الباب السابع والأربعون مَنْ شابتْ ذوائبهُ جفاهُ حبائبهُأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب السابع والأربعون مَنْ شابتْ ذوائبهُ جفاهُ حبائبهُ
بلغني عن بعض الأكاسرة أنه قال كنت أظن أني إذا شبت زهدت في النساء فلم أزل مغموماً بذلك ولم أدر أنِّي إذا شبت كنت أنا فيهنَّ اشدّ زهداً ولعمري إن من قرب من آخر عمره لجدير أن يصرف همَّته إلى ما يعيد عليه نفعاً في آخرته ويتشاغل بأحكام الدَّار الَّتي يصير إليها عن أسباب الدَّار الَّتي ينتقل عنها فإن لم يقع ذلك له اختياراً وقع أكثره به اضطراراً.
أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي:
قعدَ الشَّيبُ بي عنِ اللَّذاتِ
ورَماني بجفوةِ الفتياتِ
فإذا رُمتُ سترهُ بخضابٍ
فضَحتهُ طلائعُ النَّاصلاتِ
ما رأيتُ الخضابَ إلاَّ سراباً
غرَّني لمعُهُ بأرضٍ فلاةِ
فإذا ما دَعا إلى الكأسِ داعٍ
قلتُ مَا للكبيرِ والنَّشواتِ
لستُ بعدَ المشيبِ ألتذُّ بالعي
شِ فدعْني وغصَّةَ العبراتِ
إنَّ فقدَ الشَّبابِ أنزلَني بعْ
دكَ دارَ الهمومِ والحسراتِ
ورمانِي بحادثِ الشَّيبِ دهرٌ
قارَعَتني أيَّامهُ عنْ حياتِي
وقال آخر:
في كلّ يومٍ أرَى بيضاءَ قدْ طلعتْ
كأنَّها أُنبتتْ في ناظرِ البصرِ
لئنْ حجبتُكِ بالمِقراضِ عنْ بصرِي
لما حجبتكِ عنْ همِّي وعنْ فكرِي
وأنشدني البحتري لنفسه:
ثنتْ طرفَها دونَ المشيبِ ومَنْ يشبْ
فكلُّ الغوانِي عنهُ مثنيَّةُ الطَّرفِ
وجُنَّ الهوَى فيها عشيَّةَ أعرضتْ
بناظرَتَيْ ريمٍ وسالفَتي خشفِ
وأفلجَ برَّاقِ يروحُ رُضابهُ
حَراماً علَى التَّقبيلِ بسلاً علَى الرَّشفِ
وقال علي بن العباس الرومي:
هيَ الأعينُ النّجلُ الَّتي أنتَ تشتكِي
مواقعَها في القلبِ والرَّأسُ أسودُ
فما لكَ تأْسَى الآنَ لمَّا رأيتَها
وقدْ جعلتْ مرمَى سواكَ تعمَّدُ
كذلكَ تلكَ النَّبلُ مَنْ قصدتَ لهُ
ومَنْ نكَّبتْ عنهُ منَ القومِ مُقصدُ
وعزَّاكَ عنْ ليلِ الشَّبابِ معاشرٌ
فقالُوا نهارُ الشَّيبِ أهدَى وأرشدُ
وكلُّ نهارِ المرءِ أهدَى لسعيهِ
ولكنَّ ظلَّ اللَّيلِ أندَى وأبردُ
وفقدُ الشَّبابِ الموتُ يوجدُ طعمهُ
صُراحاً وطعمُ الموتِ بالموتِ يُفقدُ
أرَى الدَّهرَ أجرَى ليلهُ ونهارهُ
بعدلٍ فلا هذا ولا ذاكَ سرمدُ
وجارَ علَى ليلِ الشَّبابِ فضامَهُ
نهارُ مشيبٍ سَرمدٍ ليسَ ينفدُ
وقال ابن حازم:
لا حينَ صبرٍ فخل الدمع ينهملُ
فقدُ الشبابِ بيومِ المرء متصلُ
كفاك بالشيب ذنباً عند غانيةٍ
وبالشبابِ شفيعاً أيها الرجلُ
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها
من الشبابِ بيومٍ واحدٍ بدلُ
ربَّ عيشٍ لنا برامةَ رطبٍ
وليالٍ فيها طوالٍ قصارِ
قبلَ أنْ يقبِلَ المشيبُ وتبدُو
هفواتُ الشَّبابِ في إدبارِ
كلُّ عذرٍ مِنْ كلِّ ذنبٍ ولكنْ
أُعوزَ العذرُ مِنْ بياضِ العذارِ
وقال جميل بن معمر:
تقولُ بثينةُ لمَّا رأتْ
فنوناً منَ الشَّعرِ الأحمرِ
كبرتَ جميلُ وأوْدَى الشَّبابُ
فقلتُ بٌثينُ ألا فاقصِرِي
أتنسينَ أيَّامَنا باللِّوَى
وأيَّامَنا بذوي الأجفرِ
وإذْ لِمَّتي كجناحِ الغُرا
بِ تُطلَى بالمسكِ والعنبرِ
قريبانِ مربعُنا واحدٌ
فكيفَ كبرتُ ولمْ تكبَري
وهذا تعريض مليح بل هو تعبير لها صريح لأنه قد ذكر أنَّهما كانا قرينين ومحالٌ أن يكبر واحد ويصغر واحد فهو قد عيَّرها كما عيَّرته وقد يحتمل أن يكون لم يردْ تعييرها وإنما أراد أنَّ السبب الَّذي ظهر له ليس من كبره وإنما هو لأهوال ما يمرُّ به وأحسن من قوله لفظاً وأوضح معنًى.
قول البحتري:
عيَّرتْني بالشَّيبِ وهيَ بدتْهُ
في عِذارِي بالصَّدِّ والاجتنابِ
لا تريهِ عاراً فما هوَ بال
شَّيبِ ولكنَّهُ جلاءُ الشَّبابِ
وبياضُ البازيِّ أصدقُ حسناً
إنْ تأمَّلتِ مِنْ سوادِ الغُرابِ
وقال محمد بن أبي حازم:
نظرتْ إليَّ بعينِ مَنْ لمْ يعذلِ
لمَّا تمكَّنَ طرفُها مِنْ مقلَتِي
لمَّا أضاءتْ بالمشيبِ مفارِقِي
صدَّتْ صدودَ مُفارق متجمِّلِ
فجعلتُ أطلبُ وصلَها بتذلُّلٍ
والشَّيبُ يغمزُها بألاَّ تفعلِي
وقال أشجع:
فإنْ تضعِ الأيَّامَ لي مِنْ متونِها
فقدْ حملتْني فوقَ كاهلِها الصَّعبِ
وموتُ الفتَى خيرٌ لهُ مِنْ حياتهِ
إذا كانَ ذا حالينِ يصبُو ولا يُصبِي
وقال أبو الشيص:
خلعَ الصِّبى عنْ منكبيهِ مَشيبُ
وطوَى الذَّوائبَ رأسهُ المخضوبُ
ما كانَ أنضرَ عيشهُ وأغضَّهُ
أيَّامَ فضلُ ردائهِ مسحوبُ
وقال الحسين بن الضحاك:
تذكَّرَ مِنْ غرَّاتهِ ما تذكَّرا
وأعولَ أيَّامَ الشَّبابِ فأكثرا
وما برحتْ عاداتهُ مستقرَّةً
ولكنْ أجلَّ الشَّيبُ عنها ووقَّرا
يهمُّ ويستحْيي تقاربَ خطوهِ
فيتركُ همَّ النَّفسِ في الصَّدرِ مُضمرَا
ولمْ يبقَ فيهِ إذ تأمَّلَ شخصهُ
شفيعٌ إلى الحسناءِ إلاَّ تنكَّرا
ألا لا أرَى في العيشِ للمرءِ مُتعةً
إذا ما شبابُ المرءِ ولَّى فأدبَرا
وقال أبو تمام:
شابَ رأْسي وما رأَيتُ مَشيبَ الرَّ
أْسِ إلاَّ مِنْ فضلِ شيبِ الفؤادِ
وكذاكَ القلوبُ في كلِّ بؤسٍ
ونعيمٍ طلائعُ الأجسادِ
طالَ إنكارِي البياضَ وإنْ عُمِّ
رتُ شيئاً أنكرتُ لونَ السَّوادِ
زارَني شخصهُ بطلعةِ ضيمٍ
عمَّرتْ مجلِسِي منَ العُوَّادِ
وقال أيضاً
كلُّ داءٍ يُرجَى الدَّواءُ لهُ
إلاَّ الفظيعينِ ميتةً ومَشيبا
يا نسيبَ الثَّغامِ ذنبُك أبقَى
حسَناتِي عندَ الحسانِ ذنوبَا
ولئنْ عِبنَ ما رأينَ لقدْ أنْ
كرنَ مُستنكراً وعِبنَ مَعيبا
لوْ رأَى اللهُ أنَّ للشَّيبِ ظرفاً
جاورتهُ الأبرارُ في الخلدِ شِيبا
وقال إبراهيم بن هرمة:
ألا إنَّ سلمَى اليومَ جدَّتْ قُوى الحبلِ
وأرضتْ بكَ الأعداءَ مِنْ غيرِ ما ذَحلِ
فإنْ تبكِها يوماً تُبكِّ بعولةٍ
علَى لطَفٍ في جنبِ سلمَى ولا بذلِ
سوَى أنْ رأينَ الشَّيبَ أبيضَ واضحاً
كأنَّ الَّذي بي لمْ ينلْ أحداً قبلِي
وقال أيضاً
في الشَّيبِ زجرٌ لهُ لو كانَ ينزجرُ
وبالغٌ منهُ لولا أنَّهُ حجرُ
إبيضَّ وأحمرَّ مِنْ فوديهِ وارتجعتْ
جليَّة الصُّبحِ ما قدْ أغفلَ السَّحرُ
وللفتَى مُهلةٌ في الحبِّ واسعةٌ
ما لمْ يمتْ في نواحِي رأسهِ الشَّعرُ
قالتْ مشيبٌ وعشقٌ رُحتَ بينَهما
وذاكَ في ذاكَ ذنبٌ ليسَ يغتفرُ
وقال أيضاً
يقولونَ هلْ بعدَ الثَّلاثينَ ملعبُ
فقلتُ وهلْ قبلَ الثَّلاثينَ ملعبُ
لقدْ جلَّ قدرُ الشَّيبِ إنْ كنتُ كلَّما
بدتْ شيبةٌ يعرَى منَ اللَّهوِ مركبُ
وهذا لعمري مِن حسن الكلام وفصيحه ومن أحسن ما أعرف في التجلُّد علَى الشيب قول محمد بن عبد الملك: