الباب السادس التَّذلُّلُ للحبيبِ مِن شيمِ الأديبِأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب السادس التَّذلُّلُ للحبيبِ مِن شيمِ الأديبِ
قد ذكرنا أن تقصير المحبوب عن مواصلة محبّه وتراخيه عن إظهاره على كل ما له في قلبه إنَّما يتولَّدان عن وقوع الثقَّة به فربَّما جهل المحبُّ على نفسه فتوهَّم أنَّ ذلك داخل في باب الخيانة والغدر فكافى عليه بالانحراف والهجر فيجني على نفسه ما لا يتلافاه العذر ولا يقاومه الصبر والحازم من صبر على مضاضة التَّدلُّل والتمس العزَّ في استشعار التَّذلُّل فحينئذ يتمكَّن من وداد محبوبه ويظفر من هواه بمطلوبه.
قال الحسن بن هانئ:
يا كثيرَ النَّوحِ في الدِّمنِ
لا عليها بلْ على السَّكنِ
سُنَّةُ العشَّاقِ واحدةٌ
فإذا أحببتَ فاسْتَكنِ
وقال معاذ ليلى:
عفَا اللهُ عنِي ليلَى وإنْ سفكتْ دمِي
فإنِّي وإنْ لمْ تُجزِنِي غيرُ عاتبِ
عليها ولا مُبدٍ لليلَى شكايةً
وقدْ يُشتكَى المُشكِي إلى كلِّ صاحبِ
يقولونَ تبْ عن حبِّ ليلَى وذكرِها
وما خلتُنِي عنْ حبِّ ليلَى بتائبِ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
لستُ مِن ظالمَتِي منتصِفاً
قبَّحَ اللهُ محبّاً يَنتصفْ
وفتاةٍ أنْ تغبْ شمسُ الضُّحى
فهيَ للنَّاسِ منَ الشَّمسِ خلَفْ
أجمعَ النَّاسُ على تفضيلِها
وهواهمْ في سِواها مُختلفْ
وقال المؤمل:
أمنْ فقدِ الحبيبِ عيناكَ تبكِي
نعمْ فقدُ الحبيبِ أشدُّ فقدِ
بَرانِي الحبُّ حتَّى صرتُ عبداً
فقدْ أمسيتُ أرحمُ كلَّ عبدِ
فأُقسمُ لو هممتِ بمدِّ قلبِي
إلى جوفِ السَّعيرِ لقلتُ مُدِّي
وقال أبو الوليد عبيد الطائي:
منِّيَ وصلٌ ومنكَ هجرُ
وفيَّ ذلٌّ وفيكَ كِبرُ
عذَّبني حبُّكَ المُعنِّي
وغرَّني منكَ ما يغرُّ
قدْ كنتُ حرّاً وأنتَ عبدٌ
فصرتُ عبداً وأنتَ حرُّ
يا ظالماً لي بغيرِ جرمٍ
إليكَ مِنْ ظُلمكَ المفرُّ
أنتَ نَعيمي وأنتَ بؤسِي
وقدْ يسوءُ الَّذي يسرُّ
وقال آخر:
تُسيءُ بنا هندٌ ونحسنُ جهدَنا
فحتَّى متى هندٌ تُسيءُ ونُحسنُ
وأَجبنُ عنْ تقريعِ هندٍ بذنبِها
ولوْ غيرُ هندٍ كانَ ما كنتُ أجبنُ
وأنشدني محمد بن الخطاب الكلابي قال أنشدني ماني لنفسه:
يزيدُنِي ما استزدتُ مِن صلتهْ
وعنْ قليلٍ يعودُ في هبتهْ
لوْ حزتُ قطرَ السَّماءِ لانهملتْ
عليَّ ظُلماً سماءُ مَوْجَدتهْ
كمْ زلَّةٍ منهُ قدْ ظفرتُ بها
فقامَ حبِّي لهُ بمعذرتهْ
تُفنِي اللَّيالي وعيدَهُ وأنا
قريبُ عهدٍ بسوءِ مملكتهْ
