، وخطر داهم يهدد حياته ، وأحس كأنه يود أن يفضى لها بكل شيء ، - ۲۰۸ – وأن يقص عليها قصة ضعفه ، ولكنه تريث ، وتخلصت منه في رفق ، وسألته في ارتياب : ما بك الليلة ؟ فقال : لا أدرى ، إنى إليك مشتاق كأنى لم أرك منذ سنين فقالت : أأعد العشاء ؟ فقال : انتظري حتى أصل العشاء ! ی « ودخل حجرته ، وأخذ يخلع ملابسه ، ولم ترجمه نفسه المهتاجة ، بل راحت مخزه ، فسمع صوتاً يهتف به من أغوار نفسه : « يا لك من منافق ! كيف سمحت لنفسك أن تضع شفتيك الأئمتين على شفتيها الطاهرتين ؟ وكيف رضيت أن تلف ذراعيك الملوثتين بخصرها ؟ ... وأن تلصق صدرك الخبيث بصدرها ؟ يا لمارك ! » . ثم يعتزم التوبة والتكفير بألا يلقى بديعة مرة أخرى ، ويصر على ذلك إصراراً ونفسه تهتف به إليها هتافا ، ويصمد في الظاهر وهو يقرب من الخطيئة الكبرى ... ثم تقع هذه الخطيئة في أشد لحظاته إصراراً على ألا يلمح « بديعة » « واستمر ضميره يخزه وخزاً شديداً ، وهو أو يراها ! . ثم يصبح الصباح ! يتلوى من العذاب ، وضاق صدره فترقرق الدمع في عينيه فلم يستطع حبسه ، فجرى على خديه ، واستمر في عذاب حتى ارتفع صوت المؤذن يؤذن بالفجر . فأحس كأنه نار تصب في أذنيه . فوضع إصبعه في أذنه ليصمها عن سماع الأذان الذي يزيد من أشجانه ، ولكن صوت المؤذن كان يقرع فكانه شواظ من نار سددت إلى قلبه فحرقته حرقا ، وارتفعت النار إلى صدره فأضئته ، وأحس « سميرة » تنهض من فراشها ، فأحس عرق الخجل يتصبب منه حتى يغمره ، واقتربت من سريره فود أن تبتلعه الأرض قبل أن تمسه ، ولكن يد « سميرة » لمست كتفه سمیه ... )) في رفق ، وهمست في حنان : – صلاح ... صلاح ... انهض قد أذن المؤذن « فهم بأن يصيح فيها أن تبتعد عنه ، وألا تلمسه ، ولكن صوته انحبس ، ولم يجد مخرجا . فعادت تهزه وتهتف : صلاح قم . الصلاة خير من النوم . – ۲۰۹ - واقتربت بوجهها من وجهه ، فلمحت دموعه تجرى على خده . فهمست في فزع : صلاح . ما بك ؟ أتبكي ؟ .. قم يا حبيبي . قال : دعيني . قالت ما بك يا حبيبي ؟ قال : رأيت رؤيا مفزعة . رأيت نفسى أطرد من الجنة » . ولا تنتهى الأقصوصة حتى يكون هذا الواثق في نفسه وقوة إيمانه ، المستعز بمكانه في الجنة ، القاسي على الضعف والخطيئة ... معذبا مولها ، لا تهب عليه نسائم الرحمة إلا من الإقرار بالضعف والخطيئة ، والرجوع إلى التواب الغفار عن طريق الخطأ والاستغفار : « ونهض صلاح ليغتسل من إثمه ، وانطلق حزيناً كئيبا يحتقر نفسه ، ويعجب ، وسمع صوتاً آتيا من أغوار نفسه كأنه همس ينبعث من مكان سحيق ، ولكنه بلغ أذنيه واضحاً قوياً ، وانساب فيها لضعفه ی عذبا نديا : « كل ابن آدم خطاء . وخير الخطائين التوابون » « فتمتم والدموع تخضب وجهه : « اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك » هذا عمل فني رائع لا تصوره تلك المقتطفات بل تشوهه ! وإن المؤلف الشاب ليستطيع أن يلقى بكل أعماله إلى البحر ، ثم يقف بهذا العمل الفني وحده . فإذا قدر له أن يخرج عشر أقاصيص فقط من هذا الطراز ، فليكن على ثقة أنه سيسلك في سجل العظماء من رجال الفنون ! ولكن هذا عمل عسير ! ! ! « ( م - ١٤) Ak
خطأ استشهاد: وسوم <ref>
موجودة لمجموعة اسمها "arabic-indic"، ولكن لم يتم العثور على وسم <references group="arabic-indic"/>