وقال أبو تمام الطائي:
ظنِّي بهِ حسَنٌ لولا تجنِّيهِ
وأنَّهُ ليسَ يرعَى عهدَ حُبِّيهِ
عمَّتْ محاسنهُ عنِّي إساءتَهُ
حتَّى لقدْ حسُنتْ عندِي مساويهِ
تاهتْ علَى صورةِ الأشياءِ صورتهُ
حتَّى إذا خضعتْ تاهتْ علَى التِّيهِ
لمْ تجتمعْ فرقُ الحُسنِ الَّتي افترقتْ
عنْ يوسفِ الحسنِ حتَّى استجمعتْ فيهِ
وقال آخر:
مُستقبلٌ بالَّذي يهوَى وإنْ كثرتْ
منهُ الإساءةُ معذورٌ بما صنعَا
في وجههِ شافعٌ يمحُو إساءتَهُ
منَ القلوبِ وجيهٌ حيثُ ما شفعَا
وأنشدني بعض إخواننا:
يا مَنْ أراهُ أحقَّ بِي منِّي
إنْ غبتُ عنكَ فلمْ تغبْ عنِّي
أغفلْتَنِي لمَّا اعتللتُ ولمْ
يكُ ذاكَ منكَ يدورُ في ظنِّي
وأمرُّ ما ذاقَ امرؤٌ فهِمٌ
ما جاءهُ مِن موضعِ الأمنِ
كنْ كيفَ شئتَ فما منَحْتُكَهُ
صفوٌ بلا كدرٍ ولا منِّ
وقال كثيِّر:
أسيئِي بنا أوْ أحسنِي لا مَلولةً
لدينا ولا مقليَّةً إنْ تقلَّتِ
أصابَ الرَّدى مَن كانَ يهوَى لكِ الرَّدى
وجُنَّ اللَّواتي قلنَ عزَّةُ جُنَّتِ
خليليَّ هذا رسمُ عزَّةَ فاعْقِلا
قلوصَيْكُما ثمَّ ابْكِيا حيثُ حلَّتِ
وقال آخر:
إنَّ الهوانَ هو الهوَى نقضُ اسمهِ
فإذا هويتَ فقدْ لقيتَ هوانَا
وإذا هويتَ فقدْ تعبَّدكَ الهوَى
فاخضعْ لإلفكَ كائناً مَنْ كانا
وقال آخر:
صفحتُ برغمِي عنكَ صفحَ ضرورةٍ
إليكَ وفي قلبِي ندوبٌ منَ العتبِ
خضعتُ وما ذنبِي إنَّما الحبُّ عزَّنِي
فأَغضيتُ ضُعفاً عنْ معالجةِ الحبِّ
وما ذاكَ بِي فقرٌ إليكَ مُنازعٌ
يُذلِّلُ منِّي كلَّ ممتنعٍ صعبِ
إلى اللهِ أشكُو أنَّ ودِّي مُضيَّعٌ
وقلبِي جميعٌ عندَ مقتسمِ القلبِ
وقالت امرأة من الأعراب:
بنفسِي وأهلِي مَن لَوَ انِّي أتيتهُ
علَى البحرِ فاستسقيتُهُ ما سقانِيَا
ومَن لوْ رأَى الأعداءَ ينتَضِلونَنِي
لهمْ غرضاً يرمونَنِي لرَمانِيا
ومَن قدْ عصيتُ النَّاسَ فيهِ جماعةً
وصرَّمتُ خُلاَّني لهُ وجفانِيَا
فيا أخويَّ اللائِمَيَّ علَى الهوَى
أُعيذُكما باللهِ منْ مثلِ ما بِيَا
سألتُكُما باللهِ لِمَّا جعلتُما
مكانَ الأذَى واللَّومِ أنْ ترثيا لِيَا
ولا تغْفَلا إنْ لامَنِي ثَمَّ لائمٌ
ولو سخطَ الواشونَ أنْ تعذُرانِيا
فأُقسمُ لو خُيِّرتُ بينَ فراقهِ
وبينَ أبِي اخترتُ أنْ لا أبا لِيَا
ثكلتُ أبي إنْ كنتُ ذُقتُ كريقهِ
لشيءٍ ولا ماءً منَ المزنِ صافِيَا
وقال كثيّر:
وقائلةٍ دعْ وصلَ عزَّةَ واتَّبعْ
مودَّةَ أُخرى وابلُها كيفَ تصنعُ
أراكَ عليها في المودَّةِ زارِياً
وما نلتَ منْها طائلاً حيثُ تسمعُ
فقلتُ ذَريني بئسَ ما قلتِ إنَّني
علَى البخلِ منها لا علَى الجودِ أتْبعُ
وقال البحتري:
أميلُ إليكَ عنْ ودٍّ قريبٍ
فتُقصيني علَى النَّسبِ البعيدِ
فما ذنبي بأنْ كانَ ابنُ عمِّي
سواكَ وكانَ عودُكَ غيرَ عودي
وفي عينيكَ ترجمةٌ أراها
تدلُّ علَى الضَّغائنِ والحُقودِ
وأخلاقٍ عَهدْتُ اللِّينَ فيها
غدتْ وكأنَّها زُبرُ الحديدِ
وقد عاقدْتَني بخلافِ هذا
وقال الله أوْفوا بالعقودِ
وما ليَ قوَّةٌ تنهاكَ عنِّي
ولا آوي إلى رُكنٍ شديدِ
سأرحلُ عاتباً ويكونُ عتبي
علَى غيرِ التَّهدُّدِ والوعيدِ
وأحفظُ منكَ ما ضيَّعتَ منِّي
علَى رَغمِ المُكاشحِ والحسودِ
هذا الكلام وإن كان فيه شيء من التَّواضع والاستكانة فإنَّ فيه ضرباً من الضَّجر الدَّاعي إلى الخيانة لأنَّ صاحبه لم يصبر على التَّذلُّل نفسه على ما صبر عليه من بدأنا بذكره.
وفي نحو هذا المعنى قول الآخر:
فإنْ يكُ هذا منكَ جدّاً فإنَّني
مُداوي الَّذي بيني وبينكَ بالهجرِ
ومُنصرفٌ عنكَ انصرافَ ابنِ حرَّةٍ
طوى ودَّهُ والطَّيُّ أبقى علَى النَّشرِ
وفي مثله يقول البحتري:
وكنتُ أرى أنَّ الصُّدودَ الَّذي مضى
دلالٌ فما إنْ كانَ إلاَّ تجنُّبا
فوا أسفا حتَّامَ أسألُ مانِعاً
وآمنُ خوَّاناً وأُعتبُ مُذنبا
سأثْني فؤادي عنكِ أو أتبعُ الهوَى
إليكِ إنِ استعصى فؤادي أوْ أبى
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه في نحوه:
ما لي أُقرِّبُ منكَ نفسي جاهداً
وأراكَ منِّي جاهداً تتباعدُ
قدَّمتَ دونَ أخيكَ من هو دونهُ
وعندْتَ عنهُ وهوَ منكَ يُعاندُ
أيأستني بعدَ الرَّجاء فمنْ ترى
يرجوكَ بعدي أوْ عليكَ يُحاسدُ
أمْ كيفَ يأملُ منكَ يوماً صالحاً
أحدٌ ورأيكَ فيَّ رأيٌ فاسدُ
وقال ابن حازم في نحو ذلك:
لا ترضَ عيشاً علَى امتهان
ولا تردْ وصلَ ذي امتنانِ
أشدُّ منْ عَيلةٍ وفقرٍ
إغضاءُ حُرٍّ علَى هوانِ
إذا نبا منزلٌ بحُرٍّ
فمنْ مكانٍ إلى مكانِ
وهؤلاء كلُّهم ومن جرى في هذا القول مجراهم إنَّما يتضاجرون على خلاَّنهم لثقلهم إيَّاهم عن عاداتهم ومنعهم إيَّاهم ما استعبدوه من مواصلاتهم لتغلُّب الحيرة على قلوبهم يحسبون أنَّ انحرافهم عن أحبابهم أقلُّ أذًى عليهم من الصبر لهم على محبَّاتهم ولو قد أنفذوا ما عزموا عليه من الفراق والهجر لشاهدوا ما يضطرُّهم إلى الرُّجوع بالصِّغر والتَّوسل إلى الصَّفح بالعذر ما لم يسمع الَّذي يقول: